مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة

الفصل الرابع: الشبهات التي أثيرت حول الحكم الدستوري

نعالج في هذا الفصل جملة من الوساوس والشبهات المثارة في المقام؛ وفي البدء نقول إن هذه الوساوس كما كانت ناتجة من أعمال الطواغيت وجبابرة الأمم ومن إفرازات شعبة الاستبداد الديني، وقد ألقيت من قبل بعضهم بهدف الحفاظ على شجرة الاستبداد الخبيثة، لذا فقد يبدو من الأفضل الترفع عن التعرض لها والإجابة عنها، بل وإن ذلك ليس مما ينبغي الاعتناء به، إلا أننا مع ذلك نتعرض لها ونجيب عنها حرصاً على دفع التوهم الذي قد يحصل لدى الأمم غير الإسلامية وغير المطلعين على الأحكام الشرعية، من أن هذه الأباطيل الاستبدادية في عداد أقوال علماء الإسلام وآرائهم، وأنهم قد اختلفوا بشأنها بين الرد والقبول، وأنها أمور لم تحسم بعدُ في الشريعة، مما يفسح المجال للطعن بالشريعة والدين المبين، على أننا قد توخّينا الاختصار في هذه العجالة على أمل أن نستقصي كل هذه الأباطيل في وقت ومقال آخرَين.
اتضح لك مما سبق أن أساس السلطة، سواء كانت شرعية أم غير شرعية ـ أي مغتصبة ـ، فيما يختص بالعدالة والولاية يستند إلى مبدئي الحرية والمساواة، وأما فيما يرتبط بالشورى وتحديد الصلاحيات فإنه يتوقف على تدوين قانون أساسي وتشكيل مجلس وطني. والآن نحاول أن نرد على المغالطات المثارة حول مبدأ الحرية ومبدأ المساواة، ومن ثم نجيب على الشبهات الموجودة في باب الشورى فيما يخص تحديد الصلاحيات.

المغالطة الأولى: وهي في مبدأ الحرية ومن أكبر المغالطات؛ فكما تعلم أن حقيقة الحكومة السلطوية هي اغتصاب رقاب الشعب وإخضاعه لتصرفات جائرة ومستبدة، وأساس هذا الاغتصاب يعود إلى الفترة الزمنية التي تلت ظهور الإسلام وبالتحديد إلى الزمن الذي بلغ فيه بنو العاص ثلاثين رجلاً، كما ورد في الحديث النبوي الشريف المذكور آنفاً والمتواتر بين الشيعة والسنة.
وقد عرفت أن أصل الولاية ـ وإن كان المتصدي غاصباً ـ يمكن أن يستقيم بالتحرر من الاسترقاق والعبودية، فمما لا شك فيه أن حقيقة استبدال الحكومة الغاصبة الجائرة لا تتم إلا بالتحرر من الأسر والرقيّة، وما نشهده من منازعات ومصادمات بين الشعوب وحكوماتها السلطوية تعود لهذا السبب، وليس حتماً أن يكون الهدف منها هو التنصّل من الدين والابتعاد عن أصول المذهب.
إن ما تصبو إليه الشعوب ـ سواء كانت تدين بدين وشريعة معينة أو لا تدين بذلك ـ هو التخلص من ذل العبودية واستنقاذ رقابها من طوق أسر الطغاة والجبابرة، لا الخروج من ربقة العبودية لله جلت آلاؤه، والتنكر لما تدين به من دين أو شريعة. وأما الطرف المقابل في هذا الصراع فهو الحكومات الغاصبة لرقابهم لا ربّهم ومالكهم، ذلك لأن هذا الصراع كان جارياً بين الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) من جهة وبين الفراعنة والطواغيت من جهة أخرى، وقد امتد في ما بعد بين أتباع الأنبياء وبين الطواغيت الذين خلفوا طواغيت عصر الأنبياء.
إن السعي الحثيث من أجل تغيير وجهة ما هو إلا لاستنقاذ أسمى ما وهبه الله عز اسمه من أيدي الغاصبين وهو الحرية، وحقيقة تغيير مسار الحكومة الغاصبة تكمن في فوز الشعب بهذه الموهبة الكبيرة. ولذا فقد عمد عبدة الظلمة على صرف الشعب عن إدراك حقيقة تلك الموهبة، والترويج لفكرة زائفة مفادها أن هذه الموهبة الإلهية هي من آداب ونزعات الشعوب المسيحية ومستوحاة من ديانتهم؛ وبذا فقد ألصقوها بالمسيحيين لتشويهها، ولكن هيهات هيهات، لقد ولّى ذلك الزمن الذي كان فيه الشعب الإيراني رهين الغفلة؛ ففي وقت مضى كان لعن المرحوم قدوة المتألهين الآخوند ملا محراب الحكيم عليه الرحمة(65) يعد أمراً واجباً لأنه يقول بوحدة واجب الوجود، وكانوا يوجبون إعلان البراءة من حضرة النبي موسى الكليم على نبيّنا وعليه السلام لكونه نبيّاً لليهود. ولربما أساء البعض الأدب مع الإمام السابع [الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)] بسبب اشتراكه مع حضرة الكليم في الاسم! مجمل القول إن البعض كان يعدل عن الحق بسبب كلمة واهية، وأما اليوم فإن المجتمع قد تفتحت بصائره ولله الحمد.
وبغض النظر عمّا استجليناه من حقيقة الحرية المهضومة المغصوبة وما أبداه الأنبياء والأولياء في أمر استنقاذها من الغاصبين، فقد تبين لك أن حقيقة الاستبداد الذي تنتهجه الدولة الغاصبة في اغتصاب الحرية، وأما الدستورية [المشروطية] فهي تعني فيما تعنيه استرداد الحرية من الغاصبين. وأما مسألة اتساع المشارب وتعددها فليست لها أي صلة بهذا الموضوع.
إن وجود هذه المسألة وعدمها ناتج عن تعدد المذاهب ولا يرتبط باستبدادية أو دستورية الدولة، إضافة إلى ما أشرنا إليه فإن كل ذي عقل يدرك جيداً أن الشعوب بأجمعها، خصوصاً أتباع الديانة المسيحية على اتساع مشاربها وتعددها، بعد أن وعت هذا الأصل الذي هو أساس السعادة، أعلنت الحرب ضد الغاصبين وعانت من الويلات والمصائب أكثر مما عانيناه نحن وبذلت أضعاف ما بذلنا من الأموال والأنفس في سبيل الحصول على رأس مال حياتهم الوطنية. وقد حصلوا في النهاية على هذا الرأس مال العظيم، في حين نرى أن الشعب الروسي الذي عانى الكثير الكثير من المآسي والويلات على يد حكومته الجائرة وبذل التضحيات الجسام للتخلص منها، لم ينتصر في كفاحه ضدها، مع إنه لا يختلف عن غيره من الشعوب المسيحية التي حصلت على أعلى درجات الحرية مع تعدد المذاهب والمشارب في سائر تعاليمهم الدينية؛ فدينهم واحد ومباحاتهم واحدة والتزامهم بمبادئ النصرانية وبذلهم الأموال لترويج الشعائر النصرانية على حد سواء، والسبب في عدم انتصارهم [أي عدم انتصار الشعب الروسي] يعود إلى شدة بأس القوة الحاكمة لا غير.
والآن وبعد أن اتضح لك الأمر وعرفت أن المسيحيين بطائفتيهم القديمة والحديثة ومع اتساع مشاربهم وتعدد آرائهم قد اتفقوا في هذه المسألة، لابد وأنك استشعرت مدى هشاشة الرأي الذي يربط بين التحرر من نير طواغيت الأمة وحدوث الاختلاف والتشرذم في الأمة، فهذه المغالطة سوف لن تحقق لأصحابها غرضهم بعونه تعالى مع ما بذل من جهد جهيد لترسيخها؛ فالشعب اليوم ولله الحمد قد استيقظ من سباته ووعى تعاليم دينه ومذهبه ويفهم الخطوط العامة للديانة المسيحية والقواسم المشتركة بين كافة المذاهب وأهمها التحرر من أيدي الفراعنة والطواغيت. وهو لا يصغي بعد الآن إلى هذه المغالطات والمفتريات ولا يرضخ لذل الجبابرة ولا يردد كلمة الكفر [لا حكم إلا لله](66) كما يرددها من تبقى من خوارج النهروان، ولا يعصي أوامر أئمته وعلمائه ولا يشهر السيف بوجه صاحب الزمان (عج).
أما نحن عبدة الظلمة حيث كنا بالأمس نعد التحرر من ذل هذه العبودية مروقاً من الدين ونعتبر دستورية الدولة ديناً ومذهباً جديداً مقابل الدين الحق، ونسعى في تمكين رقاب المسلمين من هذا الذل المقيت، وفي المقابل نتلقى الجوائز والهدايا على ما نقوم به من خدمة. وأما بعد اليوم فلن نحصل على مثل هذه الجوائز ولن نراها حتى في المنام.

المغالطة الثانية: وتختص بمبدأ المساواة.
كما هو معروف فإن الحكومة الولايتية غير الجائرة إنما تبتني على المبدأ الأول، وهو تحرير رقاب الشعب من نير الظلمة.
وقد حاول البعض أن يثير عدة مغالطات حول هذا المبدأ. أما مسألة الحفاظ على العدالة في إجراء المبدأ الأول (مبدأ الحرية) وصيانته من التبدل والانحراف فهو يرتبط بالمبدأ الثاني وهو مبدأ المساواة بين آحاد الشعب ومساواتهم مع الشخص الوالي في جميع الأمور.
في زيارة الغدير الغراء نقرأ هذه العبارة في وصف سيد الأوصياء (عليه السلام): "وأنت القاسم بالسوية والعادل في الرعية"(67)، حيث تشير إلى ما قلناه بخصوص مبدأ المساواة، ولكن أهمية هذا المبدأ وكونه الركن الثاني في سعادة الشعب وأنه يحول دون استئثار المتصدين بالنعم والملذات ويمنعهم أيضاً من القيام بأعمال استبدادية، كل ذلك حدا بالبعض لأن يرسموا لهذه العبادة صورة قبيحة تثير النفرة والاشمئزاز لدى المسلمين وغير المسلمين.
فمن البديهي إن المكلفين على مراتب ودرجات، ويستتبع هذا تعدد وتفاوت في الواجبات والمهام الملقاة على عاتقهم، كل بحسب صنفه. وهذا ليس رأي المسلمين خاصة، بل هو مما أجمعت عليه كل الشرائع والأديان. وحتى اللادينيون ومنكرو الشرائع يقرّون بالأحكام العقلائية التي هي من مستلزمات الحياة البشرية والمائز عن الحيوانية، ويؤيدون هذه الحقيقة، وهي أن البشر مختلفون في القوة والعجز، والاختيار والاضطرار، والمكنة والفقر، والذكاء والغباء، وإلى غير ذلك من الخصائص والمميزات. والناس يتوزعون على درجات ومراتب.
وكما هو معروف لدى كافة شعوب العالم فإن لكل صنف مهام ومقررات خاصة به، وهذه الحقيقة من المستقلات العقلية.
بعد أن تبين لك بداهة هذا المعنى، فمن غير العسير حتى على الطفل المميز أن يدرك أن المساواة بين أصناف مختلفة يدين كل واحد منها بأحكام خاصة، ورفع التمايز والتفاوت الموجود بينها، يخالف ما جاءت به جميع الشرائع والأديان من ضروريات، ويخالف العقل النزيه في أحكامه، ويبطل كل القوانين والمبادئ السياسية لدى جميع الأمم، ويزعزع أسس النظام الموجود في العالم؛ ولا تقول به أي من الشعوب سواء المتمدنة منها أم غير المتمدنة. ومن هنا يتبين أنه لا مجال لحمل لفظ كلمة المساواة على هذا المعنى المتداعي.
إن مبدأ المساواة هو من أشرف المبادئ والقوانين التي تنادي بها السياسة الإسلامية، وهو أس العدالة وروح القانون، وقد بينّا إجمالاً مدى الأهمية البالغة التي يوليها الشارع المقدس لمسألة تحكيم الأصل الثاني الذي يؤدي دوراً أساسياً في سعادة الأمة؛ فالشريعة المطهرة تقضي بأن كل حكم، مهما كان موضوعه، إذا ما اتخذ صيغة قانونية، يلزم عنه في مرحلة التنفيذ أن ينفذ على تمام مصاديقه وأفراده بشكل واحد وبالسوية، ولا يلحظ في أمر التنفيذ أية محسوبية أو مؤثرات شخصية، ولا يجوز لأحد أن يلغي حكماً أو يغض الطرف في إجراء حكم من الأحكام. ولا مجال للرشوة والتخلف عن التطبيق، وإصدار الأحكام على أساس الهوى والأغراض النفسية. وبالنسبة للحقوق المدنية الأولية والعامة كأصل التأمين على النفس والعرض والمال والمسكن وعدم التعرض للآخرين بلا سبب والسماح بإقامة منتديات ولقاءات مشروعة وغيرها من الحقوق المدنية العامة، لابد من إجرائها للجميع بنحو واحد. وأما في الموارد الخاصة فيجب أن لا يكون هناك أي امتياز أو أولوية للبعض دون البعض الآخر، فكل أفراد الشعب بعد أن تنطبق عليهم تلك الموارد الخاصة يكونون فيها سواء. فيجب ـ مثلاً ـ أن لا يلحظ في المدعى عليه كونه وضيعاً أو شريفاً، جاهلاً أو عالماً، كافراً أو مسلماً، فالكل يجب أن يأتوا إلى المحكمة مذعنين. وأما الأحكام الصادرة من قبل الحاكم الشرعي النافذ الحكومة بحق القاتل والسارق والزاني والشارب للخمر والراشي والمرتشي والجائر في الحكم والمفسد والمرتد ومن يأكل مال اليتيم فيجب أن تنفذ بسرعة ودون تأخير، فالأحكام الخاصة بالمسلمين أو بأهل الذمة لابد وأن تنفذ بلا تمييز بين أفراد كل من الفريقين. هذه هي حقيقة المساواة والتي تعد روح القوانين والمبادئ السياسية، ولا شك أن عدم جواز التخطي عن هذا الأصل هو من ضروريات الدين الإسلامي الحنيف ومن بديهياته.
ومن هنا يصبح سن دستور أساسي بالإضافة إلى الشريعة المقدسة أمراً ضرورياً، فمفادهما واحد، وكل منها يعد ترجماناً للآخر، ويتكفلان معاً بيان روح السياسة وأساس العدالة، أقصد المساواة. وليس الهدف كما صوّره البعض في مغالطتهم من إن المراد هو مخالفة ضروريات الشرائع والأديان، خصوصاً بعد أن بينّا وبصريح العبارة إن كلاًّ من الدستور والشريعة ينص على مبدأ المساواة في الحقوق، وإن الناس سواسية أمام القوانين الدستورية وأحكام الشرع المتضمنة بيان حكم خاص لعنوان عام أو لموضوع خاص.
إذن المقصود من المساواة هو تطبيق الأحكام المترتبة على كل من العناوين الخاصة أو العامة بحق الأشخاص، أي موضوعات الأحكام، بالسوية من دون أن يكون للأهواء والميول الشهوانية أي دخل في مجال التطبيق. وهذا هو المعنى المراد من مبدأ المساواة لدى جميع الشعوب والأمم، ولو كان المقصود غير هذا المعنى لكان سبباً في هدم جميع ما سنّوه من قوانين ومبادئ.
إن سر اختلافنا مع سائر الأمم الأخرى في الأمور السياسية يعود إلى عدم توافق قوانينهم التفصيلية مع أحكام الشريعة، لا بسبب التزامهم بالعدالة والمساواة في تنفيذ تلك القوانين. ولو كانت القوانين التفصيلية مطابقة لأحكام الشريعة لكان الالتزام بمبدأ المساواة المبارك لا يعني فيما يعنيه سوى عدم التمييز بين الشريف والوضيع والقوي والضعيف في مجال تطبيق الأحكام، وإحياء السيرة الحسنة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكف أيدي الطواغيت عن التلاعب بتلك القوانين، وتحكيم أساس الشعور بالمسؤولية في تنفيذ الأحكام.
ولكننا نرى كيف أن البعض حاول تشويه هذا المبدأ، والذي هو أس العدالة، وإظهاره بأقبح صورة، وتفسيره بأنه يعني رفع أوجه التمايز فيما بين مختلف طبقات وأصناف المجتمع التي تختلف بطبيعتها في الأحكام، وغيرها من التفاسير المغرضة التي من شأنها إثارة حفيظة وسخط الأمم كافة. وبذا كانوا مصداقاً للآية الكريمة:{يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون}(68)، وأصبحوا كذلك مصداقاً للآية:{لهم قلوب لا يفقهون بها}(69).
وكما اتضح لك فإن الهدف من تدوين القانون الأساسي هو ضبط أعمال المتصدين، والحد من سيطرتهم وصلاحياتهم وتحديد مهامهم وواجباتهم. وأما التعاليم والقوانين التفصيلية فهي إما من قبيل السياسة المتعارف عليها لحفظ النظام أو هي أحكام شرعية عامة. لا تختص بطبقة خاصة وصنف معين، وبالتالي فهي لا تمت بأي صلة إلى التكاليف التعبّدية أو التوصّلية، ولا ترتبط بأحكام المعاملات وغيرها من أبواب العقود والإيقاعات والمواريث والقصاص والديات، والتي لا تدخل في دائرة اختصاصات المتصدين وممثلي الحكومة، وإنما هي مما يبحثها المراجع في رسائلهم العملية ولا تجب إلا على من دان بالدين الإسلامي الحنيف.
أضف إلى ذلك إن ما يراد من تدوين القانون لا علاقة له بوظائف الحكومة الشرعية وتطبيق موارد الحكم الشرعي باستيفاء القصاص والديات وإجراء الحدود الإلهية على المسلم والكافر الأصلي والمرتد الفكري والملي وغير ذلك مما يحكم به المجتهد النافذ الحكومة وتقوم بتنفيذه السلطة التنفيذية؛ وبحمد الله فإن الأحكام الصادرة في هذه الأبواب لا مجال للتدخل فيها من قبل الآخرين، كما أن الحاق مبدأ المساواة بقانون المحاكمات لا يراد به سوى وجوب الرجوع في هذه المجالات إلى المجتهد النافذ الحكومة، ومن ثم تنفيذاً للأحكام الصادرة عن ذلك المجتهد مهما كانت طبيعة تلك الأحكام وأياًّ كان المحكوم عليه وبلا تأخير.
ولكنهم مع ذلك ولأجل تدعيم مغالطتهم المغرضة والتي بينّاها توّاً عدّوا تعدد موارد الموضوعات والأحكام الشرعية في الأبواب المذكورة منافياً لقانون المساواة الذي عرفت فوائده وثمراته، والأعجب من ذلك أنهم مع وضوح فكرة المساواة وأنها بمعنى التسوية بين أفراد المجتمع في القوانين الموضوعة لأجل ضبط تصرفات المتصدين، وليس الهدف منها رفع جميع أوجه التمايز بينهم، فالقوانين عامة وتشمل جميع الأصناف والطبقات، وجميع المغالطات التي ذكرت هي أجنبية وغريبة عن أصل الموضوع، مع ذلك كله، ولأجل توجيه هذه المغالطات وصرف الأذهان عن هذه المفارقة الواضحة، أتوا على مغالطة عجيبة أخرى خلاصتها أنه إذا كانت القوانين المذكورة إسلامية، مع ما فيها من الاختلافات في الأبواب المذكورة، إذن كيف يمكن أن نحصل على المساواة؟ وإذا كانت الأحكام المذكورة تلك مخالفة للإسلام، فكيف يمكن قبولها كقوانين يلزم إجراؤها؟
وللإجابة على هذه المغالطة نقول إن كل الأحكام القانونية هي بمرأى ومسمع الجميع، وأن هذه المغالطة الباعثة على الشك لا محل لها من الإعراب، فالقوانين المقررة لتحديد صلاحيات المتصدين وضبط تصرفاتهم ضابطها أن لا تخالف الإسلام، لا أن تدرج جميع الأحكام الإسلامية بدءاً بكتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات في قائمة الوظائف والمهام السياسية للمتصدين ويكوان مسؤولين عنها. وقد فات هؤلاء المثل الشعبي المعروف وهو: صحيح أن كل جوزة كروية الشكل، ولكن ليس كل ما هو كروي فهو جوزة.
إنما أوردت هذا المثل الذي يعرفه حتى الأطفال لأقول إن غلبة الهوى وشدة الطمع قد طبعت على قلوب هؤلاء فأنستهم هذا المعنى. والحق أن الزمن أشرف وأغلى من أن نصرفه في التعرض لمثل هذه الأقاويل، والرد على مثل هذه الأباطيل.

المغالطة الثالثة: وهي المثارة حول تدوين القانون الأساس.
لقد قام عبدة الظلمة ـ ولأجل رفع هذا اللجام عن الأفواه الكبيرة لأسيادهم الظلمة ـ بالضرب على أوتار مختلفة أهمها أن ديننا نحن المسلمين هو الإسلام وقانوننا هو القرآن الكريم وسنة خاتم الرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا فإن تدوين قانون آخر في بلد الإسلام بدعة والالتزام به بدعة أخرى لعدم مشروعيته، كما إن معاقبة من تخلف عنه بدعة ثالثة. إذن هذه المغالطة تقضي بأن تدوين الدستور الأساس يعد بدعة من ثلاث زوايا.
إن حقيقة هذه المغالطات تشبه إلى حد كبير قصة رفع المصاحف من قبل الشاميين، كما أنها تشبه ما قاله الخوارج في النهروان (أن لا حكم إلا لله)، بل هي أكبر من كلتا هاتين المغالطتين، وهنا يلزم بيان أمرين:
الأمر الأول: هو أنه من أظهر البديهيات الإسلامية ومن المسائل التي أجمع عليها علماء الأمة بلا استثناء هو حرمة التطاول على مقام النبوة الشامخ وعلى الشارع المقدس، وهو الذي عبرت عنه الأخبار بالبدعة وأسماه الفقهاء بالتشريع، وهذا إنما يتحقق عندما يعنْوَن حكم من الأحكام، فردياً كان أو اجتماعياً مكتوباً أو غير مكتوب، على انه حكم الله وحكم الشرع وأنه يجب الالتزام به كذباً وافتراءً.
وأما مع عدم إسباغ الصفة الشرعية والإلهية وعدم نسبة الحكم إلى الشارع المقدس، فإن أي لون من الإلزام، والالتزام سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، لا يعد بدعة أو تشريعاً، مثل النوم والاستيقاظ والأكل في ساعات محدودة، أو كأن يلتزم أفراد الأسرة أو القرية بتنظيم أمورهم على وجه خاص وطراز خاص. وقد تتعدى دائرة الالتزام والإلزام لتشمل سكان قطر من الأقطار أو إقليم من الأقاليم.
وأما بالنسبة للمقررات والنظم المتعارف عليها، فلا فرق بين أن تكون متعاهد عليها ومعمول بها من تدوين، أو أن تكون مدوّنة على هيئة نص دستوري؛ ذلك لأن الملاك في كل ذلك هو إدارة تشريع جديد مقابل التشريع الإسلامي وإظهار البدعة في الدين، وليس الملاك هو وجود قانون مدوّن أو عدم وجوده.
