مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة

الفصل الثالث: هل يوجد بديل عن الحكم الدستوري؟

وهل هو ـ أي الحكم الدستوري ـ خالٍ من الأشكال؟
وهذا الفصل مسوق للتحقيق في الأمر الثالث، وتوضيحه يستلزم بيان ثلاثة مطالب:
الأول: كما علمت فإن حقيقة السلطة الإسلامية هي الولاية على مجريات سياسة أمور الأمة ومعرفة حدودها ومقوماتها، وبما أنها تعتمد مساهمة جميع أفراد الشعب في أمور البلاد كأصل مسلّم به، لذا فهي تكرّس مبدأ التشاور مع عقلاء الأمة وهو ما يسمى بالشورى الشعبية العامة، ولا تنحصر بالتشاور مع بطانة الوالي وخاصته ومقرّبيه، وقد نص القرآن الكريم على مبدأ الشورى وثبّتته السيرة النبوية المقدسة كأحد أهم مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وبقيت هذه السنة محفوظة إلى أن تولّى معاوية أمر الخلافة. والآية الكريمة: {وشاورهم في الأمر}(55) تدل دلالة واضحة على هذا المعنى حيث تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو العقل الكل ومعدن العصمة، وتأمره بالتشاور مع عقلاء الأمة. والظاهر من الآية بالضرورة أن مرجع الضمير يعود على جميع أفراد الأمة، من المهاجرين والأنصار قاطبة. وأما تخصيصها بالعقلاء وأرباب الحل والعقد فهو من باب الحكمة ودلالة القرينة على المقام، لا من باب الصراحة اللفظية ودلالة الكلمة في الأمر؛ ذلك لأن الكلمة تفيد العموم، وتدل على أن ما يتشاور بخصوصه هي الأمور السياسية، وأما الأحكام الإلهية فإنها لا تدخل في نطاق هذا العموم، وخروجها عنه من باب التخصص لا التخصيص(56).
وبالرغم من أن الآية الكريمة {وأمرهم شورى بينهم}(57) لا تدل في نفسها على غير رجحان الشورى، إلاّ أن دلالتها هذه ظاهرة في كونها تخص الأمور النوعية العامة ووضعيتها، وأنه لابد من العمل بمبدأ الشورى في مثل هذه الأمور.
وإذا ما راجعنا كتب السيرة لرأينا أن سيرة الرسول المقدسة مليئة بالشواهد الدالة على تأييده ودعمه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمبدأ الشورى والعمل به، فكثيراً ما كان يردد على أصحابه بقوله: "أشيروا عليَّ أصحابي".
ففي غزوة أحد مثلاً كان رأي الرسول وجماعة من أصحابه هو البقاء في المدينة المنورة وعدم الخروج منها، ورغم أن النتائج أسفرت فيما بعد عن صحة وسداد رأي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن بما أن آراء الأكثرية استقرت على الخروج فقد وافقهم الرسول على ما أرادوه وتحمل من أجل ذلك ما تحمل من المصائب الجليلة(58).
وأما الخلفاء الأوائل فقد أبقوا على هذه السنة وحافظوا عليها، مما أدى بالنتيجة إلى تلك الانتصارات الباهرة التي حقّقوها في الصدر الأول من الإسلام.
وفي صفين بعد أن عدّ أمير المؤمنين حقوق الوالي على الرعية وحقوق الرعية على الوالي خاطب أصحابه وكانوا يربون على الخمسين ألف نفر قائلاً:
"فلا تكلّموني بما تُكَلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفس، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل. فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل"(59).
وجدير بنا نحن الذين ندّعي التشيع أن نتمعن قليلاً في مفاد هذا الكلام المبارك ونتأمّله سعياً منا لأدراك الواقع وبلوغ الحقيقة وإلغاء الأغراض النفسية، وأن نعي عمل الإمام في رفع هيبة الخلافة وجلال مقامها عن قلوب الأمة ومنحها أعلى درجات الحرية وترغيب الناس في إبداء أي اعتراض أو مشورة، وكيف أنه عدّ المشورة في عداد حقوق الوالي على الرعية أو الرعية عليَّ الوالي، ونمعن النظر في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "أشيروا عليّ أصحابي"، لنتبين السر في ذلك كله. فهل الاهتمام بأمر الشورى من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل أن لا يقع في الخطأ وهو على ما هو عليه من درجة العصمة الرفيعة التي تغنيه عن العالم بأجمعه فيما يتعلق بإصابة الأمر الواقع؟! حاشاهم الله عن ذلك.
إذن للحيلولة دون وقوع الاعتداءات المتعمدة، كحد أدنى، يتحتم علينا أن نصون هذا الأصل الذي يتكفل لنا السعادة والخير، وإذا كان لابد من العمل بمبدأ الشورى وتكريس الحرية والمساواة بالنسبة للحكومة الشرعية القائمة على أساس الولاية احترازاً وتنزيهاً من حصول شبه ظاهري مع الحكومات المستبدة والطاغوتية، فإن هذا الكلام يتعين بدرجة أكثر فيما إذا كان المتصدي غاصباً لمسند الخلافة، وإذا كان الغرض من ذلك إرشادياً ولتعليم الأمة ولأجل أن يكون مثالاً يحتذى به أو معيناً لمسيرة الولاة والقضاة والعمال، ولغرض إلزامهم بالسير على هذا النهج وعدم التخلف عن هذا الدستور العملي، فيلزمنا إذن تعلّم هذا الدرس البليغ حتماً.
وعلى أية حال، فإن من دواعي الأسف والحزن أن نكون نحن عبدة الظلمة والرافعين للواء الاستبداد الديني بمنأى عن مداليل الكتاب والسنة وأحكام الشريعة وسيرة نبيّنا وأئمتنا؛ فبدلاً من أن تكون الشورى الشعبية شعارنا الذي يجب أن نرفعه، وبدلاً من أن نقول فيها: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا}(60)، حسبناها مخالفة للإسلام، وكأننا لم نقرأ تلك الآية الواضحة الدلالّة والتي مرّت علينا آنفاً، ولم يخطر مفادها في أذهاننا، أو لعلنا وجدناها منافية لأهوائنا ومشتهياتنا وما في أنفسنا من نزعة الاستبداد والاستعباد فأصبحنا نعيد إلى الأذهان حكاية الذين ذكرهم القرآن الكريم حيث يقول عنهم: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتابَ الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون}(61).
ثانياً: إننا اليوم لا نفتقد للعصمة فحسب، بل لملكات التقوى والعدالة والعلم عند المتصدين، وأكثر من ذلك توجد في المتصدين سمات وخصائص تناقض تماماً ما ينبغي أن يكون عليه المتصدون والولاة، وهذا ما نشهده جيداً في الوقت الحاضر، وكل ذلك يحتم علينا الإصرار والتأكيد على ضرورة تحديد وتقنين السلطة الإسلامية بتلك الدرجة المسلّم بها والتي عرفتها ـ عزيزي القارئ ـ، وهو ما تتفق عليه الأمة، ومن ضروريات الدين الإسلامي، بالإضافة إلى أن الحفاظ على مبدأ الشورى الذي نص عليه الكتاب والسنة المقدسة لا يتأتّى إلاّ بتنصيب مسدد ورادع خارجي يقوم قدر الإمكان مقام القوة العاصمة الإلهية، أو تحل على الأقل محل القوة العقلية وملكة العدالة والتقوى، ولو ترك هذا الأمر وطبع المتصدين لكان تطبيقه من المستحيلات وكان من قبيل توصية الذئب بالشاة خيراً، أو كمن استجار من الرمضاء بالنار!
ومن هنا تتضح لنا أهمية تنصيب الهيئة المسددة بالشكل الذي قلناه سابقاً. ومن الواضح أيضاً أن هذه القوة الخارجية المسددة والرادعة إنما تكون مؤثرة ومفيدة وفاعلة وقائمة مقام القوة النفسية إذا كان المتصدون يشكلون القوة التنفيذية ويكونون خاضعين للقوة المسددة والعلمية وتابعين لها، ولا تكون هذه القوة المسددة قوية في رأيها وحازمة في قراراتها بحيث لا يمكن مخالفتها إلاّ عندما تكون الدولة والسلطة مبتنية على القانون، ومتخذة طابعاً رسمياً لها. كما ينبغي لعقلاء الأمة أن يكونوا على يقظة وحذر ويتصرفوا بحكمة بحيث يسدّوا كل الطرق والأبواب على كافة القوى الاستبدادية. وإلاّ فإن القوى الطاغوتية لن تتوانى عن اقتراف أشنع الجرائم والأعمال، وسيؤول أمرنا نحن الإيرانيين إلى الهلاك والبوار.
ثالثاً: اتضح لك مما شرحناه أن الهيئة المسددة التي يراد تأسيسها وفقاً لمذهبنا نحن الإمامية تحل محل العصمة بدرجة ما، ووفقاً لمباني أهل السنة تحل محل القوة العلمية وملكة التقوى والعدالة. والهدف من هذه القوة هو حفظ السلطة الإسلامية وصيانتها من الانحراف والتبدل، ومراقبتها لئلاّ تتجاوز الحدود المرسومة لها، وإبقاؤها داخل النطاق الطبيعي لها.
ومن الطبيعي أن تقوم عملية الصيانة على أساس تنظيم الدستور بالشكل الذي أشرنا إليه سابقاً، بحيث يكون وافياً بتحديد الوظائف النوعية وتمييز بعضها عن البعض الآخر، وتحديد ما لا يحق التدخل فيه، وتبيين الحدود المذكورة وفقاً لمتطلبات المذهب على شكل قانون يحمل صفة رسمية، وإلاّ فبدون الدستور يصبح أمر مراقبة المتصدين وضبطهم وتحديدهم بالحدود التي مرت كالمحمول بلا موضوع، أو هو من قبيل حلق رأسٍ لا يُعرف صاحبه.
وبالجملة نقول كما إن ضبط أعمال المقلدين في أبواب العبادات والمعاملات من دون الرجوع إلى الرسائل العملية أمر ممتنع، فكذلك ضبط تصرفات المتصدين ومراقبتهم فيما يخص أمور البلد السياسية ممتنع أيضاً، ما لم يوجد هناك دستور مدوّن.
والواقع إن وضع الدستور هو الذي يحفظ لنا مسألة التحديد والتقنين والمسؤولية، ومن هنا بالذات تنشأ أهمية وضع الدستور، وتتضح ضرورته كونه أمراً واجباً لابد منه.
والآن وبعد أن اتضحت تلك الأمور الثلاثة بما فيه الكفاية، وبعد أن تبيّن لك أن حفظ الدولة الإسلامية عن الانحراف والاستبدال، والإبقاء على الثوابت الحقة كمسألة الحد من الصلاحيات، وتقبّل المسؤولية والشعور بها؛ وأصل الشورى وسائر المقومات الولائية لا تجد طريقاً إلى التنفيذ إلاّ بتدوين دستور محدد وقيام هيئة عليا بالإشراف والتسديد. كما وعرفت إن عمل الهيئة المسددة لا ينحصر بإلزام المتصدين بالقيام بالوظائف المطلوبة والحيلولة دون وقوع التجاوزات والمخالفات أو المحافظة على الموقوفات من أن تطالها أيدي الغاصبين والسارقين فحسب، بل إن الهدف من تشكيل هذه الهيئة أدق وألطف وأجلّ من هذه الأمور كلها، إذ إن هذه الهيئة المشرفة، وبناءً على الأصول المستقاة من مذهبنا، تقوم مقام عنصر العصمة بنسبة من النسب، وبناءً على مبتنيات العامة من أهل السنة فهي تقوم مقام عنصر العلم وملكة التقوى والعدالة. وتبين لك أن قيام الهيئة المشرفة بكل هذه الأدوار أمر غير ممكن، إلاّ إذا كانت هذه الهيئة المسددة في عملها وتأثيرها على مجريات الأمور في البلاد بمنزلة الملكات والإدراكات التي تنبعث عنها الإرادة والرغبة النفسية، وتأخذ طابعها ويكون لها نفس الأثر.
أقول: بعد أن عرفت وأحطت بكل هذه المعاني والمباني وعرفت أن صيانة السلطة الإسلامية إنما هي متحققة ومتقومة بهذين الركنين: تدوين دستور محدّد، وقيام هيئة عليا بالإشراف والتسديد. وعرفت ما يترتب على الأصلين المباركين ـ الحرية والمساواة ـ من مسؤولية، وكون قيام الهيئة المسددة مقام العصمة عندنا، ومقام عنصر العلم والقوة العلمية عند أهل السنة، لا يتأتى إلاّ بتجزئة القوة الحاكمة والأخذ بنظر الاعتبار كافة المباني المذكورة وردّ كل فرع من الفروع إلى أصله في الشريعة المقدسة، خصوصاً على ضوء متبنيات مذهبنا نحن الإمامية. بعد كل هذا يتضح لك بجلاء هذا المعنى، وهو أن تحديد ولاية الجور والحد من صلاحياتها الذي أثبتنا وجوبه وضرورته من عدة نواحٍ، لا يتم إلاّ على النحو الذي قلناه.
ولا يسعني في هذا المقام إلاّ الاعتراف بجودة استنباط وحسن استنتاج أول حكيم قرّر هذه المعاني واستنبط وجوب أن تكون الحكومة الولائية العادلة حكومة مسؤولة ومشروطة ومقيّدة ومحدودة ومبتنية على الشورى، جاعلاً قوامها الأصلين المباركين (الحرية والشورى) اللذين أشرنا إليهما وما يترتب عليهما من مسؤولية، معتبراً في حفظ مقوماتها هذين الركنين، وهما تدوين الدستور وتشكيل الهيئة المشرفة، وصاغها على شكل قانون مطّرد وبلورها على أحسن وجه وأتم صورة، وقال بإمكانية إقامة القوة المسددة والرادعة مقام العصمة أو على الأقل مقام التقوى والعلم والعدالة، كما هو انبعاث الإرادات النفسية من الملكات والإدراكات، وجعل الطريق إلى كل ذلك هو توزيع مهام ووظائف ومسؤوليات الدولة وحصر وظيفة المتصدين في الأمور والمهام التنفيذية، على أن يتم ذلك تحت إشراف ونظارة القوة المسددة المسؤولة عنها، وبدورها تكون هذه القوة مسؤولة أمام أفراد الشعب.
كل ما تقدم يكشف عن سمو وعلو مقام ذلك الحكيم، وهو في نفس الوقت مدعاة لسرور واغتباط عموم الشعب.
ومع أننا، بحمد الله وحسن تأييده، عند تعرضنا لهذه المقولة المباركة "لا تنقض اليقين بالشك"(62) ترانا نستنبط العديد من الأصول والقواعد اللطيفة، لكننا في الوقت نفسه نغفل عن التفكير بمقتضيات أسس ومباني مذهبنا وما نمتاز به عن سائر الفرق، فابتلينا بأن أصبحنا أسارى ورقيقاً بأيدي الطواغيت حتى ظهور الحجة (عجل الله تعالى فرجه)، ولم ندخل هذا المجال اعتقاداً منّا بعدم جدواه. وأما الآخرون فقد سبقونا في فهم تلك الأسس والمباني وتخليص رقابهم من هذه العبودية النحسة.
لقد استفاد المذهب المادي من مبادئ وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف في إصلاح وتنظيم أمور المجتمع والأخذ بأسباب الرقي والتقدم، وحقق نتائج رائعة مستقاة من تلك الأسس والمبادئ. وأما نحن المسلمين فقد تقهقرنا إلى الوراء. والآن وبعد اللتيّا واللتي، وبعد أن تنبّهنا قليلاً وأخذنا أحكام ديننا وأصول مذهبنا بخضوع وذلة من الآخرين، فصرنا مصداقاً للآية الكريمة: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا} رفع الجهلة وعبدة الطواغيت من حاملي لواء الاستبداد الديني عقيرتهم ليعربوا عن مساندتهم وتأييدهم للظلمة، وينادوا بأن سلب الاختيار التام والحاكمية المطلقة وصفات الذات الأحدية عن الظالمين يعد عملاً منافياً للإسلام والقرآن.
وانطلاقاً من نزعتهم الاستبدادية المتأصلة فيهم، قام هؤلاء وبمساندة من الظلمة بابتداع مذهب جديد أسموه الإسلام، وشيّدوه على أساس رفع شأن طواغيت الأمة إلى مستوى الربوبية، وإسباغ الصفات الإلهية عليهم، واستندوا في ذلك كلة إلى كتاب الجور والاستبداد الذي أنزل عليهم من بلاد الشرك والإلحاد، أي بلاد الروس {إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}(63)، فأسموا تعاليم كتاب الجور هذا بالقرآن السماوي، وجهروا بما خالفوا به ضروريات الدين في بلد الإسلام مستعينين بطواغيت الأمة، وراحوا يردّدون مقولة المشركين {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب... ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق}(64) مرة أخرى.
عصمنا الله تعالى من غلبة الهوى وإيثار العاجلة ومعاونة الظلمة وسوء الخاتمة، بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية