الفصل الأول: الحاجة إلى الحكم الإسلامي
هناك حاجة اجتماعيّة ماسة جداً لسلطة عليا تقوم على إدارة شؤون المجتمع وتسيير
أموره العامّة؛ وذلك لتحقيق التناسق بين الاحتياجات الاجتماعيّة المتفاوتة وأساليب
إشباع هذه الاحتياجات، وتجميع القوى الفعّالة وتوجيهها الوجهة التي تؤهّلها لخدمة
مصالح المجتمع على النحو الأكمل.
وكذلك لإشاعة العدالة والوقوف بوجه الظلم والاعتداء على الآخرين وحقوقهم. وبالتالي
يحتاج المجتمع إلى السلطة التي تحمل على عاتقها مهمة توحيد الآراء في القضايا
العامّة التي يتطلّب الموقف فيها رأياً موحّداً، يمتلك القاطعيّة والواقعيّة
والقدرة على التنفيذ.
هذا، بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى، ممّا يجعل الحاجة ماسة لهذه السلطة العليا
وبشكل لا يشكّ فيه أحد.
إنّ العائلة الصغيرة ـ وهي نواة المجتمع الكبير ـ لتحتاج إلى الموجّه المشرف على
إدارتها وتعيين مسيرتها وتنسيق أمورها، فكيف بالمجتمع الذي يضمّ مختلف الوحدات
الاجتماعيّة وأنواع النزعات العاطفيّة والسياسيّة والفكريّة؟
إنّ الحقيقة الهامّة التي تبرز بوضوح في مجال قيام السلطة العليا أو الحكومة
بمهامها: هي احتياج هذه الحكومة إلى ما يخوّلها سلطة مطاعة، تنفّذ بها أهدافها،
وتبرر بها عملها على منع أفراد المجتمع أو جماعاته من كثير من أنماط السلوك التي
كان لهم أن يقوموا بها لولا نهي الحكومة، وكذلك إجبار هؤلاء على اتخاذ مسير سلوكي
لم يكونوا مجبرين عليه قبل ذلك.
ولا يمكننا أن نتصوّر لقيام الحكومة بأمور الحكم من أساس، غير أمرين لابدّ من
توفّرهما معاً؛ لكي تصبح سلطتها على الناس وما تقوم به من أعمال نفوذ، مما يؤيده
الوجدان الكافي في أعماق الإنسان ذاتاً، وهذان الأمران هما:
الأول: أن تكون الحكومة واجدة لمصدر مشروع تستمد منه الولاية.
الثاني: أن تكون سلطتها وبرامجها على وفق المصالح الاجتماعيّة.
مبدأ الولاية أو الحكومة
أمّا بالنسبة للأمر الأول، فإنّ ما يمكن أن يتصوّر كمبدأ لاستمداد الولاية والقدرة
وإعمال النفوذ الذي لا بدّ منه في حكم المجتمع، هو أمران لا غير، وهما:
1 ـ الناس أنفسهم.
2 ـ الله سبحانه وتعالى.
أمّا المبدأ الأول، فيقال فيه: إنّ الناس إذا منحوا بأنفسهم فرداً أو هيئة حق الحكم
وإدارة شؤونهم، فإنّ هذا الفرد أو هذه الهيئة سوف تقوم على أساسين هما: مصدر
الولاية والمصلحة.وهذا اللون من الحكم يدعى بالديمقراطيّة، وقد استعملت الكلمة في
أكثر من معنى، ولكننا نعني بها هنا إعطاء حق تقرير المصير بيد الناس. فهم الذين
يقرّرون النظم والقوانين، ويعيّنون المنفّذين سواء كان هذا كله بالمباشرة، أو
بواسطة المنتخبين، أو بالتلفيق.
وما يمكن أن يؤكّد عليه أنصار الديمقراطيّة في مجال جعل الديمقراطيّة في إطار
الأساسين السابقين (مصدر الولاية، والمصلحة)، هو توضيح أنّ الديمقراطيّة في الواقع
ليست حكماً لأحد على أحد، وإنّما تعني حكم الناس أنفسهم بأنفسهم. فلا تحكّم ولا
إعمال سلطة أو نفوذ، حتّى يبقى مجال للتساؤل عن مصدر الولاية.
وبكلمة أخرى، يكون الجهاز الحاكم قد استمدّ ولايته ومبرّر نفوذه من الناس أنفسهم،
وعلى أساس من عقد اجتماعي قام به الناس جميعاً، واتّفقوا فيه على قوانين معيّنة،
كما اتّفقوا فيه على اختيار منفّذين لتلك القوانين، ولا ريب في أنّ الوجدان يدفع
الفرد والمجتمع للالتزام بالعقد والوفاء به.
وأمّا ضمان المصلحة الاجتماعيّة، فقد يركّز على قضية أنّ الحكومة إذا كانت تعبيراً
عن حكم الناس لأنفسهم، فمن الطبيعي أن تعمل على تحقيق المصالح الاجتماعيّة. لأنّ
الناس لا يريدون لأنفسهم غير ذلك، وليس الحاكم مغايراً للمحكوم، كي يفترض تقديمه
لمصالحه على مصالح المحكوم.
وهذا يؤكّد كون الشكل الديمقراطي في الحكم هو أضمن الأشكال المتصوّرة لحفظ مصالح
الأمة.
وأمّا المبدأ الثاني لاستمداد الولاية فهو الله سبحانه وتعالى، لأنّه الخالق
والمنعم والمولى الحقيقي للكون والناس.
وإذا ثبت أنّ هذا المبدأ هو المبدأ الصحيح الوحيد الذي يجب أن تستمد الحكومة قدرتها
وولايتها منه[1]، فلا ريب في ضمان موافقة الوجدان بل تأكيده على هذا الشكل، بعد أن
تستمد الولاية من صاحبها الحقيقي وبعد أن كان ذلك هو الضمان الوحيد لتحقيق مصالح
الأمة في الحياة الدنيا على أساس التشريع الإلهي، وحكومة الولي المعينين من قبل
الله، كما أنّ هذا هو الضمان الوحيد ـ أيضاً ـ لتحقيق رضا الله عز وجل وسعادة
الحياة الآخرة.
ووفقاً لهذا المبدأ، لا معنى للبحث عن كون السيادة للشعب أو الأمة وأمثال ذلك.
وإنّما السيادة الحقيقية لله لا غير، وهو يعيّن السلطة الحاكمة.
أساس أنظمة الحكم في العالم
تختلف أنظمة الحكم وتتعدّد على وفق الأساس الذي تعتمده في حقها في السيادة والحكم
وأشهر هذه الأنظمة هي:
النظام الرأسمالي الديموقراطي
إنّ الديمقراطيّة تشكّل الأساس الذي يعتمده نظام الحكم الرأسمالي حيث يمنح كل أفراد
الشعب الحقوق الديمقراطيّة كاملة ـ كما يدّعي ـ.
النظام الاشتراكي الماركسي
وفيه يُنادى بالديموقراطيّة في إطار طبقة البروليتاريا أو الحزب الاشتراكي الحاكم
فقط.
أمّا في مجال الدولة العام، فإنّ ديكتاتوريّة البروليتاريا هي السائدة، وتعني
اعتماد القوة والعنف سبيلاً لتنفيذ سلطتها وفرض أوامرها على المجتمع مدّعية مراعاة
مصلحة المجتمع في ذلك. ويبرر النظام الاشتراكي الماركسي كل هذا، بأنّ الطبقة
الكادحة هي التي تضمن تطبيق النظام الاشتراكي الأمثل لتهيئة الشعب للدخول في
المرحلة العليا من التطوّر البشري (أي الشيوعية) في حين يعمل غيرها على عرقلة هذه
المسيرة والقيام بالثورة المضادة فيجب أن لا يمتلكوا أي حق ديموقراطي في تقرير مصير
الحكم وأسلوب الإدارة العامّة.
النظام الإسلامي
ويقام الحكم فيه على أساس استمداد حق السيادة من الله تعالى باعتباره المالك
والمشرّع الحقيقي لا غير. وعلى وفق هذا فإنّ:
1 ـ أساس الحكم في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله):
هو أنّ الله تعالى قد جعل النبي (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى كونه المبلّغ
عنه تعالى قائداً عملياً للأمة وولياً عليها {النبيُّ أولى بالمؤمنينَ مِن
أنفسهم}[2].
2 ـ أساس الحكم بعد النبي (صلى الله عليه وآله):
أ ـ ادّعى العديد من علماء السنّة وكتّابهم أنّ أساس الحكم المعيّن من قبل الله هو
(الشورى)، مستندين في ذلك إلى نصوص من القرآن الكريم {وَأمْرُهُم شُورىْ
بَينَهُم}[3]، والسنّة النبويّة الشريفة وسيرة الصحابة.
ونظام الشورى هذا يختلف عن (الديموقراطيّة الغربية) اختلافاً بيّناً.
فإنّ القوانين الأساسيّة للدولة في الإسلام لا تقوم بكل جوانبها على أساس التصويت
والانتخاب وأمثال ذلك، كما هو الحال في النظام الديموقراطي، بل هي في إطار أمور
تشريعيّة قرّرها الإسلام باعتباره رسالة الله تعالى لكل الأجيال.
ب ـ أمّا الشيعة، فإنّ أساس التشيّع عندهم هو الإيمان بأنّ النبي (صلى الله عليه
وآله) قد عيّن نظام الإمامة المنصوص عليها بعد وفاته. والتي تمثّلت أول ما تمثّلت
في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي تتابعت النصوص النبويّة الشريفة على
تعيينه بأمر الله تبارك وتعالى مرجعاً شرعياً للأمة وولياً للأمر فيها.
كما أنّ الإمام علياً (عليه السلام) بدوره قد نصّ على الإمام من بعده، وهكذا إلى
الإمام الثاني عشر وهو الإمام المهدي(عليه السلام) الذي غاب عن الناس، وبقي حياً
يرزق، وقد أعدّه الله تعالى لينشئ دولة العدل الشاملة لأرجاء الأرض، بعدما ملئت
ظلماً وجوراً.
فالمجال الطبيعي للبحث عن أساس الحكم الإسلامي ـ بعد فرض أساس التشيّع ـ إنّما هو
بالنسبة لعصر غيبة الإمام (عليه السلام). وما يمكن استفادته من المصادر الشيعيّة،
والذي افتى به جملة من فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، كأطروحة لنظام الحكم
الإسلامي في زمن الغيبة، هو «ولاية الفقيه» ضمن شروط معيّنة يجب أن تتوفّر فيه.
وهذا ما قام عليه فعلاً نظام الحكم في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بقيادة
الإمام الخميني (رضي الله عنه)، قال الله تعالى: {أطيعُواْ اللهَ وَأطْيعُواْ
الرَسُولَ وأولي الأمرِ مِنْكُم}[4].
ولعل البعض يتصوّر أنّ الحاجة إلى ولاية الفقيه المتحدَّث عنها هي مساحة ولاية رؤية
الهلال والولاية على الصغار وما شابه ذلك مما يسمّى باختيارات الفقيه في الأمور
الحسبيّة، ولكن بات من الواضح اليوم، أنّ هذه الولاية لها مساحتها العريضة الواسعة،
وأنّ الفقيه هو ولي المسلمين وهو الأمين على الدين والدنيا، كما ورد في بعض
الأحاديث الشريفة. وبلحاظ هذه السعة كانت الشبهات المطروحة حولها كثيرة ومتنوّعة.
منها الشبهة التي طرحت قديماً، وذكر فيها اشتراط وجود الإمام المعصوم في تأسيس
الحكومة الإسلاميّة، ويكون زمن الغيبة عصر تقية لا عصر تأسيس الحكم الإسلامي، ومنها
الشبهة ا لتي تقول: إنّ الفقيه فرد والفرد كثير الخطأ فلا يجوز له أن يحكم البلاد
وإنّما يجوز للفرد أن يحكم البلاد إذا كان معصوماً.
وهناك شبهات أخرى، سوف نناقشها في محلها المناسب من الكتاب.
مقارنة بين النظام الديموقراطي والإسلامي
النظرية الديموقراطيّة[5] تعتمد أسلوب تجميع الآراء لتعيين الحكومة والدولة. فيشترك
الشعب في حكم نفسه بنفسه.
وادّعى منظّرو الديمقراطيّة بأنّه لو حكمهم شخص معيّن واحد ومن دون انتخاب لكان ذلك
الحكم حكماً دكتاتورياً.
وبناءاً على هذا، فما نسميه نحن ولاية الفقيه عندنا سيكون بالنسبة لهم نوعاً من
الدكتاتورية الدينيّة ومصادرة لحرية الآخرين.
وقد صاغ جان جاك روسو نظريته في العقد الاجتماعي بناءاً على ذلك، وجعل الحجر الأساس
في النظرية الديموقراطيّة مسألة الحرية وكون الإنسان حراً.إنّ الحريّة بمفهومها
الصحيح مطروحة في رواياتنا وعلى لسان أئمتنا (عليه السلام)، وبشكل أقوى وأعمق،
ولكنها تختلف من حيث الأساس عما يذهب إليه أتباع الديموقراطيّة الغربية.
فعن الإمام علي (عليه السلام): «.. أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وأنّ
الناس كلهم أحرار ولكن الله خوّل بعضكم بعضاً.. فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا
يمن به على الله جلّ وعزّ، ألا وقد حضر شيء (أي المال) ونحن مسوون به بين الأسود
والأحمر، فقال مروان لطلحة والزبير ما أراد بهذا غيركما، قال فأعطى كل واحد ثلاثة
دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير وجاء بعده غلام أسود فأعطاه ثلاثة
دنانير... فقال: إنّي نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق
فضلاً»[6].
وعنه أيضاً (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»[7]. هذا هو مفهوم
الحرية في الإسلام، فالناس سواسيّة كأسنان المشط ليس فيهم عبيد وسادة.
لقد بلغ الإسلام بالإيمان بمبدأ الحرية ما لم يبلغ إليه الغرب فقد ورد النهي في
الإسلام عن تقبيل اليد إلا يد أريد بها وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)[8]،
وكذلك ورد النهي عن التواضع لغني لأجل غناه، كل هذا حفظاً لكرامة الإنسان وحريته.
إلا أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين مفهوم الحرية في الغرب ومفهوم الحرية في الإسلام؛
لأنّ الحرية في الغرب قامت على أساس عدم الإحساس بالمسؤوليّة ولا تنتهي حريات الفرد
إلا حينما تبدأ حريات الآخرين.
أمّا في الإسلام، فإنّ الحرية قامت على أساس الشعور بالمسؤوليّة والعبوديّة لله
تبارك وتعالى. وهذا الفرق فرق واسع بين الأساسين وقد أثّر في جميع الفروق بين
مفهومي الحرية في الإسلام ولدى الغرب وفي بحوثهما.
ومن هذه البحوث بحث (حاكمية الإنسان)، ففي نظر الغرب وحسب المفهوم الذي ذهبوا إليه
فإنّ الإنسان حر ولا بدّ وأن يحكم نفسه بنفسه. بينما ينبغي عليه في الإسلام الشعور
بالمسؤوليّة وأن يعرف بأنّه عبد لله، وأنّ الحكم لا يكون إلا لله تبارك وتعالى، وكل
حكومة ينبغي عليها أن تستند إلى هذا الحكم وأن تصدر عنه.
هذا فرق بين مفهوم الحرية في الإسلام، ومفهومها لدى النظرية الغربية، وهناك فرق آخر
هو: أنّ غاية ما يضمنه الحكم الغربي ووفق النظرية الديموقراطيّة في تحديد الحرّيّات
هو تحديدها بحدود حرّيّات الآخرين ولكي لا يعتدي البعض على البعض الآخر.
أمّا في الإسلام فإنّ الأمر ليس هكذا، فإنّ الإنسان بعد أن يصبح محكوماً بنظام نازل
من السماء، فللحاكم بعد ذاك الحق في تغيير بعض الأحكام الأوليّة ووفق المصالح
الثانوية[9] التي يراها، لا فقط تحديد الحريات وضمان عدم الاعتداء. وأنّ هذا
التغيير هنا لا يتمّ على أساس العقد الاجتماعي الذي يحدد سلطة الحاكم في الغرب،
وإنّما باعتبار أنّ الأمر قد اُوكل إلى الولي دون بقية الناس وهذا مناف تماماً لما
يطرح في النهج الديموقراطي الغربي.
وعلى أي حال، فإنّ أفضل ما قدّمه الغرب للعالم من نظريات بهذا الخصوص هي نظرية
(العقد الاجتماعي)، إذ يتمّ تعيين الدولة فيها عن طريق الانتخاب، ويتمّ تنسيق
القوانين والتشريعات على وفق آراء ورغبات الأكثريّة[10].
ولنا هنا على نظرية العقد الاجتماعي تعليقتان هما:
الأولى: إذا فرض الإيمان بأنّ السلطة لا تكون إلاّ عن طريق الانتخاب مع ضمان
الحرية، فكيف تفرض هذه الحكومة والسلطة على من لا ينتخب وهم الأقليّة؟
ويجيب بعضهم على ذلك، بأنّ الأقليّة ابتداءاً قد وافقت على المبدأ الأساس المقر من
قبل الأكثريّة وهو (تحكيم الأكثريّة) فينبغي إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.
ويرد على ذلك أنّ الأقليّة التي لم تشترك أصلاً فيما ذهبوا إليه من تحكيم
الأكثريّة، كيف تدخل في مثل هذا العقد الاجتماعي؟
ويجيب البعض على هذا، بأنّ الذي لا يؤمن بتحكيم الأكثريّة يصبح خارجاً عن وطنية هذا
الشعب والمجتمع، وغريباً عنه، فإمّا أن يخرج من البلاد وإمّا أن يرضخ للأمر الواقع
ويسكت. فإن سكت، كان معنى هذا قبوله بالتعاقد وينتهي حينئذ الإشكال بدليل أنّه لو
لم يوافق عليه لخرج من البلاد.
وهذا جواب غير تامّ، وذلك لأنّ حال المخالف متردد بين أمرين، بين الخروج وبين
البقاء مع السكوت والرضوخ، مع أنّ الأساس في نظرية (العقد الاجتماعي) هو (الحرية)
ولا حرية للمخالف هنا، إذ لا يسمح له باتخاذ موقف ثالث وهو البقاء في البلاد من دون
رضوخ لحكم الحاكم.
لقد حلّ هذا الإشكال في الإسلام بمبدأ (الانتخاب) في طول فترة عدم وجود ولي منصوص
عليه. إذ أنّ أمر (الانتخاب) صادر من الله تعالى، وأنّ الإسلام أراده وبهذا تخضع
الأقليّة كالأكثريّة لأمر الله تعالى.
الثانية: كيف نحكم القصّر والذين ولدوا بعد الانتخاب بالنظام الناشئ عن نظرية العقد
الاجتماعي ولا عقد اجتماعي على مثل هؤلاء بالخصوص؟
وقد انقسم الغربيون أمام هذا الإشكال إلى مدرستين:
1 ـ الديموقراطيّة الشعبيّة: ويقصدون بالشعب الناس المشتركون فعلاً بالانتخاب.
2 ـ ديموقراطيّة الأمة: ويقصدون بالأمة مفهوماً أوسع من الشعب ويشمل المشتركين
فعلاً بالانتخاب، والقصّر والذين لم يولدوا، ويستندون في ذلك إلى ضرورة ملاحظة
مصلحة الأمة، ويبرّرونه بعدة تبريرات للتخلّص من الإشكال السابق.
وعلى أي حال فإنّه يرد على المدرسة الأولى، المناقشة الأولى، إذ ما هو مبرّر إلزام
القصّر والذين لم يولدوا بعد، ولم يدخلوا في هذا العقد الاجتماعي؟! وعلى أي أساس
ألزمتم الشعب بقراراتكم وأغفلتم الأمة؟!
وأمّا المدرسة الأخرى فهي ملزمة بتقديم أساس مقنع يبرّر ما أعطي للحكومة المنتخبة
من حق الولاية على القصّر ومن لم يولد بعد. فمن الذي منح حق الولاية على هؤلاء،
وكيف تحققت النيابة عنهم، وكيف لو ولدوا بعد الانتخاب، وما هو موقعهم من العقد
الاجتماعي! أينتظرون إلى حين تحقق الفترة الانتخابية الثانية!؟
وتبقى مسألة ضمان إخلاص المنتخبين وكيفية التحقّق من ذلك، أمراً مشكلاً آخر
بالإضافة إلى ما تقدّم.
الانتخابات على وفق التصوّر الإسلامي وأدلّته
يقول بعض الإسلاميين، بأنّ الانتخاب الذي نؤمن به وولاية الأكثريّة مأخوذة من قبل
الله تعالى، ولا نأخذها من ولاية الناس أنفسهم لأنفسهم، أي أنّ الناس ليسوا أولياء
أنفسهم، وإنّما الولي الحقيقي هو الله تعالى، والله أمرنا بان ننتخب الولي والقائد
ونتبع رأي الأغلبيّة في ذلك.
إنّ مثل هذا الكلام بحاجة إلى دليل، وعمدة الأدلّة المذكورة هنا هي:
أولاً: يستدّل بأدلّة وجوب الوفاء بالعهود والعقود في قوله تعالى: {يَا أيُّها
الّذيَنَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ}[11]، {أَوفُواْ بِالعَهدِ إنَّ العَهدَ كانَ
مَسؤولاً}[12]، وفي قوله (صلى الله عليه وآله)
«المؤمنون عند شروطهم»[13].
وحينئذ يقال: بانّ الأمة حينما تنتخب ولياً فقد تمّ عقد بينها وبين ذلك الولي، ولو
خالفته فقد خالفت قول الله تعالى وقول رسوله (صلى الله عليه وآله) في وجوب الوفاء
بالعقود.
وهذا الدليل يؤتى به لدفع إشكال يرد على النظرية الغربية للانتخاب حين يتساءل عن
المصدر الذي أعطى البشرية الحق في انتخاب الولي عليها، وقد أجيب هنا على هذا
التساؤل بأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى هذا الحق للبشرية.
إنّ هذا الدليل يتمسّك به أهل التسنّن عادة لعدم إيمانهم (بالنص)، ولإثبات أنّ
الرأي بالانتخاب رأي موافق للكتاب والسنّة.
إنّ هذا الرأي ـ على العموم ـ ترد عليه الإشكالات السابقة التي وردت على النظرية
الغربية في الانتخاب فهي لم تعيّن وظيفة غير المشتركين في الانتخاب.
ثانياً: أدلّة الشورى من قبيل قوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِّنْ شَيء فَمَتاعُ
الحَياةِ الدُّنيا وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وأبقى للذينَ آمَنُوا وَعَلىْ رَبِّهِمْ
يَتَوَكلُون * والذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبائرَ الإثمِ وَالفَواحِشَ وإذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغفِرُون * وَالذينَ استَجابُوا لِرَبِّهم وَأقامُواْ الصّلاةَ
وأَمرُهُم شُورى بَينَهُم وَممَّا رَزقناهُمْ يُنفِقُون * وَالذينَ إذَا أَصابَهُمُ
البغيُ هُمْ يَنتَصِرُون}[14].
فقد ورد أنّ المؤمنين يحققون أمرهم فيما بينهم بالشورى، ويعني بأمرهم حكمهم وتنظيم
حياتهم.
وأمّا كيف يكون بالشورى، وهل يمكن اجتماعهم في مجلس واحد يتشاورون فيه؟ فإنّ من
الواضح أنّ خير طريق يحقق الشورى هو الأخذ برأيهم عن طريق الإدلاء بأصواتهم.
إنّ هذا المدّعى تؤيّده روايات كثيرة، ولكنّ الدليل الأهمّ في المقام هو الآية
المذكورة، وإن استنفدنا من مسألة كثرة النصوص (الاستفاضة) التي لا نحتاج معها إلى
دراسة سند الرواية. وبهذا يتبيّن أنّ رأي الأكثريّة نافذ وله حجيّة وولاية على
المجتمع.
ولكن ما أفهمه من الآية ـ والله أعلم بمراده ـ أنّها تشير إلى مبدأ الشورى بمعنى
آخر لا بمعنى (ولاية الشورى)، فإنّ لفظة (الشورى) ترد على معنيين:
الأول: الشورى بمعنى (ولاية الشورى)، أي ولاية الأكثريّة بمعنى ثبوت حق الطاعة لها
ونفوذ أمرها.
الثاني: الشورى بمعنى (الاستضاءة والاستفادة) من آراء الآخرين، لا بمعنى أنّ
الأكثريّة لها الولاية على المجتمع، بل من دون ولاية.
وعلى وفق هذا الفهم فإنّ الآخرين يعطون آراءهم لأحد سببين أو لكليهما:
ـ أمّا للاستنارة بآرائهم والاستفادة منها ولا تشمل هذه الشورى زمن حضور
المعصوم(عليه السلام).
ـ أو لإشراك الناس بالرأي مما يجعلهم ينشدّون إلى ما أشركوا فيه ويتحرّكون لتحقيقه
بصورة أفضل.
ومن المحتمل، بل لعل الظاهر من هذه الآية المباركة، أنّها تشير إلى المعنى الثاني
لا إلى المعنى الأول، وإلى هذا تشير الآية المباركة: {فَبِما رَحمَة مِنَ اللهِ
لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَليظَ القلبِ لانفضُّوا مِنْ حولك فاعفُ عنهُم
وَاستَغفِرْ لَهُم وَشاوِرهُم فِي الأمرِ فَإذا عَزَمتَ فَتَوكّل على اللهِ إنَّ
اللهَ يُحِبُّ المُتَوكِّلين}[15].
فهنا لا يصح أن يكون رأي أكثريّة الناس حجة على الرسول (صلى الله عليه وآله)، لأنّ
الرسول (صلى الله عليه وآله) كان متصلاً بمنبع الوحي وكان يأخذ التعليمات والأوامر
من الله تعالى مباشرة، فليست الشورى هنا بمعنى ولاية الشورى بل المراد منها المعنى
الثاني السابق.
ثمّ إنّ الآية صريحة في الخلاف في قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكّل} فالمعنى ـ والله
أعلم بمراده ـ أنّ الرأي رأيك ـ يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعزم عزمك لا
عزم الناس في نهاية المطاف. وستكون فائدة الشورى هنا، إشراك الناس في الأمر لكي
ينشدّوا إليه ويتحرّكوا إلى تحقيقه وبصورة أفضل.
أمّا المعنى الأول، فإن صحّ احتماله، فقد يصحّ في الآية الأولى {وأمرهم شورى
بينهم}.
ومع ذلك فإنّه لو صحّ احتماله فيها، فإنّه يعارض بعدّة أمور اقتصر على ذكر أمرين
منها:
أولاً: إنّ هذا المعنى لا يناسب عصر صدور الآية المباركة فإنّه من الواضح أن لو كان
رأي الأكثريّة هو النافذ وآمنا بولاية الشورى فإنّما يكون هذا في عصر غياب المعصوم
(عليه السلام)، وعلى الأقلّ بعد غياب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا في
زمنه.
ففي زمن الرسول لا يمكن أن يكون رأي الأكثريّة هو النافذ ولهم الولاية، لتعيّن
الولاية وتجسّدها في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله). كما دلّ عليه قوله سبحانه
وتعالى: {النبيُّ أولى بِالمُؤمِنينَ مِنْ أنفُسِهم}[16]، وقوله تعالى: {مَا كانَ
لِمُؤمِن وَلا مُؤمِنَة إذَا قَضى اللهُ وَرَسولُهُ أمراً أنْ يَكون لَهُمُ
الخيَرَةَ مِنْ أَمرِهم}[17].
والآية يفترض بها أن تنطبق على عصر صدورها كما تنطبق على العصور الأخرى، وبهذا
يتبيّن عدم إرادتها لذلك المعنى للشورى وأنّها لا تعني (ولاية الأكثريّة).
ثانياً: والأمر الآخر الذي يعارض حمل الآية على معنى (ولاية الشورى) هو أنّه لو كان
المراد منها (ولاية الشورى) لكان على المعصومين (عليهم السلام) أن يشرحوا ويبيّنوا
أسس ومبادىء ذلك، لأنّ الشورى لا يمكن أن تكون بلا أسس وضوابط، وغاية ما ورد في
الكتاب والسنّة هو كلمة (الشورى) وهذا الإجمال يتناسب مع إرادة المعنى الثاني.
وهناك احتمال يختصّ بزمن ما بعد حكم الإمام الحجة (عج)، يورده من يؤمن بفكرة
(المهديين) ومفاده أنّ الأمة آنذاك تعيّن الولي بالانتخاب بعد أن يبيّن لهم الإمام
شروط الانتخاب ومبادئه، ويقابله احتمال آخر يورده من يؤمن برجعة الأئمة (عليهم
السلام) وهو أنّ الأئمة سوف يحكمون العالم واحداً بعد الآخر، وبالإمكان الجمع بين
الاحتمالين إذ لا تعارض بينهما.
ومع هذا فإنّ هذه الولاية للشورى لا تكون في زمن ما بعد الحجة (عج) على احتمال فكرة
(المهديين) إلاّ بعد أن يعطي الإمام أسس الانتخاب ونظمه. وهل الأساس في الترجيح هو
الأخذ برأي الأكثريّة أم الأساس هو الأخذ برأي أهل الحل والعقد؟
إنّ مثل هذا الجواب لمثل هذا التساؤل لا يوجد بين أيدينا اليوم، وإن أجاب عليه بعض
علماء أهل التسنّن بقولهم: إنّ الشريعة الإسلاميّة إنّما لم تبيّن ذلك، لكي يبقى
مبدأ الشورى مبدأً مرناً يطبّق في كل زمان وعلى فق مصلحة ذلك الزمان والمكان[18].
إلاّ أنّ هذا الجواب ـ برأينا ـ لا يتمّ، لأنّنا نرى أنّ هناك فرقاً بين الإهمال
والمرونة.
إنّ فكرة المرونة صحيحة بحدّ ذاتها، وأنّ الإسلام مشتمل على مبادئ مرنة ـ وهذه
فضيلة له ـ ولكن المرونة لا تعني الإجمال والإهمال، بل تعني الأمر المحدّد بكامل
الدقة إلاّ أنّه أمر مرن عند التطبيق.
ومثال ذلك قاعدة (لا حرج) ومفهوم (الغنى والفقر) فالأمر يكون محرجاً في زمن دون زمن
ولشخص دون آخر، وقد يكون مستوىً معيّن من المعيشة يعد فقراً في زمن دون زمن ولشخص
دون آخر.. وهكذا...
ومع هذا فمفهوم (الحرج) و (الغنى) و (الفقر) أمور محددة وبدقة، وغاية الأمر، أنّ
مصاديق وموارد انطباقها مرنة ومتغيّرة.
أمّا مبدأ الشورى فليس هو كذلك، إذ لم يكن أمر (تجميع الآراء) أمراً واضحاً وقد
اختلف في تطبيقه من زمن لآخر.
وعلى سبيل المثال، فإنّ السؤال القائل بأنّ المقياس في الشورى، هل هو الأخذ برأي
أكثريّة الناس أم هو الأخذ برأي أهل الحل والعقد، سؤال لا زالت الإجابة غير محدّدة
بشأنه[19]، ولذلك بقي مفهوم الشورى يكتنفه الكثير من الغموض وعدم الوضوح.
وأمّا روايات الشورى التي قد تكون بالغة حدّ الاستفاضة فهي واضحة كل الوضوح في
المعنى الثاني من معنيي الشورى وهي الاستضاءة بأفكار الآخرين وآرائهم دون ولاية
الشورى.
أولاً: ما ذكره البعض من مسألة التمسّك بحكم العقل حيث يقال: بأنّنا نرى أنّ
العقلاء يرون وحسب طبعهم وفطرتهم أنّ أفضل الحكومات هي الحكومات المنتخبة. حينما
تكون على الأمة إدارة المجتمع، فإنّ خير منهج تنتهجه لتحقيق ذلك هو العمل
بالانتخاب. ويرى العقلاء أنّ حكم الانتخاب يسري حتّى على المخالف لأنّ المنتخب
إنّما انتخب بالأكثريّة. فالارتكاز العقلائي يرى أنّ الجميع محكومون بهذا الحكم.
ويقال إنّ هذا الحكم وهذا الفهم عينه كان ثابتاً في زمن المعصومين (عليهم
السلام)غاية ما في الأمر أنّنا ندّعي أنّه مع ورود النصّ يتقدّم النصّ على
الانتخاب. وأمّا في غياب النصّ، فإنّ الدور يصل إلى الأخذ بمبدأ الشورى والانتخاب
(والذي هو مبدأ عقلي ارتكازي) في تعيين ولي الأمر.
وبهذا فلو لم نستطع إثبات مبدأ ولاية الفقيه عن طريق النصوص والروايات، فإنّ
المشكلة تحلّ عن طريق الانتخاب فتنتخب الأمة من تراه من (الفقهاء).
ولكن هذا الدليل على دور الانتخاب في تعيين ولي الأمر يكتنفه نحو غموض في تعيين قصد
القائل من أنّ العقل يرى أنّ الانتخاب ورأي الأكثريّة حجة وأنّ حكمه نافذ على الكل.
فهل يقصد القائل بذلك حكم العقل، أو يقصد العادة والارتكاز والسيرة التي جرى عليها
العقلاء؟
فإن قصد الأول، فمن الواضح أنّه ليس كذلك، لأنّ العقل لا يأبى عن تعيين ولي الأمر
بطريق غير الانتخاب ولو كان حكماً عقلياً لامتنع ذلك. فمن الممكن أن يقال مثلاً:
بأنّ الشريعة لم تهمل إدارة مصالح الأمة في الأمور الحسبيّة وأوكلتها إلى الفقهاء
وإلاّ فعدول المؤمنين وإلاّ فغيرهم، فمن باب أولى لم تترك إدارة الدولة ولم تهملها.
فمن الممكن افتراض أنّ على القدر المتيقّن من الأمة وهم الفقهاء، القيام بعبء
الولاية لأنّهم الأعلم بمسائل الشريعة ولو أصبح المجتمع ولا فقيه فيه فأيّ إنسان
عاقل لو نهض بالأمر فمن حقه أن يقود الأمة حتّى ولو لم ينتخب. وهذا الأمر بحكم
العقل ممكن ولا تناقض فيه.
وإن قصد الثاني أعني (الارتكاز العقلائي) لأنّ تباني العقلاء قام على أنّ الولاية
تتم لمن ينتخب انتخاباً، كفطرة وعادة وسيرة سار عليها العقلاء وليس حكماً عقلياً
بذلك المعنى الذي يمتنع خلافه. ويقال حينئذ، أنّ هذا الأمر ما دام مرتكزاً
عقلائياً، فإننا وكعقلاء نسير عليه مالم يرد نص على خلاف ذلك.
ومع ذلك لابدّ من إثبات موافقة الشريعة الإسلاميّة على ذلك لأنّه كان مرتكزاً
عقلائياً لا حكماً عقلياً. وفي مثل هذا المقام، يقال عادة، بأنّ السجية والعادة
تعتبر ممضاة شرعاً إذا لم يرد من المعصوم ما يدل على بطلانها.
ومثال ذلك (حجية الظهور)، فإنّ ظاهر اللفظ حجة عند العقلاء، أو (حجيّة إقرار
المدّعي)، وهذه القاعدة العقلائيّة مقبولة لدى الأئمة، لأنّ الأئمة لم يرفضوها، فهل
الانتخاب أمر عقلائيّ مقبول لدى الأئمة (عليهم السلام)؟ وهل كان ثابتاً في زمنهم
(عليهم السلام) وهل قبلوا (عليهم السلام) به؟
نحن لا نستطيع إثبات ذلك، ما دام الأئمة(عليهم السلام) كانوا يؤمنون ويقولون بالنصّ
لأنفسهم (عليهم السلام)، ولولا ذلك لقلنا بقبولهم بهذه السيرة لو ثبت تحقّقها
آنذاك، ولاستفدنا من سكوتهم (عليهم السلام) عنها، الرخصة فيها. لكننا ـ كشيعة ـ
نؤمن بأنّ الإمامة والولاية آنذاك لم تكن مستمدة عن طريق الانتخاب بل عن طريق
النصّ. فكيف نستطيع إثبات أن سكوتهم عن ذلك كان رخصة للعمل بالانتخاب، مع أنّ
سكوتاً من هذا القبيل لو تمّ فإنّما هو إمضاء تعليقي وتقديري، أي أنّ الشريعة توافق
على ذلك على تقدير عدم وجود النصّ.
إنّ الموافقة التقديريّة لا يمكن إثباتها بالسكوت وإنّما يمكن إثبات الموافقة
العمليّة الفعليّة به. ولا يثبت حينئذ وبهذا المقدار من البيان، المدّعى المطلوب.
ثانياً: ومن جملة أدلّة إثبات صحّة الانتخاب ومشروعيّته، الروايات التي منعت عن
التخلّف عن (جماعة المسلمين).
فلو أنّ أحداً انتخب من قبل جماعة المسلمين لأصبح مصب رأي الجماعة وحرمت مخالفته،
ولشملت روايات منع مخالفة جماعة المسلمين من يخالفه.
فعن الصادق (عليه السلام): «من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربق الإسلام من
عنقه...»[20].
وعنه (عليه السلام): «من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله ـ عز
وجل ـ أجذم»[21].
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): قال: «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنّة،
وفراق الجماعة»[22].
وعن موسى بن جعفر (عليه السلام): «ثلاث موبقات نكت الصفقة، وترك السنّة، وفراق
الجماعة...»[23].
إنّ هذه الروايات وأمثالها تدلّ على مشروعية الانتخاب وحجيته، لنهي الروايات عن
مخالفة الجماعة، ولأنّ ما يعبّر عن رأي الجماعة هو الانتخاب. فلو انتخبوا أحداً لما
حلّ مخالفتهم.
إنّ هذا الدليل كالدليل السابق، لأنّه يستند إلى قاعدة تقديريّة، فيقول لو انعدم
النصّ فإنّ الأمر يصل إلى الجماعة، والانتخاب حق مع عدم وجود النصّ. وهذا المعنى لا
يفهم من هذه الروايات، بل تدل هذه الروايات على ما يقوله أهل التسنّن بشأن
الانتخاب، إذ يقولون بأنّه يجب أخذ رأي الجماعة (الانتخاب).
إنّ هذه الروايات كانت ناظرة إلى الواقع الخارجي آنذاك، وداعية إلى طاعة الحاكم
الأموي والعباسي وليست ناظرة إلى واقع مقدّر، بمعنى أنّه مع عدم وجود النصّ يجب
العمل بالانتخاب. إذن فهذه الروايات إمّا موضوعة أو مؤوّلة أو محمولة على التقيّة.
وقد وردت روايات أخرى بيّنت أنّ المقصود بالجماعة هم جماعة الحق وإن قلّوا، فيكون
من أمرنا بعدم مخالفتهم ـ على فرض عدم حمل الروايات على التقيّة أو الأمر بالتقيّة
ـ هم أهل الحق وإن كانوا قليلين، وليس أكثريّة الناس ليدل ذلك على حجية الانتخاب.
فعن موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: قال (صلى الله عليه وآله) «من فارق جماعة
المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه، قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟ قال
(صلى الله عليه وآله): جماعة أهل الحق وإن قلّوا»[24].
وعن الصادق (عليه السلام): سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جماعة أمته، فقال
(صلى الله عليه وآله): «جماعة أمتي أهل الحق وإن قلّوا»[25].
وعن عبد الله بن يحيى العلوي رفعه قال، قيل يا رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما
جماعة أمتك؟ قال: «من كان على الحق وإن كانوا عشرة»[26].
وفي مرفوعة ابن حميد قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: اخبرني عن
السنّة والبدعة، وعن الجماعة وعن الفرقة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«السنّة ما سنَّ رسول الله (عليه السلام)، والبدعة ما اُحدِث من بعده، والجماعة أهل
الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»[27].
إنّ التحقيق في الروايات التي دعت إلى عدم مخالفة الجماعة يستدعي حملها على أحد
أمور هي:
1 ـ إمّا أنّها روايات مجعولة.
2 ـ وإمّا أنّها روايات صادرة عن تقيّة.
3 ـ أو أنّها من روايات الأمر بالتقيّة بحيث توجب عدم التظاهر بمخالفتهم.
4 ـ أو أنّها روايات مؤوّلة بروايات غيرها كما اتضح.
وعلى كل حال فإنّ هذه الروايات لا يمكن جعلها دليلاً على ما يقال بشأن الانتخاب من
أنّه في طول النصّ، إذ أنّها لا تثبت مقولة (لولا النصّ لوجب الانتخاب) لأنّها تقول
عملاً (اتبعوا الجماعة). وهذا أمر حي وواقعي فعلي خارجي بأمر متحّقق آنذاك.
ثالثاً: آيات الاستخلاف الواردة في قوله تعالى: {هُوَ الّذي جَعلكُم خَلائفَ في
الأرض}[28]، {وإذْ قالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إنّي جاعِلٌ في الأرض خَليفةً}[29].
فبناءً على التفسير القائل بأنّ البشرية كلها لا خصوص آدم (عليه السلام) هي خليفة
الله على وجه الأرض، يكون لزاماً على البشرية الاشتراك في إدارة الأرض ولا يتعقّل
ذلك إلاّ عن طريق الانتخاب فتساق الآيات حينئذ مساق أدلّة ثبوت الانتخاب.
وفي قوله تعالى: {إنّا عَرضنَا الأمانَةَ عَلى السّمواتِ وَالأرض وَالجِبالِ
فَأبينَ أنْ يَحْمِلْنَها وَأشفَقنَ مِنها وَحَملَها الإنسانُ إنَه كانَ ظَلوماً
جهولاً}[30].
وبناءً على تفسير الأمانة بالولاية والإمامة، يكون الإنسان أمام مسؤولية تحمّل
الولاية والإمارة وتحقيقها عن طريق الانتخاب.
نعم، ما دامت الولاية ثابتة بالنصّ لا يصل الدور إلى الانتخاب. وحينما لا يكون
(النصّ) يصل الدور إلى (الانتخاب).
والجواب: أنّ الذي دعي في القرآن لحمل الأمانة، والذي جعل خليفة، هو النوع الإنساني
ككل لا كل فرد فرد، وإلاّ لكان كل واحد منا إماماً، وبديهي أنّ هذا ليس مقصوداً من
الآيات المباركات.
إنّ البشرية كلها خليفة لله على وجه الأرض، وكلهم يعملون بما يريده الله لأنّه
استخلفهم كي ينفّذوا إرادته على وجه الأرض، فكل يعمل بالجزء الذي هو وظيفته فأحدهم
هو الأمير والآخر هو الجندي والثالث هو العامل وهكذا، وهذا هو معنى تطبيق خلافة
الله على الأرض.
ومن الواضح أنّ من أبرز مهام الخلافة في الأرض هي الإمرة والولاية والخلافة،
فالبشرية كبشرية تحقق على وجه الأرض الإمرة والولاية. ولكن كيف تحقق ذلك؟ هل عن
طريق الانتخاب؟ أو عن طريق النصّ؟ أو عن طريق تنصيب من توفرت فيه شروط منصوص عليها
ومحددة سلفاً؟
كل هذه بحوث خارجة عن نطاق الآية المباركة، لأنّ الآية المباركة وإن كانت قد أعطت
الخلافة للبشرية كلها ولكنها لم تقل كيف تترجم عملياً هذه الخلافة.
نعم، لو فسّرنا الخلافة ـ في الآية المباركة ـ بأنّ المقصود بها حق الإدلاء بالرأي
والإسهام في الإمرة حينئذ يتمّ ما قيل من أنّ الآية تدل على أنّ الولاية تتم
بالانتخاب.
ولكن هذا مجرد احتمال وليس هو الاحتمال المشخّص الحتمي بل إنّ الاحتمال الآخر
المعروض هو الاحتمال الأرجح.
رابعاً: آيات وروايات البيعة: البيعات التي وقعت فعلاً في التاريخ الإسلامي ـ
باعتبار أنّ الناس قد أمروا بالبيعة ـ بيعة الشجرة وبيعة النساء وغيرهما للرسول
(صلى الله عليه وآله)، وكذلك بيعة الناس للإمام علي والحسن ومسلم نيابة عن الإمام
الحسين (عليه السلام) والرضا (صلى الله عليه وآله)، وقيل: هناك بيعة سوف تقع للإمام
المهدي (عج) زمن ظهوره.
ويفترض أن تكون البيعة نوع انتخاب، فتكون البيعة على هذا قد أثّرت في مقام تشخيص
ولي الأمر.
أدلّة البيعة
أدلّة البيعة على أنواع:
أولاً: ما هو واضح في مسألة الشورى والانتخاب والولاية ككتاب الإمام علي (عليه
السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر
وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يَرُدَّ،
وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله
رضى، فإن خرج عن أمرهم خارجٌ بطعن أو بدعة ردُّوهُ إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه
على اتِّباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولّى»[31].
«ولعمري، لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك سبيل،
ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن
يختار...»[32].
ثانياً: آيات البيعة. هناك نمط آخر دلّ على البيعة عبّرت عنه الآيات المباركات
ولكنها لم تشر إلى تلك الإشارات التي وردت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
فهي لم تحدد، في أنّ البيعة، هل كانت لانعقاد الولاية أم لأجل أمر آخر؟ وهل البيعة
هي للشورى، أم هي التي تخلق الولاية؟ كل ذلك غير واضح ولا مستفاد من الآيات
المباركات، إلاّ أنّ أصل البيعة وارد فيها صريحاً، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
1 ـ {يا أيُّها النَبيُّ إذَا جاءَكَ المُؤمِناتُ يُبايعنَكَ على أنْ لا يُشرِكنَ
بِاللهِ شَيئاً وَلا يَسرِقنَ وَلا يَزنينَ وَلا يَقتُلنَ أولادَهنَّ وَلا يأتينَ
ببُهتان يفتَرينهُ بينَ أيديهنَّ وَأرجلهنَّ وَلا يَعصينَكَ في معروف فبايعهُنَّ
وَاستغفرْ لهنَّ اللهَ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ}[33]. وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة
النساء.
2 ـ {إنَّ الذينَ يُبايعُونَكَ إنَّما يُبايعونَ اللهَ، يدُ اللهِ فَوقَ أيديهم،
فمن نكث فإنَّما يَنكُثُ عَلى نَفسِهِ وَمَنْ أوفى بِما عاهَدَ عَليهُ اللهَ،
فَسيؤتيهِ أجراً عَظيماً}[34].
3 ـ {لَقدْ رَضيَ اللهُ عَنِ المُؤمنينَ إذْ يُبايعُونَكَ تَحتَ الشجرةِ فَعلِمَ
مَا في قُلوبِهم فَأنزلَ اللهُ السّكينَةَ عَليهِم وَأثابَهَم فَتحاً قريباً}[35].
وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان أو الشجرة.
ثالثاً: البيعات الواقعة في التاريخ. فقد حدثت بيعات متعدّدة على طول التاريخ
الإسلامي مثل:
1 ـ بيعة الناس للرسول (صلى الله عليه وآله).
2 ـ بيعة الناس لعلي (عليه السلام) في الغدير.
3 ـ بيعة الناس لعلي (عليه السلام) بعد مقتل عثمان.
4 ـ بيعتهم للحسن (عليه السلام).
5 ـ بيعة الناس لمسلم (عليه السلام) نيابة عن الإمام الحسين (عليه السلام).
6 ـ بيعة الناس للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد.
7 ـ ما ورد في الروايات من أنّه ستقع بيعة الناس للإمام المهدي (عليه السلام) في
زمن الظهور.
8 ـ بيعة الناس لخلفاء بني أمية.
9 ـ بيعة الناس لخلفاء بني العباس. وإن كان مورد التطبيق في بني أمية وبني العباس
مورداً خاطئاً. ولكن هذه العملية تبرز أنّ أصل فكرة البيعة فكرة متبلورة في ذهن
الأمة منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى زمن هؤلاء الخلفاء.
البيعة ومصدر الولاية
إننا نطرح على فكرة البيعة الواردة في الآيات والروايات ثلاثة احتمالات هي:
الأول: أنّ البيعة شرط فعليّة الولاية ووجوب الطاعة.
فطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام) الفعليّة تجب بعد البيعة لا قبلها، وفرق
المعصوم عن غيره هو أنّ المعصوم (عليه السلام) تجب بيعته هو لا غيره، أمّا في غير
عصر ظهوره فالناس لهم الخيار في من يبايعونه. وإنّ البيعة تحدد مقدار الطاعة بمقدار
مضمونها.
وإنّ هذه الفكرة تحلّ مشكلة تعدّد الفقهاء مع الإيمان بولاية الفقيه، فمن تبايعه
الأمة فهو الولي الواجب الطاعة دون غيره.إنّ هذه الفكرة وفي هذا المقدار، برأينا
غير صحيحة؛ لأنّها تقول: بأنّ ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل البيعة ليست
ولاية فعليّة، وأنّ فعليّتها هي فرع البيعة.
وهذا خلاف الآية المباركة: {مَا كانَ لمُؤمِن وَلا مُؤمِنة إذَا قَضى اللهُ
وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يكونَ لَهُمْ الخيَرةَ مِنْ أمرِهِم}[36]، والآية:
{النَّبيُّ أولى بِالمؤمنينَ مِنْ أنفُسِهِم}[37]. فالولاية ثابتة مسبقاً من قبل
الله وبقطع النظر عن البيعة، وأنّ البيعة جاءت كفرع للولاية.
فبعد أن كان المعصوم (عليه السلام) وليّاً، وكانت طاعته واجبة بايعه الناس، فالبيعة
لم توجب الولاية، بل العكس صحيح والرسول (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير قال:
«.. ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه»[38].
فقد ثبّت الرسول (صلى الله عليه وآله) ولاية علي (عليه السلام)، ثم طلب البيعة له،
فهي إذن، ولاية قبل البيعة لا بعدها.
الثاني: أنّ البيعة لا علاقة لها بالولاية، وإنّما البيعة مجرد عقد يجب تنفيذه،
وأنّ أحد طرفي العقد لابدّ وأن يكون وليّاً قبل هذا العقد.
فهي تؤكّد الولاية، والعاصي لأوامر الولي بعد ذلك مذنب ذنبين: الأول لأنّه عصى
الولي، والثاني لأنّه نكث العهد.
وبهذا يندفع الإشكال الوارد على الوجه الأول، لأنّ النبي كان وليّاً قبل البيعة.
والحقيقة أنّ هذا التفسير هو خلاف ظاهر الحال في أغلب البيعات التي وقعت، فإنّ
المسلمين الذين بايعوا علياً (عليه السلام) بعد مقتل عثمان لم يكن أغلبهم يؤمن
بإمامة علي (عليه السلام) منذ يوم الغدير، فأكّد هذه الولاية يوم بيعته له بعد مقتل
عثمان. بل كانت بيعتهم له (عليه السلام) من سنخ بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان. وكذلك
الناس الذين بايعوا الحسن والحسين والرضا(عليهم السلام) فإنّ بيعتهم كانت من سنخ
بيعتهم لغير هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) وإن اختلفت في المصاديق. فتفسير البيعة،
بأنّها مجرّد تأكيد للولاية، يستدعي كون الولاية ثابتة مسبقاً في أذهان الناس ولا
معنى لها إن لم تكن كذلك، وهذا ما لم يكن حاصلاً فعلاً.
الثالث: أن يقال بوجود مصدرين للولاية، وقد يجتمعان على شخص واحد، وهما:
1 ـ النصّ من قبل الله أو النبي على ولي الأمر.
2 ـ الانتخاب أو الشورى أو البيعة.
وقد يجتمعان في شخص واحد، فيقال في مقام أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) البيعة له
(صلى الله عليه وآله) أو لعلي (عليه السلام)، بأنهما قد اختارا اجتماع سببي الولاية
فيهما، النصّ والانتخاب.
وما يذكر لرد فكرة كون البيعة تخلق الولاية أنّ هناك نصوصاً وردت للردع عن مثل هذه
البيعة وإبطالها ودفع فكرة أنّ البيعة تخلق الولاية.
وقد جاء الردّ في الروايات الكثيرة والمتظافرة والمتوافرة الدالّة على اشتراط
(العصمة والنصّ) بالنسبة للإمامة. وهذا ردع عن اعتبار البيعة خالقة للولاية أو
الإمامة.
عن الصادق (عليه السلام) قال: «عشر خصال من صفات الإمام: العصمة والنصوص...»[39].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إنّما الطاعة لله ـ عز وجل ـ ولرسوله ولولاة
الأمر، وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية»[40].
فاشتراط العصمة في الإمام ردع مستمر عن فكرة البيعة لأنّها لو تحقّقت ـ أي الإمامة
ـ بالبيعة لما اشترطت الروايات العصمة والنصّ، لأنّ المتبايعين قد يبايعون غير
المعصوم لأنّهم لا يشخّصون المعصوم من غيره.
نعم، سكوت المعصوم (عليه السلام) عن البيعة وعدم ردعه عنها مع كونه هو الولي وقبل
انعقادها، قد يفسّر على أنّه كان يرى بأنّ مثل هذه البيعة طريق ووسيلة لكي يصل هو
إلى الحكم الفعلي وتتحقّق بذلك حكومة المعصوم (عليه السلام).
وعليه فالردع كان بلغة شرط العصمة وشرط النصّ بالنسبة للإمامة.
وهناك ردّان على هذا الجواب:
الأول: قد يقال بأنّ (الإمامة) التي اشترط فيها العصمة والنصّ هي غير (الإمامة) محل
البحث.
فالولاية: هي أن يكون الشخص وليّاً لأمور المسلمين وحاكماً عليهم.
وهذا أعمّ من مصطلح الإمامة عند الشيعة، فقد يكون الفقيه الجامع للشرائط والياً وهو
ليس إماماً بالمصطلح الشيعي الخاصّ الذي يعتبر فيه أنّ الإمام هو السبب المتصل بين
الأرض والسماء. فهذه الروايات إنّما هي بشأن الإمامة بمعناها المصطلح عند الشيعة.
وأمّا الولاية والحكم فيكفي فيهما الفقاهة والكفاءة والعدالة... وأمّا العصمة
والنصّ فلا. فكل من بويع على وفق الشروط المثبّتة في محلها يصبح والياً مع انحصار
الولاية بالمعصوم (عليه السلام) في زمن حضوره. إلاّ أنّ هذا الجواب قد لا يُرتضى من
قبل البعض الذي يقول بأنّ الإمامة هي الولاية عينها. أمّا المعنى الجديد للإمامة
والذي يعتبر درجة فوق الولاية ومنصباً إلهياً خاصاً فهو معنى حديث تركّز بالتدريج
في أذهان الشيعة. والمعنى اللغوي للإمامة هو الولاية والقيادة ولا معنى لحمل
الروايات على المعنى الاصطلاحي، بل لابدّ من حملها على المعنى اللغوي.
فحينما تقول الرواية أنّ العصمة شرط في الإمامة، فهي شرط في الحاكم والوالي وولي
الأمر.
الثاني: هو الرد الأركز والأتقن، يقال فيه: مع تسليمنا بأنّ الإمامة قد استعملت
بمعناها الاصطلاحي الخاصّ، كما يظهر في لحن كثير من الروايات، وأنّها الإمامة التي
اشتُرطت فيها العصمة والنصّ، ولكنّنا نستفيد من هذه الروايات في بحث (الولي) أيضاً.
وذلك لأنّ هذه الروايات لم ترد لتحلّق في عالم المثال والمفاهيم، ولم تبحث الإمامة
بحثاً تجريدياً كبحث علم الكلام لها، وإنّما وردت وهي تنظر إلى الواقع الخارجي
المعاش آنذاك. فهي وردت في شأن الطعن بخلفاء بني أمية وبني العباس، ورادعة عمّا هو
ثابت في الحال وعن البيعة الواقعة آنذاك، وتثبت أنّ الطاعة إنّما تكون على أساس
النصّ والعصمة المتوفّرة في الإمام المعصوم آنذاك لا إلى هؤلاء الأمراء الطغاة، فهي
إنّما تردع عن المصاديق الذين بويعوا وقتئذ، ولا تردع عن فكرة البيعة.
وهناك فرق بين إبطال (فكرة البيعة) المبحوث عنها، وبين إبطال (متعلّق البيعة). فمن
بويع آنذاك وجاء لحن الروايات داعياً إلى عدم طاعته، لم يكن واجداً لشرائط البيعة.
فردعت الرواية عن طرف البيعة، ولم تردع عن أصل مبدأ البيعة وأنّها تخلق الولاية.
ولنتحدث وبصورة أكثر تفصيلاً عن هذين الشرطين، شرط (العصمة والنصّ) الواردين في
الروايات وأثرهما في إثبات أو نفي فكرة البيعة.
العصمة والبيعة
لابدّ من التفريق بين إثبات شرط من الشروط في البيعة، وبين إبطال أصل فكرة البيعة
من الأساس. وفي الافتراض الثاني، سوف لا يكون لنا ولي تتم له الولاية منذ زمان
الغيبة الكبرى وإلى اليوم.
أمّا في الافتراض الأول، فإننا نقول بأنّ المبايع يجب أن يكون معصوماً. والأمران
يختلفان في نقطتين أساسيّتين:
الأولى: لو افترضنا ـ مجرد افتراض ـ بأنّ المعصومين قد تعدّدوا في زمان ما، ولم يكن
هناك نصّ يعيّن أحدهم للإمامة، فإنّ المسلمين يكونون مخيّرين بينهم ولو بايعوا
أحدهم لكان هو الإمام، ولمّا بطلت فكرة البيعة هنا، فالعصمة شرط لمن يبايع لا كرد
لأصل فكرة البيعة.
الثانية: لو تعذّر هذا الشرط، وهو شرط العصمة في الإمام، لسقط؛ لأنّ الشرط حين
تعذّره يسقط، فالوضوء كشرط لبعض الأفعال مثلاً إذا تعذّر يسقط ويتحوّل إلى التيمّم
مثلاً، ولا تسقط الأفعال المشروطة بالوضوء. وكذلك شرط العصمة في الولي زمن غيبة
المعصوم شرط لا يمكن تحقّقه فيسقط للعذر والعجز، وهنا يظهر أثر البيعة في تعيين ولي
الأمر، إذ لم تبطل أدلّة العصمة أصل مبدأ البيعة، بل خلقت شرطاً في متعلّق الولاية.
غاية ما في الأمر أنّ المفترض بالناس أن يبايعوا عندئذ أفضل الموجودين، وبذلك تتمّ
له الولاية.
النصّ والبيعة
وقد يقال: إنّ العصمة ليست أمراً حسيّاً يدركه الناس، وإنّما هي أمر لا يعلمه إلاّ
الله، فلابدّ من النصّ عليها من قبله سبحانه وتعالى لكي لا يخطأ الناس في اتّباع
غيره لعدم معرفتهم به.
وعلى هذا، ففي الزمن الذي يسقط فيه شرط العصمة بالعجز لغيبة الإمام المعصوم (عليه
السلام)، فإنّ شرط النصّ يزول قهراً لملازمته لشرط العصمة، إذ إنّه لم يكن شرطاً
بحد ذاته.
ومسألة أنّ النصّ إنّما جعل شرطاً غير مستقل، بل كدلالة على باقي الشروط، مسألة
مستفادة من بعض الروايات:
1 ـ معاني الأخبار، بسنده عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «الإمام منّا لا يكون
إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها، فلذلك لا يكون إلاّ
منصوصاً»[41].
2 ـ الاحتجاج، عن سعد بن عبد الله القمي، قال: سألت القائم (عليه السلام) في حجر
أبيه، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم،
قال: «مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح، قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا
يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة...»[42].
فالإمام القائم (عج) لا يقول لسعد بأنّ هذا باطل على أساس (مناقشة كبرويّة)، وأنّ
البيعة لا تخلق الولاية، وإنّما يناقش (مناقشة مصداقيّة) فيقول: لابدّ من النصّ
لأنّ الأمة لا تستطيع تمييز الصالح من المفسد والمعصوم من غيره وقت وجوده ظاهراً،
وأمـّا في غير هذا الزمان، فلا حاجة لنا فيه إلى النصّ، فإنّ فكرة البيعة تعود
لحالها ولن تردع مثل هذه الروايات وقتئذ عنها لأنّها قالت إنّ البيعة لا تحصّن
الأمة عن الخطأ في الاختيار ولم تردع عن أصل فكرة البيعة ومن الأساس.
فالروايات هنا في مقام تحديد شرائط الولاية بالمعنى العام. فهي تردع عن البيعة وذلك
بواسطة تعيين شرط العصمة فلا يُبايع غير المعصوم حينئذ. ولكن إذا سقط الشرط بالعجز،
كما هو في زمن غيبة المعصوم (عليه السلام)، فإنّ فكرة البيعة تبقى على أصلها، لأنّ
الروايات لم تردع عنها.
العدالة والبيعة
نعم، سقوط شرط العصمة لا يعني التنزّل وانتخاب أي أحد وبأي مستوىً كان، وهذا الأمر
يمكننا تحصيله أيضاً من لحن الروايات بصورة عامّة، إذ يستكشف منها أنّها تريد القول
بأنّ وليّ المسلمين يجب أن يكون أفضلهم، وفي وقت المعصوم (عليه السلام) يتعيّن هو،
إذ هو الأفضل، وفي وقت تعذّر وجوده ظاهراً، يتعيّن الأفضل فالأفضل، ممن يكون
مؤهّلاً للولاية. ولعل هذا هو السبب في أنّ الروايات الواردة بشأن الإمامة والولاية
ليست كلها تنصّ على شرط العصمة في الوالي والإمام، بل أغلبها، وأنّ القسم الآخر
ينصّ على شرط العدالة لا العصمة.
فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تصلح
الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه،
وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم»[43].
ولئن كانت العدالة شرطاً فيمن يُقلَّد «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه،
حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه..»[44] مع
كون التقليد شعبة من شعب الولاية وأدناها، فهي شرط ومن باب أولى فيمن تُسلّم إليه
أعلى مراتب الولاية ويتحكّم في أموال ورقاب المسلمين.
وبمناسبة الحديث عن (العصمة) و (العدالة) نشير وباختصار إلى الفارق بينهما بأحد
نحوين فنقول:
الأول: العصمة: هي تلك الدرجة العالية من الملكة التي تمنع صدور أي ذنب أو زلة من
المعصوم طيلة عمره الشريف.
وأمّا العدالة: فهي تلك الملكة التي لا تمنع الإنسان العادل بصورة تامّة عن ارتكاب
أي ذنب أو زلة طيلة عمره.
فقد يزلّ ويخطأ مع امتلاكه لتلك الدرجة من الملكة الرادعة، ولكنّه يعود فوراً وبعد
صدور الذنب منه فيتوب ويستغفر، فإذا فعل ذلك عادت له تلك الملكة مرة ثانية بعد أن
فقدها فترة ارتكابه الذنب وقبل توبته.
الثاني: العصمة: هي تلك الحالة النفسيّة التي تقف أمام كل مغريات العالم وبكل
أشكالها وألوانها حتّى لو اجتمعت تماماً على سبيل الفرض في لحظة واحدة على شخص
المعصوم الشريف.
فعن الإمام علي (عليه السلام):«والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها،
على أن أعصي الله في نملة أسلُبُها جُلْبَ شعيرة ما فعلته..»[45]. ففي الرواية
كفاية عن فرض اجتماع المغريات كلها على شخص الإمام دون أن تهزّه وتجرّه لارتكاب
أصغر الذنوب وأدناها.
وأمّا العدالة: فهي ملكة تقف أمام المثيرات الاعتيادية وتمنعه من ارتكاب الخطأ
والزلّة. وقد لا تستطيع الوقوف أمام المثيرات والمغريات الأكبر من هذه. والخلاصة
فإنّ شرط العصمة وبالشكل الوارد في الروايات لم يمنع عن الأخذ بفكرة البيعة على
أساس مبدأ ولاية الفقيه. فإنّ مبدأ ولاية الفقيه يعني افتراض شرط من الشروط فيمن
يُبايع وهو (الفقاهة)، وإن توفّر هذا الشرط فيمن يُنتخب، بالإضافة إلى شروط أخرى
تذكر في محلّها، نضمن وعلى وفق القدر المتيقّن، انتخاب أفضل الموجودين.
وعلى كل حال، فإنّ فكرة البيعة لو تمّت وبهذا الشكل لحلّت مشكلتين:
الأولى: مشكلة ولاية الفقهاء بعضهم على بعض، فلو كان مبدأ الولاية منحصراً بالنصّ،
وهذا النصّ ورد على أنّ الفقهاء هم الحكّام زمن الغيبة، فكيف تثبت ولاية فقيه على
فقيه آخر؟.
ففي قوله (عج): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي
عليكم وأنا حجة الله عليهم»[46] فُسّر الرواة بالفقهاء، فالفقهاء إذن، هم الأولياء،
ولو اقتصرنا على هذا النصّ، فكيف نثبت ولاية فقيه على فقيه آخر؟ فهل تكون الولاية
لكل الفقهاء وفي عرض واحد؟ وأنّ لكل واحد منهم ولاية على الآخر بمعنى (الولاية
المتبادلة) مع غرابة مثل هذه الولاية على أذهان العقلاء؟ أم أنّ لهؤلاء جميعاً
ولاية على الناس، أمّا فيما بينهم فلا ولاية لهم مع ما في هذا القول من ثغرة، ولو
حكم أحدهم حكماً ولائيّاً، فهل ينفذ هذا على باقي الفقهاء، وعلى أي أساس يكون هذا؟
إنّ البيعة تحلّ كلّ هذا. فمع أنّ كل واحد منهم وليّ بحكم الرواية تلك، إلاّ أنّ
الذي تتمّ له البيعة؟ يتمّ له مصدر ثان للولاية دون غيره. وستعطيه هذه البيعة ولاية
أوسع مما كانت له، وستكون له الولاية على كلّ الآخرين، فإذا أمر لابدّ للفقهاء
الآخرين من طاعته.
الثانية: وكذلك فإنّ فكرة البيعة تملأ نقطة فراغ أخرى وتحلّ مشكلة أخرى، وهي مشكلة
تعدّد الفقهاء المتصدّين.
فلو أنّ عدداً منهم تصدّى للأمر وكل منهم يريد أن يحكم فما هو الحال؟
وممّا يذكر كتصويب للجمع بين الولايات هو تشكيل مجلس (شورى القيادة) فهم جميعاً
فيما بينهم يتوافقون على تشكيل مجلس قيادة بحيث لا يتفرّد أحدهم بالأمر.
ولكن هذا الحل، متوقّف على سعة مجلس الشورى وضيقه، وتتناسب قوة المجلس عكسياً مع
ذلك. فكلّما اتسع ضعفت قوته وكلّما ضاق ازدادت قوته. وحينئذ، تلعب فكرة البيعة
دوراً مهماً في هذا المجال، فإنّ البيعة إمّا أن تتمّ لفقيه واحد أو لفقيهين أو
لأكثر قليلاً من بين جماعة الفقهاء المتصدّين ولا تتمّ لعدد كبير منهم وبشكل واسع،
وهذه مسألة عمليّة أكثر منها نظرية، ويساعد عليها الواقع العملي كثيراً. وحينذاك،
وبعد أن تتم البيعة لهذا العدد المحدّد من الفقهاء، يتمّ تشكيل شورى القيادة وبشكل
معقول وعملي وقوي.
وفي خاتمة البحث نشير إلى صحيحة عيص بن القاسم إذ فيها ـ حسب رأينا ـ تأييد لفكرة
البيعة.
فعن عيص بن القاسم عن الصادق (عليه السلام) يقول: «.. إن أتاكم آت منّا فانظروا على
أي شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم
إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى
بما دعاكم إليه...»[47].
والشاهد في قوله (عليه السلام): «ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من أل
محمد...» وأنا أفهم من (الرضا من آل محمد) أي من يُرتضى من آل محمد ويُختار، ففي
العبارة إشارة إلى مبدأ الاختيار والارتضاء والبيعة.
صفوة القول في البيعة
وصفوة القول في البيعة: إنّ الذي يبدو لنا أنّ البيعات الواقعة في زمن المعصومين
سواءاً ما كان منها مع أئمّة العدل أو ما كان منها مع أئمّة الجور، لم تكن تخلو من
جذر عقلائي لها، ولم نجد ردعاً عن ذلك من قبل الشريعة، وغاية ما هنالك هي الردع عن
بعض التطبيقات أو بيان شروط لابدّ منها في الولاية أو الإمامة.
وذاك الجذر العقلائي لا يوجد فيه عدا احتمالين
الأول: ما نُسب أخيراً إلى جان جاك روسو من فكرة العقد الاجتماعي بين الأمة والقائد
ليدخل ذلك تحت الديموقراطيّة، وأنّ مصدر الولاية على الناس هم الناس أنفسهم.وعندئذ
فالذي يعتقد بولاية المعصومين (عليهم السلام) قبل البيعة يستطيع أن يقول: إنّ
البيعة تفيد في المعصوم تأكيد الولاية، وفي غير المعصوم تأسيس الولاية. والذي يسوّي
بين المعصوم وغير المعصوم أو لا يعتقد أساساً بالعصمة يستطيع أن يقول: إنّ البيعة
هي المصدر الوحيد للولاية.
ونحن بغضّ النظر عمّا أوضحناه في كتابنا أساس الحكومة الإسلاميّة من الأخطاء
الكامنة في فكرة جان جاك روسو نقول هنا: إنّ الجذر العقلائي للبيعات التي وردت في
تأريخ الإسلام لا يمكن أن تكون هي فكرة العقد الاجتماعي أو حكم الناس أنفسهم
بأنفسهم، لأنّ تطبيق هذه الفكرة بحاجة ـ على الأقلّ ـ إلى بيعة أكثريّة الناس من
ناحية وإمضاء الأقليّة لقانون نفوذ رأي الأكثريّة من ناحية أخرى؛ كي يصدق بذلك أنّ
المجتمع ككل أصبح طرفاً لهذا العقد، فيتمّ عنوان حكم الناس أنفسهم بأنفسهم بتمام
معنى الكلمة، ومجرّد بيعة ثلّة من الناس أو أهل الحلّ والعقد أو شورى عيّنها
الخليفة السابق أو ما إلى ذلك لا يوجب صدق هذا العنوان. وهذا الشي بهذه الخصوصيات
لم يقع في شي من البيعات الواقعة في التأريخ، ولعلّ أوسع بيعة وقعت في تأريخ
الإسلام بلحاظ حضور النسبة المئويّة من المسلمين ومبايعتهم هي بيعة الغدير والتي لم
يف بها المسلمون.
ولم أرَ مثل ذاك اليوم يوماً ولم أرَ مثله حقّاً أضيع
وأمّا الخلفاء الثلاثة الذين تقدّموا على عليّ (عليه السلام) فلم يحدّثنا التأريخ
بانتظار أيّ واحد منهم تحقّقت البيعة له من قبل أكثريّة المسلمين حتى يمارس الحكم،
بل العكس هو الذي حدّثنا به التأريخ، وكذلك الحال لدى خلفاء بني أميّة وبني العباس؛
خاصّة من سار منهم ـ عملاً ـ على نهج وراثة المُلك.
والثاني: هو المناسب للبيعات التي وقعت في الإسلام وهو أنّ البيعة عقد وعهد بين
المبايَع له من ناحية، والمتبايعين من ناحية أخرى ولو كانوا بلحاظ النسبة المئويّة
للمسلمين أقلّ من الآخرين. وأثر ذلك هو أن يثق المبايَع له بوفاء عدد من المبايعين
بتعهدهم، من دون فرق في ذلك بين افتراض المبايَع له وليّاً واجب الطاعة قبل البيعة
كما هو رأي الشيعة في المعصومين، أو افتراضه حاكماً جائراً لا يملك الولاية حتى بعد
البيعة، أو افتراضه ممّن تجب عليه كفايةً إدارة أمور المسلمين كالفقهاء لدى غيبة
الإمام على رأي، وعدول المؤمنين على رأي آخر. وتكون البيعة شرعاً واجبة الوفاء في
الفرض الأول والثالث لأنّها عقد وعهد تعلّق بأمر مشروع وقد أمرنا القرآن بالوفاء
بالعقد والعهد، ولا يجب الوفاء في الفرض الثاني بل يحرم ذلك لأنّ متعلّق العقد
والعهد كان أمراً غير مشروع ولا قيمة لعقد أو عهد تعلّق بأمر غير مشروع.
شبهة سقوط المشروط بتعذّر الشرط
إنّ ما ذكرناه من أنّ شرط العصمة ليس ردّاً على مبدأ البيعة، وإنّما هو تضيّق في
دائرة البيعة، فعند الإمكان يبايع المعصوم (عليه السلام)، وعند سقوط الشرط لا تبطل
فكرة البيعة بل تكون لأفضل الموجودين غير المعصوم (عليه السلام).
هذا المطلب، قد يورد عليه (بفكرة أصوليّة) نشير إليها إشارة فقط. وهذه الفكرة، هي
التي تقول بأنّ الشرط إذا اصبح متعذّراً وغير مقدور عليه، فالأصل في ذلك ليس هو
سقوط (الشرط) بل سقوط (المشروط) فالصلاة، مشروطة بالطهور، ولو فقد المكلّف كلا
الطهورين (المائي والترابي)، قال المحقّقون: الأصل في ذلك ليس سقوط الشرط وهو
الطهارة، بل سقوط المشروط وهو (الصلاة). ومن هنا يتضح الإشكال في المقام، فنقول:
أليست العصمة شرطاً في البيعة؟ فحين تعذّر الشرط وعجز الإنسان عن مبايعة المعصوم
(عليه السلام)، فإنّ تكليف تعيين الولي وتشكيل الدولة يسقط حتّى ظهور المهدي (عج).
ومفاد الرواية «كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت يُعبد من
دون الله عزّ وجلّ»[48] يدعم هذه الشبهة ويقوّيها.
وفي مقام رد الشبهة نقول: إنّ هذا البيان هو نوع مغالطة، لأنّنا احتملنا أحد
احتمالين بخصوص العصمة الواردة في الروايات:
الأول: أنّها تنظر إلى شرائط الإمامة بمعناها المصطلح الخاصّ عند الشيعة، وهي
الدرجة العالية من المقام الإلهي التي تتمثّل في من يكون السبب المتصل بين الأرض
والسماء وبيُمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.
والثاني: أنّها تنظر إلى شرائط الولاية.
وعلى الأول: فإنّ الروايات وإن كانت توضّح شروط الإمامة ولها دلالتها الالتزامية
بصدد الردّ على خلفاء الجور آنذاك، ولكن لا إطلاق لهذه الدلالة الالتزامية، فلا
تصلح مثل هذه الروايات للاستدلال على شجب كل وال غير معصوم حتّى في زمن تعذّر حضور
المعصوم (عليه السلام)، ولا تدلّ على أنّ ولاية مثل هذا الوالي هي ولاية ظالم
وغاصب. وأنّه لدى فقدان المعصوم (عليه السلام)، يؤجّل تعيين الولي وإقامة الحكومة
إلى زمان ظهور الإمام (عج).
وأمّا على الثاني: فجواب هذه الشبهة يستدعي الإشارة الإجمالية إلى أسس أصولية
مبحوثة في محالها.
فقد ذكر المحقّقون: أنّ إطلاق الكلام قد يعارض أحياناً بنقطة ارتكازية يسمّونها
(بالمخصّص الارتكازي)، وهذا المخصّص يمنع عن تحقق الإطلاق ذاك.
فحتّى لو افترضنا، أنّ العبارة ظاهرة في (لا حكومة بلا عصمة)، فنحن نضطر إلى أن
نفهم أنّ هذا الإطلاق راجع إلى زمان إمكان ذلك ـ أي إمكان وجود المعصوم (عج) ظاهراً
ـ لا إلى زمان عدمه، وذلك وفق نكات مرتكزة في أذهان المتشرّعة، من أنّ الاستغناء عن
العصمة في الحاكم وقت تعذّر حصولها من أجل أن تقام حكومة إسلاميّة معقول،
والاستغناء عن الحكومة أصلاً لهذا السبب، أمر غير معقول. أمّا لماذا الاستغناء عن
الحكومة الإسلاميّة أمر غير معقول، فهذا راجع إلى سببين هما:
السبب الأول: أنّنا نعلم أنّ المجتمع أيّاً كان صالحاً أو فاسداً، لا يمكن
الاستغناء فيه عن حكومة وإمرة وولاية، مادام هو مجتمعاً لا أفراداً محدّدين قليلي
العدد، وهذه الحاجة نابعة من: التنافس والتضارب والتزاحم بين مصالح الأفراد،
ومحدودية الدنيا على سعتها، وعدم إمكان اجتماع مصالح جميع الأفراد فيها. ولشدة
التضارب بين هذه المصالح تقع بين أيدي الناس موارد للنزاع والتخاصم والاختلاف،
ولولا وجود قوة تنظّم أمور البلاد لوقع الهرج والمرج والقتال ولفسدت أمور البلاد
والعباد ولما أمكن تنظيم الأمور.
ولو افترضنا أنّ البشرية أصبحت لا تزاحم بين مصالح أفرادها، وكل يقنع بحصّته وما
قُسِم له، فإنّ هذا الفرض لا ينفي الحاجة إلى الحكومة، إذ إنّه لابدّ من عقل جمعي
يجمع ويوزّع ويرتّب الأمور؛ لأنّ كلّ أحد لا يعلم ما يلزم للآخر. فوجود الدولة إذن
لا بدّ منه على كلا الفرضين والحالتين.
وفي الأثر: لابدّ من دولة وإن كانت فاسقة، كي يمكن للمجتمع العيش تحت رايتها، ولا
يمكنه ذلك دون دولة بالمرّة. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام):
«لابُدّ للناس من أمير، بَرٍّ أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر،
ويبلِّغ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَع به الفيء، ويُقاتَلُ به العدو، وتأمن به السبل،
ويُؤخذ به للضعيف من القوي، حتّى يستريح برٌّ، ويُستراحَ من فاجر»[49].
وحينئذ، ما هو موقف الإسلام من تأسيس الدولة وفي زمن العجز عن تحصيل المعصوم (عليه
السلام)؟
إنّ الجواب، لا يخلو، من أحد احتمالات ثلاثة:
الأول: أن نفترض أنّ موقفه هو رفض وجود دولة وحكومة، ما دمنا لا نستطيع تحصيل
المعصوم(عليه السلام). وهذا كلام لا يُتعقّل ولا يُقبل من إنسان عادي، ونحن نُسخّف
الفكرة الماركسيّة، إذ قالت بمجيء زمان لا حاجة فيه إلى الحكومة، ونقول بأنّ هذا
خلاف الطبيعة البشرية وخلاف العقل. فكيف ننسب ذلك الكلام إلى الإسلام؟! إنّ هذا
الاحتمال واضح البطلان.
الثاني: أن يقال: لا يترك أصل إقامة الحكومة من الأساس زمن الغيبة، بل يقال: إنّ
المؤمن يجب أن يترك هذا الأمر ويرفع يده عنه، ويُبقيه في يد غيره من الفسّاق
والظلمة، ليحكموا البلاد والعباد.
إنّ مثل هذا القول، قول لا يصدر عن دين سماوي خاتم. وإننا نتّهم الإنسان الذي يدعو
مواطني بلده إلى تسليم إدارة بلادهم إلى الأجنبي، نتهمه بالعمالة والخيانة، ذلك لو
فكّرنا بعقليّة الوطنية الغربية التي نرفضها ونتّهمها بالقصور. فكيف نقبل في نظريّة
إسلاميّة ما يناظر ذلك في دائرة تقابل الإسلام والكفر من تسليم بلاد الإسلام
والمسلمين بيد الفاسق والظالم والذي لا يتبنّى نظريات الإسلام في حكمه؟
إنّ ديناً يدعو إلى مثل هذا الأمر، دين مزيّف ولا يمكن أن يصدر عن الله ويقول به
نبي. فهذا الاحتمال باطل كسابقه.
الثالث: ـ وبه ينحصر الأمر ـ أنّه لا بّد من إقامة دولة الإسلام في كل آن. ولو تعذر
حصول المعصوم (عليه السلام)، فالأمر ينحصر في أفضل الموجودين.
السبب الثاني: أنّ الإسلام يشتمل على نواح ثلاث:
1 ـ الوظائف الفردية: كالصلاة والصوم، وما شابه ذلك من العبادات الفردية.
2 ـ الوظائف الاجتماعية: كوظائف إدارة وتنظيم البلاد، والعلاقة مع سائر الأمم ونحو
ذلك...
3 ـ الجانب التنفيذي: فالإسلام سنّ الوظائف وعيّنها، وقرّر العلاقات، وبيّن الحدود
والعقوبات واهتمّ بتنفيذها ومتابعتها ومعاقبة من يشذّ عنها.
إنّ وجود جانب التنفيذ في الشريعة الإسلاميّة دليل على أنّه ليس بالإمكان افتراض
أنّ الشريعة الإسلاميّة قد غضّت النظر عن أصل الدولة والحكومة عند عدم وجود المعصوم
(عليه السلام). وإنّ مراجعة أبواب الفقه المختلفة ترينا أنّ السمات الاجتماعية
والارتباط بالوضع الاجتماعي ووجود ولي للأمر سمات عامّة في كل هذه الأبواب وبلا
استثناء. فالصلاة ـ مثلاً ـ قد يتراءى للبعض بأنّها العبادة الوحيدة التي يمكن
القول عنها بأنّها عبادة فردية. إلاّ أنّ المصالح الاجتماعية ملحوظة فيها، بل كأنّ
الأصل الأولي فيها هي الجماعة، والفرادى إنّما هي للحالات الخاصّة. كما تدلّ على
ذلك الروايات الكثيرة.
وقد شرّعت في صلاة الجمعة خطبتان يلقيهما الإمام ويذكر فيهما بالإضافة إلى الإرشاد
المسائل الاجتماعية والسياسية.
وبالنسبة للزكاة يستفاد من الكتاب والسنّة: أنّ المتصدّي لها هو الحاكم بأجهزته.
والخمس ـ أيضاً ـ ضريبة مقرّرة لمنصب إمامة المسلمين، ولا تصرف فقط لمصارف شخص
الإمام، بل لمنصبه ليصرفه في الوجوه التي يراها من مصالح المسلمين. وكذلك الأنفال
التي هي مجموعة الأموال العامّة التي لا مالك شخصي لها، كأرض الموات والأودية
والمعادن.
أمّا الحج فواضح من آيات الحج أنّ تشريع هذه الفريضة لم يكن لإتيان صورة الأعمال
فقط. وكيف، ومقتضى الآية المباركة {جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً
للّناسِ}[50]. أنّ الناس يتقوّمون في معاشهم بالكعبة؟!
إنّ في الآية المباركة دلالة على أنّ تشريع الحج كان لأداء الفريضة، ولاجتماع
المسلمين من مختلف أنحاء الدنيا ليتباحثوا ويتشاوروا ويتعاونوا فيما بينهم في أمور
الدين والدنيا. فأهمية هذه الفريضة من الناحية الدينيّة والسياسيّة واضحة وبصورة
جلية، وهناك من الروايات ما تدلّ دلالة واضحة على ارتباط أداء هذه الفريضة بوجود
حكومة قائمة وولي للأمر حاكم:
1 ـ عن الصادق (عليه السلام): «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على
الحج...»[51].
2 ـ عن الصادق (عليه السلام): «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم
على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لكان على
الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من
بيت مال المسلمين»[52].
إنّ إجبار الناس والإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين يستدعي وجود إمام مبسوط اليد
وله ولاية فعلية.
وأمّا الجهاد فهو عمل اجتماعي لا يمكن أن يتحقّق إلاّ أن يكون ولي الأمر على رأسه.
ولا شكّ في وجوب الجهاد في زمن حضور المعصوم وفي قال الله تعالى:
1 ـ {يا أيُّها النبىّ جاهدِ الكُفّارَ وَالمُنافقينَ...}[53].
2 ـ {يا أيُّها النبىّ حرّضِ المُؤمنينَ على القتالِ...}[54].
3 ـ {يا أيُّها الذينَ آمنُوا قاتلوا الذينَ يلُونَكُم مِن الكُفّارِ وليجِدُوا
فيكُم غِلظةً...}[55].
4 ـ عن علي (عليه السلام): «إنّ الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصرةً وناصرةً، والله
ما صلحت دنيا ولا دين إلاّ به»[56].
5 ـ عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الخير
كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف، ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة
والنار»[57].
وبالجملة، فإنّ الآيات والروايات تشير إشارة واضحة على أنّ الجهاد من ضرورات الدين،
وأنّ على الأمة النهوض به جملةً، ولابدّ من وجود ولي للأمر يجاهد تحت رايته، على
تفصيلات في الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي تطلب في مظانها.
ونشير وبشكل أكثر اختصاراً إلى بعض أبواب الفقه الأخرى لنبيّن ارتباطها بالوضع
الاجتماعي العام وبوجود ولي للأمر للأمة.
ففي الوصية: قال الفقهاء: إذا تعدّد الوصي فإنّ تعيين أحدهم أو كلّهم أو بعضهم عائد
إلى ولي الأمر.
وفي القضاء قالوا: إنّ أمره عائد إلى الفقيه الجامع للشرائط.
وفي إجراء الحدود قالوا: إجراؤها بيد ولي الأمر.
وفي الحجر على المفلّس والصغير والمجنون قالوا: لا يحكم بذلك إلاّ بأمر ولي الأمر.
شبهة العجز عن إقامة دولة
وعلى كل حال، فهل يمكن افتراض سكوت الإسلام واستغنائه عن وجود دولة وقيام حكم في
زمن غيبة المعصوم (عليه السلام)، بحجة العجز عن تحصيل المعصوم (عليه السلام) مع كل
هذا الربط بين أداء الفرائض والواجبات في مختلف أبواب الفقه وبين وجود وضع اجتماعي
قائم وولي للأمر مبسوط اليد؟!
قد يقال ـ مع التسليم بالحاجة إلى وجود دولة في كل مجتمع كافر أو مؤمن ـ: أنّنا،
عاجزون عن تحقيق حكومة إسلاميّة عادلة! ولو أنّ الشريعة الإسلاميّة لم تكن تعلم هذا
فينا، لما اشترطت العصمة في تحقيق ذلك. فالمعصوم (عليه السلام) وحده قادر على ذلك
دون غيره. وفي أية لحظة تكون فيها الظروف مناسبة لقيام دولة عادلة، كان على الله
حقاً أن يظهر المعصوم (عليه السلام)ليقودها وهو وحده يستطيع تحقيق الهدف المنشود.
ومادامت الفرصة غير مواتية، فإنّ المعصوم (عليه السلام) يبقى خلف الستار ولا يؤذن
له بالخروج ولا نكلّف بتشكيل حكومة إسلاميّة؟! إنّ جواب هذه الشبهة ـ وبغض النظر عن
التجربة الخارجية المعاشة الآن في الجمهورية الإسلاميّة في إيران والدالّة عملاً
على أنّ المسلمين ليسوا عاجزين عن إقامة حكم إسلاميّ عادل ـ: أنّ طبيعة معرفتنا
بالأمور وبوضع البشرية وبالأسباب المتواجدة خارجاً تدلّ على خلاف هذا، وتجعلنا
نقول: لا فرق بين المؤمنين الملتزمين والفسقة في موضوع القدرة على تشكيل الحكومة،
وليست هذه القدرة مخصوصة بالفسقة أو الكفرة، وفكرة اختصاص القدرة على الحكم بهم دون
المؤمنين أمر غير معقول؛ لأنّ الأسباب والقدرات موزّعة على البشرية وبشكل متناسب
{ربَّنا وَسِعتَ كُلَّ شيء رحمةً...}[58]. وإن كانت هذه الرحمة ستكتب للمؤمنين فقط
يوم القيامة.
وبالتأمّل في قوله تعالى {وَلولا أن يكونَ الناسُ أمةً واحدةً لَّجعلنا لِمنَ
يَكفُرُ بِالرحمنِ لِبُيُوتِهم سُقفاً مِن فضة...}[59].
يظهر جلياً أنّ الله سبحانه وتعالى لم يرد للكافرين أن ينفردوا بإمكانات الدنيا
الاقتصادية. ومع أنّ الآية المباركة ناظرة إلى الجانب الاقتصادي ـ ولكنّني ـ أفهم
منها أمراً أوسع من ذلك.
فكأنّ الله تعالى يقول: كانت هناك نكتة في جمع المواهب والقدرات الدنيويّة وإعطاءها
للكفّار وحرمانها المؤمنين؛ وذلك لأنّ المؤمن حين يعمل العمل الحسن يدّخر جزاءه
ليوم آخرته.
وأمّا الكافر فليس له في الآخرة من شيء {وَما لَهُ في الآخرةِ مِن خَلاق}[60]، فإنّ
عمل عملاً حسناً فإنّه يأخذ جزاءه في الدنيا.
فكأنّ مقتضى القاعدة هو أن تعطى كل الفرص لهم في الدنيا ولا يرون مشقة وعذاباً ولا
يقعون تحت سيطرة مؤمن يحاسبهم ويعاقبهم في الدنيا، أمّا في الآخرة فلهم جزاء عملهم
بما كسبت أيديهم. ولكنّ الله تعالى يقول {وَلولا أن يكونَ الناسُ أمةً واحدةً
لَّجعلنا لِمنَ يكفُر بِالرحمنِ لِبُيُوتِهم سُقفاً مِن فِضة وَمعارِجَ عليها
يَظهروُن وَلبُيُوتِهم أبواباً وسُرُراً عليها يتكئونَ وزُخرُفاً وإن كلَّ ذلِكَ
لَمّا متاعُ الحياةِ الدُّنيا والآخرةُ عِندَ ربِّك للمتّقين}[61]، أي أنّ الحكمة
الربانية شاءت أن توزع المواهب والنعم على الناس وبشكل سواء، كفئات وجماعات لا كل
فرد فرد كما هو واضح. ولو أصبحت كل القدرات والإمكانات إلى جانب واحد وهم (الكفّار)
لكان ذلك مدعاة لتزعزع إيمان المؤمنين إلاّ الأوحدين منهم. هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى فإنّ الإيمان ليس عنصراً يخلق العجز لدى الإنسان، بل على العكس من ذلك، فهو
يخلق في الإنسان روح الصمود والثبات والصبر والتحمّل ويدعوه إلى العمل الجاد ويجنبه
من كل لهو وعبث، كما أنّه يدعو الإنسان المؤمن إلى التيقّظ والحذر واكتساب الخبرات
وإلى أن يكون فطناً كيّساً في كل الأحوال. أترى أمراً كهذا يخلق لدى صاحبه عجزاً
ونقصاً في القدرات والإمكانات أم على العكس من ذلك؟!
أمّا غيبة الإمام (عج)، فليس تفسيرها الوحيد هو هذا التفسير المطروح في هذه الشبهة.
أي أنّه (عليه السلام) غاب لأنّ الظروف غير مواتية لتشكيل حكومة المعصوم(عليه
السلام).
وهذا يعني حرمة العمل لتشكيل حكومة إسلامية حتّى تكون الظروف مواتية. وحينما تكون
كذلك، فإنّ على الله حقاً أن يظهر الإمام (عليه السلام) ليتسلّم الحكومة. وبالحقيقة
هناك تفسيران آخران لغيبة الإمام (عج) وهما:
أولا: امتحان الأمة، فإنّ الله تبارك وتعالى أراد امتحان المؤمنين، هل يتقاعسون
ويتكاسلون عن نصرة الحقّ إذا غاب وليّهم (عج)، أم يثبتون ويصبرون وينتظرون الفرج
ويعدّون العدّة له (عج)؟
والامتحان ـ كما هو معروف ـ ظاهرة ربانيّة ثابتة في العالم {أَحسِبَ الناسُ أن
يُتركوا أن يقولوُا آمنّا وهم لا يُفتنون * وَلقد فتنّا الذينَ مِن قَبلِهم
فليعلمنَّ اللهُ الذينَ صدقُوا وَليعلمنَّ الكاذبين}[62].
ومن أصعب الامتحانات على الأمة، أن تفقد إمامها ووليها وقائد مسيرتها.
والثاني: هو أن يكون الإمام (عج) مدّخراً لفترة تكون الفرص فيها مواتية لتشكيل
(حكومة إسلاميّة عالمية) لا حكومة محدودة في هذا القطر أو ذاك.
فيقال إنّه (عليه السلام) غاب؛ لأنّه لو عاش بين الناس لهلك وقتل قبل تحقيق حلم
الإنسانية المعذّبة.
وهذا التفسير لا يمانع افتراض قيام حكومة إسلاميّة في بقعة من بقاع الأرض هنا أو
هناك.
ويجب حينئذ على المؤمنين العمل على تشكيل الحكومة الإسلاميّة والقيام بها على
الكفاية حين تحقّق ظروفها في أية بقعة من بقاع الأرض.
شبهة عدم إراقة الدماء
قد يقال: إنّه ومع تسليمنا بأنّ الإسلام بحاجة إلى حكومة وهو يدعو إلى إقامتها في
كل زمان ومكان، ولكن ذلك يجب أن يكون بشرط عدم إراقة الدماء. فإذا انتهى الأمر إلى
ذلك كانت إراقة الدماء أعظم، ومفسدتها أكبر من ترك إقامة الدولة، فيترك أمر إقامة
الدولة، مع وجود المصلحة الحقيقية والمهمة في إقامتها. ولا يكون أمر إقامة الدولة
مقدّماً على مصلحة حقن الدماء، إلاّ في حالة وجود المعصوم (عليه السلام) الذي لا
يخطأ في تقدير الأمور لعصمته (عليه السلام).
إنّ من يؤمن بهذه الشبهة لا يفيد معه القول بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله)
وعلياً (عليه السلام)ومسلم بن عقيل نيابة عن الحسين (عليه السلام) قد أكثروا من
إراقة الدماء لأجل إقامة الحكم؛ لأنّ جوابه سيكون: أنّ أولئك كانوا معصومين أو
مأذونين من المعصوم مباشرة وبالإذن الخاصّ، ولولا ذلك لما جاز لهم ذلك الفعل.
الجواب على الشبهة
هناك منهجان للإجابة على مثل هذه الشبهة:
المنهج الأول (المنهج النصّي): وهو محاولة الحصول على إطلاق نصّ قرآني أو روائي
يدلّ على جواز إراقة الدماء لتشكيل الحكومة الإسلاميّة حتّى في زمن غير المعصوم
(عليه السلام).
المنهج الثاني (المنهج العقلي): بأن يقال: أنّنا في غنى عن النصّ، وذلك لسنخ البيان
العقلي الذي بيّناه سابقاً حول ضرورة تشكيل الدولة. فنفس ذلك البيان باستطاعتنا
توسيعه أو تطبيقه على المسألة محل البحث. وبه نثبت أنّه لابدّ من إقامة الدولة حتّى
ولو أدّى ذلك إلى إراقة الدماء.
ونبدأ بالمنهج الثاني، فنقول: لئن لم تجز إراقة الدماء في سبيل تحكيم الإسلام في
عصر الغيبة الكبرى، فعدم الجواز لا يكون إلاّ لأحد سببين:
1 ـ إمّا لأنّ المقايسة والموازنة بين مفسدة إراقة الدماء، وبين المصالح التي تتحقق
حين تقام دولة إسلاميّة تظهر أنّ المفسدة أعظم وأكبر من المصلحة.
ولذا نغضّ النظر عن العمل لإقامة الحكومة الإسلاميّة إن استدعت إراقة الدماء حفاظاً
على النفوس المسلمة.
2 ـ وإمّا لافتراض وجود حكم تعبّدي في المسألة، وهو اشتراط وجود معصوم لكي تباح
إراقة دماء المسلمين في سبيل تشكيل حكومة إسلاميّة.
وفي هذا الفرض نغضّ النظر تماماً عن تلك المقايسة والموازنة المشار إليها في الفرض
الأول.
أمّا دعوى أهميّة مفسدة إراقة الدماء على مصلحة إقامة الحكم الإسلاميّ فجوابها: أنّ
التزاحم بين مفسدة إراقة الدماء ومصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة أمر واقعي ومتحقّق
في كل زمان وحتّى في زمن المعصوم (عليه السلام)، مع أنّ الإمام المعصوم عمل على
إقامة الدولة الإسلاميّة ورجّح هذا العمل في الأوقات المناسبة على السكوت والهدنة.
وأمّا دعوى افتراض وجود المعصوم كشرط تعبّدي فهذه الفرضية قد انتهينا من بطلانها في
البحث السابق، حيث وضّحنا: أنّ شرط العصمة إنّما كان لأجل أنّ المعصوم هو أفضل
الموجودين في زمن حضوره. فالشرط، إذن، هو شرط الأفضل، وعلى هذا فإنّ شرط العصمة لن
يكون ـ بهذا البيان ـ شرطاً تعبّدياً.
وعليه فإنّ عدم حضور المعصوم (عليه السلام) حال غيبته لا يؤدّي إلى تجنّب ما يكون
سبباً لإراقة الدماء في سبيل أمر ضروريّ كإقامة الدولة الإسلاميّة.
على أنّنا نقول: ما معنى تجنّب إراقة الدماء في سبيل إقامة حكومة الحقّ؟ هل نتصوّر
أنّ إراقة الدماء ستكون أقل نسبة تحت سلطة الحكومات الجائرة؟
إنّ أصل افتراض كون عدم القيام والثورة ضد الطغاة أمراً يحفظ دماء المؤمنين، إنّما
هو فرض عار عن الصحّة. إذ ما أكثر الأبرياء الذين يقتلون في كل آن وزمان تحت سياط
هذا الظالم أو ذاك؛ نتيجة لعدم حاكميّة الإسلام. فمحاولة إقامة الحكم الإسلاميّ في
الظرف المناسب، وكذلك محاولة إيجاد الظرف المناسب محاولة لحقن دماء المسلمين لا
لإراقتها.
وأمّا المنهج الأول: وهو التفتيش عن إطلاق نصّ أو رواية لإثبات المدّعى فبيانه ما
يلي:
أنّنا وبعد أن أثبتنا سابقاً أنّ الإسلام ـ بغضّ النظر عن مسألة إراقة الدماء ـ
يدعو إلى إقامة الدولة الإسلاميّة، إمّا عن طريق ولاية الفقيه أو الانتخاب، قد بقيت
لدينا مشكلة إراقة الدماء، فنقول: إنّ آيات وروايات الجهاد طراً وكلاً وآية محاربة
البغاة، كلها نصوص مطلقة وتخاطب المجتمع كله. وهذه الآيات ليس شأنها، شأن آيات
الصوم والصلاة وإن كانت هذه الأخيرة خطابات إلى المجتمع أيضاً.
إنّ الفرق بين آيات الصوم والصلاة وما شابهها، وآيات الجهاد والحدود هو: أنّ الخطاب
في آيات الصوم والصلاة (خطاب انحلالي) أي ينحلّ إلى عدّة خطابات، فكأنّ الآية تقول:
(يا زيد صل، يا حسن صل، يا فلان صل،... إلخ).
أمّا بالنسبة لآيات الجهاد أو آيات الحدود فهي خطابات غير انحلالية، وهي متوجّهة
إلى المجتمع بوصفه مجتمعاً لا إلى أفراده فرداً فرداً. وواضح أنّ المجتمع لا يمكن
أمره بإنجاز هذه التكاليف إلاّ إذا كانت على رأسه دولة أو فيه مشروع دولة. فلو كنّا
قد عجزنا في بحوثنا السابقة وبغضّ النظر عن مشكلة إراقة الدماء عن إثبات مشروع دولة
في زمن الغيبة، لم تفدنا هذه الآيات هنا لإثبات المقصود، إذ هي تخاطب المجتمع بما
هو مجتمع وفيه دولة أو مشروع دولة. ولكن بما أنّنا نجحنا بغضّ النظر عن شبهة إراقة
الدماء في إثبات أنّ الإسلام يدعو إلى إقامة الدولة الإسلاميّة وله مشروع ونظرية
بهذا الخصوص، فإذن، لم يبق لدينا سوى التمسّك بآيات الجهاد ورواياته لإثبات جواز
إراقة الدماء في سبيل تشكيل الحكومة الإسلاميّة.
إنّ الإطلاقات الموجودة في آيات وروايات الجهاد، دليل على جواز إراقة الدماء، كما
جازت زمن المعصوم (عليه السلام) عيناً وبلا فرق. وبهذا نكون قد مهّدنا الطريق
لمناقشة روايات منع إراقة الدماء في زمن الغيبة.
الروايات المانعة عن إراقة الدماء
إنّ روايات المنع هذه تقسم إلى ثلاث طوائف، تبعاً لما اتّضح ممّا سبق من أنّ حرمة
إراقة الدماء في زمن الغيبة قد تكون بمعنى اشتراط وجود المعصوم إمّا تعبّداً أو
لأقوائيّة مفسدة إراقة الدماء في زمن الغيبة، وقد يكون بمعنى أنّ الانتصار لا يمكن
إلاّ في زمن المعصوم، وهذه الطوائف الثلاثة هي:
روايات الطائفة الأولى: وهي ما تكون ظاهرة في أنّ وجود المعصوم شرط في القتال
وإراقة الدماء.
روايات الطائفة الثانية: وهي ما تكون ظاهرة في فرض العجز، أي يقال: بما أنّه كان
واضحاً لدى الإمام (عليه السلام) أنّ القيام قبل ظهور الحجّة يؤدّي إلى الانكسار
والعجز حرّم القيام ضدّ الطغاة قبل ظهور الحجّة واعتبر أنّ مفسدة إراقة الدماء
والانكسار أكبر من مصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة.روايات الطائفة الثالثة: وهي ما
يحتمل فيها كلا الأمرين الواردين في الطائفة الأولى والثانية.
مناقشة الروايات
روايات الطائفة الأولى: وهي التي يستفاد منها ضرورة كون المعصوم (عليه السلام) على
رأس العمل لكي يجوز القيام ضد الطغاة:
1 ـ لعل أفضل الروايات من ناحية السند هي رواية بشير الدهّان عن الصادق (عليه
السلام): «قال: قلت له ـ أي للإمام (عليه السلام) ـ: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت
لك إنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام.. فقلت لي: نعم هو كذلك، فقال أبو
عبد الله (عليه السلام): هو كذلك هو كذلك»[63].
2 ـ وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «.. والجهاد واجب مع الإمام العادل...»[64].
وحينئذ قد يقال بأنّ:
ـ الإمام المفترض الطاعة،
ـ والإمام العادل.
يُحمَلان على الإمام المعصوم (عليه السلام) فتكون العصمة شرطاً في الخروج.
وفي مقام مناقشة هذه الروايات نقول: إنّنا لو انتهجنا في ما مضى المنهج العقلي،
وقايسنا بين مصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة وبين مفسدة إراقة الدماء، فكما أشرنا
هناك أنّ التوقّف والامتناع عن الخروج بالسيف في الظروف المناسبة عقلائيّاً لذلك؛
بحجّة أقوائيّة المفسدة ليس أمراً صحيحاً؛ وذلك بلحاظات متعددة، أهمها أنّ
المعصومين (عليهم السلام) قد عملوا على تسلّم الحكم وإن أدّى ذلك إلى إراقة الدماء.
وأمّا شرط العصمة تعبّداً فهو غير موجود أيضاً، وإنّما تحدّثت عنه الروايات من باب
أنّ أفضل الموجودين آنذاك كان هو المعصوم (عليه السلام)، فيكون الشرط شرط (الأفضل).
وعليه، فإنّ انتهاج هذا المنهج يستدعي في مناقشة الروايات أحد أمور:
1 ـ تأويل مثل هذه الروايات.
2 ـ أو حملها على التقية.
3 ـ أو ردّها إلى أهلها.
إضافة إلى كون هذه الروايات، أخبار آحاد في مقام المسلّمات.
أمّا لو نهجنا المنهج الآخر، وحاولنا الاستفادة من إطلاقات آيات وروايات الجهاد
لإثبات صحّة الخروج وإن أدّى إلى إراقة الدماء. فقد يورد على ذلك بأنّ هذه
الإطلاقات مقيّدة بوجود المعصوم وهذا هو سبب الفتوى باشتراط وجود المعصوم (عليه
السلام) في الجهاد الابتدائي. (وإن كنت أرى جواز الجهاد الابتدائي في زمن الغيبة
الكبرى).
وعلى كل حال، فإنّ الجواب على مثل هذا الكلام يكون:
أولاً: بنفي دلالة لفظة (الإمام) الواردة في مثل هذه الروايات على (الإمام المعصوم)
فقط. فإنّ المعنى الاصطلاحي لكلمة الإمام عند الشيعة تكّون بصورة تدريجية، وإلاّ
فالمعنى اللغوي للإمام هو من يؤمّ ويقود الناس لا هو خصوص المعصوم صاحب المقام الذي
لا يناله إلاّ الخواص المصطفون من قبل الله تعالى. وحتّى قادة الجور يسمّون
بالأئمة، قال تعالى {قاتلوا أئمة الكفر...}.
فالإمام هو من يقود الناس ويؤمّهم على كل حال. وعلى هذا فإنّ رواية بشير، تشمل
الإمام المعصوم (عليه السلام)، والولي الفقيه، والولي المنتخب ـ بناءً على كفاية
الانتخاب في مشروعيّة الحكم ـ لأنّهم كلّهم مفترضو الطاعة.
ثانياً: لا ينبغي لنا الاقتصار على التفاسير اللغوية للعبائر في مقام معرفة معاني
الروايات. وإنّما يجب أخذ ظرف صدور النصّ بعين الاعتبار.
فرواية بشير، مثلاً، وعلى وفق وجود خلفاء الجور آنذاك، جاءت لتطعن في ولاية أولئك
الأئمة الظلمة الطغاة. إذ إنّ الإمام (عليه السلام) كان في مقام المقارنة بينه
(عليه السلام) وبين خلفاء بني أمية وبني العباس، ولذا فلا يفهم منها مطلق منع
القيام مع غير المعصوم ولو كانت من نواب الإمام بالعموم أيّ الذين نُصبوا بصورة
عامّة من قبل الحجة المنتظر (عج) كالفقهاء.
ثالثاً: لو سلّمنا أنّ الروايات تقصد منع القتال إلاّ مع الإمام المعصوم، فحينئذ
نضمّ هذا الدليل مع أدلّة ولاية الفقيه ـ التي سنبحثها فيما بعد إن شاء الله تعالى
ـ ونجعلها حاكمة على هذا الدليل، ونقول: إنّ الفقيه بمنزلة المعصوم (عليه السلام)
لأنّه منصوب من قبله، للنيابة عنه نيابة عامّة، فننتهي إلى نتيجة مفادها أنّ القتال
مع الفقيه كالقتال مع الإمام المعصوم (عليه السلام)[65].
رابعاً: أنّ الأخذ بظاهر هذه الروايات غير ممكن على أي حال مع غضّ النظر عن الأجوبة
السابقة. لأننا لو غضضنا الطرف عن الأجوبة السابقة، وأردنا الأخذ بالمعنى الحرفي
للروايات، فإنّ القتال المشروع سيكون منحصراً في القتال الذي يكون المعصوم (عليه
السلام) هو المشرف عليه، وعلى رأسه، وبمعية المقاتلين، ولا يكفي مجرّد إذنه بذلك.
فرواية، بشير حينئذ سوف تدلّ على أنّ القتال الجائز إنّما هو القتال بمعية الإمام
(عليه السلام) وبإشرافه فقط. وهذا واضح البطلان، ودليلنا على ذلك ـ على الأقلّ ـ هو
القصة التأريخيّة الثابتة بشأن خروج الحسين بن علي (رضي الله عنه) صاحب ثورة
الفخ[66] الذي خرج ضد السلطة الجائرة وبإذن من الإمام المعصوم (عليه السلام) لا
بمعيّته وإشرافه.
وعلى هذا فإنّنا إذا عجزنا عن الأخذ بتفسير من التفاسير الثلاثة السابقة لهذه
الروايات، وجب علينا حينئذ إرجاعها إلى أهلها، إذ لا يمكن الأخذ بمعناها الحرفي
الظاهري كما اتضح.
روايات الطائفة الثانية: وهي الروايات التي تخبر عن أنّ من يخرج ضد الطاغوت قبل
قيام القائم (عج) فسوف ينكسر ولن يحقق نجاحاً.
وروايات هذه الطائفة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: هي التي أخبرت عن الانكسار فقط ولم تتضمن النهي عن الخروج.
القسم الثاني: هي التي نهت عن الخروج والقيام باعتبار أنّه يؤدّي إلى الانكسار دون
مقابل.
أمّا روايات القسم الأول:
1 ـ فعن ربعي مرفوعاً عن السجاد (عليه السلام) قال: «والله لا يخرج أحدٌ منّا قبل
خروج القائم إلاّ كان مَثَلُه كمَثَل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه
الصبيان فعبثوا به»[67].
2 ـ وعن الباقر (عليه السلام) قال: «مثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل
فرخ طار ووقع من كوَّة فتلاعبت به الصبيان»[68].
3 ـ وعن الفضل الكاتب قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي
مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اُخرج عنّا، فجعل يسارُّ بعضنا بعضاً، فقال: أىَّ شيء
تسارُّون يا فضل، إنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد. ولإزالة جبل عن موضعه
أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله، ثم قال: إنّ فلان بن فلان حتّى بلغ السابع من ولد
فلان[69]. قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جُعلت فداك؟ قال (عليه السلام): لا
تبرح الأرض يا فضل حتّى يخرج السفيانيُّ، فإذا خرج السفيانىُّ فأجيبوا إلينا،
يقولها ثلاثاً..»[70].
4 ـ وعن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: «قلت له (عليه السلام): أوصني
ـ إلى أن قال ـ واعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تعزّ ديناً إلاّ صرعتهم
البليّة حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوارى
قتيلهم، ولا يرفع صريعهم، ولا يداوا جريحهم، قلت: من هم؟ قال: الملائكة»[71].
وعلى كل حال، فإنّ لحن الروايات لحن نهي عن الخروج بعلّة انكسار الخارجين وعدم
حصولهم على ما يبغونه من تشكيل حكومة إسلاميّة.
وجوابنا على هذا هو أنّ تصريح الإمام (عليه السلام) بالانكسار هذا لا يدلّ على حرمة
الخروج، فربّ خروج يؤدّي إلى ذلك وهو جائز لترتّب آثار ونتائج مهمة عليه، كما
سيتبيّن ذلك عندما نروي الروايات المجوّزة للخروج فيما بعد. إضافة إلى أنّ هذه
الروايات مقيّدة بقيد (منّا) والذي هو إشارة إلى أهل البيت بالمعنى الخاصّ لا كل من
هو سيّد ومتصّل بالرسول (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة.
إنّ الذي يفهم من هذا القيد ـ وعلى حدّ التعبير الأصولي ـ سنخ قضية خارجية لا
حقيقية، فلا يخبر (عليه السلام) عن كل قضية ولو قدّر وقوعها فيما بعد على سبيل
الفرض. بل يخبر (عليه السلام) إخباراً غيبياً ويقول ما من أحد من أقربائنا الخاصّين
قام إلاّ وانكسر. وكما تحقق ذلك بالفعل في قيام زيد بن علي (رضي الله عنه) والحسين
بن علي صاحب الفخ ويحيى بن عبد الله (رضي الله عنه) ومحمد بن عبد الله.
أمّا أنّ هذا يعني عدم جواز الخروج، فهذه مسألة خارجة عن عهدة الروايات. وكذلك
الإخبار بأنّ كل من سيخرج سينكسر على نحو القضية الحقيقية الكليّة العامّة، فإنّ
هذا معنى غير مستفاد من هكذا نمط من الروايات.
وأمّا روايات القسم الثاني: وهي التي نهت عن الخروج معللة ذلك بالانكسار فمنها:
1 ـ عن أبي الجارود بسند ضعيف جداً عن الباقر (عليه السلام)، قال: «قلت له أوصني:
فقال (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس،
وإياك والخوارج منّا فإنّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء، وأعلم أنّ لبني أمية ملكاً
لا يستطيع الناس أن تردعه وأنّ لأهل الحق دولة إذا جاءت ولاّها الله لمن يشاء منّا
أهل البيت، من أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلى، وإن قبضه الله قبل ذلك خار
له، وأعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تُعزُّ ديناً إلاّ صرعتهم البلية حتّى
تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله، لا يوارى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم ولا يداوا
جريحهم، قلت: من هم؟ قال: الملائكة»[72].
فمن هذه الرواية قد يفهم النهي عن الخروج بقرينة صدر الرواية من قوله (عليه
السلام): «وإن تلزم بيتك».
2 ـ والرواية الأخرى واردة في الصحيفة السجّادية عن متوكل بن هارون عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: «ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحدٌ ليدفع
ظلماً أو ينعش حقاً إلاّ اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»[73].
وقرينة النهي في هذه الرواية هي قوله (عليه السلام) «زيادة في مكروهنا». فالخروج
حرام وغير جائز لأنّه يزيد في مكروه وأذيّة أهل البيت (عليهم السلام). ولكننا
وبلحاظ ورود لفظة (منّا) في الرواية يمكن أن نفهم منها أنّها خاصّة بأهل البيت
(عليهم السلام) بالمعنى الخاصّ، كما في روايات القسم الأول.
3 ـ عن الحسين بن خالد، عن الرضا (عليه السلام)، قال: «لا دين لمن لا ورع له، ولا
إيمان لمن لا تقيّة له، وإنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، قيل: يا ابن رسول
الله إلى متى، قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس
منّا...»[74].
إنّ هذه الروايات التي تمنع عن الخروج ومقاتلة الظالمين بحجة العجز عن الانتصار لا
بحجة عدم وجود المعصوم (عليه السلام)، نعلّق عليها بتعليقة واحدة إلى حين ذكر
الروايات الأخرى.
إنّ مفاد هذه الروايات هو النهي عن الخروج بعلّة الانكسار، ولنا أن نقول هنا بأنّ
هذا ليس ممكناً وعلى نحو القضية العامّة الواسعة وإلى مدى بعيد من الزمن. وذلك لأنّ
الإخبار عن حالة الانكسار المفترضة هنا لها أحد معنيين هما:
1 ـ إمّا الإخبار الغيبي عن الانكسار.
2 ـ أو الإخبار الغيبي عن الظروف والملابسات التي لا تؤدّي إلى الانتصار قبل
الظهور.
ففي الفرض الأول، لوحظت مسألة الانكسار فقط، ولم تلحظ المؤشرات الظاهرية وأنّها هل
تؤكّد الانتصار أو الهزيمة والانكسار. فالروايات تقول: متى ثرتم فسوف تنكسرون.
وفي الفرض الثاني: فإنّ الإمام (عليه السلام) لا يتكلّم إلاّ عن المؤشّرات
الظاهرية، فيقول: إنّ الظروف غير مواتية للانتصار ولم تجتمع العوامل لذلك؛ ولذلك
تكون وظيفة الخروج محرّمة ولا معنى لها.
أقول: إنّ كلا هذين المعنيين مقطوع الفساد.
أمّا الأول: فإنّ كون الإمام (عليه السلام) نظر إلى الواقع وأخبر إخباراً غيبياً
عنه، بأنّه من خرج من شيعته سوف ينكسر، وإن أشّرت المؤشّرات إلى غير ذلك، فهذا أمر
خلاف طبيعة الشرائع السماوية بما فيها شريعة الإسلام. لأنّ التكاليف والوظائف التي
يكلّف بها الناس لا تدور مدار الواقع وإنّما تدور مدار المؤشّرات الظاهرية إلاّ ما
شذّ وندر.
فأنبياء الشريعة ـ وبغض النظر عن موارد الإعجاز ـ كموسى وعيسى (عليهما السلام)
ومحمد (صلى الله عليه وآله)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) والمؤمنون على طول خط
البشرية كلهم أمروا بالتحرّك على وفق المؤشّرات الظاهرية لا على وفق بواطن الأمور
وواقعها. فهذا موسى (عليه السلام) لم يجز قتل ذاك الطفل المعصوم على وفق ظاهر الحال
وأجازه الخضر (عليه السلام)، الذي كان نبياً من غير أنبياء الشريعة، لأنّه تحرّك
على وفق الواقع. وهذا نبينا محمد(صلى الله عليه وآله)، كان يحارب عندما يرى أنّ
المؤشّرات تشير إلى احتمال الانتصار. وقد اتّفق أحياناً أن كانت النتائج ليست كما
كان يتوقعها (صلى الله عليه وآله) فخسر بعض المعارك.
وهذا علي (عليه السلام)، كان يرى وبعين الواقع أنّ ابن ملجم (لعنه الله) قاتله،
ولكنّه كان يتحرّك على وفق الظاهر ولم يقم (عليه السلام) بأي إجراء ضده قبل أن
يرتكب جنايته.
وحارب الحسن (عليه السلام) عندما كان هناك أمل ظاهري بالنصر وصالح عندما أشارت
الظروف إلى ضرورة الصلح، وهكذا...
فالشرائع قائمة على أساس المقاييس الظاهرية ولو أراد الله تعالى للناس أن يسيروا
على وفق الملاكات الواقعية لكان حقاً عليه إرسال الممثلين عنه لإخبار الناس بأمور
الغيب. ولمّا لم يحصل مثل هذا، فإنّ المقياس يبقى هو المقياس الظاهري.
وعلى هذا، فإنّ القول، بأننا لا يجوز لنا العمل والثورة لاستلام الحكم إلاّ بعد أن
نضمن الفوز والانتصار قول مخالف لطبيعة الشريعة الإسلامية.
وأمّا الثاني: وهو أنّ كلام الإمام (عليه السلام) كان ناظراً إلى الظروف ويخبر عن
الظاهر لا عن الواقع. فهذا أمر خلاف سنن الكون لا خلاف سنن الشريعة؛ لأننا قلنا
سابقاً بأنّ الظروف والقدرات والإمكانات قد وزّعت من قبل الله تبارك وتعالى على
الناس بشكل سواء. لأنّه تعالى أراد (أن يكون الناس أمة واحدة)، ولم يشأ أن يكون
النصر إلى جانب الكفرة دائماً بحيث ترجح كفة الكفر على الإيمان في الدنيا دائماً.
قال تعالى {ولولا أن يكُونَ الناسُ أمةً واحِدةً لجعلنا لِمنَ يكفُرَ بالرحمنِ
لِبُيوتهم سُقفاً مِن فِضة وَمعارجَ عليها يَظهرُون وَلِبُيوتِهم أبواباً وسُرراً
عليها يتكئون وزُخرفاً وإِن كُلُّ ذلِكَ لمَّا مَتاعُ الحياةِ الدُّنيا والآخرةُ
عِندَ ربِّك للمُتقينَ}[75].
فما معنى فرضية أنّه متى ما قام الكفّار انتصروا ومتى ما قام المؤمنون انكسروا؟ فهل
معنى هذا القول هو أنّ الناس ليسوا أمة واحدة بل كل الفرص والكفاءات هي إلى جانب
الكفرة؟! كلا فالأمر ليس كذلك كما أوضحنا سابقاً وكما دلّت عليه الآية المباركة
آنفة الذكر.
والخلاصة: إنّ الروايات ومع ضعف سندها لا تُقبل وعلى كلا المعنيين، وإذا قبلناها
فلا بدّ أن نقول:
1 ـ بأنّها ناظرة إلى فتره معيّنة من الزمن لا إلى هذه الفترة الطويلة بين الغيبة
والظهور.
2 ـ أو أنّها ناظرة إلى الخارجين من أهل البيت(عليهم السلام) بالمعنى الخاصّ.
3 ـ أو أنّها صادرة على نحو التقية، أو ما أشبه.
روايات الطائفة الثالثة: هي الروايات التي تمنع عن الخروج والقيام ضد حكم الظلمة في
زمن غيبة المعصوم، ويحتمل فيها احتمالان:
الأول: أن تكون ناظرة إلى شرط العصمة، فما دام المعصوم (عليه السلام) غير موجود
ظاهراً ولا مشرف على القيام، فلابدّ من السكوت والسكون (ما سكنت السموات والأرض).
الثاني: أن تكون ناظرة إلى العجز وأنّ الظروف غير مواتية للقيام فلابدّ من التقية
إلى حين ظهور الحجة (عج).
1 ـ عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه
السلام) فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل»[76].
يستشف من الرواية أنّ صاحب هذه الراية طاغوت وذلك لأحد أمرين:
إمّا لأنّها تشترط العصمة في القيام، وصاحب الراية هنا غير معصوم، فلا يجوز له
الخروج، ولو خرج مخالفاً النهي بالخروج فهو طاغوت.
وإمّا لأنّ الزمان زمان تقية والظروف غير مواتية للانتصار، ولأنّه تجاوز التقية
وعرّض أرواح أنصاره للهلاك فقد ارتكب محرماً وكان طاغوتاً.
2 ـ عن سدير قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «يا سدير الزم بيتك، وكن
حِلْساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج
فارحل إلينا ولو على رجلك»[77].
فما دام السفياني لم يخرج فالزمان زمان سكوت، إمّا لأنّ العمل لابدّ له من معصوم
(عليه السلام) على رأسه، أو لأنّ الظروف غير مواتية للانتصار، وهذا ما يوجب التقية
وليس الخروج والثورة.
3 ـ عن جابر عن الباقر (عليه السلام): قال: «الزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً
حتّى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي في
السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»[78].
4 ـ عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «خمس علامات قبل
قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني، فقلت: جعلت
فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات، أنخرج معه؟ قال: لا»[79].
إنّ الأجوبة على الشبهة التي تطرحها هذه الطائفة من الروايات نصنّفها إلى صنفين:
الأول: الأجوبة العامّة. والتي تعمّ هذه الروايات وأمثالها.
الثاني: الأجوبة الخاصّة. وهي أن تُدرس كل رواية على انفراد وتدقّق ليرى هل تدلّ
على المدّعى أم لا؟
الأجوبة العامّة عن الروايات المانعة من الخروج
أمّا بالنسبة للأجوبة العامّة فهي ثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: ما اتّضح من الأبحاث السابقة حول روايات شرط العصمة، وروايات العجز
عن تحقيق الانتصار، وزمان التقية. فأحاديث هذه الطائفة إمّا هي ملحقة بالطائفة
الأولى أو هي ملحقة بالطائفة الثانية أو بكليهما معاً. وقد مضى الحديث عن هاتين
الطائفتين.
الجواب الثاني: نشير فيه إلى قصّتين تأريخيّتين، لكي نعرف حقيقتيهما. وستكون هاتان
القصّتان جواباً على الشبهة التي تثيرها هذه الطائفة من الروايات.وهاتان القصّتان
هما:
ـ قصّة زيد بن علي (رضي الله عنه).
ـ قصّة الحسين بن علي (رضي الله عنه) صاحب واقعة الفخ.
أمّا بالنسبة لقصّة زيد بن علي(رضي الله عنه) فالروايات الواردة بشأنها كثيرة وهي
تنقسم إلى طائفتين هما:
الأولى: المانعة عن الخروج.
الثانية: المادحة للخروج. وتمتاز بكثرتها، وضعف سندها كلّها إلاّ واحدة، وهي رواية
عيص بن القاسم وهي مفصّلة نختار منها: «.. لا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان
عالماً وكان صدوقاً ولم يكن يدعكم لنفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى
الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»[80].
أمّا الروايات الذامّة فتمتاز بقلة عددها، وضعف سندها كلها إلاّ واحدة أيضاً ـ حسب
تتبّعي ـ.
ففي رواية غير تامّة السند جاء: عن بكر بن أبي بكر الحضرمي قال: «دخل أبو بكر
وعلقمة على زيد بن علي، وكان علقمة أكبر من أبي، فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن
يساره، وكان بلغهما أنّه قال: ليس الإمام منّا من أرخى عليه ستره، وإنّما الإمام من
شهر سيفه، فقال له أبو بكر ـ وكان أجرأهما ـ يا أبا الحسين (كنية زيد) أخبرني عن
علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكان إماماً وهو مرخ عليه ستره، أو لم يكن إماماً
حتّى خرج وشهر سيفه؟ فسكت فلم يجبه فردّ عليه الكلام ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه،
فقال له أبو بكر: إن كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) إماماً فيجوز أن يكون بعده
إمام مرخ عليه ستره، وإن لم يكن إماماً وهو مرخ عليه ستره فأنت ما جاء بك ها هنا.
فطلب أبي علقمة أن يكفّ عنه، فكفّ عنه»[81].
فمن هذه الرواية يتّضح أنّ زيداً لم تكن واضحة عنده إمامة أخيه الباقر (عليه
السلام) أو أبن أخيه الصادق(عليه السلام).
وبما أنّ هناك روايات واضحة الدلالة على أنّه (رضي الله عنه) كان يعرف الإمام (عليه
السلام). فزيد كان عالماً عالي الشأن لا يحتمل في حقّه عدم معرفة إمام زمانه (عليه
السلام). فإذن يحتمل أنّ ظهور مثل هذا المعنى في بعض كلامه (رضي الله عنه) كان بسبب
تستّره على إمامة الإمام (عليه السلام) في وقته؛ خصوصاً وهو قد خرج (رضي الله عنه)
بالسيف. فأراد أن يعدم الصلة بينه وبين الإمام (عليه السلام) لخشيته على الإمام
(عليه السلام) من بطش السلطة وظلمها.
وعلى فرض ثبوت عدم معرفته (رضي الله عنه) لإمام زمانه، فلا دخل لمثل هذا الأمر
الخاصّ بعقيدته بما نبحثه نحن؛ لأنّنا نبحث في أنّه هل ورد منع في هذه الروايات عن
الخروج أم لا؟ وهذا الأمر لا يمكن إثباته في مثل هذه الروايات في الواقع.
وفي رواية ثانية من روايات الذمّ وهي صحيحة السند. «أخبرني الأحول[82]: أنّ زيد بن
علي بن الحسين (عليه السلام) بعث إليه وهو مستخف، قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر
ما تقول إن طرقك طارق منّا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه،
قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قال: قلت: لا ما
أفعل جعلت فداك. قال: فقال لي: أترغب بنفسك عنّي؟ قال: قلت له: إنّما هي نفس واحدة،
فإن كان لله في الأرض حجّة فالمتخلّف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله
حجّة في الأرض فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان ـ سفرة الطعام ـ فيلقمني
البضعة السمينة ويبرّد لي اللقمة الحارة حتّى تبرد، شفقة عليَّ، ولم يشفق عليّ من
حرّ النار إذاً أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فقلت له: جعلت فداك من شفقته عليك من
حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت
وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.
ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء، قلت يقول يعقوب
ليوسف: {يا بنيَّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً}، لِمَ لم يخبرهم حتّى
كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنّه خاف عليك.
قال: فقال: أما والله لأن قلت ذلك لقد حدّثني صاحبك بالمدينة أنّي اُقتل واُصلب
بالكناسة وأنّ عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي. فحججت فحدّثت أبا عبد الله (عليه
السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن
شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكاً يسلكه»[83]. ولا دلالة في
الرواية على حرمة خروج زيد أصلاً. وفي الرواية دلالة نهاية الرواية عندما أخبر عن
إخبار الإمام (عليه السلام) له بصلبه بالكناسة.
أمّا الروايات المادحة فهي كثيرة وقد ذكرنا رواية صحيحة السند آنفاً. والآن نذكر
روايتين غير صحيحتي السند هما:
ـ أنّ زيداً كان يعرف الإمام حقّاً لكنّه كان يكتم ذلك، والدليل على ما في رواية
فضيل عن الصادق (عليه السلام) قال: قال الإمام الصادق «.. يا فضيل شهدت مع عمّي
قتال أهل الشام؟ قلت: نعم، قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة، قال: فلعلّك شاكٌّ في
دمائهم؟ قال: فقلت لو كنت شاكّاً ما قتلتهم، قال: فسمعته وهو يقول: أشركني الله في
تلك الدماء مضى والله زيد عمّي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علىُّ بن أبي طالب
وأصحابه»[84].
ـ وعن الباقر عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال الرسول (صلى الله عليه وآله)
للحسين (عليه السلام): «يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطّى هو وأصحابه
يوم القيامة رقاب الناس غرَّاً محجّلين يدخلون الجنّة بلا حساب»[85].
والنتيجة هي أنّنا حين نقرأ الروايات المادحة لخروج زيد (رضي الله عنه) والذامّة
له، نكاد نقطع بأنّ الروايات الصحيحة هي الروايات المادحة له. وذلك بملاحظة طبيعة
وضع وتاريخ وظرف صدور هذه الروايات. فواقعة زيد (رضي الله عنه) وقعت في زمن من أحرج
الأزمان على الشيعة، وكان الإمام (عليه السلام) آنذاك في أشدّ ما يكون من التقية.
وعلى هذا، فإنّ عمل زيد حتّى وإن كان صحيحاً فإنّ اشتراك الإمام فيه مباشرة لم يكن
صحيحاً؛ لأنّه (عليه السلام) سيتعرّض مباشرة لبطش السلطة الجائرة. وعليه نقول: إنّ
خروجه (رضي الله عنه) كان إمّا مرضيّاً من قبل الإمام (عليه السلام) أو مرفوضاً.
فإن كان مرضيّاً، فلابدّ أن نتوقّع ورود روايات كثيرة ذامّة له تبعاً للظروف
المعادية آنذاك مع احتمال وضع روايات كثيرة ذامّة له. وهذا لا يمانع ورود بعض
الروايات المادحة له أيضاً على لسان الأئمة (عليهم السلام) وفي ظروف معيّنة.
وإن كان خروجه مبغوضاً لدى الإمام (عليه السلام) فإننا نتوقع أن تكثر الروايات
الذامّة له ولا نتوقع رواية واحدة مادحة له ولو ضعيفة السند. وذلك لأنّ الإمام لا
يصدر منه إلاّ الذمّ في حق مثل هذا الخروج. وكذلك السلطة ووعاظ السلاطين
والكذّابون، سوف لا يضعون إلاّ روايات الذمّ في حقه لأنّه خروج ضد السلطة.
وخروج زيد هو أمر مفروغ عنه وثابت تاريخياً، فإذن نقطع بأنّ خروجه كان مرضيّاً من
قبل الإمام (عليه السلام)، ولو كان غير مرضي لما وصلتنا رواية واحدة مادحة له. فكيف
وروايات المدح أكثر من روايات الذمّ.
وأمّا ثورة الحسين بن علي (صاحب واقعة الفخ) فالروايات المادحة لخروجه (رضي الله
عنه) كثيرة ولا توجد رواية واحدة ذامّة له. لكن نقطة الضعف في الروايات الواردة
بمدحه هي أنّ أكثرها رواها أبو الفرج الأصفهاني (صاحب مقاتل الطالبيين) وهو زيدي
المذهب. ولا تستثنى من ذلك إلاّ رواية واحدة أو اثنتين وردت إحداهما في الكافي،
فيكون هذا الأمر مدعاة لاحتمال الوضع والاختلاق لهذه الروايات.
ولكن بالمقابل، فإنّ النكتة التي بينّاها بشأن قصّة زيد ترد هنا وبشكل أوضح.
وللإيضاح نقول: إنّ أصل خروج صاحب واقعة الفخ (رضي الله عنه) يعد من مسلّمات
التاريخ الإسلامي. لكن هل خروجه كان برضا الإمام المعصوم (عليه السلام) أم بغير
رضاه (عليه السلام)؟ وهنا أيضاً نقول: إن كان خروجه مبغوضاً، فإنّنا نتوقع أن تنهال
عليه روايات الذم عن طريق الإمام المعصوم (عليه السلام). وكذلك ستكون روايات أعدائه
روايات ذم بلا شكّ؛ لأنّه خرج عليهم. وبذلك لا نتوقّع رواية مدح واحدة في حقّه (رضي
الله عنه).
وإن كان خروجه برضا الإمام المعصوم (عليه السلام) فإنّنا نتوقع أن ترد روايات المدح
وروايات الذم أيضاً، إمّا كذباً من قبل أعدائه أو تقيّة من قبل الإمام المعصوم
(عليه السلام). بينما في الواقع نرى أنّه لا توجد لدينا ولا رواية ذم واحدة له ولا
لخروجه (رضي الله عنه).
وهذا شاهد قطعي على أنّ خروجه كان مرضياً من قبل الأئمة (عليهم السلام).
ـ من الروايات المادحة، ما ورد في الكافي عن عبد الله بن المفضّل قال: «لمّا خرج
الحسين بن علي المقتول بـ(فخ) واحتوى على المدينة، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة،
فأتاه فقال له: يا ابن العم لا تكلّفني ما كلّف ابن عمك عمك أبا عبد الله فيخرج
منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد. فقال له الحسين إنّما
عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان. ثمّ
ودّعه، فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودّعه: يا ابن عمّ إنك مقتول فأجدّ
الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسترون شركاً وإنّا لله وإنّا إليه
راجعون، احتسبكم عند الله من عصبة. ثم خرج الحسين وكان من أمره ما كان، قتلوا كلهم
كما قال (عليه السلام)»[86].
فإنّ صحّ خروج زيد بن علي والحسين بن علي صاحب (فخ) تاريخياً، وأنّ خروجهما كان
برضا الإمام المعصوم (عليه السلام)، وقد أثبتنا هذا. نعود إلى روايات الطائفة
الثالثة المانعة للخروج منعاً يمتدّ إلى زمن ظهور الحجة (عج) لنرى أزمنة صدورها.
فنرى أنّ قسماً منها يعود إلى زمن الباقر (عليه السلام) تاريخياً، وهو تاريخ متقدّم
على قضيتي زيد والحسين رضوان الله عليهم. فنقطع بأنّ ذلك المنع الصادر من الإمام
(عليه السلام) هو:
ـ إمّا منع تقية.
ـ أو مختص بفترة معيّنة.
ـ أو أنّ الرواية مجعولة وكاذبة.
ـ أو تُردّ إلى أهلها فهم أعلم بمرادهم.
ولا نؤمن بأنّ منعها يحمل على ظاهره، وأنّه مستمر إلى قيام الحجة؛ لأنّنا نرى أنّ
خروج زيد والحسين كان بعد ذلك التأريخ وكان خروجهما مرضيّاً عند الأئمة (عليهم
السلام).
وأمّا القسم الآخر من روايات المنع من الخروج فيعود إلى زمن الصادق (عليه السلام)
والكاظم (عليه السلام). وهذه الروايات وإن كانت قد وردت بعد خروج زيد (رضي الله
عنه) إلاّ أنّها كانت قبل خروج الحسين صاحب (فخ). ولذا، فإنّ شأنها شأن الروايات
السابقة الصادرة في زمن الباقر (عليه السلام). ولم يشذّ عنها إلاّ رواية عن الإمام
الرضا (عليه السلام). وقد صدرت تاريخياً بعد ثورتي زيد والحسين.
فعن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن
لا تقية له، وإنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، قيل: يا ابن رسول الله إلى متى؟
قال: إلى قيام القائم...»[87].
فظاهر هذه الرواية المنع من الخروج إلى قيام القائم (عج) ويحتمل فيها أيضاً أنّ
الخروج كان مرضيّاً عند الأئمة (عليهم السلام) إلى زمن خروج الحسين بن علي صاحب
الفخ. أمّا بعد ذلك ومنذ زمان الإمام الرضا (عليه السلام) وإلى قيام القائم (عج)
فإنّ الخروج غير مرضي.
إلاّ أنّه لا يبعد القول، بأنّ هذه الرواية وإن صدرت بعد قصتي زيد والحسين (رضي
الله عنه) فمن المفهوم عرفاً منها أنّها تريد أن تقول فيما عدا زمان خروج الإمام
المعصوم لابدّ من التقية، ولا خصوصية لزمان الصادق أو الرضا أو السجّاد (عليهم
السلام). أي أنّها أرادت قاعدة عامّه وهي: عند جلوس الإمام المعصوم (عليه السلام)
وعدم خروجه فإنّ العمل بالتقية لابدّ منه.
وسيكون جواب هذا حينئذ، بأنّنا نعلم قطعاً بأنّ خروج زيد بن علي والحسين بن علي
(رضي الله عنه) كان مرضياً عند الأئمة (عليهم السلام).
وعندئذ، فإنّ هذه الرواية إمّا أن تحمل على (التقية) أو تحمل على (خلاف ظاهرها) أو
كونها (كاذبة) أو ما شابه ذلك. هذا بالإضافة إلى كون هذه الرواية غير تامّة السند.
وهناك رواية أخرى وردت بشأن زمن غيبة الإمام (عج)، فعن جابر عن الباقر (عليه
السلام) أنّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على
أمرنا في ذلك الزمان، إنّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري جل جلاله
فيقول: عبادي وإمائي آمنتم بسرّي وصدّقتم بغيبي، فابشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم
عبادي وإمائي حقّاً، منكم أتقبّل، وعنكم أعفو، ولكم اغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث
وأدفع عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: حفظ اللسان
ولزوم البيت»[88].
وقد يقال هنا، بأنّ هذه الرواية غير مشمولة للجواب الذي قلناه، إذ لعلّ زمان الغيبة
يختلف عن الزمان الذي كنّا نتحدّث عنه وهو زمان حضور المعصوم (عليه السلام). ومع
هذا، فإنّ هذه الرواية يمكن مناقشتها من عدّة جهات، فهي ساقطة من ناحية السند أولا،
ولو أردنا التمسّك بها لكان مقابلها روايات عديدة ضعيفة السند أيضاً وتدلّ على وقوع
ثورات عديدة زمن الغيبة وكلها مرضية عند الأئمة، بالإضافة إلى إطلاقات الروايات
الحاثّة على الجهاد ودفاع الظلمة.
الجواب الثالث: ولا نتكلّم فيه عن الخصوصية التاريخية الراجعة إلى ثورتي زيد
والحسين صاحب (فخ) رضوان الله عليهما. وإنّما نقسّم الروايات كلا وطرّاً إلى قسمين
سواء الروايات الواردة في زيد أو الحسين أو الروايات العامّة التي لم ترد بصدد شخص
معيّن، فنقول: إنّ الروايات:
1 ـ إمّا روايات دلّت على مذمّة الخروج ومنعت عنه.
2 ـ أو روايات دلّت على وجود ثورات شرعيّة ومدحت الخروج وحثّت عليه.
وحينئذ فإننا نستفيد من نفس روح الجواب الثاني، والذي طبّقناه على القصّتين وبغضّ
النظر عن ثورات أشخاص معيّنيين فنقول: ليست طريقة فهم الحق من هذه الروايات هو
إثبات السند أو كونه ضعيفاً فقط.
إنّنا نقول: في دراسة الروايات أنّ الخروج ضد الظلم وعلى وفق شروط مواتية هو أمر
إمّا مرضي من قبل المعصوم (عليه السلام) أو غير مرضي؟ أو قل: إمّا جائز أو حرام.
فإن كان حراماً ـ في علم الله ـ فالمترقَّب أن لا نرى حديثاً يدلّ على الجواز، إلاّ
النادر الصادر عن الزيديين ومن شاكلهم؛ لأنّ هذه الروايات إمّا:
ـ يصدرها الصادقون، ولا يتوقّع صدور ما يحلّل الحرام عنهم.
ـ أو يصدرها الكاذبون، وهم دائماً في خدمة السلطة ولا يتعقّل أن يروق للسلطات حديث
يدلّ على حليّة الخروج عليهم. وبذلك سوف لا ينقلون روايات تحثّ على الخروج وتمدحه.
ولو كان في ـ علم الله ـ أنّ الخروج حلال أو واجب فنحن نترقّب صدور الروايات
الكثيرة المانعة عن الخروج؛ لأنّ الصادقين يصدرونها تقية والكاذبين يصدرونها كذباً.
والذي وصلنا من الروايات، وبغضّ النظر عن السند هو:
ـ روايات تمنع عن الخروج.
ـ وروايات تجوّز الخروج.
فنقطع بأنّ الروايات التي تطابق الواقع هي روايات الجواز، والأخرى هي إمّا روايات
تقية أو كاذبة أو مؤوّلة على خلاف ظاهرها.
وهناك رواية تدلّ على أنّ روايات المنع هي روايات تقية، وقد استخدمنا هذه الرواية
(كقرينة ناقصة) للدلالة على المراد.
كتب يحيى بن عبد الله بن الحسن إلى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: «أمّا
بعد فإنّي أوصي نفسي بتقوى الله وبها أوصيك فإنّها وصية الله في الأولين ووصيّته في
الآخرين، خبَّرني من ورد عليّ من أعوان الله على دينه ونشر طاعته بما كان من تحنّنك
مع خذلانك، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وقد
احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديماً ادّعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما
لم يعطكم الله، فاستهويتم وأضللتم وأنا محذّرك ما حذّرك الله من نفسه»...
فكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر: «من موسى ابن أبي عبد الله جعفر وعلىّ متشركَين
في التذلّل لله وطاعته إلى يحيى بن عبد الله بن حسن، أمّا بعد:
فإنّي أحذّرك الله ونفسي وأعلمك أليم عذابه وشديد عقابه، وتكامل نقماته، وأوصيك
ونفسي بتقوى الله فإنّها زين الكلام وتثبيت النعم، أتاني كتابك، تذكر فيه أني مدّع
وأبي من قبل، وما سمعت ذلك منّي (وستُكتب شهادتهم ويُسألون)، ولم يدع حرص الدنيا
ومطالبها لأهلها مطلباً لآخرتهم، حتّى يُفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم، وذكرت
أني ثبّطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت
راغباً ضَعفٌ عن سنّة ولا قلة بصيرة بحجة، ولكن الله تبارك وتعالى خلق الناس
أمشاجاً وغرائب وغرائز فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك وما الصهلج
في الإنسان؟ ثم أكتب إليَّ بخبر ذلك. وأنا متقدّم إليك أحذّرك معصية الخليفة وأحثّك
على بره وطاعته وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار ويلزمك الخناق من كل
مكان فتروّح إلى النفس من كل مكان ولا تجده، حتّى يمنَّ الله عليك بمنّه وفضله
ورقّة الخليفة أبقاه الله فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله. والسلام على من
اتّبع الهدى {أنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى}. قال الجعفري ـ
وهو الراوي ـ: فبلغني أنّ كتاب موسى بن جعفر (عليه السلام) وقع في يد هارون فلمّا
قرأه قال: الناس يحملوني على موسى بن جعفر وهو بريء مما يرمى به»[89].
ففي هذه الرواية أكثر من عبارة دالّة على التقية على فرض صحّة صدور مثل ذلك الكتاب
من الإمام إلى يحيى بن عبد الله.
أمّا الرواية الحاثّة على الخروج والثورة ضد الظلم والمبتلاة (بضعف السند) والتي
تقابل تلك الروايات المانعة للخروج والضعيفة السند أيضاً، فهي:
1 ـ عن كتاب أبي عبد الله السياري، عن رجل قال: «ذكر بين يدي أبي عبد الله (عليه
السلام) من خرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فقال: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما
خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله»[90].
2 ـ عن أيوب بن يحيى الجندل، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: «رجل من أهل قم
يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، ولا
يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكّلون، والعاقبة للمتقين»[91]. وهذا
يقبل الانطباق على ما تحقّق من قيام السيّد الإمام الخميني تغمّده الله برحمته.
3 ـ في غيبة النعماني، عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال:
«كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه ثم يطلبونه فلا يعطونه، ثمّ
يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا فلا
يقبلونه حتّى يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أمّا إني لو
أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر»[92].
4 ـ عن جابر قال: «حدّثني من رأى المسيّب بن نجبة قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين
(عليه السلام) ومعه رجل يقال له ابن السوداء، فقال له: يا أمير المؤمنين إنّ هذا
يكذب على الله وعلى رسوله ويستشهدك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لقد أعرض
وأطول يقول ماذا؟ فقال: يذكر جيش الغضب، فقال: خلِّ سبيل الرجل، أولئك قوم يأتون في
آخر الزمان قزع كقزع الخريف والرجل والرجلان والثلاثة، من كل قبيلة حتّى يبلغ تسعة،
أما والله إني لأعرف أميرهم واسمه ومناخ ركابهم، ثم نهض وهو يقول: باقرا باقرا
باقرا، ثم قال: ذلك رجل من ذريتي يبقر الحديث بقرا»[93].
فهذه الروايات دالّة إذن على أنّه وفي آخر الزمان ستحدث ثورات ضد الحكّام الظلمة
وستكون هذه الثورات مرضية من قبل المعصومين (عليهم السلام).
الأجوبة الخاصّة على الروايات المانعة من الخروج
بعد أن ذكرنا أجوبة ثلاثة عامّة على الروايات المانعة من الخروج، بقي علينا ذكر
الأجوبة الخاصّة، وهي النظر إلى كل رواية بالخصوص لإثبات المدّعى من صحّة الخروج
على الظلمة حتّى في غير عصر ظهور الإمام (عليه السلام). وسنقتصر هنا على دراسة تلك
الروايات الأربع[94] التي درسناها سابقاً لصحّة أسانيدها.
الرواية الأولى: عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل راية ترفع قبل قيام
القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل»[95].
لقد طرحنا سابقاً احتمالين بشأن الاستدلال بهذه الرواية وهما:
الاحتمال الأول: أنّها ناظرة إلى شرط العصمة، فيمن يقوم، ولا يجوز الخروج والقتال
دون حضوره (عليه السلام).
الاحتمال الثاني: أنّها ناظرة إلى التقية والعجز وعدم القدرة. فعندما لا تكون هناك
قدرة على القتال والظفر يحرم الخروج، ـ ولكنّي ـ أرى من تعبير الرواية عن الخارج
بأنّه (طاغوت يعبد من دون الله) وعدم تصريحها بحرمة الخروج في غير زمن المعصوم
(عليه السلام)، أو عند عدم حصول الشرائط الموجبة للنجاح، أرى في ذلك احتمالاً
ثالثاً قبال الاحتمالين السابقين، وهذا الاحتمال هو خروج الخارج بدعوى أنّه هو
الإمام المنصوب من قبل الله تعالى، وأنّه هو الولي المجعول على المؤمنين. وليس هو
النائب العامّ عن المعصوم (عليه السلام).
وهذا الاحتمال وارد بقرينة (طاغوت يعبد من دون الله) فإن كان هذا الاحتمال،
احتمالاً وارداً إلى الذهن ولو بمستوى أن تكون الرواية (مجملة) ومردّدة بين
الاحتمالات الثلاثة، فإنّ الرواية تسقط عن الاستدلال لأنّها أصبحت (مجملة). ومع
ذلك، فإنّنا لو حصرنا الاحتمالات بالاحتمالين الأوليين فقط، فإنّ الجواب ينحصر
بالأجوبة العامّة التي شرحناها سابقاً.
الرواية الثانية: عن سدير قال (عليهم السلام) قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال
أبو عبد الله (عليه السلام): يا سدير الزم بيتك، وكن حِلْساً من أحلاسه، واسكن ما
سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»[96].
وهذه الرواية وبغضّ النظر عن الأجوبة الثلاثة السابقة، فإنّها لا يوجد فيها ما يتمّ
به إطلاقها ـ على حدّ تعبير الأصوليين ـ لكي تعطي قاعدة عامّة. وإنّما هي خطاب إلى
شخص معيّن اسمه سدير، وعلى هذا فشروط تكوّن الإطلاق غير موجودة فيها.
ولكن من المحتمل أنّها تنظر إلى حالات معيّنة، وهي حالات الخروج المقارنة لزمن حضور
المعصوم. فيقول (عليه السلام): يا سدير: أنت الذي تعيش في زمن المعصوم (عليه
السلام) وتفتّش عن إمام لك، وتتصوّر أنّ الخارج بالسيف هو الإمام، فإنّ الأمر ليس
هكذا، ولا تخرج إلاّ إذا خرج السفياني فإنّ خروجه دلالة على خروج الإمام المعصوم
(عليه السلام) أو قرب خروجه (عليه السلام).
أمّا أن تكون هذه الأوامر والإرشادات قاعدة عامّة مطلقة تشمل حتّى زمن الغيبة
الكبرى، وأنّه لا يصحّ خروج أي أحد حتّى ظهور الحجة (عج)، فإنّ هذا أمر لا يمكن
استفادته من هذه الرواية لعدم اكتمال الإطلاق فيها؛ لأنّ الخطاب فيها محدود لسدير
لا لكل المسلمين وفي كل آن ومكان.
ولا أريد أن أحمل هذا المعنى على هذا النصّ فقط دون أن احتمل المعاني الأخرى.
وإنّما الذي أقوله إنّ (الإطلاق) في هذه الرواية غير موجود واحتمال كون الرواية
(خاصّة) احتمال وارد.
الرواية الثالثة: عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:
«الزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتّى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها:
اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»[97].
ولا يوجد في هذه الرواية أيضاً ما يتمّ به مقدّمات الحكم ويثبت منه الإطلاق. فنحن
نحتمل أنّ الرواية تشير إلى حالة معيّنة وهي تلك التي كان يعيشها جابر بالذات، وهي
حالة التواجد في زمن حضور المعصوم (عليه السلام). فيكون النهي نهياً عن الخروج في
زمن المعصوم (عليه السلام) مع غيره. لا سيّما أنّ الرواية ذكرت علامات على قرب خروج
المعصوم وهي الرايات المشار إليها آنفاً.
الرواية الرابعة:
عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «خمس علامات قبل قيام
القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت فداك
إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا»[98].
والملاحظ هنا، أنّ السؤال قد صبّه السائل على عنوان (أهل بيتك).
وقلنا: إنّ المتبادر إلى الذهن عرفاً من هذا اللفظ هم الأقرباء بالمعنى الخاصّ،
وليس كل من هو من نسل الرسول (صلى الله عليه وآله) ولو كان بينه وبين الرسول (صلى
الله عليه وآله) ألف سنة وإن كان هو من أهل البيت أيضاً بالمعنى العامّ.
فالرواية لا تبيّن قضية عامّة لكل زمان ومكان ولأي ظرف كان، إذ لا يوجد دليل على
ذلك. وإنّما تريد القول بأنّ أقرباء الرسول كزيد والحسين صاحب (فخ) ومحمد بن عبد
الله وأمثالهم.. إن خرجوا فلا تخرج معهم إلاّ مع هذه العلامات.
________________________
[1] يُراجع: السيد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، الدار الإسلاميّة
للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1979 م، ص 60 ـ 64.
[2] سورة الأحزاب، الآية:6.
[3] سورة الشورى، الآية:38.
[4] سورة النساء، الآية:59.
[5] راجع السيد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، مصدر سبق ذكره، فصل
الديموقراطية، ص 13 ـ 59.
[6] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 32، ص 133.
[7] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 74، ص 228.
[8] كان أستاذنا السيّد الشهيد يستثني يد الوالدين، وكان يقول بجواز تقبيلهما،
ويتمسّك بقوله تعالى لإثبات ذلك: ( واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة).
[9] مثلما فعل الإمام الراحل الخميني (رضي الله عنه) في تعطيله فريضة الحج
للإيرانيين في بعض السنين لمصلحة ثانويّة كان يراها.
[10] راجع: السيد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، مصدر سبق ذكره، ص 20 وما
بعدها.
[11] سورة المائدة، الاية:1.
[12] سورة الإسراء، الآية:34.
[13] المحدّث الشيخ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث،
الطبعة الأولى 1412 هـ، ج 21، حديث 27081، ص 276.
[14] سورة الشورى، الآية:36 ـ 39.
[15] سورة آل عمران، الآية:159.
[16] سورة الأحزاب، الآية:6.
[17] سورة الأحزاب، الآية:36.
[18] راجع: قحطان عبد الرحمن الدوري، الشورى بين النظريّة والتطبيق، ص 67.
[19] قد يتخيّل أنّ ما في نهج البلاغة في الرسالة السادسة ص 831 بحسب طبعة الفيض من
قوله (عليه السلام): «إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار» يدلّ على أنّ المقياس هو
رأي أهل الحلّ والعقد. ولو تمّ ذلك قلنا: إنّ نصّاً من هذا القبيل لا يكفي في تثقيف
الأمة على هذا المطلب الأساس العامّ ولو كان لكثرت النصوص عليه ولوصلنا من ذلك شيء
كثير.
[20] العلامّة الشيخ محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي،
بيروت، طـ 3، 1403 هـ ـ 1983 م، ج 2، ح 28، ص 267.
[21] ثقة الإسلام الكليني، الأصول من الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طـ 3، ص 405،
وبحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 72.
[22] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 27، ح 4، ص 68. وتكملة الحديث ( وثلاث منجيات:
تكف لسانك وتبكي على خطيئتك وتلزم بيتك ).
[23] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 27، ح 25، ص 266.
[24] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 67.
[25] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 2، ص 265.
[26] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 2، ص 266.
[27] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 2، ص 266.
[28] سورة فاطر، الآية:39.
[29] سورة البقرة، الآية:30.
[30] سورة الأحزاب، الآية:72.
[31] نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، من كتاب لأمير
المؤمنين (عليه السلام)إلى معاوية، ص 366 ـ 367.
[32] نهج البلاغة. المصدر السابق، الخطبة 173، ص 248.
[33] سورة الممتحنة، الآية:12.
[34] سورة الفتح، الآية:10.
[35] سورة الفتح، الآية:18.
[36] سورة الأحزاب، الآية:36.
[37] سورة الأحزاب، الآية:6.
[38] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 28، ص 98.
[39] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25، ص 140.
[40] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25، ص 200.
[41] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25 ص 194 و ص 200.
[42] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 23، ص 68.
[43] الأصول من الكافي ج 1، مصدر سبق ذكره، ص 407.
[44] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 131.
[45] نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، الخطبة 224، ص 247.
[46] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، طـ 2،
1395 هـ، ص 484.
[47] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11، باب جهاد العدو، ص 50.
[48] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.
[49] نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، منشورات الهجرة، الخطبة 40، ص 82.
[50] سورة المائدة، الآية:97.
[51] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11، باب وجوب الحج، ص 24.
[52] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11،، باب وجوب الحج، ص24.
[53] سورة التوبة، الآية:73.
[54] سورة الأنفال، الآية:65.
[55] سورة التوبة، الآية:123.
[56] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 15.
[57] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره،ج 15، باب جهاد العدو، ص 9.
[58] سورة غافر، الآية:7.
[59] سورة الزخرف،الآية:32.
[60] سورة البقرة، الآية:200.
[61] سورة الزخرف، الآيات:32 ـ 35.
[62] سورة العنكبوت، الآيتان:2 و 3.
[63] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 45.
[64] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 49.
[65] وعلى هذا الأساس رجّح صاحب الجواهر (رحمه الله) جواز الجهاد الابتدائي للفقيه
إن لم يتم الإجماع على خلاف ذلك. راجع الجواهر ج 21، ص 14.
[66] ويقال لها ثورة الفخ.
[67] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 51.
[68] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، ح 48، ص 139.
[69] فلان بن فلان إشارة إلى خلفاء بني العباس، ولعل قطع الجواب في هذا المقطع حصل
بمقاطعة السائل للإمام أثناء تكلّمه.
[70] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 47، ص 297.
[71] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 41، ص 136.
[72] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 41، ص 136.
[73] الصحيفة السجّادية المعروفة، نقلناه عن: «المعاني الجليّة في شرح الصحيفة
السجاديّة، لنبيل شعبان، الطبعة الأولى، ص 26 ـ 27.
[74] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، باب وجوب التقيّة، ص 211.
[75] سورة الزخرف، الآيتان:33 ـ 35.
[76] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.
[77] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 51.
[78] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 56.
[79] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.
[80] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 50.
[81] السيد أبو القاسم الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 7، طـ إيران، ص 350.
[82] وهو مؤمن الطاق.
[83] الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، كتاب الحجة، ص 174.
[84] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 46، ص 171.
[85] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 46، ص 170.
[86] الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، كتاب الحجة، ص 366.
[87] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 16، ص 211.
[88] كمال الدين، مصدر سبق ذكره، ج 1 ـ 2، باب 32، ح 15، ص 330.
[89] أصول الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، كتاب الحجة، ص 366 ـ 367.
[90] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ، ج 15، باب جهاد العدو ص 54.
[91] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 60، ص 216.
[92] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 116، ص 243.
[93] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 128، ص 247 ـ 248.
[94] يلاحظ كتاب الكفاح المسلّح، لآية الله السيد كاظم الحائري، ففيه أيضاً بحث
مفصّل عن روايات المنع.
[95] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.
[96] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، 51.
[97] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 56.
[98] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.