الأمر الثاني: هو أنه كما توجد هناك أمور كثيرة غير واجبة بذاتها قد تصبح واجبة إذا ما تعلق بها النذر والعهد واليمين أو الأمر الولائي الشرعي أو الشرط ضمن العقد، كذلك قد تجب إذا ما توقف عليها إقامة واجب من الواجبات، أي إن تلك الأمور التي هي غير واجبة في نفسها تكون واجبة بالعرض ويلزم القيام بها عقلاً، حتى لو لم نكن من القائلين بأن مقدمة الواجب واجبة وجوباً شرعياً مستقلاً، ذلك لأن توقف الواجب عليها يوجب لزوم الإتيان بها على نحو الضرورة العقلية. وهذا القدر من لزوم المقدمة ولزوم الإتيان بها متفق عليه بين جميع علماء الإسلام.
بعد أن بينّا هذين الأمرين يتضح وجوب تدوين الدستور الأساسي بالصيغة التي تكفل لنا مسألة تحديد صلاحيات الحكومة الجائرة والحد من اختياراتها على أساس متبنيات مذهبنا نظراً لتوقف أمر حفظ النظام عليه وصيانة لأصل التحديد، ولا يدعي أحد أن ما جاء في الدستور هو من عند الله، كما لا يقصد من ورائه المجيء بشرعة مباينة لشرعة الإسلام أو بدعة في الدين أو التطاول على مقام النبوة. وبذا يظهر أن هذه المقولة ليست إلا مغالطة سخيفة ومغرضة أوردها الإخباريون الجهلة، أولئك الذين يفهموا بعد ما معنى البدعة والتشريع، لذا نراهم يستكثرون على فقهاء عصر الغيبة كتابتهم للرسائل العملية، ويعدوءه من الهفوات والزلات، وأنه تطاول على مقام النبوة المقدس. فسبحان الله أنه التمادي بالغي واتباع الهوى وبتعبير القرآن الكريم {أخلد إلى الأرض واتّبع هواه}(70) الذي يؤدي بالإنسان إلى تسطير مثل هذه الأباطيل والشبهات الواهية التي يروجها الإخباريون الجهلة، ويعرض الدين الإسلامي وما أنجزه علماء الإسلام والمجددون منهم على مر القرون والقرن الثالث عشر الهجري خاصة إلى خطر الزوال من حيث لا يشعر الإنسان بذلك، كل ذلك في سبيل إلغاء أصل تحديد الحكومة وإلغاء المبدأ القائل بوجوب أن يتحمل المتصدون مسؤولية وتبعات ما يرتكبونه من جرائم إزاء أرواح وأعراض وأموال المسلمين. وهنا ليس لنا إلا أن نردد صريح الآية الكريمة:{فاعتبروا يا أولي الأبصار}(71)، فهل إنهم لم يفرقوا بين حقيقة التشريع وبين البدعة؟ وإن الأمور قد اختلطت عليهم؟ أو أنهم ساروا على خطى الذين سبقوهم عمّا جاء في وصفهم في الخطبة الشقشقية: "بلى، قد سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"(72).
إن المساعي الحثيثة التي بذلت لأجل تطبيق القانون العسكري الذي دوّن بإيحاء من الروس بعد هدم الركن الأساس لسعادة الشعب الإيراني مع ما يتضمنه [أي القانون العسكري] من مخالفة صريحة لضروريات وأحكام الدين الإسلامي، كما إن إيكال أمر تطبيق هذا القانون إلى الضابط الروسي لياخوف(73) بما يعني تسليطه على نفوس وأعراض وأموال المسلمين، كل ذلك يؤكد على رجحان كفة الاحتمال أو الشق الثاني، وانطباق وصف أمير المؤمنين عليهم بأن الدنيا حليت في أعينهم وراقهم زبرجها وأن الأمر ليس مجرد اشتباه.

المغالطة الرابعة: وهي بخصوص تنصيب مراقبين وعقد مجلس شورى وطني.
لقد بذل أعوان الظلمة جل اهتمامهم حول هذا الموضوع لكونه يمثل الجانب العملي في مسألة تحديد السلطة الجائرة وبمثابة اللجام الذي يكف الظالمين عن التمادي في غيّهم، فألصقوا أنواع التهم بمنتخبي الدورة الأولى من المجلس وراحوا ينسجون من المهازل ما هو أوهن من خيوط العنكبوت. وفيما يلي نرد على بعض هذه التخرصات بالترتيب:
أولاً: ما أرسله بعض متنسكي وجهلة تبريز إلى النجف من روايات وأخبار تدل على جواز تدخل الأمة في أمر الإمام، فكانوا كناقل التمر إلى هجر.
وقد جاء في كتابهم ما شأن الرعية والدخول في أمر إمامة وسلطان صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن أرواحنا فداه!!
فهم لشدة اتباعهم الهوى تصوروا أن طهران هي الناحية المقدسة للإمام الحجة بن الحسن (عج) أرواحنا فداه! أو أنها الكوفة المشرفة! وأن عصرنا هذا عصر خلافة الحجة صاحب الزمان (عج)! وأن هؤلاء المغتصبين للولاية يمثلون الحجة المهدي! وأما منتخبو الشعب فهم أناس انتدبوا ليتدخلوا في أمر الخلافة الحقة والولاية المطلقة!!
ندعو الله العلي القدير أن يداوي أسراء وأذلاء هذا البلد بأنفاس المسيح (عليه السلام)، وأن يتداركهم روح المقدس فيعوا هذا الأمر الواضح؛ وهو إن طهران ليست الناحية المقدسة، ولا الكوفة المشرفة، وأن المغتصبين للحكومة لا يمثلون ذاك المقام الشامخ [الإمام (عج)]. وإن ما يريده ممثلو الشعب هو الوقوف بوجه الغاصبين والحد من صلاحياتهم واختياراتهم.
وإذا ما استوعبوا هذه البديهيات يمكن دفع هذه الشبهة التي تشبه شبهة ابن كمونة(74) وحل هذه العويصة الأصعب من الجذر الأصم(75)!
ثانياً: بعد الإذعان لضرورة تحديد السلطة الجائرة بالقدر المستطاع ولزوم تعيين لجنة مراقبة لمتابعة تحركات المتصدين ومنعهم من التمادي في غيّهم، قام البعض بإلقاء الشبه والوساوس حول هذا الموضوع كي يصرفوا أذهان العامة عنه، ومحصل كلامهم أن كلتا المقدمتين (تحديد السلطة وتعيين هيئة مشرفة)، هي من الضرورات ولا يمكن إنكارهما، لكن بما أن القيام بإدارة أمور الأمة وشؤونها هي من الوظائف الحسبية وتدخل في باب الولاية، إذن فالقيام بها من وظائف النواب العامين والمجتهدين العدول، وليس من شأن العوام التدخل في مثل هذه الأمور، فتدخلهم وانتخاب الممثلين كله عبث وغير صحيح، وينتج عنه تصدي من لا يحق له التصدي، فيكون تصديه اغتصاباً لهذا المقام.
وفي معرض الإجابة
نقول إن هذه الشبهة تختلف عن سائر التلفيقات بأنها ذات صبغة علمية، حيث تضمنت التسليم بضرورة تحديد الصلاحيات وتعيين ما يسمى بالهيئة المشرفة أو لجنة المراقبة، بالإضافة إلى أنها تنكر أصل الموضوع وجدواه، ولم تدّعِ بأن طَرق هذا الموضوع هو تدخل سافر في شؤون الإمامة، ولذا وجب علينا أن نشكرهم على موقفهم الإيجابي هذا، ولكن الإشكال الذي طرحوه هو من المصاديق الواضحة للمثل المعروف القائل: "حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء".
إذ من الواضح أن إدارة أمور الأمة وشؤونها من الوظائف الحسبية، ولكن وبغض النظر عن مبدأ الشورى الذي يجب تكريسة في الحكومة الإسلامية، والذي بيّنّاه سابقاً، فإن الشعب بجميع أفراده له حق الإشراف والمراقبة باعتباره يدفع الضرائب والرسومات ويشارك في إعمار البلاد وبنائها هذا أولاً، كما أن أصل العمل بمبدأ الشورى يقتضي ذلك ثانياً، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثالثاً. ولا يمكن ممارسة هذا الحق إلا بانتخاب الشعب لممثليه.
أضف إلى ذلك إن واجبنا الفعلي الآن يحتم علينا ذلك نظراً لمغصوبية مقام الخلافة وعدم إمكانية تحقيق التحديد الصحيح إلا بهذه الصورة. ومما سبق نخلص إلى تعيّن وجوب التقنين وتحديد الصلاحيات وفرض الرقابة.
وأما في باب الوظائف الحسبية فلابد من التنويه إلى أصلين مسلّمين:
1ـ لا يلزم في التصدي لهذا الأمر وجود المجتهد، بل يكفي أخذ الإذن منه ليتصف بالشرعية، وهذا من المسائل الواضحة التي يعمل بها حتى عوام الشيعة في إنجاز أعمالهم.
2ـ إن عدم تمكن النواب العموميين ووكلاء الإمام الحجة (عج) من إقامة تلك الوظائف لا يسقطها، بل إن الولاية حينئذ تصبح في عدول المؤمنين، ومع عدم تمكنهم تفوض إلى عموم الناس، بل إنها في النهاية تصل إلى فساق المسلمين، وذلك بإجماع فقهاء الإمامية.
ومن ذلك يتضح أن القيام بالوظائف اللازمة وإجراء عملية التحديد والتقنين لا يتم إلا بهذه الصيغة الدستورية الرسمية السائدة في العالم، وبانتخاب ممثلي الشعب للمساهمة في رسم سياسة البلد وإدارة شؤونه، وبدون ذلك لن نصل إلى النتائج المطلوبة. ولو قام فقهاء عصر الغيبة بتعيين لجنة مراقبة وهيئة مشرفة على أعمال الدولة ـ كبديل عن الصيغة الدستورية ـ فإن النتيجة سوف تكون قيام الحكم المستبد باتخاذ عدد من الإجراءات التعسفية كالنفي والإهانة، وحتى مسألة الرسمية في القيام بالوظائف المذكورة، والتي تشكل الأساس في المسألة الدستورية، فإن تكريسها أمر غير ممكن إلا بالصورة التي أشرنا إليها.
ولهذا فإن ما يمكن القيام به في مثل هذه الظروف، هو الاكتفاء بالقدر المشار إليه من الولاية، وصرف النظر عن الأمور العامة والمشتركة الخارجة عن الولاية على النفس(76)، ولرعاية جانب الاحتياط، يجب أن يكون إجراء الانتخابات وتدخل المنتخبين في أمور الحكومة بإذن المجتهد النافذ الحكم.
وقد يكون من الأصلح أن تضم مجموعة المنتخبين عدداً من المجتهدين العظام لتصحيح وإنفاذ الآراء الصادرة، وذلك كما جاء في الفصل الثاني من الدستور.
وباتخاذ هذه الخطوات ومراعاة جميع الجوانب لا يبقى هناك أي مجال لأية شبهة لدى عوام الشيعة، فضلاً عن أهل العلم منهم.
ثالثاً: ما أرسله البعض من رسائل إلى النجف الأشرف تضم مدعيات فارغة وهزيلة في إثبات أن تشكيل هيئة مشرفة لا يدخل في باب الوكالة الشرعية، وهم بذلك كناقل التمر إلى هجر. وفي الجواب نقول: بغض النظر عن الضرائب التي تدفع لتأمين ودعم مشاريع ومصالح البلد، وبغض النظر عن مجمل القضايا المشتركة والعامة، والتي يكون البتّ فيها من صلاحيات الولي المنصوب من قبل الله تعالى ولا ولاية للغير فيها، والتي يمكن العمل بمبدأ الوكالة الشرعية فيها، بغض النظر عن كل ذلك يبدو أننا نحن المعممين العوام لم نفهم الوكالة بمعناها اللغوي والعرفي وهو مطلق التسليم والإيكال، ومن هنا أطلق عليه اسم عقد الوكالة، ولم نتوقف عند مفاد الآية المباركة، {حسبنا الله ونعم الوكيل}(77)، ولا الآية الكريمة: {وما أنت عليهم بوكيل}(78)، ولا قوله تعالى: {والله على كل شيء وكيل}(79)، وغيرها من الآيات التي يتضح من خلالها عدم انطباق المعنى فيها مع مدلول الوكالة الشرعية، ومع ذلك جيء فيها بكلمة الوكالة.
كما أننا لم نلتفت إلى أنه بعد أن اتضح صحة أصل الموضوع ولزوم تعيين هيئة للإشراف والرقابة، فإن الحديث عن انطباقها على الوكالة الشرعية وعدم انطباقها لا يتعدى أن يكون مناقشة لفظية لا طائل لها. فما هي الثمرة المترتبة وما هو المحذور من وراء كون إطلاق الوكالة في هذا الباب حقيقةً أو مجازاً.
إن تحديد صلاحيات السلطة الجائرة يتنافى وأهواءنا النفسية ومطامعنا الشخصية، ولولا ذلك لما ختم على قلوبنا وأبصارنا وآذاننا، ولما وصلنا إلى هذه الدرجة في معاونة الظلمة، والطغاة ولما أرسلنا مثل هذه (الأباطيل) إلى النجف الأشرف، ولاكتفينا على الأقل بتشويش أذهان العوام.
رابعاً: فيما قيل عن عدم مشروعية الأخذ بآراء الأكثرية وإن هذا الأمر بدعة.
يتبين، مما سبق من الحديث عن التشريع والبدعة، بطلان كون الأخذ برأي الأكثرية بدعة، ولا حاجة للإعادة. فكما تعلم أن أصل الشورى التي نص عليها الكتاب قائم على الأخذ بالتصريحات عند التعارض، والأخذ بآراء الأكثرية عند الدوران، وبأقوى المرجحات. حيث إن الأخذ بالطريق الذي أجمع عليه أكثر العقلاء أرجح من الأخذ بالشاذ، وهذا ما نستفيده من عموم التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة أيضاً(80)؛ فمع الاختلاف في الآراء والتساوي من حيث المشروعية يلزم الأخذ برأي الأكثرية حفظاً للنظام، وجهة الإلزام في ذلك نفس الأدلة الواردة في لزوم الحفاظ على النظام.
ونضيف هنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ برأي الأكثرية من أصحابه في مواقع عديدة؛ فقد نقل الرواة من الفريقين أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيد الأكثرية في غزوة أحد، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً. وفي غزوة الأحزاب كذلك أخذ الرسول بآراء الأكثرية فيما يرتبط بعدم مصالحة قريش على قدر من تمر المدينة(81).
كما ونجد أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وافق رأي الأكثرية في قضية التحكيم المشؤومة مع أن الأكثرية كانوا قد خُدعوا برفع الشاميين للمصاحف. وفي ذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): إن نصب الحكمين لم يكن ضلالة، وإنما هو سوء رأي اتبعت فيه الأكثرية عندما وجدتها متّفقة عليه(82).
إن استقصاء مثل هذه الموارد يبعدنا عن الهدف الذي من أجله دوّنّا هذه الرسالة، ولذا نكتفي بهذا القدر في مجال الرد على الدعوى المثارة، ولما كانت معظم الشبهات المغرضة تدور حول هذا الركن الأساسي للسعادة، لذا تصدينا لدفعها ودحضها وإثبات أنها قائمة على أساس الأهواء والمطامع النفسية، وأما ما تبقى من هفوات فهي واضحة البطلان، ولا داعي للالتفات إليها والتعرض لها.
ويجدر بنا هنا أن نذكر في ختام هذا الفصل جانباً من الردود التي أجاب بها سماحة آية الله الآخوند ملا محمد كاظم الخراساني (دام ظله) على الرسائل الشفوية التي وجهتها المشيخة الإسلامية في اسطنبول إلى سماحته عن طريق بعض الإيرانيين المقيمين هناك، لما تتضمنه من شجب واستنكار للمواقف التي يبديها عبدة الظلمة في إيران.
فقد ورد عن هذا الرجل العظيم الذي طالما سعى إلى نصرة الدين الحنيف، في لزوم الاهتمام بتشييد ركن السعادة وأساسها، ما يلي:
"إذا لم نتصدَّ نحن بوصفنا رؤساء الإسلام وأمناءه لهذه الحضارة التي أخذت شكل السيل العارم المنحدر من بلاد الغرب صوب البلدان الإسلامية، وإذا لم نهب جميعاً لتثبيت أسس ودعائم الحضارة الإسلامية في الوقت المناسب، فسوف يجرف هذا السيل الخطير بناء الإسلام وركائزه ويمحوه من صفحة الوجود" انتهى.
بقي عليك ـ عزيزي القارئ ـ أن تلاحظ مدى الفارق بين هذه النظرة وتلك؛ فهذا الرجل العظيم وفي مقام الدفاع عن الإسلام يتنبه إلى التبعات والعواقب السيئة التي قد تلحق بالإسلام جراء الوضع الراهن الذي يمر به الدين والإسلام، ويلفت الأنظار إلى ضرورة إقامة ركن السعادة هذا مع أن الدولة العثمانية ما زالت تحتفظ باقتدارها وشوكتها، كما أنه لا يشك في أن تحديد صلاحيات السلطة الحاكمة وفرض هيئة مشرفة عليها هو من حاق الدين وصميم الكتاب والسنة ومن معالم الحضارة الإسلامية.
أما نحن عبدة الظلمة في إيران الذين نعد أنفسنا من المتمسكين بالمذهب الجعفري فمهما فرضنا في أنفسنا الجهل بمقتضيات الدين ومداليل الكتاب والسنة وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، فلا نجهل هذه الضرورة التي يصرح بها مذهبنا وهي أن هذه الزمرة المتصدية لزمام السلطة هي زمرة غاصبة، ويجب الحد من سلطتها وتحديد صلاحياتها مهما أمكن.
ألا يكفينا أننا كنا بالأمس على رأس الأمم واليوم وقعنا في محنة وورطة ومهلكة لا مثيل لها بسبب انعدام روح الإحساس بالمسؤولية لدى الحكام والمتصدين ورسوخ هذه الفكرة المغلوطة القائلة بأن للحاكم أن يفعل ما يشاء وما يحلو له ولا يحق لأحد أن يسأله عمّا يفعل! حتى أخذ الحكام يعبثون بمقدرات الأمة ومصيرها كيفما شاؤوا. ومع هذا كله ها نحن نداهن فراعنة وطواغيت الأمة العابثين بمقدرات البلاد ونوافق المنتهكين لدماء وأعراض وأموال الشعب، بل ترانا نؤيد الأجانب الذين جاؤوا للغنيمة ونأمل أن تمتد أعمارنا أياماً أخرى ننهب فيها الخيرات ونستأثر بالأموال، وذلك من خلال مخالفتنا لهذا المبدأ الذي يعد الركن الأساسي للسعادة، لأنه يوقف الظلمة عند حدهم ويكفّهم عن التمادي في غيّهم ويبدد جميع مخططاتهم! وها نحن تظافرنا معهم وبذلنا جهدنا لرفع لجام التحديد والتقنين عن أفواه الظلمة وقمنا بعدة أدوار ـ تبعاً للظروف والمستجدات ـ وكلها تصب في تحكيم أساس الاستبداد وزرع بذور الفتنة والفساد؛ ففيما يخص تشكيل هيئة مشرفة من المجتهدين العظام طرحنا مسألة أن يكونوا من الطراز الأول، وكما هو معلوم فإن تعيين المصاديق في مثل هذه المسألة محل تنازع وشجار وعادة ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، ولم نكتف بذلك، بل سعينا وراء إفشال عمل مجلس الشورى الوطني والإخلال بمشروعيته، وذلك من خلال رفع دعوى ضد عضوية الهيئة المشرفة في المجلس، وأنه ينبغي أن تكون هذه الهيئة خارج إطار المجلس، في حين أن الفصل الذي يختص ببيان دور ومهام الهيئة المشرفة من الدستور ينص وبصراحة على أن رأي هيئة المجتهدين في تأييد صلاحية المواد القانونية المعنونة في المجلس وموافقتها لمبادئ الشريعة أو ردّ صلاحيتها والحكم عليها بأنها مخالفة لأصول الشريعة مطاع ونافذ ومقدم على رأي الأكثرية.
ولكن مع هذا كله أخذنا نردد هذه الشبهة الواهية طمعاً في تضليل السذج والبسطاء من الناس، وهي أن عضوية هيئة المجتهدين في المجلس النيابي تضعف من موقفهم في إلغاء المواد القانونية المخالفة للشريعة الإسلامية فيما إذا كانت الأكثرية مخالفة لرأي الفقهاء في الهيئة المشرفة، وأنه من الممكن الالتفات على رأي الفقهاء عن طريق الأخذ برأي الأكثرية.
وما أن تداعت هذه الشبهة وانكشف زيفها احتلنا في رفع صحيفة أخرى لهدم أساس الدستورية، وهي دعوى أن الحكومة الموجودة تفتقد إلى الشرعية وأن تصدي الغاصبين للحكومة لا يجوز بأي حال من الأحوال، إذن فلا يمكن العمل بأي من ضروريات الدين في مثل هذه الظروف. وهكذا وظّفنا مرة أخرى مصطلح الشرعية لتضليل السذج والتحايل عليهم وهدم أساس الدستورية، فهم يتظاهرون بالاهتمام بالشرعية لكنهم في واقع الأمر يسعون لإبطال مبدأ التحديد والتقنين ورفع اللجام عن أفواه الظالمين.
ومحصل القول، أنه ما دام الظلمة والطواغيت يسعون لإلغاء هذا اللجام وتكريس طغيانهم من خلال إثارة الفتن والقلاقل الداخلية وافتعال الأزمات والمشاكل على الحدود وغيرها من الحيل والمخططات الخبيثة بهدف صرف قلوب الناس وإشغالهم، نبقى نحن عبدة الظلمة نتحرك ضمن الخطة المعدة لهدم هذا الركن الأساسي لصرح السعادة.
والحق أن ما نتبعه من أساليب التزوير والخداع يعجز عن الإتيان بها دهاة العرب، بل دهاة العالم أجمع.
وبعد أن خابت ظنون كلتا الشعبتين الاستبداديتين، الحكومية والدينية، من الوصول إلى مقاصدهم بمثل تلك الحيل والمؤامرات، أقدموا على هدر دماء وأموال وأعراض المسلمين والسير على ما سار عليه جنكيز خان.
أما نحن عبدة الظلمة فأخذنا نوجه ونبرر كل هذه الجرائم الشنيعة بدعوى أن سلب الصفات الخاصة بالذات الإلهية المقدسة عن الجبابرة والطواغيت ينافي الدين، ويوجب الخروج من ربقة المسلمين، وألبسنا البدعة الاستبدادية في الحكم التي ابتدعها معاوية بن أبي سفيان ثوباً الدين وعلى أنها تمثل الحكم الديني، وبهذه التهمة التي تتنافى وضروريات الإسلام انتهكنا حرمة الدين الإسلامي القويم، وبهذا الإفك والبهتان العظيم أسأنا إلى سمعة المذهب الجعفري ـ على مشيّده أفضل السلام ـ وجعلناه في موقف حرج، وقللنا من شأنه لدى سائر الفرق الإسلامية.
نعم، إذا كان طلب العلم بهدف الحصول على حطام الدنيا ونهب أموال الناس فهو كاصطحاب المصباح أثناء السرقة وكتعليم مبادئ السطو والاختلاس، وسيؤدي بالنتيجة إلى هذا القبيل من الاعتداءات والانتهاكات، ولنعم ما قيل: إن إعطاء السيف للرجل المخمور أفضل من حصول الجاهل على العلم.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية