الفصل الخامس: صحة تدخل النواب وبيان وظائفهم وشرائط مشروعيتها
في ذكر شرائط صحة ومشروعية تدخل نواب الأمة في الأمور السياسية، وبيان وظائفهم
العملية، وهو في مقامين:
المقام الأول:
وهو في الشروط المعتبرة في صحة ومشروعية تدخل مبعوثي الأمة في الوظائف الحسبية
العامة. وقد ظهر مما سبق أن الشرط الوحيد هو حصول الإذن من المجتهد النافذ الحكومة
واشتمال المجلس الوطني على عدة من المجتهدين العدول المطلعين على واقع السياسة كما
جاء في الفصل الثاني من الدستور بشكل تام وواضح وفوق المأمول بحمد الله، ولا يوجد
شرط آخر في هذا المجال.
إذن فأهم ركن في هذا الموضوع هو اكتمال الشروط والاتصاف بالكمالات النفسية المطلوبة
في مثل هذه الموارد، وأهمها:
1ـ الإحاطة العلمية الكاملة في باب السياسة، وبتعبير آخر الاجتهاد فيها؛ كأن يكون
خبيراً بالأصول الدولية المتعارفة ومطلعاً على دقائق الحيل المتداولة بين الدول
وخفايا الأمور وعارفاً بالمسؤوليات المناطة به ومقتضيات العصر. وبانضمام هذه الصفة
إلى فقاهة المجتهدين المنتخبين لتمحيص الآراء وتطبيقها على الجوانب الشرعية تتكامل
القوة العلمية اللازمة في مجال الإدارة السياسية للأمة وتحصل النتيجة المقصودة إن
شاء الله تعالى.
2ـ الخلو من الأغراض والأطماع الخاصة؛ لأن وجود أي شائبة من الطمع وحب الرئاسة
ونفوذ الرأي ـ لا سمح الله ـ من شأنه تحويل الاستبداد الشخصي إلى استبداد جماعي
أسوأ حالاً من الأول، بل يفترض في المنتدب أن يكون إلى جانب ذلك منزّهاً عن سائر
الأوصاف الرذيلة كالبخل والجبن والحرص، وذلك ما يظهر من وصية الأمام علي(عليه
السلام): "ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً
يُضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجور"(83).
3ـ أن يكون غيوراً على دينه ودولته ووطنه الإسلامي وعلى عامة المسلمين، بحيث يعتز
بجميع حدود وثغور البلد أكثر من اعتزازه بأملاكه الشخصية ألف مرة، وأن يرى دماء
وأعراض وأموال أفراد الشعب كما يرى روحه وعرضه وناموسه الشخصي، وأن يكون للناموس
الأعظم ـ وهو الدين ـ في قلبه المكانة الأسمى ممّا عداه، ويليه بالدرجة الثانية
حراسة استقلال الدولة الإسلامية التي هي وظيفة الجميع.
وبالنسبة للفرق غير الإسلامية فإنه يجب دخولهم في الانتخابات، وذلك نظراً لاشتراكهم
مع المسلمين في الجوانب المالية، ولكي تأخذ صيغة الشورى طابعها الشمولي والرسمي
الكامل. وإذا ما انتخبوا أشخاصاً من صنفهم فإن المدار في صحة انتخابهم هو اتصافهم
بالأوصاف المذكورة؛ ولا ينبغي توقع حماية الدين منهم، بل يطلب منهم الحرص على خير
الوطن والمواطنين. وبالجملة فإن الهدف من عقد مجلس الشورى هو النظر فيما يصدر عن
ولاة الأمور وإقامة الوظائف الراجعة إلى انتظام أمور البلاد وحفظها وسياسة أمور
الأمة وإحقاق حقوقها. وليس الهدف إقامة حكومة شرعية وإصدار الفتاوى وإقامة صلاة
الجماعة. والشروط المعتبرة في باب الأمور الدينية العبادية أجنبية عمّا نحن فيه.
وكذلك الصفات التي ذكرناها لا علاقة لها بأبواب العبادات؛ فوجود المجتهدين وحصر
وظيفتهم الرسمية بالحيلولة دون ظهور مواقف مخالفة للشريعة يعد كافياً إذا كان العمل
خالصاً من الأغراض الخاصة.
إذن، فبعد استحكام هذا الأساس من السعادة ـ بعون الله تعالى وحسن تأييده ـ فإن أول
وظيفة تقع على عاتق المتدينين والوطنيين الإيرانيين هي أن يفتحوا أعينهم وآذانهم في
مسألة الانتخاب النيابي تماماً، وأن يتجنبوا في هذا المجال الأغراض الشخصية، كقرابة
زيد وصداقة عمرو وعداوة بكر، وأن لا يكونوا مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله
وسلم): "شر الناس من باع دينه بدنيا غيره"(84)، كما يفعل البعض من عبدة الظلمة.
فعلى الجميع أن يضعوا نصب أعينهم لماذا الانتخاب؟ وما هو الهدف المتوفر من إقامة
الانتخابات؟ ومن هم المنتخبون؟ فمن وجدوه متصفاً حقاً بتلك الأوصاف وافياً بالمقصود
بحيث يتمكنون من الخروج من عهدة الجواب لو سئلوا عنه في محكمة العدل الإلهية
فلينتخبوه.
المقام الثاني
في بيان الوظائف العلمية للمنتدبين على وجه الإجمال.
ومن اللازم أولاً: أن نبيّن أصول الوظائف السياسية لعصر الغيبة، مع غض النظر عن
مغصوبية مقام الولاية، لنخرج بعدها بصورة واضحة عن الواجب الذي ينتظرنا في الوقت
الحاضر.
1ـ إن أول وأهم الوظائف في هذا الباب هو ضبط الخراج وتنظيم موارد الدولة ومصارفها.
ومن البديهي أن حفظ النظام وصيانة بيضة الإسلام لا تتحقق إلا بتشكيل قوى داخلية
خاصة تقوم بحماية الثغور والحدود، ومن الواضح أيضاً أن جميع هذه الترتيبات متوقفة
على تصحيح وتعديل الخراج، وحفظه من الوقوع في أيدي الطواغيت يتصرفون فيه بما تملي
عليهم أهواؤهم وشهواتهم. كما صرح به أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك
الأشتر حيث قال (عليه السلام): "وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه
وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال للخراج
وأهله"، إلى أن قال: "ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم
يستقم أمره إلا قليلاً"(85). إلى آخر ما كتبه صلوات الله عليه.
وكما هو واضح من وقائع صدر الإسلام بعد الهجرة وقبل الفتوحات الإسلامية واستيلاء
المسلمين على الأراضي الخراجية المفتوحة عنوة، فإن السيرة النبوية المقدسة كانت
مستقرة على توزيع الأموال على عموم المسلمين والمعاهدين من اليهود وغيرهم بنحو
متساوٍ مع الأخذ بنظر الاعتبار قدرتهم المالية. وكان الالتزام بهذا من جملة شروط
معاهدة المعاهدين، وما كان ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حصن يهود
بني النظير وتشريفه إياهم بقدومه إلا لأجل المطالبة بالحصة من الدية الواردة على
المسلمين، حيث كانت واردة عليهم أيضاً بموجب نص المعاهدة التي نقضها اليهود، فرد
عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإجلائهم عن أرضهم(86).
وفي العصر الذي أصبحت فيه الأراضي الخراجية المفتوحة عنوة مجهولة ولا يمكن تعيينها،
وقد استقرت أيدي المالكين عليها، وهناك احتمال استناد هذا الاستقرار إلى أثر شرعي
صحيح بحيث يلغي أهمية فرض معلوميتها، لذا فإننا لا يمكننا إجراء أحكام الأراضي
الخراجية عليها. ولذا فمن أجل تصحيح الأعمال المتعلقة بالأمور المالية نسير على
السيرة النبوية المقدسة في صرفها في المصارف اللازمة لحفظ البلاد، وذلك بإخراجها من
أفواه الناهبين الأجانب الذين ابتلعوها نتيجة لخيانة بائعي الوطن وتوزيعها بطريقة
علمية صحيحة، وبنسب متساوية على طبقات أرباب الأملاك والتجارات والمواشي وغيرهم، مع
الأخذ بنظر الاعتبار القدرة المالية والتمكن من الانتفاع، وإيصالها كذلك إلى
الموظفين والعمال بالمقدار المتناسب مع خدماتهم للشعب، وحفظها من أن تنهب وتصرف في
أنحاء الفجور والفسق والشهوات التي قصمت ظهر الدين والدولة والبلد والشعب بهذا
الشكل الذي نراه. وعليه فيجب أن تكون هناك هيئة تراقب أمر المالية وتحفظه عن تلك
الحالة.
وبعد تصحيح أمر الخراج بهذه الطريقة وطبقاً للسيرة النبوية المقدسة يجب على كل مسلم
أداء الخراج نظراً لتوقف حفظ البلاد الإسلامية عليه. ويجوز لكل موظف أن يأخذ منه ما
يتناسب والخدمة التي يقدمها دون تجاوز.
ومن البديهي بمكان أن الناهبين للثروات، سواء كانوا من المعممين أو المتطربشين، لا
يقتنعون بالقدر المذكور بعدما اعتادوا على النهب والتطاول المخل باقتصاد البلد،
والمؤدي إلى هلاك الشعب وفقره، بل إن ذلك من المحالات، وأنهم وبمجرد دخول المنتدبين
في الطريق الذي يؤدي إلى التسعير وليقطعوا عليهم التجاوز والإقطاع سيتحفّزون
ويتحشّدون ضدهم.
ولكن مع هذا كله يبقي الأمل معقوداً على دخول المنتدبين في هذا الباب ـ إن شاء الله
تعالى ـ من طريق الحكمة والكياسة لتأسيس هذا الأساس الصحيح، وتشييد هذا البناء
المحكم، بما يمكننا من إرجاع الأجيال اللاحقة إلى فطرتهم الإسلامية الأصيلة، وتهذيب
الأخلاق وإكمال القوى العلمية والعملية لعامة الموظفين والكوادر الإسلامية، وتنزيه
المسلمين عن الزدائل الموروثة التي لحقت بهم من معاوية وسائر أغصان شجرته الأموية
الملعونة، وذلك بواسطة إحداث مكاتب ومدارس كافية في كل الجهات.
ويجب على الجميع أداء الخراج الذي هو ضريبة شرّعت لحفظ البلاد الإسلامية ورعاية
النظام فيها، كما هم عليه من عدم التكاسل في أداء سائر الحقوق الإلهية المقررة في
الدين الإسلامي. ويجوز، بل يلزم صرفه في المصارف المذكورة وطبقاً للطريقة المشار
إليها آنفاً، وعلى قدر الخدمات التي يقدمها مستحقوه للمجتمع، وبعد حفظه من الحيف
والأهواء. أما في الحالة الحالية وحيث يكون أخذه واستيفاؤه وصرفه طبقاً للشهوات
الطاغوتية والمظالم الاستبدادية فإن أداءه حرام في حرام، وبعد التصحيح والتسوية
والضبط والترتيب يصبح أداؤه واجباً كسائر الواجبات المشرعة لحفظ النظام وصيانة حوزة
الإسلام.
وفي هذا الصدد يحسن بنا ذكر التوجيهات الصادرة من الإمام علي (عليه السلام) بهذا
الشأن، لأجل أن يعرف أن كل ما عند الأجانب إنما هو غيض من هذا الفيض. ولنعرف إلى أي
درجة ظلمنا أنفسنا عندما قنعنا من التشيع بمحض الادعاء.
قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبته الواردة في بيان حقوق الوالي على الرعية
وحقوق الرعية على الوالي:
"أما بعد؛ فقد جعل الله (سبحانه) لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحق
مثل الذي لي عليكم؛ فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري
لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري
عليه لكان خالصاً لله سبحانه دون خلقه؛ لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه
صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة
الثواب تفضّلاً منه، وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله.
ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في
وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض، وأعظم ما افترض [الله]
سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي؛ فريضة فرضها
الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لأنفسهم (لألفتهم)، وعزّاً لدينهم؛ فليست
تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية؛ فإذا أدت
الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقّها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج
الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمع في
بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أحجف الوالي
برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتُركت
محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس؛ فلا يستوحش لعظيم
حق عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعل؛ فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات
الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد ـ
وإن اشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما الله سبحانه
أهّله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم
والتعاون على إقامة الحق بينهم". إلى أن قال (صلوات الله عليه): "وإن من أسخف حالات
الولاة عند صالح الناس أن يُظنّ بهم حب الفخر ويوزع (ويوضع) أمرهم على الكبر". إلى
أن قال (صلوات الله عليه): "فلا تكلِّموني بما تُكلَّمُ به الجبابرة..."(87).
ونوكل البحث في القواعد والفوائد المستفادة من فقرات هذه الخطبة ـ وكون أصل علم
الحقوق، الذي دوّنه حكماء أوربا وافتخروا به، مأخوذاً من أشباه ونظائر هذه الخطبة ـ
إلى رسالة أخرى نكتبها بعد هذه إن شاء الله تعالى.
2ـ ومن الوظائف والمهام التي يجب على نواب المجلس القيام بها هي النظر في عملية وضع
القوانين، وضبطها، وإحراز تطابقها مع الشريعة الإسلامية، والقيام بنسخها أو تغييرها
إذا ما دعت الظروف لذلك.
اعلم أن كل الوظائف المتعلقة بتنظيم شؤون البلد والمحافظة عليه وتدبير أمور وشؤون
الشعب سواء كانت أحكاماً أولية متكفلة لأصل القوانين العملية الراجعة للوظائف
النوعية، أو ثانوية متضمنة عقوبات مترتبة على مخالفة الأحكام الأولية، لا تخرج عن
هذين القسمين، لأنها بالضرورة إما أن تكون أحكاماً نص عليها الشرع فهي وظائف عملية
ثابتة في الشرع، أو لم ينص عليها الشرع فهي موكولة إلى نظر الولي لعدم اندراجها تحت
ضابط خاص، وبالتالي عدم تعيين الوظيفة العملية فيها. والقسم الأول لا يختلف باختلاف
الأعصار وتغيّر الأمصار، ولا يجزي فيه غير التعبد بمنصوصه الشرعي إلى قيام الساعة،
ولا يتصور فيه أي وضع آخر أو وظيفة أخرى، بينما يكون القسم الثاني تابعاً لمصالح
الزمان ومقتضياته، ويختلف باختلاف الزمان والمكان، وهو موكول لنظر النائب الخاص
للإمام (عليه السلام)، وكذا النواب العموميين (الفقهاء)، أو من كان مأذوناً عمّن له
ولاية الإذن بإقامة الوظائف المذكورة.
وبعد وضوح هذا المعنى، وبداهة هذا الأصل، تترتب جملة فروع سياسية عليه، هي:
أ ـ إن القوانين والمقررات التي يجب التدقيق والمراقبة في مدى انطباقها على الشريعة
هي تلك التي تكون من القسم الأول، ولا موضوع لها في القسم الثاني بتاتاً.
ب ـ إن أصل الشوروية التي عرفت أنها أساس الحكم الإسلامي بنص الكتاب والسنة والتي
ابتنيت السيرة النبوية عليها هو من القسم الثاني لا غير.
وأما القسم الأول، فخارج عن هذا العنوان، إذ لا محل للمشورة فيه.
ج ـ كما أن ترجيحات الولاة المنصوبين من قبل الإمام (عليه السلام) في عصر حضوره
وبسط يده تكون من أحكام القسم الثاني وملزمة شرعاً لا يجوز التخلف عنها، حتى إن
طاعة ولي الأمر ذكرت في عرض طاعة الله ورسوله، بل وجعلت طاعة الولي والرسول في عرض
طاعة الله سبحانه أيضاً، كما في الآية المباركة: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم}(88)، وهذا ما عُدّ من معاني إكمال الدين بنصب ولاية يوم الغدير، كذلك
تكون ترجيحات النواب العموميين أو المأذونين من جانبهم في عصر الغيبة ملزمة شرعاً
بمقتضى نيابتهم الثابتة القطعية. وهكذا يتضح فساد الهفوات والأراجيف التي ضرب على
وترها المغرضون، حيث زعموا أن الإلزام والالتزام بهذا القانون يكون بدعة من البدع
لأنه بلا ملزم شرعي. وظهر أيضاً أن منشأ ذلك هو الأغراض الفاسدة وعدم الاطلاع على
مقتضيات أصول المذهب.
د ـ وبما أن معظم السياسات النوعية داخلة في القسم الثاني، ومندرجة تحت ولاية ولي
الأمر أو نائبه الخاص أو نائبه العام وترجيحاتهم، وأصل تشريع الشوروية في الشريعة
المطهرة هو بهذا اللحاظ، لذا يجب تدوينها بصورة قانونية، نظراً لتوقف حفظ النظام
وضبط أعمال المغتصبين ومنعهم عن التجاوز والاعتداء عليها، ومنوط بتدوينها. ويوكل
أمر القيام بهذه الوظيفة الحسبية ـ تدوين القوانين ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار
خصوصيات الحالة الراهنة التي نحن عليها وتوقف رسميتها ونفوذها على صدورها عن المجلس
النيابي، يوكل هذا الأمر إلى دراية نواب الأمة ومدى كفاءتهم؛ فإذا قاموا بذلك، وكان
عملهم ممضى من قبل من له الإذن والإمضاء كما تقدم سابقاً، كان جامعاً لجميع شروط
الصحة وجهات المشروعية، وخالٍ من كل شبهة أو شائبة إشكالٍ. وهذا هو المعنى الذي
نقصده من قولنا إن الهيئة المنتخبة هي القوة العلمية المقننة في البلاد. ومن هذا
يظهر فساد شبهة المغرضين القائلين تحكماً إن نفس عملية التقنين لهذه القوانين إنما
هي مقابلة لمقام النبوة.
ومزيداً على ما سبق يتضح لنا أن القيام بهذه المهمة إنما هو واجب حسبي يتوقف عليه
حفظ النظام وضبط التصرفات الغصبية.
هـ ـ إن القسم الثاني من السياسات النوعية ـ كما مر آنفاً ـ لا يمكن جمعه في إطار
ضابطة معينة، وليس محدداً بميزان مخصوص، وإنما يختلف باختلاف الأعصار والأمصار،
ويتغير بتغير المصالح والمقتضيات. ولذا لم تنص الشريعة المقدسة عليه، بل أوكلته إلى
ترجيح من له الولاية. وكذلك فإن القوانين المتعلقة بهذا القسم متغيرة بتغير المصالح
والمقتضيات وواقعة في معرض النسخ والتغيير، وليست مبنية على أساس أن تكون أبدية
دائمية.
ومن هنا يتضح أن من الأهمية بمكان أن يكون هناك قانون يتكفل بجميع هذه المصالح
والمقتضيات ويكون متغيراً.
ويتضح أيضاً أنه إلى أي حد يكون هذا القانون أمراً صحيحاً، ولازماً، ومطابقاً
للوظيفة الحسبية.
والحق أن كمال الحيرة في أمر هذا الأجنبي غير المطلع على الدقائق الإسلامية كيف
استطاع أن يستفيد من هذه الوظائف المهمة استفادة دقيقة صحيحة؟! وأعجب من ذلك أمر
أولئك المنتحلين للإسلام الجاهلين أو متجاهلين بمقتضيات الأصول المذهبية الذين
يرددون مغالطات سفسطائية، ضربوا عليها بألحان مختلفة، تشويشاً لأذهان العوام
والبسطاء! حيث أوردوا على هذا النوع من الأحكام المتغيرة قائلين: هل هو عدول عن
الواجب إلى الحرام، أم عن الحرام إلى الواجب؟ أم عن المباح إلى المباح الآخر؟!
والحق أنه ليس من هذه الأقسام، وإنما هو عدول عن فرد واجب إلى فرد واجب آخر، والقدر
المشترك أن حفظ النظام وسياسة أمور الأمة واجب حسبي، واختيار الأفراد تابع لخصوصيات
المصالح، ومقتضيات العصور، وترجيح من له ولاية النظر في الأمور. وكذلك الأمر في
العدول من فرد إلى آخر بلحاظ الأصلحية، فإنه يكون لازماً.
3ـ ومن الوظائف السياسية اللازمة لممثلي الشعب أيضاً تجزئة وتصنيف قوى الدولة،
ووظائفها بحيث تعود كل شعبة منها إلى ضابط صحيح وقانون عملي؛ والنظر في ذلك يعود
إلى دراية وكفاءة العاملين في الدولة. وقد أرجع المؤرخون الفرس ظاهرة تقسيم العمل
في الدولة إلى جمشيد(89). وقد أمضاها أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده المعروف
إلى مالك الاشتر حيث جاء فيه:
"واعلم إن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض؛ فمنها
جنود الله، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها التجار وأهل
الصناعات". إلى أن يقول (عليه السلام): " فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين
الولاة، وعزّ الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود
إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه
فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث
من القضاة والعمال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون
عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجار وذوي
الصناعات"(90). إلى آخر ما كتبه (صلوات الله عليه).
إن تصنيف الدوائر التابعة للوزارات ضمن الأصناف المذكورة أمر واضح في الدول
المتمدنة، ومن الممكن إدراج أعمال وزارة المالية والداخلية والمكاتب ضمن عنوان
الكتّاب، وإدراج المحاكم ضمن عنوان القضاء. أما وزارة الخارجية في عصرنا فلم يكن
لها محل في ذلك العصر.
وبعد تلك الإيضاحات التي قدّمها الإمام (عليه السلام) أخذ يشرح عن كل طبقة من
الطبقات ويبيّن مزاياها، ويصفها بأوصاف هي في عصرنا أندر من الكبريت الأحمر.
وقد كان المرحوم سيّدنا الأستاذ سماحة آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (قدس
سره)(91) مشغوفاً بمطالعة هذا العهد ومواظباً على الاقتباس من أنواره. وحريّ بنا أن
نجعله أنموذجاً لنا في جميع أعمالنا السياسية والشرعية، كل بمقدار وبحسب ما يقوم به
من الأعمال والمسؤوليات، وأن نتمثل هذه السيرة الحسنة، وأن لا نهمله نحن ويهتم
بنقله وترجمته الأوربيون إلى لغاتهم.
ونختم هذا الفصل مكتفين بما قدمناه من استقصاء لأصول الوظائف السياسية موكلين بقيته
إلى عهدة النواب وكفاءتهم، ودراية هيئة المجتهدين المشرفين على المجلس بعد تجديده
وتشييده بعون الله تعالى.