الفصل الثاني: وظيفة المسلمين السياسية في عصر الغيبة
غرضنا من هذا الفصل هو تنقيح الأمر الثاني، ويحسن بنا تقديم ثلاث مقدمات هي:
المقدمة الأولى:
من المعلوم لدى الجميع في باب النهي عن المنكر، والذي يعد من ضروريات الدين، أنه لو
ارتكب شخص ما عدة أعمالٍ منكرة في آن واحد فإن ردعه عن كل منكر من هذه المنكرات
تكليف مستقل لوحده، ولا يشترط فيه التمكن من ردعه عن سائر ما ارتكب من المنكرات.
المقدمة الثانية:
من جملة الثوابت الموجودة في مذهبنا نحن الإمامية هو أنه في عصر الغيبة ـ على
مغيّبه السلام ـ هناك ولايات تسمى بالوظائف الحسبية لا يرضي الشارع المقدس
بإهمالها، حيث نعتقد أن نيابة فقهاء عصر الغيبة قدر متيقن فيها وثابت بالضرورة حتى
مع عدم ثبوت النيابة العامة لهم في جميع المناصب، إذ إن الشارع المقدس لا يرضى
باختلال النظام وذهاب بيضة الإسلام. ومن جهة أخرى نجد أن اهتمام الشارع بحفظ
البلدان الإسلامية وتنظيمها أكثر من اهتمامه بسائر الأمور الحسبية؛ ومن هنا يثبت
لدينا بما لا شك فيه نيابة الفقهاء والنواب العموميين في عصر الغيبة في ما يتعلق
بإقامة الوظائف المذكورة.
المقدمة الثالثة:
فيما يخص الولاية على الأوقاف العامة والخاصة وغيرها، فقد ثبت لدى كل علماء الإسلام
أن غاصباً لو وضع يده على بعض الموقوفات بشكل لا يمكن معه رفع يده رأساً، إلاّ أنه
يمكن الحد من تصرفاته وصيانة جزء من تلك الموقوفة المغصوبة من خلال القيام ببعض
الترتيبات والخطوات العملية وتشكيل هيئة عليا للمراقبة، حينئذ يكون القيام بهذه
الترتيبات والخطوات أمراً واجباً، وهذا مما لا يختلف فيه المفكرون الدهريون فضلاً
عن العلماء المتشرعين.
وبتمام هذه المقدمات الثلاث لا يبقى هناك أدنى شبهة أو ريب في وجوب تحويل السلطة
الجائرة من النوع الأول إلى الثاني مع تعذر القيام بما هو أكثر من ذلك، حيث تبين لك
أن النوع الأول يعد اغتصاباً لرداء الكبرياء الإلهي للساحة الإلهية المقدسة، كما هو
اغتصاب للرقاب والبلاد وظلم للعباد، بخلاف النوع الثاني حيث إن الظلم والاغتصاب
يطال منصب الإمام المقدس خاصة دون الظلمَين والاغتصابَين الآخرَين.
يتضح لنا مما سبق أن عملية تحويل السلطة الجائرة تتم من خلال تقييدها وتحديدها
والردع عن ذينك الظلم والاغتصاب، وليس كما يتوهم البعض أنه عبارة عن استبدال ظلم
بظلم آخر أقل منه حدة ووطأة. وبعبارة أوضح أن المعاملة والتصرف على نحو الطريقة
الثانية تقتصر على القدر الذي يوفّر للبلاد النظام والاستقرار والصيانة، وأما
التجاوزات على الطريقة الأولى فهي كثيرة ومضاعفة ولا تقف عند حد، والهدف من استبدال
طريقة الحكم منع هذه التجاوزات والردع عنها.
وبعبارة أخرى، إن التصرف على الطريقة الثانية هو نفس التصرف الولائي الذي قلنا فيما
سبق إن الولاية فيه ثابتة لأهلها شرعاً، ومع عدم الأهلية يكون عمل المتصدي من قبيل
مداخلة غير المتولي الشرعي في أمر الموقوفة. وهنا يمكن العمل على صيانة الموقوفة
بواسطة هيئة عليا تأخذ على عاتقها مهمة الإشراف والنظارة، ومع صدور الإذن فيها عمّن
له ولاية الإذن يخرج التصرف فيها عن دائرة الغصب وعنوان الظلم لمقام الإمامة
والولاية ويكون التصدي حينئذ شرعياً، مثاله مثال المتنجس بالعرض الذي تم تطهيره
بسكب الماء عليه. وأما التصرفات على الطريقة الأولى فهي على العكس من ذلك ظلم قبيح
بالذات ولا يمكنها أن تكتسي حلة المشروعية بأي حال من الأحوال، ولا يجوز إصدار
الإذن في ذلك على الإطلاق، وهي من أعيان النجاسات التي لا تطهر ما دامت باقية.
إن تبديل طريقة الحكم يراد به تعيين هيئة مشرفة لصيانة الموقوفة المغصوبة، وتحديد
صلاحيات الغاصب في التصرف بها على ضوء ما يصلحها، ورفع ملكيته المدعاة واستبداده،
حيث يعد اغتصاباً مضاعفاً، وإلزامه بالعمل بمقتضى الوقف، ومنعه عن التمادي في الغي
والضلالة، وهذا من قبيل إزالة عين النجاسة عن المحل المتنجس.
ومن المناسب هنا أن ندرج تلك الرؤيا الصادقة التي رأيتها أنا أقل خدّام الشرع،
والمتضمنة هذا التشبيه. فقبل عدة ليالي وفي عالم الرؤيا وفدت على المرحوم آية الله
الحاج الميرزا حسين الطهراني (قدس سره)(52) نجل المرحوم الحاج الميرزا خليل طاب
رمسه. فأخذت بأطراف ردائه المبارك، سائلاً إياه مسائل عديدة، فامتنع عن الإجابة عن
الأسئلة المختصة بعالم الموت ونشأة البرزخ والآخرة، وأجاب عن بقية المسائل.
وفي معرض ردّه على بعض الأسئلة كان هذا العالم الجليل يجيب نقلاً عن لسان الإمام
الحجة المنتظر (عج)، وبعد أن أتم حديثه طرحت عليه السؤال التالي:
ماذا قال الإمام الحجة (عج) فيما يختص بمواقفكم إزاء المسألة الدستورية؟
فكان ملخص قول الإمام الحجة (عج) هو أن الدستورية اسم جديد لموضوع قديم، ثم أورد
مثالاً بهذا الخصوص لا تسعفني ذاكرتي باستحضاره، ثم قال المرحوم الميرزا الطهراني
لقد قال الإمام (عليه السلام): إن مثل الدستورية مثل تلك الأمة السوداء التي تلوثت
يدها فأجبروها على غسلها.
ولا شك أن المثال الذي أورده الإمام (عج) مطابق للواقع تماماً، فهو سهل وممتنع في
آن واحد، ولم يكن ليخطر ببال أحد، وهناك قرائن عديدة يمكن القطع من خلالها بصحة هذه
الرؤيا وصدقها، منها سواد الجارية حيث تدل دلالة واضحة على مغصوبية أصل التصدي،
وأما تلوث اليد ففيه إشارة إلى الغصب المضاعف، وحيث كانت الدستورية مزيلة له، لذا
شبهها الإمام المنتظر (عج) بأنها عملية غسل وتنظيف ليد المتصدي الغاصب من القذارة
التي عرضت عليها.
ومن هنا نخلص إلى القول بأن الحفاظ على القدر المتيقن فيما يختص بتحديد السلطة
الإسلامية وتقنينها، والذي يعدّ من ضروريات الدين الإسلامي ومما تتفق عليه الأمة
الإسلامية بأجمعها، هو بحد ذاته من أهم الواجبات ومن أعظم نواميس الدين المبين ـ
فيما إذا كان المنصب مغصوباً كما هو الحال في إيران ـ، أضف إلى ذلك أن هذا الأمر هو
من ضروريات مذهبنا نحن الشيعة الإمامية، كما أنه يمكن إدراجه تحت عنوان الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ نفوس المسلمين من الهلكة وأموالهم من التلف
وأعراضهم من الهتك، ودفع ظلم الظالمين عنهم، وغير ذلك من العناوين.
وبغض النظر عن كل ما قلناه، فإن جميع السياسيين والمطلعين على أوضاع العالم من
المسلمين وغيرهم يتفقون على هذا المعنى، وهو أن السبب الرئيس لرقي الإسلام وتقدمه
في الصدر الأول بتلك السرعة المدهشة وفي أقل من نصف قرن، يكمن في كون الحكومة
الإسلامية حكومة عادلة تعمل بمبدأ الشورى وترفع شعار الحرية وتسويّ بين آحاد
المسلمين وبين الخلفاء وبطانتهم في العطاء والقانون، كما أن اختفاء هذه الصفات
اليوم يعدّ السبب الرئيسي لانكسار المسلمين وتفوق الشعوب المسيحية عليهم حيث
استولوا على معظم بلدانهم، وهم الآن بصدد احتلال ما تبقّى منها؛ فعامل الانحطاط هو
الآخر يعود إلى خلود المسلمين إلى ذل الأسر والاستعباد، ورزوحهم تحت نير حكمٍ
استبدادي موروث عن معاوية، واستئثار الحكام بالحكومة والسلطة التي نصت عليها
الشريعة الإسلامية.
وما لم يتنبّه المسلمون من سكرتهم وغفلتهم فإنهم سيظلون كما في السابق رازحين تحت
ذل عبودية فراعنة الأمة وناهبي ثروات البلاد، وما هي إلاّ أيام قلائل حتى يؤول بهم
الأمر بعدها إلى ما آل إليه المسلمون في أفريقيا وأغلب بلدان آسيا وغيرها من الدول،
حيث سيفقدون نعمة الشرف والاستقلال والحكم الإسلامي والكرامة الوطنية، وسيصبحون
أسارى في ظل حكومة النصارى، وما هي إلاّ أيام تتصرم ويكونون بعدها كسكان الأندلس
وغيرها من البلاد، يتنصرون بعد إسلامهم وتصبح مساجدهم كنائس وآذانهم ناقوساً
ويستبدلون شعائرهم الإسلامية بأخرى نصرانية، بل وحتى لغتهم سيستعيضون عنها بأخرى،
وسيدنّس النصارى الحرم المنور لثامن الأئمة ـ وقى الله المسلمين ذلك ولا أرانا إياه
ـ. وهناك جملة من القرائن والشواهد تدلل على قرب وقوع هذا الأمر، فقد تحققت جميع
مقدماته والتي لابد وأن تنتهي إليه(53).
ومن هذه القرائن أن كلاًّ من الجارتين الجنوبية والشمالية(54) تقاسمتا خريطة البلد
فيما بينهما. وعلى هذا الأساس فإن تحويل السلطة الجائرة الغاصبة من سيرتها الظالمة
إلى سيرة عادلة سوف يحفظ للإسلام بيضته، ويصون حوزة المسلمين من الكفار، بالإضافة
إلى ما ذكرنا من منجزات أخرى، ولذا فإن هذا العمل من أهم الفرائض التي يجب القيام
بها.
جمع الله على الهدى كلمتنا وعلى التقى شملنا، ولا جعلنا من الذين يجعلون أصابعهم في
آذانهم من الصواعق حذر الموت، بمحمد وآله الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين.