الخاتمة
قوى الاستبداد وطرق مكافحته
وهي تشتمل على مقصدين:
المقصد الأول
في استقصاء منابع الاستبداد وقواه الملعونة
وهي:
1ـ الجهل وعدم اطلاع الشعب على حقوقه ووظائف الدولة: وهو الأصل والمنشأ وروح كل
القوى والمنابع الأخرى. فكما أن العلم ينبوع لكل الفيوضات والسعادات، كذلك الجهل
منبع لكل الشرور وموصل إلى أسفل الدركات.
الجهل هو الذي يدعو الإنسان إلى عبادة الأوثان وإشراك الفراعنة والطواغيت في أسماء
وصفات الذات الأحدية، وهو الذي يؤدي به إلى الشقاء والبؤس ونسيان حريته ومساواته في
الحقوق مع الجبابرة والطواغيت؛ فتراه يضع طوق الرقّية والعبودية على رقبته بكلتا
يديه، ويغفل عن أعظم المواهب والنعم التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه وبعث من
أجلها الرسل والأنبياء ألا وهي الحرية، بل إنه يعدها ضرباً من الخيال والوهم!
والجهل هو الذي يدعو الإنسان الصوري السائر بسيرة البهائم إلى بذل ما يملك من القوى
في سبيل إحكام أساس رقّيته واستعباد الآخرين له؛ فبدلاً من أن يجد ويجتهد في سبيل
خلاصه واستنقاذ إخوته في الدين والوطن من أنياب الاستعباد والاسترقاق، وبدلاً من
المطالبة بالحرية والسعادة لهم، تجده يسفك دماءهم وينهب أموالهم، ويهتك أعراضهم،
زاعماً أن الاستهتار بالدين والقيم ضرباً من الشجاعة والشهامة، وخدمة الوطن
والدولة! ومن بواعث الشرف، فهم يقومون بقتل وأسر العلماء والسادات والأخيار
والأحرار، ويفتخرون بهتك أعراضهم ونهب أموالهم، ولا يعتريهم أي خجل في أن يكونوا في
عداد اليزيديين، شأنهم في ذلك شأن أراذل الكوفة وأوباش الشام!
ومن غباء هذا الصنف من الحيوان الذي يسير على قدمين، والذين هم أضل من الأنعام،
أنهم يتحدون مع أعدائنا الروس الذين لم يكن لهم همّ إلاّ محو الدين والدولة
واستئصال الأمة وابتلاع البلاد، ويرتكبون مثل هذه الشنائع باسم الدين وبعنوان خدمة
الدولة، عوضاً عن بذل النفس والنفيس في سبيل حفظ الدين وحراسة الوطن الإسلامي.
إن السجود للفراعنة والطواغيت، وعبادة الهنود للأبقار، وتملّك الأمويين والعباسيين
لرقاب الناس، وتبعية الإيرانيين وغيرهم من المسلمين لكل ناعق وميلهم مع كل هوى،
وغفران البابوات ذنوب أمّتهم الخاطئة، وجلوس اليهود انتظاراً للنبي الموعود،
واعتقاد الأزليين والبهائيين في صاحبهم أنه خالق العالم والفاعل لما يريد، وتبعية
المسلمين لعبدة الظلمة وبقايا خوارج النهروان في آخر الزمان، وغير ذلك من الشنائع
والفضائح، ما هو إلاّ نتيجة من نتائج الجهالة التي هي أمّ الشرور والأمراض. وما وقع
بلاء على رأس أمة أو سيقع منذ ابتداء العالم إلى حين انقراضه إلاّ وهو ناشئ من هذه
الأم الخبيثة، وإحصاء بعض ذلك يحتاج إلى دفاتر وطوامير، وهو خارج عن وضع هذه
الرسالة الموضوعة على سبيل الاختصار.
2ـ شعبة الاستبداد الديني: وهي القوة الملعونة الثانية التي عرفنا حقيقتها بنحو
مجمل في المقدمة. وهي أخطر من باقي القوى ويصعب علاجها إلى حد الامتناع، لأنها
راسخة في القلوب ومعدودة من لوازم الدين، وحقيقتها عبارة عون الإرادات التحكمية
التي يبديها المتلبسين بزي الرئاسة الروحية بعنوان الدين، والذين خدعوا الشعب ـ
اعتماداً على جهالته وعدم خبرته بمقتضيات الدين ـ بوجوب طاعتهم. وعرفت أيضاً أن هذه
الطاعة والاتباع الأعمى ولعدم استنادها إلى حكم إلهي هي الأخرى معدودة في مراتب
الشرك بالذات الأحدية بنص الآية المباركة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون
الله والمسيح ابن مريم}(92).
والأخبار الواردة بشأن هذه الآية فسّرتها بعبادة الأحبار والرهبان(93). كما أن
رواية الاحتجاج التي مرت الإشارة إليها آنفاً تساعد على ذلك أيضاً.
إن هذه الشعبة تعتبر من إنشاء وابتكار وبدع معاوية بن أبي سفيان، وقد سخّرها في
حربه ضد الإمام علي (عليه السلام) حينما جمع حوله عدة من عبيد الدنيا أمثال عمرو بن
العاص ومحمد بن مسلم ومسلم بن مخلد والمغيرة بن شعبة وأشباههم من الذين كانوا يعدون
في أنظار العوام في عداد الصحابة.
وبهذا الاعتبار حصلوا على نفوذ بين الناس وكلمة مسموعة لدى العوام. وقد كرّسوا ذلك
من أجل تفريق الكلمة عن الإمام علي (عليه السلام).
ومن جهة أخرى كان معاوية آيساً من معونة أبي موسى الأشعري له، ولكنه كان يكتفي منه
بالاعتزال وخذلان الإمام (عليه السلام)؛ فإن صدور ذلك من مثل أبي موسى الأشعري كان
من شأنه خداع الناس عن الحق. وعلى أساس ذلك أحكم معاوية أساس الاستبداد في تاريخ
الإسلام اعتماداً على تلك الفئة التي قادها زخرف الحياة الدنيا إليه وسكوت الطائفة
الأخرى واعتزالها عن عالم السياسة. وبمرور الوقت أخذ الاستبداد الأموي بالاستحكام
والاشتداد حتى انتهى برواج سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على منابر المسلمين
الذين سمعوا ذلك ووعوه، لكنهم راعوا مصالحهم واعتباراتهم الشخصية، فانقسموا بين
معين له على هذا الكفر العلني وساكت عليه! فكانوا قاعدة استعان بها طواغيت الأمويين
والعباسيين وأخلافهم على تملك رقاب الأمة ومحو أحكام الشريعة الإسلامية؛ فقد كانوا
دائماً يسيرون على سيرة معاوية هذه من الاستعانة بمساعدة قوم وسكوت قوم آخرين.
