خامساً: أسئلة حول ولاية الفقيه و أجوبتها (ولاية الفقيه, آية الله جوادي الآملي)
1. علاقة ولاية الفقيه بحاكمية الأمة
تناولنا في الدروس الماضية المواضيع المتعلقة بولاية الفقيه. ونقوم الآن بمناقشة
بعض الأسئلة التي تطرح في هذا المجال والإجابة عنها:
من بين الإشكالات التي طرحت ما يدور حول أصل ولاية الفقيه ومنافاته مع أصل الشورى
وحاكمية الشعب وتحكمه بمصيره. فالقرآن الكريم يعرف المؤمنين بأنهم ممن يقومون
بأعمالهم بالتشاور، وهذا دليل على أن الحكومة في المجتمع الإسلامي هي حكومة الناس
على الناس والشورى والانتخاب. وبناء على هذا القول، فإن قيادة وإدارة المجتمع لا
تكون بالتعيين من جانب الله، بل هي وظيفة للشعب، وإذا كانت ولاية الفقيه من الله،
فما هو دور الشعب إذاً؟
يقول الله تعالى:
{والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقهم ينفقون}
(الشورى/38).
الجواب:
يمكن تقسيم الحكومات إلى ثلاثة أنواع:
1 ـ الحكومة الاستبدادية المبنية على أساس السيطرة والقوة، حكومة الأقوى الذي يمسك
زمام الأمور بكل قدرة ممكنة، كما كان مثل فرعون: {وقد أفلح اليوم من استعلى}
(طه/64)
من الواضح أنه لا مكان لرأي الناس في مثل هذه الحكومات، بل الأصل للقوة والسلطة
الاستبدادية، والهدف هو تأمين مصالح السلطة الحاكمة.
2 ـ حكومة الناس على الناس (حكومة الشعب): وتقوم هذه الحكومة على أساس رأي الأكثرية
وهدفها تأمين حاجات الناس. مثل الحكومات التي يصطلح عليها بالديمقراطية التي تنتشر
في عالم اليوم، ويكون المعيار للمصلحة والفساد والجمال والقبح والحق والباطل والخير
والشر مبنياً على رأي الأكثرية. أما دائرة تدخل هذه الحكومات فإنها تقع ضمن حدود
تنظيم الأعمال الاجتماعية للبشر وإدارتها.
3 ـ الحكومة الإلهية، وهذا النوع من الحكومات ليس حقاً للحاكم الذي يظفر بالقوة
والسلطة، ولا حقاً للناس بحيث تكون خاضعة لقوانينهم، بل هي حق لله الذي هو رب
العالمين. أما حدود فعالية هذا النوع من الحكومات فإنها تشمل، بالإضافة إلى الأمور
الاجتماعية، الأخلاق والعقائد. فهي تقدم لهم البرنامج الواضح على مستوى العقيدة
وتقرر لهم القوانين والقواعد على مستوى الأخلاق والسلوك.
لهذا، فإن حق السلطة في الحكومة الإسلامية ينحصر بالله، وجميع المؤمنين في هذا
الدين متساوون، وعليهم جميعاً رعاية القانون والأمر الإلهي. وبتفويض أمورهم ومصيرهم
إلى الله في جميع الأحوال، فإنهم يقبلون بسلطة الحاكم والولي المعين من قبل الله.
ومن هنا، ففي مثل هذه الحكومة لا يوجد فرق بين الحاكم الذي يكون نبياً أو إماماً أو
مجتهداً عادلاً وبين أفراد المجتمع ـ سواء من ناحية شمولية الفتوى أو القانون أو من
حيث القيادة والولاية ـ وهذا ما يختلف عن سائر الحكومات الأخرى. فإن الحاكم وجميع
أبناء الشعب ملزمون برعاية الأحكام الإلهية والحكومية.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "أيها الناس، إني والله ما أحثكم على طاعة إلا
وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها" (نهج البلاغة)
وكذلك، بسبب شمول السلطة الإلهية، فإن حرمة رد حكم الحاكم تشمل الجميع. فإقامة
الحكومة الإسلامية وقيادة المجتمع أمران يتطلبان دعم الناس وقبولهم. وهذا الدعم
يحصل من خلال رأي الشعب. سواء بصورة البيعة كما حدث بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه
السلام)، أم بصورة المظاهرة الجماهيرية كما حدث بالنسبة لقائد الثورة الإسلامية
العظيم الإمام الخميني (قده) أم بصورة تصويت مجلس الخبراء الذين ينتخبهم الخمعب،
كما حدث بالنسبة للقائد المعظم للثورة آية الله الخامنئي (دام ظله).
