الدرس الثالث: صفات الولي وشروطه[1]
لا ريب عندنا في أن الولاية هي في الأساس مشروطة بالعصمة، وتحتاج إلى إرشاد خاص من
قبل الله تعالى إلى المتصف بها، وكان من المفترض أن يتولى المعصومون(ع) ولاية الأمر
في المجتمع الإسلامي على مر العصور لولا الانحرافات الخطيرة التي أصابت الأمة
الإسلامية، والتي كان من تفاعلاتها غياب الحجة(عج).
وحيث إن الغيبة قد وقعت، ولا يعلم إلا الله تعالى متى الفرج منها، كان لابد أن
يتوجه السؤال المهم حول كيفية إدارة شؤون الأمة في عصر الغيبة، بعد ما ثبت أن مبدأ
الحكومة الإسلامية لم يزل بغيبة الإمام(ع) فصرنا بحاجة إلى بدل اضطراري إلى أن يظهر
المعصوم(ع)، فكان لابد من النظر في الأدلة العقلية والنقلية لنرى مدى إمكانية
استكشاف وتحديد المواصفات المطلوبة لمقام الوالي والحاكم.
ويمكن تقسيم الأدلة الدالة على المواصفات والشروط المطلوبة في الحاكم من حيث
الإجمال والتفصيل إلى قسمين:
الأول: الدليل الإجمالي.
الثاني: الدليل التفصيلي.
الدليل الإجمالي
وخلاصة: أن الحكومة الإسلامية حكومة تعتمد على قانون محدد هو القانون الإلهي بهدف
بسط العدالة الإلهية بين الناس، وهذا يعني بكل بساطة ووضوح، ضرورة أن يكون الوالي
متمكناً من صفتين مهمتين هما أساس الحكومة القانونية الإلهية ولا يعقل تحققها إلا
بهما:
إحداهما: العلم بالقانون.
وثانيتهما: العدالة والكفاءة.
ونعني بالعدالة هنا: الحرص على الالتزام الشخصي والتام بجميع الأحكام الإسلامية
الإلزامية والقوانين الإلهية، لا يحيد عنها قيد أنملة، سواء على المستوى الشخصي، أم
في علاقاته مع الآخرين.
ونعني بالكفاءة: القدرة على إدارة شؤون الأمة وقيادتها نحو المواقف السليمة، وبهذا
المعنى تكون الكفاءة مزيجاً من وعي بشؤون الساعة، وشؤون السياسة، وما يدور في
الأمم، وقدرة على فهم الأحداث، وحكمة في تقييم الظرف والواقع، وحدس صائب في اتخاذ
الموقف المناسب، وحلم يساعد على تقبل الملاحظات والنصائح.
ومن البديهي أن الجاهل والظالم والفاسق وغير القادر على إدارة شؤون الأمة وقيادتها
واتخاذ القرارات المناسبة، لا يعقل أن يرضى به الله تعالى والياً على المسلمين وعلى
مقدراتهم وأموالهم ونفوسهم وأعراضهم، وهذا من البديهيات التي يدركها كل عاقل وكل
مسلم، خاصة بعدما علمنا شدة اهتمام المشرّع الأقدس بهذه الأمور واحتياطه الشديد
تجاهها.
كما أن هذا المقام لا يليق بغير العادل وإن كان موثوقاً، إذ كيف يمكن أن نفترض أن
الله تعالى رضي بمن يرتكب المحرمات ويترك الواجبات ويستهتر بها أو ببعضها، قيماً
على شؤون المسلمين، لمجرد أنه شخص أمين لا يكذب؟! بل كيف يكون أميناً على تطبيق
أحكام الإسلام في المجتمع بكل أبعادها ما لم يكن هو نفسه من الملتزمين بها؟! بل ومن
المبتعدين عن الدنيا والزاهدين فيها.
وكذلك اشتراط الكفاءة في إدارة الشؤون وقيادة الأمة، فإن هذا الشرط مما يدركه العقل
ويعترف به جميع العقلاء، بل هو في الواقع من شروط صلاحية الشخص للولاية، وفاقد هذا
الشرط فاقد للأهلية، فيكون سلب الولاية عنه من السالبة بانتفاء الموضوع، ولذا لو
فرضنا خلو النصوص عن هذا الشرط، واقتصرت الأدلة على عنوان الفقيه العدل، فإن هذا لا
يعني أن غير الكفوء يحق له أن يتولى شؤون الأمة، علماً أن الأدلة اللفظية دلت على
اشتراط الكفاءة في الولي، مثلما دلت على اعتبار شرطي العدالة والفقاهة.
وعلى ضوء ما تقدم يظهر أن أمر الولاية في الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة الكبرى
مرجعه إلى العالم بالقانون الإلهي العادل الكفوء.
وقد رأيت أننا تمكنا من الوصول إلى هذه النتيجة بكل بساطة، بعيداً عن التعقيدات
الفقهية، وإن كان يحتاج إلى بعض التتميم على مستوى اشتراط كون الولي فقيهاً، لأن
الإنصاف يقتضي الاعتراف منا بأن هذا الدليل الإجمالي لا يكفي لإثبات شرطية الاجتهاد
فلابد من تتميمه ببحث أكثر تفصيلاً.