وبمرور الأجيال والعصور استحكم الاتحاد بين الاستبداد السياسي المأخوذ من سيرة
معاوية والاستبداد الديني الموروث من أمثال عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري. وهذا
الاتحاد بين الشعبتين الذي وصل إلى الدرجة الحالية أصبح سبباً لنفوذ الكلمة والطاعة
الكاملة. كما أصبحت مساعدة شعبة الاستبداد الديني أو سكوتها رأس مال يشترى ويباع،
فيضلل به هؤلاء العوام الذين هم كالأنعام أو أضلّ سبيلاً، ولا بيان بعد العيان ولا
أثر بعد عين، ولنعم ما قيل:
إن الماء العذب يبقى عذباً والماء المالح يبقى مالح
وكل شيء يبقى على طبيعته إلى يوم النفخ بالصور(94)
ومضمون هذا البيت مأخوذ من الأخبار الواردة عن طينة الإنسان(95).
3ـ ومن تلك القوى المشؤومة أيضاً التزلّف للسلطان وإظهار الخضوع له، حتى يصبح
بديلاً عن الكفاءة العلمية والعملية وسائر الامتيازات الحقيقية، وتكون النتيجة إن
الرجل يُمنح المنصب في ضوء ما يبديه من التزلف، وبمقدار ما يقدمه من الخضوع للسلطان
يفوض إليه من زمام الأمور.
إن تكريس هذه الظاهرة هو من أخطر المقدمات المؤدية لاستعباد رقاب الأمة، ولها درجات
مختلفة باختلاف درجات استرقاق الأمة؛ وهي التي جعلت الجهل والخمول بحالة لا يرجى
معها علاج ناجع، وأُبعدت عوامل العلم والمعرفة وسائر موجبات السعادة للحياة الوطنية
عن البلاد، وبالتالي فإنها تقضي على طاقات البلد وتجعل الجميع أمام الأجنبي كصغار
العصافير في مخالب الصقر، حتى أصبحت الأمة بأمسّ الحاجة إلى أشياء طالما كانت
متنعمة بها وعلى أحسن حال.
إن انتشار ورسوخ هذه الظاهرة جعل حتى المتلبسين بزي أهل العلم ـ فضلاً عن العوام ـ
يزينون للناس المشاركة فيها! رغم قيام الضرورة من الدين على حرمة إعانة طواغيت
الأمة في فاعلية ما يشاؤون والحاكمية بما يريدون، وإنها من أعظم مراتب الشرك بالذات
الأحدية. فيظهر ذلك على أنه دين، ويقدمون على هذه الوصمة الشائنة في ساحة الدين
الإسلامي، ويحملون الناس على بذل ما عندهم في سبيل هذه العبادة الصنمية من حيث لا
يشعرون، وبذا أصبح كل دنيء وسارق وغير كفوء يمسك بزمام الأمور ويملك الرقاب، وينتزع
بكمال القوة والشوكة، ومن دون جهد واستحقاق، كل ما تحت يد هؤلاء الأرقّاء الأذلاّء.
وبسبب جهله ودناءته وخلوّه من الغيرة الوطنية والدينية يبيع جميع ثروات الشعب
وإمكانات البلاد ويعرض استقلال المسلمين إلى الخطر، وذلك بإبرام معاهدات مشؤومة مع
الأجنبي الغائم ويذلّنا نحن الإيرانيين شعباً وبلاداً حتى نكون أذل من قوم سبأ،
مقابل الحصول على أقل نفع شخصي ومطمع خاص.
إن التفتت والفرقة في الدولة والشعب والتنافر القائم بين الأمة والسلطان وهلاك
الحكم السابق، إنما هو من نتائج خيانات هذه القوة الخبيثة. إن توغلهم البعيد في
اغتصاب ثروات الأمة وإمكاناتها يجعل قلوب الرعية متنفرة من السلطان، كما أن إظهارهم
الولاء المطلق له والتزلف أمامه وادعاءهم حراسته والذود عنه من هجوم الأمة عليه
يوجب تنفر السلطان من الأمة. وبحكم التجربة والتأريخ تكون النتيجة بمثل هذا الحكم
هو الزوال والانقراض. وهذا ما لم يغفل عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كتب في
عهده إلى مالك الأشتر محذّراً إيّاه من هذه الفرقة ومن مساعدتها وإعانتها قائلاً:
"وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنةً في الرخاء وأقل معونة له في البلاء
وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقلّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف
صبراً عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة
للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم وميلك معهم...".
ومراده من أهل الخاصة هو هذه الفرقة الطفيلية المتزلفة للسلطان.
ويقول (عليه السلام) أيضاً في لزوم قطع دابر هؤلاء: "ثم إن للوالي خاصة وبطانة،
فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة؛ فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك
الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصّتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة
تضّر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ
ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، والزم الحق من لزمه القريب
والبعيد..."(96). إلى آخر ما كتبه صلوات الله عليه وآله الطاهرين.
4ـ ومن القوى المشؤومة أيضاً إلقاء الخلاف بين الشعب وتفريق كلمته، وبالرغم من أن
أصل هذه القوة الخبيثة وأساسها وتحققها في الخارج وصورها مستمد من الاستبداد الديني
وعبادة السلطان، وغير مستقل عنه، وإن هذا يلزم منه أن لا يكون في عرضه، ولكن بما أن
عمليات الاستعباد التي وقعت في التاريخ قديماً والتي تقع حالياً على الأمم تنتهي
إلى تفرق الكلمة الوطنية والشعبية، وإن القوى الثلاث المتقدمة هي بمثابة المقدمات
لها والعوامل المعدة لها، والتفرق بمثابة النتيجة والجزء الأخير من العلة، لهذا
كانت جهات الاستعباد في لسان الآيات والأخبار مستندة إلى هذه النتيجة؛ قال عز من
قائل: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح
أبناءهم}(97).
وكلمة شيع تعني متفرقين. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن عملية التفرعن
والاستعباد تحدث نتيجة لهذا التشتت وتفرق الكلمة. وللإمام علي (عليه السلام) في
الخطبة القاصعة التي نقلنا منها في المقدمة نصوصاً تتعلق بحقيقة الحكم الاستعبادي
تصريحات مهمة أحببنا نقلها هنا من أجل تشخيص الداء وتتبع الدواء ولغرض إطلاع أولئك
المتشيعين المخلصين الخالين من شوائب الأغراض الاستبدادية الاستعبادية على توجيهات
إمامهم وسيرته العلمية اللازمة الاتباع، رغبة في التنبيه على شناعة التزلف إلى
الظلمة والتقرب إليهم وقبح عدم موافقتهم على استنقاذ حريتهم المغتصبة.
قال (عليه السلام): "واحذروا ما نزل بالأمم من قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم
الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم؛ فإذا تفكرتم
في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت
العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم، من الاجتناب
للفرقة واللزوم للألفة والتحاضّ عليها والتواصي بها، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم
وأوهن متنهم، من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي. وتدبّروا
أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا
أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً وأضيق أهل الدنيا حالاً، اتخذتهم الفراعنة
عبيداً فساموهم سوء العذاب، وجرّعوهم المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر
الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى الله جد الصبر
منهم على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضائق البلاء
فرجاً، فأبدلهم العز مكان الذل والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكّاماً وأئمةً
أعلاماً، و[قد] بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم، فانظروا كيف
كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة والأهواء متفقة [مؤتلفة] والقلوب معتدلة، والأيدي
مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة؛ ألم يكونوا أرباباً في
أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر
أمورهم حين وقعت الفرقة وتشتتت الألفة وأختلفت الكلمة والأفئدة، وتشيعوا [تشعبوا]
مختلفين وتفرقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته وسلبهم غضارة نعمته وبقي
قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين ـ منكم ـ. واعتبروا [فاعتبروا] بحال ولد إسماعيل
وبني إسحاق وبني إسرائيل (عليهم السلام)، فما أشد اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه
الأمثال، تأمّلوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة
أرباباً لهم يختارونهم [يجتازونهم] عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى
منابت الشيح ومهافي الريح ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر، أذلّ
الأمم داراً وأجدبهم قراراً، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلى ظل ألفة
يعتمدون على عزها. فأحوال [الأحوال] مضطربة والأيدي [الأيدي] مختلفة والكثرة متفرقة
في بلاء أزل وإطباق جهل، من بنات مؤدّة [موؤودة] وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة
وغارات مشنونة. فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً فعقد
[بملّته] طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها،
وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الله بهم في عوائد بركاتها [بركتها]، فأصبحوا في
نعمتها غرقين وعن خضرة عيشها فكهين، قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطان قاهر، وآوتهم
الحال إلى كنف عزّ غالب، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكام على
العالمين وملوك في أطراف الأرضين".
إلى آخر ما أفاض (صلوات الله عليه) على الأمة من العلم والحكمة.
وفي مواقع أخر من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر الأخبار أسندت الذلة
والأضمحلال والصَّغار الذي يصيب الأمم إلى تفرق الكلمة، وهذا من البديهيات الأولية؛
فإن الضرورة قائمة على أن العامل الذي يحفظ حقوق كل أمة وحريتها وناموسها الأعظم
(الدين) واستقلالها منحصر بالرابطة التي تجمع أفراد الأمة، بعد أن تكون انعدمت في
البين إمكانية الدفاع عند هؤلاء، وأصبحوا لا ملجأ لهم ولا مفر من الخضوع لتحكمات
الأشقياء والمتجبرين، الذين أفلحوا في استئصال القوى الدفاعية لدى الأمة وأنهوا
وحدتها وما يمكنها من الوقوف على قدميها في استنقاذ حريتها في الداخل ومواجهة
الأعداء المهاجمين في الخارج. وبالتالي فإن أعمال القهر والاستعباد والقضاء على
العلم والمعرفة ورسوخ ظاهرة التزلف للسلطان وقمع كل ما من شأنه بعث الحياة والنهوض
في الشعب تؤدي جميعاً إلى الوقوع في مخالب الأجانب وتنتهي إلى حالة {تخافون أن
يتخطّفكم الناس}(98). وما حالتنا الحالية السيئة في إيران إلاّ عيان لهذا البيان
ووجدان من هذا البرهان.
5ـ ومن تلك القوى الملعونة أيضاً قوة الإرهاب والتخويف والتعذيب والتنكيل المأخوذة
من سيرة الفراعنة والطواغيت؛ وهي القوة المستخدمة ضد دعاة الحرية الموهوبة من قبل
الله سبحانه وتعالى، وأتباع السيرة المقدسة للأنبياء والأولياء (عليهم السلام)؛ حيث
يسلط عليهم الطواغيت أنواع العذاب من الأسر والقتل والتنكيل والحبس ودس السموم وهتك
الأعراض ونهب الأموال، وغير ذلك من الأساليب التي لا يبقى معها أحد.
وأعمال هؤلاء القساة الطغاة ناشئة عن التشفّي من أولئك الأشراف والأمجاد، وبهدف قلع
وقمع شجرة الإباء والحرية لئلاّ تسري إلى عامة الشعب، ولإرعاب الشعب من أجل أن يبقى
تحت أسرهم ورقّيتهم. ولهذه الأعمال درجات مختلفة باختلاف مراتب القسوة والانسلاخ عن
الفطرة الإنسانية وعدم الاعتقاد بالمبدأ والمعاد والقيامة والعذاب. وكما وصلت دورة
الطواغيت والفراعنة وامتحان الأمة بالأسر والقهر والذل والعبودية في هذه الأيام إلى
نقطتها الأخيرة، كذلك نشاهد وصول درجة القساوة والصلافة والابتعاد عن الدين ومتابعة
مبدأ الطواغيت إلى أعلى حالاتها، حتى أصبحت الكلمة المترددة على الألسن من أن يزيد
وابن زياد وشمراً وعمر بن سعد وسنان وغيرهم موجودون في كل وقت، وأن الذي يقف بوجههم
دائماً هو سيد المظلومين والأحرار (صلوات الله عليه وعلى المستشهدين بين يديه)؛
أصبحت هذه الكلمة مشهودة للجميع. وقد أشارت الأخبار الواردة في باب الطينة وتشابه
مكمونات ومكنونات النفوس إلى ذلك. ومنها أُخذ البيت الشعري المذكور آنفاً الذي يفيد
أن الماء العذب يبقى عذباً والماء المالح يبقى مالحاً إلى الأبد.
6ـ والقوة السادسة من هذه القوى الملعونة هي رسوخ رذيلة الاستبداد والاستعباد إزاء
الضعفاء في جبلّة وفطرة الأقوياء وذوي النفوذ والوجهاء، حتى انتشر القهر والاستبداد
والتحكمات الشخصية بين كل الطبقات وأصبح أمراً مألوفاً بين الناس.
ومن هنا اتحد الأقوياء والوجهاء في البلد، ونتيجة لإحساسهم بأن المساواة تتنافى مع
أغراضهم وجهلهم بأن حفظ دينهم وشرف استقلالهم متوقف عليها، وغلبة حب الدنيا على
الآخرة، والأهواء الزائلة على الادراكات العقلية؛ نتيجة لذلك كلّه اتحد هؤلاء مع
منشأ الاستبداد وأصل الاستعباد، وأصبحوا بمنزلة الأغصان والفروع لهذه الشجرة
الخبيثة.
وعندما هبّت نسائم العدالة والحرية على إيران في بداية ظهور الحركة الدستورية،
وعندما كان أمرها غامضاً وكان يظن أن الاستبداد أمر خاص برؤساء الحكومات فقط ولا
يشمل أعوانهم، وأنه سيُسلب عن هؤلاء الرؤساء فقط، كانت جميع الطبقات من المعممين
الغاصبين لزي العلماء ومن الملاكين وغيرهم تبذل كل جهدها في سبيل إقامة هذا الأساس
وتدعم هذه الحركة وتنفق جميع ما عندها من أجل تنفيذ هذا المشروع ظناً منهم بأن
الهلاك سيقع على الجيران، وأنه لن يطالهم، حتى إذا ارتفع الستار وتجلى ضوء النهار
انقلبوا رأساً على عقب وشنت الهجمات المتتالية تحت عناوين مختلفة؛ فالاستبداد
الديني صوب سهامه تحت شعار الحفاظ على الدين وأعوان السلاطين تشبثوا بالوطنية وحب
الدولة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى بقية الناهبين المحتالين ومصاصي الدماء؛ كلّ شهر
السلاح الذي يجيد استخدامه بوجه الدستورية، وأصبحت أحكام الحفاظ على الدين والرد
على رؤسائه المندرجة في عنوان "فإنما بحكم الله استخف وعلينا ردّ؛ والرادّ علينا
كالرادّ على الله وهو في حد الشرك بالله"(99)، أصبحت هذه الأحكام كالعدم، وعادت قصة
"نكثت طائفة وفسقت أخرى ومرق آخرون"(100).
ويجدر أن نتذكر هنا مرة أخرى البيت الشعري السابق المأخوذ من الأخبار "الماء العذب
يبقى عذباً والماء المالح يبقى مالحاً إلى الأبد".
7ـ ومن القوى الملعونة أيضاً مصادرة إمكانات البلاد المالية والعسكرية وتكريسها في
مجال القضاء على نفس الشعب. إن انتخاب القادة العسكريين من بين الأجانب والمعاندين
للدين المبين وإعطاء زمام الجيش لهم وتفويض تربية الجند إليهم، كل ذلك يهدف إلى
تكريس الاغتصاب، وناتج عن إهمال وعدم مبالاة هؤلاء الجهّال الذين لا يفقهون شيئاً
ولا يعرفون واجباتهم الملقاة على عواتقهم.
ولذا فهم لا يتورعون عن مخالفة الأحكام الشرعية وقتل النفوس المحترمة وهتك الأعراض
ونهب الأموال وإثارة النعرات بين القبائل والعشائر. والعامل المكمّل لهذه القوة، بل
إن علة علل الجميع هي الجهل الذي تنتج عنه جميع الاختلالات.
المقصد الثاني
إشارة إجمالية إلى علاج تلك القوى المشؤومة
وهي عبارة عن:
1ـ أول وأهم علاج هو علاج الجهل المستولي على طبقات الشعب.
والجهل إن كان من النوع البسيط فمن السهولة بمكان سلوك سبيل العلاج إليه، وذلك بشرح
حقيقة الاستبداد والحركة الدستورية، وشرح ما أوردناه في المقدمة والفصول الخمسة من
هذا الكتاب؛ لكن بشرط أن يتم ذلك بشكل ملائم وبالابتعاد عن العنف والخشونة وبتنقية
الأذهان عن الشوائب الشيطانية والتحرز من كل ما من شأنه إيجاد الحساسية والنفور
وتصدّع القلوب، والاحتراز عن الإثارة وتشويش الأذهان؛ وقد قال عز من قائل: {ادعُ
إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(101).
إن حقيقة الدعوة إلى الحرية وخلع طوق العبودية ونص الآيات والأخبار المذكورة سابقاً
إنما هي دعوة إلى التوحيد ومن وظائف الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)؛ فعلى من
أراد الدخول في هذا الميدان صحفياً كان أم خطيباً أم غير ذلك أن يسير بهذه السيرة
المقدسة النبوية، وأن يضع الآية السابقة أمام عينيه، وأن يبذل ما في وسعه لرفع
الجهل وتهذيب أخلاق الشعب، وأن يترك الكلام القاسي الذي يحمل على التعدي، ولا يقتحم
هذا الوادي إلاّ بعد أن يصبح عالماً متمرّساً، ولا يطلب الشهرة والرياء والوجاهة
كما يقوم بذلك بعض الخطباء وبعض الصحف الذين هم إما أصدقاء جهلة أو أعداء عارفين،
ذلك لأن أكثر الصدمات والضربات التي تلقاها أصل السعادة وركنها ناتج عن هفوات
هؤلاء. فمن اللازم عدم إعطاء أركان الاستبداد المبررات والحجج التي يجعلوها كقميص
عثمان، وعليهم أن لا يبعدوا الناس عن هدفهم الأصلي الكامل وأن يحسّسوهم بحريتهم
وبما لهم من حقوق، وأن يحفظوا للشريف شرفه، وأن لا يبرّروا عملية الاستبداد ولا
يجعلوا للظالمين الحق في أن يفعلوا ما يشاؤون، وأن لا يضيّعوا حرية البيان والقلم،
وهما من أعلى مراتب الحرية الموهوبة الإلهية، وحقيقتهما عبارة عن الخلاص من إرادة
الطواغيت، ونتيجتهما تفتّح عيون الأمة وآذانها وتفهّم مبادئ الترقي وشرف الاستقلال
الوطني.
وعليهم أيضاً الاهتمام في حفظ الدين وحماية الناموس الأكبر، والاتحاد من أجل انتزاع
الحرية الإلهية الموهوبة واستنقاذ الحقوق الوطنية المغصوبة، والحرص على تحصيل
المعارف وتهذيب الأخلاق، وأن لا يكون من عملهم هتك الأعراض المحترمة وأخذ الأتاوات
وحق السكوت من زيد أو أجرة التعرض لعمرو أو إظهار الحقد على بكر ونحو ذلك من
الأعمال القبيحة.
وعندما يقومون بالردّ على حجج أعوان الظلمة ودحض أقاويلهم يجب أن تكون لديهم
الأهلية العلمية الكافية، وأن يكتفوا بطرح العناوين العامة ويترفّعوا عن التعرض إلى
أفراد معيّنين ولو كناية، وأن يتركوا الغمز والإشارة ويعلموا أن واجبهم جمع الصفوف
لا تفريقها.
أما بالنسبة إلى الجهل المركب، فإن الموقف يكون صعباً جداً خاصة وأن هذا النوع من
الجهل يتضمن اللجاج والعناد والتشرذم والتنافس على قاعدة (النار ولا العار)! ولابد
من التعامل معه بهدوء ومداراة وعدم الانحياز إلى جهة، ورفع كل شيء مادة للعناد
واللجاج. وبذا يمكن معالجة هذا المرض تدريجياً.
ويبقى علينا أن نيأس ونقطع الأمل من الذين يتعاملون مع عبدة الظلمة ويسعون في إبقاء
شجرة الاستبداد الخبيثة ويتمادون مع الظالمين إلى أبعد الحدود، لا لأنهم يجهلون،
وإنما لاستحواذ الهوى وحبّ الدنيا على نفوسهم، حيث لا يمكن تصور علاج آخر للأمراض
النفسية والأهواء الشهوانية. ومع أن التعريض بهم والوقوف بوجههم يبعث على تنبّه
الشعب إلاّ أنه قد يكون من الأولى ترك هذه المصادمات والاكتفاء بالعناوين العامة من
جهات عديدة أخرى، وهو المسدد للصواب.
2ـ وعلاج شعبة الاستبداد الديني أصعب وأشكل من علاج باقي القوى، بل هو في حدود
الامتناع. ولا سبيل للردع عن الاستبداد وإظهار الأغراض الشهوانية بمظهر الدين إلاّ
بالعدالة والتقوى واجتماع الأوصاف المذكورة في الرواية الواردة في كتاب الاحتجاج
حول شروط المرجعية "صائناً لدينه، حافظاً لنفسه، مطيعاً لأمر مولاه، مخالفاً
لهواه"(102)، ولا نتصور عاصماً آخر.
وقد ورد في فقرة أخرى من هذه الرواية حول العلماء الحاملين لأضداد تلك الصفات وقطاع
طرق الدين أن "أولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ـ لعنة الله ـ على
الحسين(عليه السلام)".
فلا نتصور مانعاً يحول دون الاستبداد والاستعباد وإظهار التحكمات النفسية بصورة
الدين. وليس بإمكان الضعفاء والعوام من الأمة أن يميزوا فيما بين تلك الأوصاف
وأضدادها، أو أن يأخذوا الحيطة والحذر من الوقوع في شباك الصيادين وقطاع الطرق باسم
الدين؛ وإذا وقعوا فيها لا يمكنهم التخلص من بين فُرَجِها، إما قصوراً أو تقصيراً،
وذلك لأنهم يحسبون الانقياد لهؤلاء أمراً من لوازم الدين! وهذا ما جعل لجهلهم
المركب أساساً ثابتاً، وقد أوقعهم فيما لا يمكن الانفلات منه، وأدى بهم إلى حيث
الشرك بالذات الأحدية. وهكذا أصبح طريق العلاج مسدوداً، وطرق التخلص من هذه الورطة
متعذرة.
ولكن مع هذا كله فحيث إن (فاعلية ما يشاء وحاكمية ما يريد وقاهرية الرقاب) أمور لا
يمكن أن ترتدي لباس المشروعية في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع فضلاً عن
الإسلام والمذهب الإمامي، وحيث كانت الإعانة على هذه العبادة الوثنية بنص الكتاب
والأخبار السابقة، سواء كانت بنحو المساعدة والاتحاد مع الظالمين أو السكوت
والاعتزال وترك النصرة وخذلان الحق، من الأمور التي لا يمكن إظهارها بصورة حفظ
الدين وحماية كيان المسلمين، لأجل هذا وذاك نجد في الظرف الراهن أن آذان الشعب
وعيونه قد تفتّحت بحمد الله، وأنهم قد انتبهوا إلى هذه الأمراض المهلكة والمزمنة،
وأخذوا بالتحرر نوعاً ما من هذا الاستعباد. ونأمل أن لا يبقى أي أثر للاستبداد
الديني بكلتا صورتيه (المباشرة وغير المباشرة).
وبمقتضى الحديث المأثور "يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال"(103) الذي مفاده من
المستقلات العقلية(104) وموجب لإتمام الحجة وارتفاع العذر، يصبح التزلّف للظالمين،
سواء كان بإعانتهم أو عدم الموافقة على سلب الصفات الإلهية عنهم، كاشفاً عن أسرارٍ
ومكنونات كان أمرها خافياً. وما هذا التقابل بين الحق والباطل إلاّ محك ـ في
الحقيقة ـ لامتحانهم ومعرفة صحيحهم من فاسدهم. قال عزّ من قائل: {أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله
الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين}(105).
3ـ قلع شجرة عبادة الظالمين الخبيثة، وترويج العلم والمعرفة، وإسناد زمام الأمور في
البلاد لمعايير اللياقة والكفاءة والخبرة، وقلع جذور النهب وبيع الوطن وعبادة
الملك. وما دام أساس الاستعباد والاستبداد مترسّخاً في هذه البلاد فإن القضاء عليه
واستبداله بالعلم والمعرفة أمر مستحيل. وما دام السلطان لم يعِ بعد ـ لانهماكه في
الشهوات ـ حقيقة السلطة وأنها عبارة عن إقرار النظام وأن مهمته كمهمة الراعي،
ومادام يرى نفسه مشاركاً لله عزّ اسمه في الملك والتدبير والأسماء الحسنى، فإنه
بالنتيجة سيعتبر رفض الأمة له وللواقع البائس الذي تعيش، وعدم الرضوخ له والسعي
للتخلص منه تمرداً عليه، وإعانته ومساعدته على هذا الظلم والتفرعن وطنية، وسيعمل
على استئصال الفريق الذي يعتبرهم خارجين عن طاعته ويقوم بتقريب الفرقة الثانية التي
يظن فيها حب بقائه ويهيّئ لهم مدارج الرقي.
وهذا يعني أن طريق الارتقاء والصعود وبلوغ المناصب في البلاد يتلخص في إظهار الحب
والولاء للسلطان وعبادته والتزلف له. ومن جهة ثانية ستتأزم العلاقة بين السلطان
والرعية وتعمّ حالة من النفور بينهما نتيجة لأعمال الفساد والنهب التي يقوم بها
أعوان السلطان الذي يصبح لعبة بيد حفنة من الانتهازيين والطامعين فيقبع في زاوية من
الزوايا خوفاً وهلعاً، ويبذل كل همّه لقتل الشعب وهدم البلاد، وتنعدم الرغبة لديه
في بسط العدل وإعمار البلاد وكسب ودّ الشعب المحروم بخلاف ما هو معهود لدى سلاطين
العالم.
وعندما نلاحظ النص المجرّب القائل: "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم"(106)،
المؤيد بصريح خطاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجّه إلى مالك الأشتر في بيان
حقوق الوالي على الرعية وحقوق الرعية على الوالي، من أن بقاء الملك ودوام الدولة
منوط باتحاد الرعية مع الوالي ومجاراته لهم، وأن الإجحاف والاستئثار يوجب زوال
الملك وانقراضه؛ وكذلك ما ورد في الأخبار الشريفة من أن السماوات قامت بغير عمد لأن
عمادها الباري سبحانه وتعالى(107)؛ بملاحظة كل ذلك، إضافة إلى حكم التجربة والضرورة
تكون النتيجة هي فناء السلطان وانقراضه عندما يقوم بتلك الأعمال الظالمة والأغراض
الوحشية، ويكون بمساعدة تلك الفئة الظالمة له كمن سعى لحتفه بظلفه، ولن يبقى إلاّ
أيام معدودات حتى تحل عليه الليلة الأولى وهو في قبر يزيد {سنّة الله في الذين خلوا
من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً}(108)، وسيخلّد إلى الأبد كأمثال نبوخذ نصر
والضحاك وجنكيز وتيمور ويزيد من أصحاب الأسماء السيئة في التاريخ، ومدعاة للعنة،
وذلك من أظهر مصاديق الآية المباركة:{خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران
المبين}(109).
وبالجملة، فإن علاج هذه القوة الخبيثة ممتنع ما لم يتم قبل ذلك قلع شجرة الاستبداد،
خاصة وأن الأمة الإسلامية أصبحت ـ وطبقاً للأحاديث الشريفة القائلة "لتأمرُنّ
بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر أو ليسلّطَنّ عليكم شراركم فيسومونكم سوء
العذاب"(110)، ونتيجة لإهمالها هذين الركنين المهمين اللذين هما من دعائم الإسلام
كما نصت على ذلك الأحاديث الشريفة ـ محرومة من السعادة بسلطان يرتدع عن الادعاء
بمقام {أنا ربّكم الأعلى}(111)، ويستجيب لإسلامه وفطرته الإنسانية، ويدع للأمة
حريتها مكتفياً بغصب مقام الولاية عن غصب الرداء الكبريائي الإلهي، ويحث الأمة على
استيفاء حقوقها، داعياً لها إلى المحافظة على استقلالها وقوميتها بالوحدة والاعتماد
على الغيرة الوطنية، بحيث تصبح في عداد الأمم الراقية، يسودها الاعتقاد بأن التهاون
في هاتين الوظيفتين ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ من أعظم المنكرات، ومن
شأنه أن يعكس المسألة رأساً على عقب ويرجع الحكم إلى الفرعونية وعبودية الكفرة.
ولنا وطيد الأمل في أن لا يدعَوا هذه اللحظة تمرّ بعون الله تعالى دون أن يغتنموها
فرصة لاستعادة مجدهم وأساس حياتهم، وأن يتمسكوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ويحكموا أساس العدل الموجب لدوام الملك، ويهدموا أساس الظلم المؤدي لانقراض الدولة
وزوالها، وأن يستنقذوا رقابهم المغصوبة وحقوقهم الوطنية، ويقلعوا جذور المعبودية
للسلطان، ويقضوا على أعوان الظلمة الذين يشكّلون السبب الرئيس في تخلّف الدولة،
ويذيقوا السلطان حلاوة العدل والإحسان، ويأخذوا بيده نحو الترفع عن مستوى أن يكون
قصّاباً وقاطع طريق ويتحول إلى المستوى اللائق به كسلطان. فإذا أدرك حلاوة العدل
وحبّ الشعب له أياماً معدودة فسينبذ عالم السبعية ويدخل عالم الإنسانية وحفظ البلاد
والاهتمام بترقية المجتمع، والإعانة على رفع عوامل التنافر بينه وبين الشعب،
واستئصال عناصر الفرقة بين صفوفه، وعدم السماح لعبدة الملك والمفسدين بالعودة ثانية
إلى مواقعهم، إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
4ـ علاج تشتت الآراء، والسعي من أجل الاتحاد. وهو مطلب مستفاد من كلمات أمير
المؤمنين (عليه السلام) التي نقلناها سابقاً، ومن الأمور الواضحة بالبداهة؛ فإن
فائدة الاتحاد غير منحصرة في حفظ حرية الرقاب وصيانة حقوق الملة من الاغتصاب، ومنع
تعديات الأشرار ورفع التجاوزات التي تقوم بها الذئاب الضارية آكلة لحوم البشر فقط،
بل إن حماية الشرف وحفظ النواميس واستقلال الأمة والحذر من الوقوع فيما هو أشد من
محنة بني إسرائيل، كل ذلك منوط باتحاد الكلمة وعدم تشتت الآراء واختلاف الأهواء.
ومن أجل ذلك اهتمّت الشريعة المطهرة برعاية الوحدة وإزالة عوامل الفرقة؛ فمن جملة
الحكم المنصوصة لتشريع صلاتي الجمعة والجماعة(112)، حيث يجتمع المسلمون في اليوم
والليلة خمس مرات، ويحيط كل منهم خُبراً بأحوال الآخر هو تحقيق هذه الدرجة من
الاتحاد، وكذلك الحال في تشريع سائر الجهات الموجبة للألفة والاتحاد، كالترغيب في
الولائم غير المكلفة، والإحسان بلا مَنّ، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وتعزية
المصاب، والإعانة على قضاء الحوائج، وإجابة دعوة المؤمن، والصفح عن الزلل، ومنع
الانزواء والرهبانية، وتحريم النميمة والإيذاء والفتن والإفساد، وغير ذلك من دواعي
الألفة والاتحاد ونواسخ التنافر والتباغض، فإنما هو لتحصين هذا الحصن وتشييد هذا
الصرح للمسلمين. كما أن اهتمام الشارع المقدّس بتهذيب الأخلاق والردع عن العجب
والانقياد للهوى والتخلق بالمواساة والإيثار ناظر إلى وحدة الكلمة ورفع الاختلاف،
ذلك أن تفرّق الكلمة وتشتت الآراء ناشئ عن الإعجاب بالنفس والاغترار بها وعن تقديم
الأغراض الشخصية على المصالح العامة. ومادامت هذه الرذائل والملكات البهيمية
والإعجاب بالنفس مسيطرة على العمل من جهة، ومادامت المبادئ الشريفة كالمواساة
وإيثار الغير وسحق الأغراض الشخصية وتقديم المصالح العامة عليها، معدومة من جهة
ثانية، فإن إحكام هذا الحصن وتشييد هذا الأساس هو من المحالات؛ ومن العبث محاولة
إقامة الصرح العالي على أساس رملي ينهار من كل جانب.
أما تنظر إلى الخروق التي تتجدد وتزداد توسّعاً في كل يوم؛ فتارة يعد سلب الصفات
الإلهية الخاصة عن الطواغيت أمراً منافياً للقرآن وتسمى عبادة الظالمين حبّاً
للدولة وحماية للدين! وأخرى يلبسون اغتصاب الحرية وظلمها لباس الاباحة، ويعتبرونها
من الموهومات، ويعدون المساواة مع غاصبي الحقوق والحريات بمثابة رفع الامتياز فيما
بين الأصناف المختلفة الأحكام، تجديداً لمغالطات وتمويهات معاوية وعمرو بن العاص
عندما قاموا بقتل عمار بن ياسر السائر في ركاب أمير المؤمنين (عليه السلام). فلم
يخجلوا من تبرير الدماء المسفوكة الناشئة عن انضمامهم للظلمة المستعبدين بأنها جاءت
نتيجة مطالبته بالحقوق المغتصبة والحريات المنتهكة ورفع الظلم عن الأمة... إلى غير
ذلك.
إذن، فأول وظيفة ينبغي القيام بها بعد رفع الجهل عن الأمة وشرح حقيقة الاستبداد
والدستورية والمساواة والحرية، هي أن على دعاة الحرية والتوحيد وحماة الدين والوطن
ورواد التقدم بذل الجهد وصرف المهج من أجل تهذيب الأخلاق الاجتماعية من هذه
الرذائل، وقلع أصول العجب والغرور وغير ذلك من عوامل التفرقة والاختلاف، والحث على
تقديم المصالح العامة على الأغراض الخاصة. وكمقدمة مهمة يجب تشكيل المنتديات
العلمية الصحيحة وترتيبها على الوضع الأخلاقي الصحيح، وذلك بانتخاب أعضاء مدبّرين
مهذّبين كاملين في العلم والعمل، أولي خبرة ودراية ومعرفة وكفاءة، وليس لهم همّ
إلاّ إحياء المجتمع الإسلامي والروابط العامة، لا أن تكون كالنوادي الحالية القائمة
على أساس حبّ النفس وأكل أموال الناس وطلب الرئاسة والرفعة وقول الزور والأغراض
الشخصية العقيمة، والمؤدية إلى عكس المقصود. من انصراف الشعب عن الوحدة والسير في
طريق الاستبداد الذي هو أشد وطأة من الاستبداد الأصلي وموجب لالتجاء الأمة من
استبداد إلى استبداد أشد، وربما انقادت بشوق إليه اضطراراً ومن باب أهون الشرّين
وأخفّ الأمرين، متوسلة بالخنوع لتلك الرقّية البهيمية، تخلّصاً من الاستبداد الذي
تعانيه؛ فهي كالمستجير بالرمضاء من النار.
وبالجملة، فإن الغرض من تشكيل الجمعيات والمنتديات وأداء القسم بالقرآن الكريم
وسائر المقدسات الدينية هو إزالة الأغراض الشخصية، وتحكيم المصالح العامة، وحماية
المجتمع، وإعلاء كلمة الإسلام، ودفع المجتمع على طريق التقدم، وليس هو للتآزر من
أجل الشهوات الحيوانية وتحقيق الأهداف الشخصية وإبعاد العقلاء والبسطاء عن دخول هذا
الميدان.
والمرض الذي لا علاج له في هذا المجال هو دخول المغرضين وأولئك الناهبين والمحتالين
في هذا المشروع باسم حب الوطن والشعب، ويأخذون زمام الأمور بأيديهم، وباسم حبّ
الشعب يسحقون الجماهير! كما كان اسم حب الدولة وسيلة لدى عبيد الظلمة للنهب، واسم
حفظ الدين شبكة لاصطياد الأغراض الشخصية، وكذلك فإن حبّ الشعب يتخذ ذريعة لدى أولئك
المعروفين بالشنائع والأعمال القبيحة الذين يرفعون شعار الدستورية ويحكمون بعملهم
أساس الاستبداد، والذين هم أكثر خطراً من باقي القوى اللعينة وأقوى سبباً لتفرّق
الكلمة وأشدّ ضرراً على سعادة الأمة من باقي الجهات.
وعلى عقلاء الشعب أن يقوموا بمعالجة هذا الخطر قبل غيره، وأن يسدّوا ـ بعونه تعالى
ـ هذه الثغرة التي يصدر منها خطر عظيم، وذلك من الحكمة العملية في هذا المجال.
وبالجملة، فإن أساس تفرّق الكلمة وقهر المجتمع منذ صدر التأريخ وحتى الآن ناشئ من
إظهار الغرض الشخصي بمظهر المصلحة العامة. ولهذا السلوك أبواب عديدة تخرج عن حد
الإحصاء؛ ويظهر من الأخبار الواردة في تفسير الآية المباركة: {قل هو القادر على أن
يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس
بعض}(113) أن أنواع العذاب والعقوبات السماوية والأرضية التي وقعت على الأمم
السابقة قد رفعت عن هذه الأمة بفضل دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، وبقي
عليها تفرّق الكلمة واختلاف الأهواء وما يترتب على ذلك من مصائب الفتك والقتل
والأسر وهتك النواميس والأعراض وإذاقة بعض بأس البعض الآخر(114).
فهذه المفاسد والاختلافات سواء كان منشأها الاستبداد السياسي أو الديني أو العبودية
للسلطان أو سائر القوى الملعونة مما هو منشأ للنزاع إنما هي من جملة العذابات
الإلهية على هذه الأمة، وعلاجها خارج عن قدرة العلماء والعقلاء والخبراء
والمدبّرين، وليس بإمكان أحد أن يقف دونها أو يحول بينها وبين من وجّهت إليه؛ ولا
يجدي فيها غير التوبة والإنابة والتوسل والاستشفاع بمظاهر الرحمة (صلوات الله
عليهم).
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وأجمع على التقى كلمتنا، وعلى الهدى شملنا، بمحمد
وآله الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما علاج بقية القوى الملعونة، فلا يتم إلاّ بقلع شجرة الاستبداد الخبيثة وسلب
(فعالية ما يشاء)، وانتزاع الطاقات المغتصبة من غاصبيها؛ فما دامت هذا الشجرة باقية
وأساس التحكم قائماً وإمكانات البلد مغتصبة، فلن يقف القتل والنهب والأسر والحبس
واستئصال النفوس الأبية وأحرار الأمة وأماجدها عند حدّ، ولا تنتهي حالة الاغتصاب
لطاقات البلد، ولن تكون حالة الدولة وما فيها إلاّ كما عبرت البومة الخاطبة
لرفيقتها يوماً:
إذا الملك هذا وهذي الحياة فخذ منها أضعافاً مضاعفة
ومادام القانون الجامع لوظائف كل الطبقات غير مطبّق في البلد، والفرق بين القوي
والضعيف لم يعدم في مجال الحقوق والقوانين، ومادام القوي طامع في باطله والضعيف آيس
من حقه، فليس هناك علاج لاستئصال ظلم الأقوياء لضعفاء البلد وفقرائه.
ومادامت قوى وطاقات الشعب المادية والعسكرية وغيرها مغتصبة وثرواته عرضة للنهب
والسرقة وغير خاضعة لإشراف وكلاء الشعب ونوّابه، ومادام الجيش نتيجة جهله وغبائه
جاهلاً بوليّ نعمته ـ الذي هو الشعب لا أولئك الغاصبين لرقابه ـ غافلاً عن مهمته
الرئيسية التي حدّدها الإمام علي (عليه السلام) من خلال وصفه الجند بأنهم الحصون
الواقية للرعية، لا آلة بيد أعداء الشعب يستخدمونها لقمع الشعب وإرضاء نزواتهم
الشيطانية، أقول: ما دامت الأمور هكذا، فلا تتوقع نتيجة غير استخدام الطواغيت
لطاقات الشعب في سبيل إنهائه والقضاء عليه، ولهذا صدر الحكم بتحريم دفع الضرائب؛
فمع جيش من هذا النوع وعشائر متوحشة تفوق في الغباوة وقلة الإدراك حتى الشاميين من
أتباع معاوية ويزيد، والذين ليس لهم حظّ من الدين ولا نصيب من الفطرة، ولا شيء من
حبّ الوطن، لا ينفع علاج غير انتزاع القدرة وتحييد كل الأنشطة والفعاليات بعونه
تعالى وحسن تأييده.
ويحسن بنا ونحن في الخاتمة أن نكمل تلك الرؤيا التي ذكرنا طرفاً منها فيما سبق، وهي
رؤيتنا للمرحوم آية الله الميرزا حسين الطهراني (قدس سره) والمتعلقة بهذه الرسالة.
ففي أوّل شروعنا بكتابة هذه الرسالة، كنّا قد كتبنا فصلين آخرين علاوة على فصولها
الخمسة، وهما في إثبات نيابة الفقهاء العدول في عصر الغيبة في إقامة الوظائف
الراجعة إلى سياسة الأمة والفروع المتعلقة بوجوه وكيفية ذلك، فكانت فصول الكتاب
سبعة. وفي تلك الرؤيا بعدما تقدم لك منها سابقاً من تشبيه الدستورية بالجارية
السوداء التي غسلت يديها من الأدران المتعلقة بها؛ فقد سألته في تلك الرؤيا عن لسان
ولي العصر أرواحنا فداه: هل الرسالة التي أنا مشغول بها الآن ماثلة بحضور الإمام
(عليه السلام)؟ فأجابني: نعم، غير موضعين منها. وبقرائن الحال عرفت أن المقصود
بالموضعين هما الفصلان المذكوران لا غير، وذلك لعدم تعلّقهما بالغرض الذي وضعت له
هذه الرسالة وهو لفت أنظار العوام إلى ما ينتفعون به من الأمور، والفصلان المذكوران
ليسا من هذا القبيل. لهذا أسقطت الفصلين واكتفيت بالفصول الخمسة.
وقد ختم بيد مصنّفه الفقير الجاني محمد حسين الغروي النائيني من الواد المقدس الغري
على مشرفها أفضل الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرون
(1327) من الهجرة المقدسة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام.