مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

بحوث في ولاية الفقيه

الدرس التاسع: كيف يعين الولي؟ [4]

نظرية الشورى
قد يطرح بحث الشورى كدليل على أن الولاية تعطى من الأمة، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لم يكن هناك وجه للشورى في تعيين الولي واختيار النظام.
لكن لو تأملنا في كل الأدلة التي قد تذكر للشورى فلن نصل إلا إلى النتيجة القائلة: "يستحسن للولي أن يستشير" وإن كان قد تجب الاستشارة على الولي غير المعصوم، لكن ليست الآيات هي الدليل على هذا الوجوب.
أدلة الشورى:
قد يستدل للشورى بآيتين من القرآن وهما:
الآية الأولى: قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}[1].
والاستدلال بهذه الآية على لزوم الشورى يتوقف على أن يكون قوله تعالى {شاورهم} للوجوب. ولنا حول هذا الاستدلال ثلاث مناقشات:
المناقشة الأولى: أن الآية لا دخل لها بما ذهب إليه صاحب النظرية، فلا ربط لها بقضية أن الوالي يكتسب ولايته من الناس ولا بقضية أن طبيعة النظام وشكل الحكم مأخوذ من الناس، وفي أقصى الأحوال تدل على لزوم الاستشارة على الوالي، ولا ملازمة بين الأمرين، لأن كون الحكم عن شورى، أو كون النظام عن شورى، أو كون الولاية نتيجة الشورى يعني أنه لا يحق لأحد أن يتولى من غير رضا الأمة ولا أن يتفرد بالقرار، وأن يكون القرار لمجموع أعضاء الشورى أو للأكثرية منهم، ولكن الآية أمرت فقط بأن يستشير الرسول(ص)، ولم تشترط في القرار أن يصدر عن هذه الشورى.
المناقشة الثانية: أن في الآية قرينتين لحمل الأمر المذكور على الاستحباب:
القرينة الأولى: سياق الآية، حيث أن سياق الآية يفيدنا أن الحديث عن صفات كمالية في رسول الله(ص) كمعصوم، وليس عن أمور يجب عليه مراعاتها كحاكم، فهو(ص) الشخص الرحيم بالعباد اللين القلب ولولا ذلك لانفضوا من حوله، وهذه الصفات الحميدة في رسول الله(ص) من طبيعتها أن يتفرع عنها فعل العفو عنهم والاستغفار لهم ومشاورتهم، ولذا طلبها تعالى منه(ص)، فحال هذا الخطاب كقولك لشخص وجدته قد تنازع مع غيره فقلت له: إنك أعقل منه وأكبر منه فانصرف عنه أو فأعطه ما يريد، فهل يفهم أحد من هذا الكلام الوجوب، أو أن ذلك الغير صار صاحب حق.
القرينة الثانية: كون الخطاب لرسول الله(ص)، فإن توجيه الخطاب في الآية الكريمة لرسول الله(ص) يدل على أن الأمر بالمشاورة ليس للوجوب، لأنه اتفقت كلمة المسلمين على أنه(ص) لا ينطق إلا بالحق، وأنه معصوم وعصمته تغنيه عن الاستشارة وتمكنه من إعطاء الموقف المطلوب بدون استشارة، فيصير الأمر بالمشاورة لا لحاجة الرسول(ص) إليها بل إرفاقاً بالمسلمين وإشعاراً لهم بالمشاركة فيما يقرره رسول الله(ص).
المناقشة الثالثة: إن في الآية قرينة على أن ليس المقصود من الآية إلزامية الشورى على مستوى النتيجة، وهي قوله تعالى في خطابه لرسوله(ص): {فإذا عزمت فتوكل على الله}. وهذا يعني أن القرار في نهاية الأمر قراره، وأنه وإن كل ملزماً بالاستشارة، لكنه غير ملزم بالعمل بها وبما يشيره المشيرون سواء اتفقوا أو اختلفوا، ويكون الداعي لوجوب الاستشارة، لو سلمنا دلالة الآية عليه، هو الإرفاق المذكور.
ويشبه هذا ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال لعبد الله بن العباس وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه، أي رأي الإمام(ع) ويبدو أن عبد الله قد أصابته حزازة من جراء ذلك فقال له(ع): "عليك أن تشير عليّ فإذا خالفتك فأطعني".
ونحن لا مشكلة لدينا في إلزام الولي غير المعصوم بالشورى، بمعنى أن يستشير ذوي العقل والرأي والاختصاص، كما أنه لا مشكلة لدينا في كون الشورى في عصر الغيبة وسيلة من وسائل تعيين الولي والتي قد تترجم في المصطلحات العصرية بكلمة الانتخاب، لكن ليس الدليل عليه هو هذه الآية، كما أن الانتخاب بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً لا ربط له بإعطاء شرعية للوالي.
الآية الثانية: قوله تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}[2].
وهذه الآية أقوى دلالة للقول بالشورى، بعدما وصفت أمر المسلمين بأنه شورى بينهم، فهي تصلح مبدئياً للاستدلال بها على كون الحكومة في الإسلام مرتبطة بالشورى بين المسلمين، وأنه لابد من هذه الشورى على مستوى تعيين الحاكم وتحديد طبيعة النظام السياسي والصلاحيات وكل ما يرتبط بأمور المسلمين، وكل ذلك هو تعبير آخر عن ولاية الأمة على نفسها.
مناقشة الاستدلال: ويناقش الاستدلال بهذه الآية: بأن الحديث فيها إما أن يكون عن خصوص مجتمع المسلمين في عصر رسول الله(ص) أو مجتمعهم في كل العصور، وعلى كل تقدير يجب أن يكون عصره(ص) مشمولاً للآية لأنها مورد نزولها، ونحن نعلم بالقطع واليقين أن أمر المسلمين لم يكن كذلك في عصر رسول الله(ص)، لا على مستوى حكومة الرسول وولايته ولا على مستوى إدارته وحكمه واختياره الشكل المناسب للحكم، بل كان رسول الله(ص) الحاكم بأمر من الله تعالى، ولم تكن طريقته في الحكم إجراء استفتاء من المسلمين على شكل الحكم أو غير ذلك مما يتعلق بأمور الحكم، بل كانوا ينقادون لأوامر الرسول(ص) حتى وإن كانت مخالفة لآرائهم كلهم أو لأكثريتهم، لأن هذا ما تعنيه للمسلمين جميعاً ولاية الرسول(ص)، ولقسم من المسلمين ولاية الأئمة(ع)، الآتية من قبل الله تعالى لا من قبل الناس، فلو كانت الآية دالة على ولاية أمة على نفسها وأن الرسول مجرد رجل من المسلمين، لكان هذا يعني إبطال ولايته(ص)، ولا يقول بذلك أحد.
فحتى يتم الاستدلال بالآية بالنحو المذكور يجب فرض أن مضمون الآية لا يشمل مجتمع الرسول، وهذا غير ممكن، لأن الآية التي تنزل في مورد لابد على الأقل أن تشمل موردها، وعليه فيجب تفسير الآية بما يلائم انطباق الآية على ذلك المجتمع، والذي يرومه المستدل مخالف له.
والتفسير الصحيح، أن يقال، إن الآية تحمل دعوة إجمالية لعموم المسلمين تدعوهم إلى التعاضد والتكاتف كمجتمع متجانس يستشير بعضهم بعضاً في أمورهم الشخصية، وأن هذا هو شأنهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه، وهذه دعوة في سياق دعوتهم إلى صفات حميدة أخرى. وهي دعوة لم يلحظ فيها الشؤون العامة للمسلمين، ولو فرضنا ملاحظة هذه الشؤون فهي لا تشمل أمر الولاية والحكومة وشؤونها وما يتعلق بها.
ولو فرضنا أنها تشمل بالإطلاق الحكم وشؤونه، فهي تشمله ضمن هذا السياق، وليس ضمن سياق إلزامي يعبر عن نظرية كما أرادها المستدل، لما بيّناه سابقاً.
ونكتفي بهذا المقدار من البحث حول مسألة الشورى.
________________________
[1] سورة آل عمران:159.
[2] سورة الشورى:37 ـ 38.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية