الدرس العاشر: صلاحيات الولي الفقيه
لا خلاف بين العلماء المحققين في أنه بناء على الاستدلال لولاية الفقيه بالنصوص،
يكون الثابت للفقيه جميع ما ثبت للمعصوم(ع) من حيث هو قائد وحاكم، ويستثنى من ذلك
الصلاحيات التي كانت للمعصوم(ع) من حيث هو معصوم.
ويمثل لهذا الاستثناء بما قاله المشهور من علمائنا في مسألة إعلان الجهاد
الابتدائي، حيث قيل إن هذا الأمر من مختصات المعصوم، ولا يمكن تطبيقه في غير حال
حضوره، سواء أقيمت حكومة إسلامية أم لا.
كما يمكن أن يمثل له بأن المعصوم يعين الإمام اللاحق له بينما الفقيه لا يملك هذا
الحق، وذلك لأن ثبوت ذلك الحق للمعصوم كان ناشئاً من عصمته ومن عدم إمكان خطئه في
تعيينه، وأن تعيين المعصوم يكشف عن تعلق إرادة الله تعالى بالمعيّن.
طرق معرفة الصلاحيات
ولذا لابد من البحث لمعرفة وتحديد الصلاحيات التي ثبتت للحاكم في الإسلام. ولابد في
البداية من تحديد الطرق التي يمكن من خلالها استكشاف تلك الصلاحيات.
ويمكن تلخيصها بالطرق التالية:
أحدها: البحث التاريخي فيما قام به الرسول(ص) والإمام علي(ع) وما تحملاه من
مسؤوليات على مستوى الحكم والإدارة.
ثانيها: ملاحظة النصوص المعتبرة لمعرفة الصلاحيات المنصوص عليها أو المدلول عليها
بالملازمة التي قد تستبطنها بعض النصوص، فإن كل نص ذكر صلاحيات الحاكم بعنوان
الإمام أو أمير، يكون شاملاً لكل حاكم شرعي في الإسلام، ونذكر نموذجاً لذلك رواية
من نهج البلاغة:
فعن أمير المؤمنين(ع) في رده على مقالة الخوارج: "لا حكم إلا لله": قال(ع): "كلمة
حق يراد بها باطل! نعم إنه لا حكم إلا لله" ولكن هؤلاء يقولون: "لا إمرة إلا لله،
وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر،
ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع بها الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ
به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر"[1].
ثالثها: الاستماع إلى صوت العقل فيما يقرره من ضرورات على مستوى الحكم والإدارة
واحتياجات لابد فيها من ولي.
رابعها: ملاحظة الأمور التي علم من الشرع إرادته لوجودها في مستوى الحكم والإدارة،
وعلى مستوى تنظيم شؤون المجتمعات مما لم يوكل الأمر فيها إلى شخص محدد.
تحديد الصلاحيات
وإذا اعتمدنا هذه الطرق يمكننا استخلاص ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ فهو العين الساهرة على تطبيق الأحكام الإسلامية والنظام الإسلامي.
2ـ وهو المسؤول السياسي الأول عن اتخاذ جميع القرارات السياسية، والمسؤول عن تعيين
الأشخاص في المواقع السياسية التي يحتاجها المجتمع ونظام الدولة، فبمقدوره
الاستغناء عن رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة وعن مجلس النواب ومجلس تشريعي، وبمقدوره
تعيين كل ذلك، كما أن له أن يتنازل عن بعض هذه الصلاحيات فيقبل بانتخاب رئيس
الجمهورية ونواب يكون مجلسهم هو المجلس التشريعي، ويمكنه أن يشرط ذلك بموافقته وقد
لا يشترط بأن يكون هناك إمضاء عام من قبله لكل من ينتخبه الشعب، بلا حاجة إلى إمضاء
خاص جديد بعد الانتخاب.
وبالإمضاء نتخلص من بعض المشكلات التي قد تعترض طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، شكلة
هي في تحديد الموقف الشرعي لهؤلاء الذين لم ينتخبوه، والتخلص منها يكون بأن إمضاء
ولي الأمر هو الملزم للجميع بمقتضى ولايته.
3ـ وهو صاحب القرار العسكري، أي القائد العام للقوات المسلحة وجميع تشكيلاتها
التنظيمية، وبالتالي فهو صاحب قرار الصلح والحرب، والمسؤول عن تحصين الثغور وتأمين
القوة الجاهزة لدفع الأعداء.
4ـ وهو المسؤول عن أمن نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم.
5ـ وهو الولي على جميع الأموال الشرعية بما فيها الخمس والأنفال، والمسؤول عن
جبايتها، وهو وارث من لا وارث له.
6ـ وهو المسؤول الأول عن القضاء، وبيده إجراء الحدود وتقنين العقوبات، وتعيين
القضاة في البلاد والأمصار.
7ـ وهو الذي يراقب الوضع الاقتصادي بما فيها الملكية الفردية، وينظر فيما إذا كانت
هناك حالات استغلال لأفراد المجتمع من قبل بعض الأغنياء، أو ما إذا كان هناك غنى
فاحش إلى درجة تؤدي إلى اختلال الموازين الاجتماعية بما يتنافى مع العدل، وبما يؤدي
إلى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فيتدخل الولي ويحدد سقفاً للملكية الفردية حسب كل
زمان ومكان.
قال الإمام الخميني(قدس سره) في كلمة أوردها في تاريخ 14/8/1358هـ ش:
"إن الملكية الشخصية إنما تكون محترمة إذا كانت مشروعة، ولكن من صلاحيات الولي
الفقيه التدخل وتحديد الملكية الشخصية حتى وإن كانت مشروعة، فالإسلام لا يعترف
بالملكية الواسعة جداً وإن كانت قد تجمعت من طريق مشروع، بل هناك حدود لهذه الملكية
المشروعة ويحق للفقيه الحاكم الشرعي مصادرة ما يزيد عنها، والتشخيص في هذا الموضوع
متروك إليه".
8ـ كما أن الولي الفقيه يمنع انحصار استغلال الطبيعة بفرد واحد أو أفراد قليلين،
ويمنع الاحتكار ويصدر جميع الأحكام التي من شأنها تأسيس العدل الاجتماعي وعزة
المسلمين، سواء على المستوى الداخلي أم على مستوى العلاقات الخارجية، وأحكامه تكون
مقدمة على جميع الأحكام الأولية.
قال الإمام الخميني (قدس سره) في رسالة كتبت بتاريخ 16/10/1360هـ ش ما خلاصته:
"لو كانت صلاحيات الحكومة محكومة بسقف الأحكام الفرعية الإلهية الكلية يصبح جعل
الحكومة الإلهية والولاية المفوضة لنبي الإسلام(ص) لغواً، وسيسبب ارتباكات على
المستوى العملي لا يمكن لأحد أن يلتزم بها، كشق الشارع المستلزم للتصرف في منزل،
فإن مقتضى الأحكام الفرعية الكلية هو عدم جواز هذا التصرف، ومثل نظام التجنيد
الإجباري مع أن الأحكام الفرعية الكلية تقتضي عدم جواز ذلك إلا حين الوجوب العيني
على كل مكلف، ومثل المنع من إدخال وإخراج العملات الصعبة ومقتضى الأحكام الشرعية
الكلية جواز ذلك، ومثل المنع من إدخال وإخراج أي سلعة، ومثل فرض الجمارك والضرائب
مع أن الأحكام الشرعية الأولية تقتضي حصر الضرائب مع أن الأحكام الشرعية الأولية
تقتضي حصر الضرائب بالخمس والزكاة ونحوهما مما أوجبه الشرع، ومثل تحديد الأسعار،
ومنع الإدمان بأي نوع غير المشروبات الكحولية، ومنع حمل الأسلحة مهما كان نوعها،
ومئات من أمثلة ذلك التي تصبح بمقتضى ذلك التقييد خارجة عن صلاحية الحكومة(29).
فالذي يجب قوله هنا أن الحكومة شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله(ص) وهي من
الأحكام الأولية المقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج،
فبمقدور الحاكم أن يهدم مسجداً من أجل شق شارع، والحكومة تستطيع من طرف واحد أن
تلغي العقود الشرعية التي عقدتها مع الناس حين يكون العقد مخالفاً لمصالح البلد
والإسلام، ويمكنها المنع من أي أمر عبادياً كان أو غير عبادي إن كان تنفيذه على
خلاف مصالح الإسلام، كأن تمنع مؤقتاً من الحج الذي هو من الفرائض الإلهية المهمة
حين يكون حسب تشخيصها على خلاف صلاح البلد الإسلامي[2]"..
9ـ وهو الذي يشرف على الوضع الثقافي في الأمة وصيانته من أي تغرب أو بدع وتشويه،
وعلى نشر المعروف ومنع المنكر: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}[3].
10ـ وبيده طلاق المرأة من زوجها إن رفعت أمرها إليه في الموارد التي يحق لها
المطالبة بالطلاق.
11ـ وهو ولي من لا ولي له، والولي على الأيتام والقصر والمجانين وأموال الغائبين
ونحو ذلك.
وغير ذلك من الصلاحيات الثابتة لهم(ع) من جهة الحكومة والقيادة.
__________________________
[1] نهج البلاغة، ج1، ص91 بشرح محمد عبده.
[2] نقلنا كلامه (قده) مع بعض الإضافات منا.
[3] سورة الحج 41.