دور الناس في عزل الولي الفقيه
بالالتفات إلى ما ذكر حول دور الشعب في تعيين الولي الفقيه، ومسؤوليته في تشخيص
الولي المعين من جانب الله تعالى، ففي مورد عزل الولي الفقيه يجب القول بأنه مادام
الولي الفقيه حائزاً على شروط القيادة لا يوجد أي دليل أو سبب لعزله، ولا يحق للناس
أو الخبراء أن يقوموا بعزله، أما إذا فقد القائد الشروط والكفاءة المطلوبة للقيادة
فإن على مجلس الخبراء أن يشخص فقدان هذه الشروط وليس عزله. فمع فقدان هذه الشروط
يكشف عن عدم شرعية ولايته على المسلمين من جانب المعصوم (عليه السلام) وأنه قد
عزله. ويلعب الخبراء هذا الدور في التعريف بهذه الموقعية وعزل الولي الفقيه عن
الولاية، كما جاء في الأصل الحادي عشر بعد المئة في الدستور:
"في حال فقد القائد القدرة على أداء وظائفه القانونية أم افتقد لأحد الشروط
المذكورة في الأصل الخامس والأصل التاسع بعد المئة أم علم أنه يفتقد لبعض الشروط،
فإنه يعزل عن مقامه. أما تشخيص هذا الأمر فإنه يعود إلى الخبراء كما ذكر في الأصل
الثامن بعد المئة".
يقول آية الله جوادي الآملي في كتابه "ولاية الفقيه":
"إن مجلس الخبراء يمتلك خبرة تشخيص تعيين الفقيه أو عزله، ولا يكون سبباً لتعيينه
أو عزله. فلا يكون هذا الأمر الذي يتعلق بالحاكم الإسلامي، من جانب الناس أم
الخبراء".
ولاية الفقيه والاستبداد الديني
قمنا سابقاً بتحليل العلاقة بين ولاية الفقيه وسلطة الشعب، وذكرنا أن الحكومة حق
إلهي يختص بالله تعالى. فعلى هذا الأساس يكون تعيين وتنصيب الولي الفقيه من جانب
الله تعالى. أما دور الناس في هذا المجال فهو تحقيق ولاية وقيادة الولي الفقيه
وإيصال هذه الولاية إلى مرحلة الفعلية. ونقوم الآن بتحليل بعض الأبعاد:
من جملة الإشكالات التي تطرح في هذا المجال، تضاد هذين الأصلين في بعض الموارد.
وأصل هذه الشبهة يعود إلى أن ولاية الفقيه تجر المجتمع إلى الاستبداد وحصر السلطة.
وفي هذا المجال، يمكن أن تطرح الأسئلة التالية:
أ ـ فى الإسلام عندما يصدر الولي الفقيه أي حكم أو أمر يصبح ملزماً لجميع الناس أن
ينفذوه ولا يجوز لهم مخالفته، وليس هذا إلا نوعاً من الاستبداد الديني بالمجتمع،
والحكومة الديكتاتورية؟
الجواب:
إن ما يطرح تحت عنوان الاستبداد الديني، له جذور من الناحية التاريخية في الفكر
الليبرالي، حيث يتهم الفقهاء بالاستبداد الديني في إجراء الأحكام الإلهية والضغط
دون أي تسامح في ذلك.
ومنشأ هذا الاتهام يعود إلى الاستبداد الديني الذى مارسته الكنيسة الأوربية في
القرون الوسطى (لاشك أنه لأجل حفظ النظام الإسلامي وعمله بدقة، ينبغي السعي لإعطاء
الناس الصورة الواضحة والصحيحة عن الحكومة الإسلامية لكي يشعروا بضرورة تنفيذ
الأحكام أكثر فأكثر، ويحرسوها من هجوم المخالفين. وإن هذا البحث هو أحد الإسهامات).
وعندما يقوم المتغربون بمطالعة تاريخ تلك الحقبة يقومون بمقارنة غير عادلة بين ما
حدث في الغرب وما يطرح تحت عنوان ولاية الفقيه، يريدون بذلك أن يشيروا إلى أن ولاية
الفقيه تشبه الاستبداد الديني الذي حدث في الغرب على يد الكنيسة.
لكن الحقيقة هي أن ولاية الفقيه تعنى ولاية العارف بالإسلام والعادل والتقي. ومثل
هذا الحاكم يجب عليه أن يستشير أهل الخبرة، ولا يتناسب الاستبداد مع العدالة. أما
لو اتجه الفقيه الحاكم نحو الاستبداد فإنه سيعزل تلقائياً. وحيث إن خبراء الأمة
يشرفون على أدائه، فإنهم يعلنون عزله عندما يجدون أنه يستبد ولم يعد يمتلك صفة
العدالة.
فحكومة الولي الفقيه ليس فيها جهة الاستبداد والتسلط، بل هي حكومة القرآن والسنة.
ونشير هنا إلى ما ذكره الإمام الراحل (قده):
"فحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشرع وحده لا سواه،
وحكم الله نافذ في جميع الناس، وفي الدولة نفسها. كل الأفراد: الرسول (صلى الله
عليه وآله) وخلفاؤه وسائر الناس يتبعون ما شرعه لهم الإسلام الذي ينزل به الوحي
ويبينه الله في القرآن أو على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم
السلام) والناس يتبعون إرادة الله وشريعته".
ب ـ في الأصل الخامس من الدستور ورد "في زمن غيبة ولي العصر"عجل الله تعالى فرجه"
تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية على عاتق الفقيه العادل
المتقي العارف بالزمان، الشجاع المدير والمدبر".
وهذا الأصل ينقض حرية وحاكمية الشعب. لأن الشعب ينبغي أن يكون حراً في تعيين قائده
وشروطه وخصوصياته، وأن يختار من يشاء لذلك.
الجواب:
في الأنظمة الدينية، تكون حرية الناس في تعيين مصيرهم بيدهم واختيارهم ضمن إطار
الدين. أي أن الناس يرسمون مصيرهم على أساس الدين أو المذهب الذي اختاروه. كمثال،
جاء في الأصل الثاني من دستور جمهورية الصين الشعبية أن "الحزب الشيوعي الصيني هو
نواة القيادة لكل الشعب الصيني". أي أن النظام الحاكم يجب أن يعمل وفق الموازين
الاشتراكية. وهذا التحديد قد حصل من جانب الناس بانتخابهم المسبق للنظام الاشتراكي.
وفي النظام الجمهوري الإسلامي أيضاً، قبل الشعب من خلال اختياره المسبق للجمهورية
الإسلامية، تحت عنوان مظهر الحاكمية الإلهية ومصداق الحكومة الإسلامية.
ج ـ يحصل الفقيه الجامع للشرائط على الولاية من دون أن يكون لرأي الناس دخل فى
تعيينه. إذاً، فلا اعتناء برأي الشعب في انتخاب الولي الفقيه.
الجواب:
يتم إعمال رأي الشعب من طريقين: الأول بصورة مباشرة حيث ينتخب الشعب شخصاً بصورة
مباشرة مثل رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى، والطريق الآخر بصورة غير مباشرة،
حيث يوكل الشعب أشخاصاً يقومون باختيار شخص لهذه المسؤولية. ولاشك أن الوكلاء هنا
يعبرون عن رأي الشعب الذي انتخبهم، مثل اختيار الوزراء باقتراح من رئيس الجمهورية
الذي انتخبه الشعب، حيث يقوم مجلس النواب بالموافقة عليهم، كونه يمثل رأي الشعب.
أما في مورد قيادة المجتمع الإسلامي وطبقاً للتدبير الذي طرح في الدستور يوجد
طريقان:
الأول: من خلال الإقبال الحاسم لأكثرية الشعب على فقيه عادل وجامع للشرائط حيث يصبح
الأخير قائداً للمجتمع الإسلامي، كما حدث مع قائد الثورة العظيم ومؤسس الجمهورية
الإسلامية في إيران. فقد شاركت الأمة في تعيين القائد بشكل مباشر.
الثاني: عبر الخبراء الذين ينتخبهم الشعب، حيث يختار هؤلاء من بين الحائزين على
الشرائط قائدأ. ففي هذه الصورة أيضاً، قام الشعب بالانتخاب، ولكن بطريقة غير
مباشرة. وفي كلا الحالين يمكن الجمع بين ولاية الفقيه وحاكمية الشعب.
د ـ في حال كان قائد المسلمين فقيهاً عادلاً ولكن ليس مرجعاً للتقليد، هل تكون له
كافة صلاحيات الولي الفقيه؟
الجواب:
إن ولاية الفقيه العادل ولاية مطلقة. وقد ذكرنا هذا الموضوع سابقاً وأثبتناه، حيث
قيل ان جميع صلاحيات الإمام المعصوم في إدارة شؤون المجتمع الإسلامي تكون لخليفته
ونائبه أيضاً، إلا ما استثني بالدليل والنص فيما يتعلق بالعصمة. فجميع الصلاحيات
الثابتة للفقيه العادل الذي هو نائب الإمام المعصوم تكون لكل فقيه عادل متصد لولاية
أمر المسلمين. وفي هذه المسألة لا يوجد فرق بين الفقيه العادل الذي يعتبر مرجعاً
للتقليد أم لا. فما ورد في الروايات حول ولاية الفقيه لا يتطلب أكثر من "الفقيه
العادل". ويجب على كافة المسلمين أن يطيعوه، سواء كانوا من مقلديه أم لم يكونوا،
وحتى إذا كانوا من مراجع التقليد أيضاً فيما يتعلق بشؤون الحكومة، وإلا عمت الفوضى
وزال النظام من المجتمع الإسلامي.
هل إن إقامة الحكومة تنحصر بيد إمام الزمان (عليه السلام)؟
في الأبحاث السابقة، قمنا بدراسة وتحليل أهمية وضرورة إقامة الحكومة وشروط الحاكم
الإسلامي، ولكن في نفس الوقت يعتقد البعض أنه لا يجوز اقامة الحكومة في عصر الغيبة
حتى ظهور القائم (عليه السلام)، وينبغي أن يتحمل الناس كل ظلم ويصبروا عليه، لأن
إقامة الحكومة ليست إلا من مختصات إمام الزمان (عليه السلام). ويلزم من هذا
الاعتقاد إنكار ولاية الفقيه.
وتعتقد هذه الجماعة أن المسلمين ليسوا مكلفين في عصر الغيبة بالقيام والثورة على
الحاكم الظالم وإقامة الحكومة الإسلامية، ولو رفعت راية باسم الإسلام، فإنها تكون
طاغوتية لا تجوز نصرتها.
ويقوم فكر هؤلاء على أساس بعض الروايات التي تحكم على أي ثورة قبل ظهور القائم
(عليه السلام) بالهزيمة، وتوجب على المسلمين عدم نصرتها. نذكر منها:
1 ـ عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
"كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل".
2 ـ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام):
"والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن
يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به".
3 ـ وفي خطاب الإمام الصادق (عليه السلام) لسدير الصيرفي، قال:
"يا سدير، الزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك
أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك".
الجواب:
أولاً: على فرض صحة سند الروايات هذه، فإنها لا تشمل أكثر من بعض الموارد التي تقوم
فيها ثورات خاصة، ولا علاقة لها بالادعاء المذكور. كمثال، في الرواية الثانية يحتمل
أن يكون المراد من "خروجنا" خروج الأئمة المعصومين (عليهم السلام). وفي هذه الحالة،
لا تشمل الرواية أية ثورة. ولو قبلنا أنها تشمل كل ثورة، فلا تفيد نفي الحكومة
الإسلامية والثورة لإسقاط الطواغيت، بل بيان عدم تحقوا النتائج الإيجابية لأية ثورة
قبل قيام القائم المهدي (عليه السلام)، وإلا لكان حدوث الثورة الإسلامية في إيران
نقضاً لهذا التوقع. فلم تكن هذه الثورة المباركة لعبة بيد الصبيان فضلاً عن أن تكون
لعبة بيد المستكبرين، وإنما انتصرت وحققت نتائجها.
وكذلك في الرواية الثالثة، كأن سدير كان يحب الثورة والجهاد المسلح كثيراً، وقد
راجع الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الشأن مراراً. ولكن الإمام يهدئه ويخبره
أن وقت قيامنا لم يحن بعد. ففي هذه الحال، لا يمكن الادعاء بأن هذه الرواية تبين
تكليف الجميع أو أنها لا تجيز الثورة من بعد هذا أو هزيمتها.
ولأجل اتضاح فساد هذا الادعاء ومعنى هذه الروايات التي تمسكوا بها، ينبغي الالتفات
إلى هذه المسألة:
يمكن تقسيم الثورات التي حدثت قبل ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) أو التي يمكن
أن تحدث إلى قسمين:
أ ـ الثورات التي تقوم في سبيل إحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت
قيادة حائزة على الشرائط، مثل قيام زيد بن علي (عليه السلام) الذي كان رجلاً صالحاً
وعالماً، لم يدع الناس إلى نفسه، بل إلى الرضا من آل محمد، وكان هدفه أنه لو انتصر
فسوف يفي بوعده، ويرجع الحكم إلى الإمام المعصوم (عليه السلام).
ب ـ الثورة التي تقوم لأجل التسلط والإمساك بزمام الأمور.
فالروايات التي تمسكوا بها لادعائهم ناظرة إلى هذا النوع من الثورات، مثل ثورة محمد
بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية، والذي ادعى أنه المهدي الموعود وأخذ
البيعة من الناس على هذا الأساس. وقد قال أبوه عبدالله في أحد المجالس التي كان
فيها كل من المنصور الدوانيقي والسفاح وجمع من بني هاشم: "كلكم يعلم أن ابني محمد
هو المهدي الموعود! وعلى الجميع أن يبايعه".
وبهذه الطريقة دعا بني هاشم لبيعته حتى أنه طلب من الإمام الصادق (عليه السلام)
ذلك، فأجابه عليه السلام: "إذا كنت تقصد أن ولدك محمد هو المهدي الموعود لآل محمد،
وهو القائم اليوم، فهذا ليس صحيحاً، لأنه ليس المهدي الموعود، ولم يحن بعد زمان
الإمام المهدي..".
وتدخل ثورة بني العباس ضد بني أمية تحت هذا القسم من الثورات. فهم قد أعلنوا في
الظاهر شعار الحق والتظاهر بالدفاع عن آل بيت النبي، ولكن هدفهم الأساسي كان
الرئاسة والوصول إلى سدة الحكم.
ثانياً: إن التكليف بالدفاع والوقوف بوجه الكفر والظلم، والسعي لأجل حفظ ونشر الحق
في كل زمان ومكان، حيث إن كل هذا يعتبر واجباً عاماً، ليس مخصصاً فقط بتلك التي
ذكروها والروايات المتعلقة بالجهاد وإقامة الحكومة الإسلامية. فتلك الروايات مع فرض
صحة سندها، لا تشمل إلا الثورات التي يقودها أدعياء الباطل. وأن تعميمها على كل
ثورة وفي كل زمان ومكان، وعلى كل دافع يمثل نوعاً من إهمال العديد من الروايات
والآيات التي وردت في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
هذه الفرائض الإلهية التي تقع على رأس الفرائض الإسلامية وأهمها، وقد تم التأكيد
عليها في كل زمان ومكان. يقول الله تعالى: {... فقاتلوا أئمة الكفر...}
(التوبة/12).
ويقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إن الله عز وجل يباهي بالمتقلد سيفه في
سبيل الله ملائكته وهم يصلون عليه ما دام متقلده".
ويقول الإمام علي عليه السلام: "جاهدوا في سبيل الله بأيديكم، فإن لم تقدروا
فجاهدوا بألسنتكم، فإن لم تقدروا فجاهدوا بقلوبكم".
في بعض الروايات، نجد أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يرغبون ويحثون المسلمين
على الثورة المسلحة ضد الظالمين ويحملونهم مسؤولية هذه الفريضة العظمى. فهذا الإمام
علي عليه السلام يقول: "من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد
سلم ويرى، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون
كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على
الطريق ونور في قلبه اليقين".
وهذه الروايات التي استندوا إليها ـ على فرض صحة سندها أو عموميتها ـ لا يمكن أن
تواجه الآيات والروايات التي ترتبط بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا
يمكن أن تكون في مقابل ضرورة إقامة حكومة العدل ووجوب تطبيق قوانين الإسلام التي لا
تحد بزمان أو مكان.
إن إقامة دولة العدل وتطبيق قوانين الإسلام العادلة الشاملة في عصر الغيبة تحت
رعاية وإشراف الولي الفقيه الجامع للشرائط ليست من الأمور الواضحة التي لا ترديد
فيها فحسب، بل إنها تمثل الأرضية والتمهيد لظهور إمام الزمان (عجل الله فرجه
الشريف). وقد كان للأئمة المعصومين (عليهم السلام) توجه خاص نحوها في هذه المرحلة
الزمانية (عصر الغيبة). وقد عرفوا لنا الفقهاء الذين يصونون أنفسهم ويحفظون دينهم
ويخالفون أهواءهم ويطيعون أمر مولاهم، تحت عنوان الأولياء والقادة الذين تجب علينا
طاعتهم.
يقول الإمام الخميني (قده) في حديث له، إن طاعة الولي الفقيه الجامع للشرائط واجبة
على الجميع:
"وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه
النبي (صلى الله عليه وآله)، منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا".
ثالثاً: الاعتقاد بتعطيل القسم الأعظم من الواجبات الإلهية وترك المحرمات والمعاصي
على حالها مع إمكان تطبيق الواجبات والحد من المعاصي، كل هذا، يعتبر رضا بتحقق
الكفر والفسق، والله تعالى يقول: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر/17)
وكذلك الروايات التي تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على ضرورة تطهير
المجتمع من الكفر والفسق، ولا يمكن تخصيص هذه الروايات.
وحاصل هذا النوع من التفكير أن يمتنع المجتمع الإسلامي عن مواجهة الظلم والفساد
ويسقط في مستنقع الرذيلة.