مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

بحوث في ولاية الفقيه

الدرس الثامن: كيف يعين الولي؟ [3]

نظرية البيعة
اعتنى بنظرية البيعة بعض الذين كتبوا في ولاية الفقيه وجعل البيعة مما تتوقف عليها ولاية ولي الأمر وإن كان معصوماً.
وقد عرفت البيعة بأنها العهد على الطاعة.
فلنر إلى أي حد تصلح البيعة لإنشاء ولاية في الشريعة الإسلامية.
أدلة القول بالبيعة
الدليل الأول: الاستدلال بسيرة الرسول(ص) وأمير المؤمنين(ع)، حيث قيل: لو لم يكن لها أثر في تثبيت الإمامة وتحقيقها فلم طلبها رسول الله(ص) لنفسه ولأمير المؤمنين(ع)؟ ولم كان أمير المؤمنين(ع) يصر عليها في بعض الموارد؟ ولِمَ يُبايع صاحب الأمر(ع) بعد ظهوره، بالسيف والقوة؟[1].
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: إن البيعة تتوقف قيمتها على إثبات أن من حق الأمة أن تولي على نفسها من تشاء، فلو ثبت شرعاً أن الأمة لا تملك مثل هذا الحق لانتفت البيعة بمعنى إعطاء ولاية، ولم يصح جعلها واسطة ثبوتية في ثبوت ولاية الولي.
ثانياً: البيعة حسبما نفهمه من موارد استعمالاتها في الكتاب الكريم والسنة، وخاصة إذا لوحظت بالنسبة لرسول الله(ص) أو الأئمة المعصومين(ع)، هي فعل يتصف بصفة الوجوب ويكون محلها متأخراً عن ثبوت حق الطاعة للشخص المراد عقد البيعة له، وإذا كانت البيعة كذلك فلا تكون طريقاً لتعيين الولي، بل لابد من طريق آخر له وهو بالنسبة لرسول الله(ص) نبوته، وبالنسبة للأئمة(ع) إمامتهم الثابتة بالنصوص والأدلة المذكورة في علم العقيدة، وبعد معرفة الولي يأتي حكم تكليفي على جميع المكلفين بوجوب مبايعة هذا الولي.
أما لماذا طلبها الرسول(ص) لنفسه، فربما لأنه كان في بداية الدعوة للإسلام وكان على القوم أن يعرفوا ما هو الذي ينتظرهم وهم في بداية الطريق، فكان يريد أن يعرف من الذي سيلتزم معه ومن الذي سوف لا يلتزم، ولم يكن يهدف من البيعة إثبات ولايته عليهم حتى يستفاد من فعل الرسول(ص) أن البيعة من مثبتات الولاية.
أما لماذا طلبها النبي(ص) لأمير المؤمنين(ع)، فلأن الرسول(ص) أراد من البيعة أن تكون وسيلة لترسيخ فكرة تعيين الإمام(ع) ولياً، فإن اقتران إعلان الولاية بالبيعة يجعل الحادثة ملتصقة في الأذهان أكثر، وليس في هذا ما يدل على أنها وسيلة شرعية لإثبات الولاية.
أما إصرار الإمام علي(ع) عليها، فهذا لا أدري من أين أتى به القائل، وإنما أصر القوم على إعطائه البيعة لا أنه أصر على طلبها.
الدليل الثاني: الروايات الواردة في البيعة، حيث قد يستدل على مشروعية البيعة بالإضافة إلى ما تقدم، بجملة من الروايات وردت في نهج البلاغة وغيره:
منها: قول أمير المؤمنين(ع) لما أرادوا بيعته بعد قتل عثمان: "دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً"[2].
ويرد على هذا الاستدلال بالرواية:
أولاً: لو كانت البيعة منشأ للولاية، لكانت شروطها هي النافذة، بينما الإمام يصرح بأنه سيسير بطريقة لن يهتم بعدها باعتراضاتهم.
ثانياً: لو افترضنا أنه(ع) قال هذا الكلام، نقول: إن الأمة عندما أقبلت على الإمام(ع) لم تقبل عليه بصفته الأساسية وهي الإمامة المجعولة من قبل الله تعالى، بل أقبلوا عليه وفي نفوس بعضهم أن لهم المنة عليه أن اختاروه لهذا المقام، وفي ظنهم أنه(ع) متلهف له مستعجل إليه، والإمام(ع) في تلك المرحلة من الزمن لم يعد يكثر من المطالبة بحقه الشرعي الذي هو حق الله على الأمة، عملاً بمقالته التي أطلقها "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين"، وصار يماشي القوم في ما تبانوا عليه من أن الأمر أمرهم يختارون من يرونه مناسباً لتولي الحكم فيهم، والذي قاله الإمام(ع) في هذه الرواية ناشئ من هذه الخلفية وليس من خلفية أنه(ع) مقتنع بأن الأمر أمرهم، وكيف يمكن أن يقدم الإمام(ع) مثل هذا الإقرار.
ومما يدلك على أن الإمام(ع) كان يلزم الناس بما ألزموا به أنفسهم وكان يماشيهم ولم يكن أبداً في صدد إمضاء وإعطاء شرعية للبيعة قوله(ع) في نهج البلاغة: "فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا".
ومنها: ما في نهج البلاغة أيضا من قوله(ع) في كتاب له لمعاوية:
"إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً، كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى.. إلى أن يقول: وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا المشورة"[3].
والجواب على هذا الدليل: إن هذا الكلام، لو فرضنا وروده عنه(ع)، إنما أورده الإمام(ع) في كتاب له إلى معاوية يحتج له به على انعقاد خلافته وأنه لا يجوز لمعاوية النكوص عنها والخروج عن طاعة الإمام(ع)، ومن الواضح أن معاوية لا يؤمن بالنص، فلا سبيل للاحتجاج عليه إلا بما يؤمن به أو بما لا يمكنه الفرار منه، ولذا بدأ الإمام(ع) بقوله: "وإنما بايعني الذين بايعوا.." الذي يعني أنه ليس ذلك لك عذر في التخلف عن حكمي كما ألزمت نفسك بمن سبقني.
ولو لاحظنا نهاية ما أوردناه من كلامه(ع) لاتضح المقصود بشكل أفضل، فكان الإمام(ع) يستدل على مقصوده من ردع معاوية عن التخلف وعن التمرد، فيخاطبه بأن الذي بايعني هم من لهم حق الشورى في نظرك أو في الجو السائد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، وهؤلاء قد بايعوا، أما أنت فلست من الأنصار ولا من المهاجرين، لأنك كنت أسيراً يوم فتح مكة ولا هجرة بعد الفتح، فليس لك إلا أن تطيع.
البيعة في القرآن
لقد تحدث القرآن عن البيعة في مواضع كثيرة وكلها تشير إلى المعنى الذي ذكرناه.
منها: قوله تعالى في ما أنزله يوم الحديبية: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}[4].
ومنها: قوله تعالى في نفس المناسبة: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}[5].
ومنها قوله تعالى: {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم}[6].
إن الذي نفهمه من هذه الآيات أن مورد البيعة الدخول في الإسلام أو الجهاد ونحوه من الموارد التي تتطلب توطين النفس على البلاد، ولا تدل الآيات على أن البيعة هي التي تسبب الإلزام في رقبة المبايع، وإلا فما معنى أن تبايع النساء على ترك الشرك وترك المنكرات والمحرمات، فهل إن الإلزام بترك الشرك يتوقف على البيعة أم أن الإلزام بترك السرقة يتوقف عليها؟
ثم أين أصبح قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}[7], وقوله تعالى: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}[8], وقوله تعالى {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[9].
إننا لا نفهم من آيات البيعة إلا ما جاء في آية أخرى تحدثت عن بيع وشراء بين الله تعالى وعباده المؤمنين: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}[10].
_____________________
[1] راجع الجزء الأول من دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري، ص525 وما بعدها.
[2] نهج البلاغة، ج1، ص182 لمحمد عبده.
[3] نهج البلاغة، ج3، ص8 لمحمد عبده الكتاب السادس.
[4] سورة الفتح:18.
[5] سورة الفتح:10.
[6] سورة الممتحنة:12.
[7] سورة الأحزاب:6.
[8] سورة الأحزاب:36.
[9] سورة النساء:59.
[10] سورة التوبة:111.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية