الفصل الأول: حقيقة السلطة المجعولة في الدين الإسلامي
وهو في بيان الأمر الأول، والكلام فيه يقع في مقامين:
الأول: في بيان مبدأ تحديد اختيارات السلطنة والحكومة المجعولة والذي نصت عليه جميع
الشرائع والأديان، وذلك من خلال إقامة الوظائف والمصالح النوعية.
الثاني: في الكشف عن درجة هذا التحديد وبيان حقيقته.
أما الأمر الأول: فقد تبين لك من المقدمة أن الهدف من تأسيس الحكومة وتنظيم القوى
ووضع الخراج وغير ذلك كله، هو حفظ وتنظيم البلاد وتربية الشعب والاهتمام بأمر
الرعية، لا لإشباع شهوات وملذات الذئاب، ولا لأجل استعباد رقاب الشعب استجابة لنزوة
قاهرة. فمما لا شك فيه أن السلطة التي صرحت بها الأديان والشرائع وأقرها كل عاقل ـ
سواء كان المتصدي لها غاصباً أو محقاً ـ هي عبارة عن تحمل الأمانة والمسؤولية
صيانةً لنظام الأمة، فبالسلطة تقام الحدود والوظائف التي تعنى بالمحافظة على مصلحة
الأمة، ولا تعني القهر والملوكية والتحكّم بالبلاد والعباد على أساس الهوى
والنزوات. الحقيقة إن السلطة هي من قبيل تولية بعض الموقوف عليهم أمر تنظيم وحفظ
موقوفة مشتركة وإيصال كل حق إلى صاحبه، لا من قبيل التملك والتصرف الشخصي الدائر
مدار قبول المتصدي وأهوائه ورغباته النفسية. ومن هنا عبّر أئمة وعلماء الإسلام عن
السلطان بالولي والوالي والراعي، وعن الناس بالرعية.
وعلى هذا الأساس فإن حقيقة السلطة هي الولاية على أمر النظام، ونصب السلطان موقوف
على أمر من المالك الحقيقي والولي بالذات الذي بيده أمر الولاية يعطيها من يشاء.
وتفصيل الموضوع موكول إلى مباحث الإمامة.
ولما علمت أن قهر وتسخير رقاب الشعب في ظل الحكومة المستبدة من أشنع أنواع الظلم
والطغيان والاستعلاء في الأرض، ويعد غصباً لرداء الكبرياء الإلهي ومنافياً لأهم ما
قصده الأنبياء (عليهم السلام)، إذن فليس بالإمكان بتاتاً احتمال الإهمال والسكوت عن
قلع مثل هذه الشجرة الخبيثة من قبل الأديان السابقة، ويظهر من قوله تعالى: {قالت يا
أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون}(48) حكاية عن لسان ملكة
سبأ، أن قومها كانوا يتمتعون بحكومة شوروية، رغم كونهم يعبدون الشمس من دون الله،
ونستفيد من قوله تعالى: {فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النجوى}(49) الذي يحكي قصة
تشاور الفرعونيين في أمر النبي موسى الكليم وأخيه هارون على نبيّنا وآله وعليهما
السلام، كيف أنهم أنهوا مباحثاتهم العلنية بهذا الخصوص بمباحثة سرية. فالدولة
الفرعونية تتعامل بطريقتين مختلفتين فهي ـ رغم ادعائها الألوهية ـ كانت قائمة على
أساس الشورى في علاقتها مع الأقباط من قوم فرعون، ولكنها في الوقت نفسه استعبادية
وظالمة بالنسبة إلى أسباط بني إسرائيل، والآية الكريمة: {يستضعف طائفة منهم}(50)
تؤكد هذا المعنى أيضاً. وفي الوقت الحاضر نجد معاملة الحكومة الإنجليزية هي الأخرى
عنصرية ومزدوجة أيضاً؛ فهي حينما تتعامل مع الشعب الإنجليزي نجدها شوروية وتتسم
بالمسؤولية، وذلك لكونه شعباً واعياً، بينما تتعامل مع الهنود والشعوب الإسلامية
وغيرهم بطريقة غاشمة مستبدة وكأنها تتعامل مع أسرى، وهذا يرجع إلى غفلة هؤلاء
المستضعفين واستغراقهم في نومٍ عميق.
على كل حال، فإن حقيقة السلطة من وجهة نظر الإسلام وجميع الشرائع والأديان السابقة
تعود إلى باب الأمانة وولاية أحد المشتركين في الحقوق الإنسانية العامة، من دون أن
تكون هناك أية مزيّة للشخص المتصدي.
إن تحديد السلطة وتقييدها لئلاّ تؤول إلى الاستبداد والقهر هو من أظهر ضروريات
الدين الإسلامي، بل جميع الشرائع والأديان. ومن الواضح أن كل مظاهر الظلم والعدوان
والاستبداد قديماً وحديثاً تستند إلى طغيان الفراعنة والطواغيت وتزويرهم للحقائق.
وبموجب الحديث النبوي المتواتر بين الأمة ـ الذي ذكرناه آنفاً ـ وغيره من الأخبار
الغيبية التي وردتنا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، اتضح لنا أن بداية تحول
السلطة الإسلامية من النوع الثاني المرتكز على أساس الولاية إلى النوع الأول ـ أي
السلطة الاستبدادية ـ هو استيلاء معاوية على الحكم وبلوغ أغصان الشجرة الملعونة في
القرآن الكريم إلى العدد ثلاثين، حيث ورثت السلطة الاستبدادية(51).
أما الأمر الثاني: فقد تبين مما قلناه سابقاً أن الأساس الذي يستند إليه مذهبنا نحن
الإمامية هو قولنا بالعصمة في الولاية على سياسة أمور الأمة، ولا يتوقف هذا التحديد
عند رفع الاستبداد، بل ينتهي إلى درجات أخرى سبق وأن أشرنا إليها بصورة إجمالية.
وأما بمقتضى مذهب أهل السنة حيث لم يشترطوا في الوالي مطلقاً أن يكون معصوماً، ولا
أن يكون منصوباً من قبل الله سبحانه وتعالى، بل يكفي فيه إجماع أهل الحل والعقد،
فإن درجة الحد من الاستبداد الناتجة عن هذا الرأي، وإن كانت لا تبلغ ما يقتضيه
مذهبنا، إلاّ أن عدم تخطّي الوالي الكتاب والسنة النبوية هو من الشروط التي
اعتبروها لازمة الذكر في نفس عقد البيعة عندهم. وأقل عمل ناشئ عن ميل أو هوىً
يعدونه مخالفاً للمنصب، واتفقوا على التصدي حينئذٍ لعزله.
وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإسلامية لابد وأن تتحدد بعدم الاستئثار والاستبداد
كحد أدنى، مع غض الطرف عن أهلية المتصدي وما يلزمه من العصمة وغيرها من الأمور التي
يختص بها مذهبنا، فإن هذا هو القدر المتيقن بين الفريقين والمتفق عليه من قبل
الأمة. ولا ريب أنه من ضروريات الدين الإسلامي.
ولما كان حفظ هذه الدرجة المتيقنة بين الأمة مما يمكن القيام به عادة بحسب القوة
البشرية، وليس كما هي عليه سائر المراتب التي يختص بها مذهبنا ويتعذر حفظها إلاّ مع
العصمة، لذلك فإن الحفاظ عليها واجب بأي شكل أمكن، خاصة إذا كان المتصدي غاصباً،
فحينئذ لا يحق لأي مسلم يظهر الشهادتين أن ينكر وجوب ما قلناه، إلاّ أن يخرج من
ملتنا ويدين بغير ديننا.