الدليل التفصيلي
وأما الدليل التفصيلي، فإن الأدلة التفصيلية الدالة على ضرورة توافر صفات معينة في
الولي على نوعين:
1ـ الدليل الروائي.
2ـ الدليل العقلي.
الدليل الروائي
أما الدليل الروائي أي النصوص، فقد دلت على أنه ينبغي أن يتوافر في شخصية الولي
الشروط التالية:
1ـ شرط الفقاهة:
وقد دلت على ذلك روايات كثيرة، نذكر منها:
1ـ موثقة السكوني، عن أبي عبد الله(ع) قال: "قال رسول الله(ص): الفقهاء أمناء الرسل
ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع
السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"[1].
والفقرة التي يتعلق بها الاستدلال هي قوله(ص): "أمناء الرسول".
فقد وصفت هذه الرواية الفقهاء بأنهم أمناء لجميع الرسل بمن فيهم رسول الإسلام(ص)،
لأنها لم تخصص الكلام برسول محدد، فيكون هذا العنوان شاملاً لرسول الله(ص). وحيث
إنه لم يتحدد مورد الأمانة بمورد خاص، فهذا يعني شمولها لجميع الشؤون المتعلقة
برسالته وهدفه ودوره، وأوضح هذه الشؤون قيادة الأمة وبسط العدالة الاجتماعية وما
لها من المقدمات والأسباب واللوازم، فأمين الرسول(ص) أمين في جميع شؤونه، وليس شأن
رسول الله (ص) ذكر الأحكام فقط حتى يكون الفقيه أميناً فيه فقط، بل من شؤونه أيضاً
إجراء الأحكام، ومقتضى الأمانة فيها أن يجريها الفقيه على ما هي عليها في الشرع
الإسلامي، وأين تكون الأمانة لو ضاع الهدف من الرسالات والتي هي إجراء الأحكام
وإقامة العدل بين الناس وهدايتهم إلى الحق.
2ـ التوقيع المبارك المنسوب إلى صاحب الأمر روحي فداه الذي نقله الشيخ الصدوق، عن
الشيخ الكليني، عن محمد بن عصام الكليني، عن إسحاق بن يعقوب قال: "سألت محمد بن
عثمان أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا
صاحب الزمان(عج): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك... إلى أن قال: وأما الحوادث
الواقعة فارجعوا فيه إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"[2].
وأما دلالة هذا التوقيع عن المطلوب ففي فقرتين:
إحداهما: قوله(ع): "أما الحوادث الواقعة.." الخ.
وتقريب الاستدلال بها: أن الإمام(ع) أمر بالرجوع في نفس الحوادث والمستجدات
والوقائع الخارجية إلى رواة الحديث بكل ما تتطلبه تلك الحوادث من رجوع، والحوادث
تارة تحتاج إلى مرجعية لمعرفة حكمها الشرعي الكلي، وتارة تحتاج إلى مرجعية تحدد
الموقف الشرعي في الساحة العملية، وذلك في الوقائع المرتبطة بالشأن الاجتماعي
والسياسي[3]، وكلا الأمرين كانا من مختصات الإمام المعصوم(ع) لو كان ظاهراً،
والإمام(ع) أمر بالرجوع في كل ذلك إلى رواة الحديث.
فالسائل أراد بسؤاله عن الحوادث الواقعة، الاستفسار عن تكليفه أو تكليف الأمة في
الحوادث الواقعة لهم، لأن حاجتهم لم تنقطع بغيبة الإمام(عج) فكان لابد من الجواب عن
مثل هذا السؤال، والذي يظهر من الجواب أن الحوادث بكلا قسميها يكون المرجع فيها
الرواة والمراد بهم الفقهاء.
والفقرة الثانية: من ناحية التعليل بأنهم "حجتي عليكم وأنا حجة الله".
وتقريب الاستدلال بها، بأن كون المعصوم حجة الله ليس معناه أنه مبين الأحكام فقط،
بل المراد أن الله تعالى أمر العباد بمتابعته في جميع شؤونهم، وأن لا عذر للناس في
التخلف عنه، وهذا من بديهيات المذهب الشيعي صانه الله تعالى ورعاه.
وعليه: فيستفاد من قوله(عج): "هم حجتي عليكم وأنا حجة الله" أن المعنى الثابت
لكونه(عج) حجة الله على العباد قد أثبته(عج) أيضا للرواة، فالفقهاء ولاة لأن هذا
المعنى من مصاديق الحجية هنا.
____________________
[1] 4 أصول الكافي، ج1، ص46.
[2] وسائل الشيعة، ج18، باب11 من أبواب صفات القاضي نقلاً عن كتاب إكمال الدين
وإتمام النعمة للشيخ الصدوق وعن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي.
[3] أما الوقائع المرتبطة بالشأن الشخصي فأمر تشخيصها للمكلف نفسه كما لو شك أن هذه
الماء الذي أمامه طاهر أو نجس، وليس شأنها أن يسأل عنها الإمام المعصوم(ع).