تتميز الرسالة الإسلامية بالاطلاق المكعب الذي يُعبر عنه بالابعاد الثلاثة للإسلام،
الخلود والشمولية والعالمية، ونحن انّما نعبّر عنها بالاطلاق المكعب لما نراه من
التلازم العضوي بينها، بمعنى ان الايمان بأحدها يؤدي الى الايمان بالباقي، وانّها
في جوهرها تحكي حقيقة واحدة ظهرت في افق الزمان بصورة الخلود، وفي افق الحياة بصورة
الشمولية، وفي افق الانسانية بمظهر العالمية، وتلك هي حقيقة التوحيد الفعّالة
والخلّاقة والمطلقة التي جاء الإسلام شرحاً عقائدياً لها وتعبيراً اجتماعياً عنها،
واخذ كل خصائصه عنها، فكان خلوده تعبيراً عن ابدية التوحيد، وشموليته تعبيراً عن
فعالية التوحيد في الساحة الكونية والاجتماعية، وعالميته تعبيراً عن ربوبية لا يمكن
الّا ان تكون عادلة وشاملة لكل افراد الانسانية، وهي جميعاً تجسد ان التوحيد بما هو
حقيقة مطلقة لا يمكننا ان نحبسه في نطاق محدود في جهة من الجهات، وان هذه الحقيقة
وبحكم ما تتمتع به من الاطلاق لا بد وان تأخذ مداها في افق الزمان كلّه لتنتج
الخلود، وفي افق الحياة كلها لتنتج شمولية الإسلام لمختلف جوانبها السياسية
والروحية والاجماعية، وفي افق الانسانية كلها لتنتج عالمية الإسلام المتعالية فوق
حواجز اللون والجغرافيا والعرق واللغة، ومن خلال امتدادها في هذه الآفاق الى
نهايتها يتجسد معنى الاطلاق في الخالق الحكيم سبحانه وتعالى، ومعنى ربوبيته
للإنسان. فإن الربوبية تعني ان الله سبحانه وتعالى ليس خالقاً والهاً معبوداً فحسب،
بل هو رب يتولى شؤون الانسان وسائر المخلوقات بالتدبير والتوجيه والعناية، وما
انزال الشرائع وبعث الرسل والانبياء إلّا من جملة شؤون هذه الربوبية، ومن الطبيعي
ان تنعكس خصائص الرب على هذه الشؤون، وابرزها خصيصة الاطلاق التي ظهرت في الإسلام
بمقدار ما يسمح به عالم المكان بصورة الخلود والشمولية والعالمية كرشحة من ذلك
الاطلاق، بما يعني في النتيجة ان حذف احد ابعاد هذا الاطلاق المكعب بمثابة نسبة
النقص الى التوحيد، وبالتالي مصادرة اصل التوحيد، اذ لا توحيد الّا توحيد الكامل
المطلق. وهذه الدراسة غير مخصصة لتناول فكرة الاطلاق المكعب بابعادها الثلاثة، وما
سطّره المفكرون الا سلاميون في مجال البحث في خلود الإسلام وشموليته وعالميته يشكل
بمجموعه تراثاً غنياً يستحق الاكبار والاعتزاز دون ان يعني ذلك الاستغناء به عن
الجديد، لأن الحاجات الفكرية حاجات متجددة متنامية تتطلب رفداً متواصلاً وتجديداً
مطرداً وحركة متنامية قادرة على دفع التحديات واشباع المتطلبات الآنية والمستقبلية
وبالمستوى الكمّي والكيفي المتناسب معها. خاصة وان الإسلام في الظروف العصرية
الراهنة يعيش اجواء معركة كاملة الابعاد والجوانب مع حضارة تنظر اليه نظرة النقيض
لنقيضه، ونظرة الحاكم الذي يعطي لنفسه الحق في قمع خصومه واضطهادهم وتطبيق مقولاته
عليهم.
وانّما تهتم هذه الدراسة ببحث جانب من جوانب احد ابعاد هذا الاطلاق، ذلك هو مقولة
الدولة العالمية في الإسلام التي تشكل الجانب الحيوي من جوانب العالمية الإسلامية،
على أمل التوفر في فرصة قريبة لاحقة على دراسة شاملة للأطروحة العالمية في الإسلام.
والشيء الذي نجد ضرورة الاشارة اليه ونحن على اعتاب الكتاب، هو انّنا لا ننظر الى
عالمية الإسلام كما لو كانت حكماً عادياً أو خصيصة عادية من احكام الإسلام
وخصوصياته، وانّما ننظر اليها في اطار فكرة الاطلاق المكعب على انّها احد الابعاد
الثلاثة التي يؤدي حذف أو اهمال احدها الى نسبة النقص الى التوحيد، وبالتالي إلى
مصادرته، اذ لا توحيد إلّا توحيد الكامل المطلق الذي لا بد وان يتجسد كماله واطلاقه
في دينه المنزل الى عباده، فكان خلود الإسلام وشموليته وعالميته تجسيداً لهذا
الكمال بمقدار ما يسمح به عالم الامكان المحفوف بالنقص من ظهور الكمال في ساحاته
وميادينه، وبالنتيجة اننا ندرس مقولة الدولة العالمية في اطار هذه النظرة التي تتسع
لخصوبة الإسلام وتسمح بظهور اشعاعاته المطلوبة لواقع الحياة، ذلك ان المسائل
الفكرية لا بد وان تعالج في ضوء النظرة والاطار الفكري الخاص بها، وان يتجرد
الانسان عن خصوصياته واطاره الفكري الخاص به، ويتلبس بتلك النظرة والاطار الفكري
الخاص بها حتى يتوصل الى النتائج المطلوبة، ومن الطبيعي ان يصل الانسان الى نتائج
مشوهة حينما يعالج موضوعات بحثه في اطار النظرة الخاصة به ولا يعالجها في اطاراتها
الخاصة بها. وفي معالجتنا لموضوع شائك كموضوع الدولة العالمية في الإسلام يجد
الباحث نفسه في حاجة ماسّة الى خصوبة فكرية كافية تمكنه من معالجة الجدليات التي
يخوضها بجدارة وكفاءة وأصالة، فاذا نظر الى هذا الموضوع من خلال اطار لا يتناسب معه
يكون قد ضيّق الخناق على نفسه وصادر الخصوبة الفكرية التي يحتاج اليها وهو لا يزال
في بداية الطريق. اننا حينما ندافع عن التوحيد في الحقل الفلسفي والكلامي لا نتجمد
في نطاقه التجريدي، بل نخوضه ونتعداه ونجعله مقدمة للوصول الى الميدان الاجتماعي،
بوصفه المقصود الأساس الذي يتوجه الخطاب التوحيدي نحوه، فأننا لا نؤمن بتوحيد منعزل
عن الكون والحياة كما «قالت اليهود يد الله مغلولة»[1]. بل نؤمن بتوحيد فعّال يمسك
بدفّة الكون والحياة الانسانية، يقودها بقدرته المطلقة ويوجهها بعلمه المطلق لكي
يوصلها الى رشحةٍ مما يتحلى به من الكمال المطلق.
اننا نؤمن بتوحيد «فعّال لما يريد»[2] «على كل شىء قدير»[3] «يبدئُ ويعيد»[4] وهو
«اقرب اليهم من حبل الوريد»[5] «يدبر الأمر»[6] و«يكوّر النّهار على الليل»[7]، وما
من ذرة في الوجود إلا وتخضع في كل آن من عمرها لقدرة الله ومشيئته واختياره وقضاءه
وقدره وربوبيته وتدبيره وبداءه، أي اننا نؤمن بتوحيد ذي فعالية سيّالة متواصلة في
ساحة الكون والانسان، وهي فعّالية خالدة بخلود التوحيد وأبديته، وشاملة لمختلف
جوانب الحياة الانسانية السياسية منها والعبادية ما دام التوحيد لا يدع ذرة في
الوجود تتحرك بلا مشيئة منه، أما تكوينية كحركة القلب والشمس والقمر، أو تشريعية
كحركة الانسان المطلوبة في مختلف مجالات الحياة على اساس احكام الشريعة الإسلامية،
وهي أخيراً فعاليّة عالمية شاملة للجنس البشري بجميع أفراده وقومياته وقبائله ما
دامت صادرة عن رب مطلق تنهار أمام فيضه كل الحدود والحواجز القومية والأقليمية.
وهذا معنىخلود الإسلام وشموليته وعالميته. ان الاله العاجز عن التأثير في الكون
والحياة ليس بإله، والوهية التوحيد الحقيقي هي الوهية الفيض المطلق الذي ليس بوسع
حد زماني أو مكاني أو موضوعي أن يوقف زحفه الفعال باتجاه استيعاب الساحة الانسانية
حتى آخر ذرة فيها، وما مقولة عدم صلاحية الإسلام لغير العصور الوسطى إلّا فرضية
تستند على أساس وجود حد زماني تقف عنده الوهية الفيض المطلق الفعال، كما ان المقولة
العلمانية القائلة: بأن الإسلام جاء لأشباع الحاجات الروحية ولم يأتِ لتوجيه الحياة
الاجتماعية فرضية اخرى تستند على أساس وجود حد موضوعي اجتماعي تقف عنده هذه
الألوهية، كما ان مقولة اختصاص الإسلام بالجزيرة العربية وعدم صلاحيته للتطبيق فيما
عداها فرضية ثالثة تقوم على أساس ان هناك حدّاً جغرافياً ليس بوسع هذه الألوهية أن
تتجاوزه. وواضح ان هذه الفرضيات لا تتنافى مع الإسلام في حكم من أحكامه أو بعد من
أبعاده فحسب، وانّما تتنافى مع أصل التوحيد الذي نؤمن به، فهل التوحيد الذي يعجز عن
استيعاب الزمان فيثبت سلطانه على القرون الوسطى وتعجزه القرون الحديثة بتوحيد قادر
مطلق فعال؟، وهل التوحيد الذي يلامس شغاف القلوب والأرواح ولا يتجاوزها الى معالجة
الظلم والتطاحن البشري ويعجز عن قيادة الحياة الاجتماعية يمثل ربوبية قاهرة مطلقة؟
وهل التوحيد الذي تلويه حدود الجزيرة العربية ولا تسمح له بتعديها الى ما وراءها
يمثل الوهية حقيقية؟ وهل بوسعنا أن نصفه حينئذ بأنّه «رب العالمين»؟
وهكذا فإن كل واحدة من هذه الفرضيات لا تؤدي الى إسلام ناقص فقط، وانّما توّدي الى
نفي أصل التوحيد. وهذا يعني في المقابل انّنا حينما نؤمن بالتوحيد، فلا بد وأن نؤمن
بإطلاقه المكعب على الصعيد الانساني بالنحو الذي يجسد استيعاب المطلق للمحدود، وعجز
الحدود - الزمانية والموضوعية والمكانية - عن منع المطلق من الوصول الى مبتغاه
الأخير في آفاق الزمان والحياة والمكان.
وفي اطار حيوي خصب رحيب كإطار فكرة الاطلاق المكعب هذه يستطيع الباحث أن يعالج
مقولة الدولة العالمية في الإسلام معالجة غنية وأصيلة وحيوية.
ويخرج بنتائج مهمة على صعيد الجدليات العصرية التي تعترض سبيل هذه المقولة.
لقد ضربت القومية بأطنابها في الواقع الانساني المعاصر حتى يخيل للباحث وهو يطالع
مشاهد الولاء لقيم الدم والأرض والعرق ان البشرية قد عادت الى حيث بدأت عند ما كانت
تخشع أمام الطواطم القبلية وأصنام العصبية، وتقدم لها ألوان التقديس والهدايا
والنذور.
و ما زال الشعور القومي هائجاً لدى الانسان المعاصر حتى تولدت عنه حربان عالميتان
في النصف الأول من القرن العشرين في ظاهرة فريدة لم يعرفها الانسان من قبل، مما
أثار فيه الفزع والرعب، وجعله ينظر بعين القلق الى المستقبل، وأحسَّ بأن مستقبلاً
مظلماً سيكون في انتظاره ما لم يبادر الى التخفيف من غلواء القومية، فاتجه صوب كل
فكرة تحقق له ذلك، فظهرت فكرة تشكيل هيئة دولية باسم عصبة الامم، ثم تطورت هذه
الهيئة وأصحبت تعرف بهيئة الامم المتحدة التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية
الثانية، وفي أعقاب هذه الحرب أيضاً ظهر الاعلان العالمي لحقوق الانسان، واكتسح
المد الشيوعي الاممي آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وتنادى زعماء العالم
الفكريون والسياسيون الى عالم متآخٍ يخلو من العدوان القومي. وسار الانسان المعاصر
في طريقه الجديد وهو يظن انّه قد تغلب على التطرف وأحرز الاعتدال الذي سيؤدّي به
الى السلام العالمي، وان نداءات«ألمانيا فوق الجميع» «سودي يابريطانيا واحكمي»
وامثالها قد ولّت الى غير عودة، لكنّه سرعان ما فوجيء بأن ما حصل ليس طريقاً
جديداً فيه الاعتدال والسلام، وان مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي مرحلة
«استراحة المقاتلين» التي يحتاج اليها اطراف النزاع الدولي المستمد من الشعور
القومي لتجدد قواهم واعادة بناء جيوشهم وترساناتهم العسكرية، ولذا أطلقوا عليها
تسمية «الحرب الباردة» التي انقسهم فيها العالم الى معسكر شرقي بقيادة الاتحاد
السوفيتي، ومعسكر غربي بقيادة أمريكا.
واتجه الانسان المعاصر في هذه المرحلة نحو التسليح العسكري بكيفيات وكميات رهيبة
تساوي أضعاف ما عرفه التاريخ البشري بمجموعه منها، وما كاد القرن العشرين يقضي
أعوامه الأخيرة حتى أعلنت أمريكا شعار «أمريكا فوق الجميع» وبادرت الى تكريسه
وتعميقه في ذهنية الانسان المعاصر من خلال مبادرة عسكرية ضخمة جنّدت من أجلها 30
دولة من الأقمار الصغيرة والكبيرة السائرة في فلكها، وذلك في حرب الخليج الفارسي
الثانية التي راح ضحيتها شعب مسكين بجريرة حاكم مغرور. والتي كانت ضرورة أمريكية
حتى يتاح للأمريكان أن يعلنوا من موقع القهر والغلبة وفي مهرجان الدم والتدمير ان
عصر السيادة الأمريكية الكاملة على العالم قد بدأ.
وهنا يتاح للإنسان المعاصر أن يكتشف ان نداءات السلام والتآخي العالمي، واطروحات
الأمم المتحدة والاعلان العالمي عن حقوق الانسان، وفلسفة الأممية، ما هي الا شعارات
قد تكون صادقة لكنّها عاطفية فارغة ليس بوسعها ان تحدّ من غلواء القومية، وان
المسألة ليست مسألة قومية متطرفة وقومية معتدلة وانّما مسألة حضارة مادية تجد في
مقولة الصراع والنزاع أساسها الطبيعي وجوهرها الحتمي، وان القومية حينما تنبت في
مثل هذه الحضارة لا يمكنها إلا أن تكون قومية اعتدائية ترفع نداء «أنا فوق الجميع»،
فإن كانت قومية غالبة قوية أعلنت هذا النداء بصراحة، وان كانت قومية مغلوبة ضعيفة
أضمرت هذا النداء ورفعت بدلاً عنه شعار الانسانية والتآخي العالمي زوراً وبهتاناً،
فالقومية في مثل هذه الحضارة المادية عدائية دائماً بالفعل أو بالقوّة، وأكثر
القوميات المعاصرة المتوسطة سلكت سلوكاً مزدوجاً، فحينما تقف أمام الغرب تناديه
باحترام وخشوع وخوف بنداء الانسانية والسلام العالمي، وحينما تقف أمام قومية اصغر
منها تنظر لها بازدراء وتتعامل معها بعدوان وبطش وكبرياء. كما هو المألوف في عالم
الغابات المتمدن جدّاً!! وما دامت المسألة تعود في جذرها الأخير الى القاعدة
المادية للحضارة الغربية، فمن الهراء أن ندعو الى السلام العالمي وتلطيف الشعور
القومي، ومن المنطق أن ندعو دعاة وأتباع هذه الحضارة المادية أن يفسحوا المجال أمام
حضارة جديدة تنبذ القيم المادية الأرضية وتبتني على قاعدة من القيم السماوية، تلك
هي الحضارة الإسلامية المنطلقة من التوحيد الذي يعبّر عن نفسه في الساحة الانسانية
بصورة العقيدة ذات الاطلاق المكعب التي تفتح أذرعها الكبيرة لتحتضن البشرية مهما
امتدت في عمودي الزمان والمكان، ومنذ فردها الأول حتى فردها الأخير، وعلى امتداد
الكرة الأرضية لتكوّن من الجميع أسرة واحدة، وتقول لهم: انكم أبناء أب واحد واُم
واحدة، اخوة في اُسرة واحدة، متساوون في الانسانية، وانكم جميعاً نفس واحدة، وأُمة
واحدة.
وفي اطار حضارة روحية سماوية كهذه فقط يتاح للإنسان أن يتحدث عن عالمية حقيقية ليست
عاطفية، وعن سلام عالمي حقيقي وعن شعور قومي معتدل لا يرى نفسه فوق الجميع، وانّما
يرى نفسه كأحدهم «و تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا
فساداً»[8] لان العلو خاصية من خواص التوحيد «و كلمة الله هي العليا»[9] وليست من
خواص الانسان، وعلى الانسان أن يبحث عن خاصيته الحقيقية المتناسبة مع شأنه وهي
العبودية للّه سبحانه وتعالى والتسليم بخاصية العلو للتوحيد، فاذا سلك هذا الطريق
أدى به الى أن ينظر الى نفسه والى الآخرين نظرة طبيعية متوازنة هي نظرة المساواة
والاُخوة «انّما المؤمنون اُخوة»[10].
والدولة الإسلامية هي المشروع السياسي المنبثق عن هذه الحضارة، والمتصدي لبنائها في
الوقت نفسه، منبثق عن التوحيد كحقيقة مطلقة، ومتصدي لتصميم الحياة الاجتماعية في
ضوء هذه الحقيقة، وافراز حضارة توحيدية على أساسها.
وهذا هو المعنى العالمي الحتمي في الدولة الإسلامية الذي اختص كتابنا هذا بمعالجته
عبر ثلاثة فصول، تناولنا في الفصل الأول مفهوم الدولة العالمية، واين يجد هذا
المفهوم مصداقه الحقيقي، وشرحنا في الفصل الثاني الأبعاد التي تتجلى عالمية الدولة
الإسلامية من خلالها، والأركان التي تنهض على أساسها، واختص الفصل الثالث بمعالجة
الجدليات العصرية، والمشكلات التطبيقية التي تعترض سبيل الدولة العالمية، وطرق
التغلب عليها.
آملين أن نكون قد وفقنا لنيل الغرض المقصود، ومن جملة الغرض المقصود تحفيز حملة
الفكر الإسلامي لبذل جهودهم الفكرية في هذا المجال الحيوي الذي يعيشه الفكر السياسي
الإسلامي المعاصر.
ان النظرية السياسية الإسلامية التي اطلّت على عالم التطبيق قبل عقدين من الزمن على
يد الامام الخميني (رضي الله عنه) تقف على أعتاب انطلاقتين مهمتين، انطلاقة باتجاه
تعميق تجربة الحكم الإسلامي والارتفاع بها الى مستوى الطموح النوعي القادر على
إشباع الحاجات السياسية للساحة الإسلامية، ومواجهة التحديات والشبهات والاستفهامات
التي تواجهها في الداخل والخارج وبالحد الذي يجعلها تجربة مشعة تساعد على ظهور
الانطلاقة الثانية، وهي الانطلاقة باتجاه التبشير بهذه التجربة والدعوة الى
احتذائها في سائر بلدان العالم الإسلامي كتجربة إسلامية أصيلة قادرة على استيعاب
المتطلبات العصرية ومواجهة التحديات الغربية والاستجابة للمشكلات المعاصرة في
الحياة الإسلامية وفي مقدمتها مشكلة الحكم والدولة ومشكلة التغريب والتبعية.
ان الضرورة الإسلامية الملحة تقتضي تواصل الرفد الفكري الرصين والأصيل من أجل
الوصول بواقع الدولة الإسلامية المعاصرة الى مواقع متقدمة أكثر كمالاً ونضجاً من
السابق، ان على المفكرين الإسلاميين أن يعدّوا أنفسهم للتحديات الفكرية المستقبلية،
فإن الحضارة - كل حضارة إسلامية كانت أم غير إسلامية - تبدأ من شعار مركزي ما يلبث
أن يتفرع ويتشعب حتى يستوعب الجهات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والأخلاقية
التي تحيط به عبر وثبات تاريخية متعددة، وكلما مرّبها زمن جديد وتجارب جديدة دخلت
في تفاصيل جديدة واحتاجت الى معالجات جديدة، وربما احتاجت الى اصلاح بعض المتبنيات
السابقة الثانوية واعطاء رؤى جديدة أفضل منها.
وكتطبيق لذلك نلاحظ ان الحضارة الإسلامية بدأت بالشعار المركزي الذي طرحه الرسول
الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) في «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وبمرور الزمن
تحول هذا الشعار الى رسالة، والرسالة الى دعوة، والدعوة الى دولة، وعندما توفي
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هذه الدولة تقف على أعتاب حضارة وانطلاقة
انسانية كبرى، وكان من الطبيعي أن تفرز المرحلة الجديدة تساؤلات وإثارات فكرية
جديدة لم تكن معهودة في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كان موقف الصحابة
منها يتمثل في اتجاهين، اتجاه رفع شعار: اسكتوا على ما سكت اللّه عنه، واتجاه آخر
كان ينادي باستمرار: اسئلوني قبل أن تفقدوني، وكان عدد من الصحابة يمثلون الاتجاه
الأول المنطلق عن العجز والمتكيء على القمع، بينما كان الامام علي(عليه السلام)
يمثل الاتجاه الثاني المنطلق من الثقة الكافية بالنفس والمتكيء على الدليل والمنطق
والاقناع.
ان مقولة «و يسألونك» المتكررة في القرآن الكريم 15 مرّة والتي جسّدها القرآن
الناطق الامام على(عليه السلام) عدة مرات حينما قال: «اسئلوني قبل أن تفقدوني» تدلل
على ضرورة تواصل الرفد الفكري الأصيل، ذلك ان عجلة الحياة تجعلها في تغيّر مستمر من
صورة الى أخرى على اُصول معينة، فإذا أردنا للأصول الدينية أن تبقى ثابتة ولا تأتي
عليها عجلة الحياة، فلا بد من اشباع متطلبات التغيير الاجتماعي من صورة زمنية الى
صورة زمنية أخرى، وهذا يتطلب حركة فكرية تكون في موقع القمة دائماً من حيث الزخم
والفعالية، حركة فكرية تبادر الى معرفة السؤال واستكشافه والاجابة عنه وهو لا يزال
في وجدان الامة، وقبل ان يشتد ويتحول في الساحة الى خط انحرافي خطير.
والإسلام ينطوي في داخله على روافد فكرية ضخمة من شأنها أن تولّد مثل هذه الحركة
المطلوبة على الصعيد الفكري، مثل عدم جواز التقليد في العقيدة، وفتح باب الاجتهاد
في الشريعة، ووجود المتشابة الى جانب المحكم في القرآن الكريم بالنحو الذي يحفّز
الذهن باتجاه البحث والتحقيق، اضافة الى ما انطوى عليه القرآن الكريم من دعوة ملحّة
الى العلم والدليل والفكر والتحقيق، حيث نجده قد كرر مادة «كتب» 319 مرّة،و مادة
«فكر» 18 مرّة، ومادة «علم» 854 مرّة، ومادة «نظر» 129 مرّة، ومادة «فقه» 20 مرّة،
ومادة «برهان»8 مرات، ومادة «عقل» 49 مرّة، ومادة «دبَر» 44 مرة، ومادة «بصر» 148
مرّة، ومادة «سمع» 185 مرّة، ومادة «رأي» 328 مرّة، ومادة «قرأ» 88 مرّة، أي انّه
ذكر العلم بمصادره والمعاني القريبة منه 2190 مرّة.
وهذا يعني ان الإسلام يستبطن ثورة فكرية لا نظير لها، وانّه قد اعدَّ هذه الثورة
لتكون الرصيد المطلوب الذي تقوم على أساسه حركة الأمة وتطورها في مختلف المراحل
الزمنية التي ستجتازها.
وعلى المسلمين في المرحلة الراهنة أن يسخّروا امكاناتهم الفكرية ويستثمروا ما في
الإسلام من ثورة فكرية من أجل أن يدفعوا بالصحوة الإسلامية الى مواقع متقدمة
باستمرار. والتخطيط لوثبات قادمة على طريق هذه الصحوة، دون أن تنال من عزيمتهم
الحديدية بعض الكبوات الطبيعية التي تلازم أكثر النهضات والحركات التغييرية. ويأتي
الجانب العالمي من الإسلام كرسالة وعقيدة وشريعة ودولة في مقدمة الجوانب التي تحتاج
الى جهود فكرية كافية تبين طبيعة الاطروحة العالمية في الإسلام وخصوصياتها وسبل
تطبيقها في الواقع الإسلامي، والمشكلات التي تواجه ذلك، وطرق حل هذه المشكلات.
وهو الجانب الذي استأثر باهتمام كاتب هذه السطور منذ ثماني عشرة سنة، وحرص على أن
يدرسه بدقة وعمق، ويلمّ بكل ما كتب حوله، وبما يدخل في موضوعه من الفكر الحديث من
جهة من الجهات، فجاء الكتاب الذي بين يديك ثمرة من ثمرات هذا الجهد المتواصل طيلة
هذه الأعوام، وكان الحافز الذي يدفعني بهذا الاتجاه يتمثل في عدة نقاط هي:
1 - ان ما كُتب عن عالمية الإسلام عبارة عن اشارات عابرة وأفكار متناثرة ومحاولات
جزئية، ولم أطّلع حتى هذه اللحظة على دراسة شاملة تتناول الأطروحة العالمية في
الإسلام من مختلف جوانبها العقائدية والتشريعية والتأريخية.
2 - ان العالمية خصوصية جوهرية في الإسلام بحيث انّنا ليس بوسعنا أن نتحدث عن مجتمع
إسلامي وصحوة إسلامية ودولة إسلامية بالمعنى الكامل للإسلام مالم يكن هذا المجتمع
والصحوة والدولة عالمياً بالمفهوم الإسلامي التوحيدي للعالمية.
3 - ان القومية قد لعبت دوراً خطيراً في التأريخ الإسلامي الحديث، فهي التي أسقطت
الدولة العثمانية، وهي التي مهدت الطريق لظهور العلمانية، وهي التي جزأت المسلمين
وجعلتهم قوميات متصارعة تعتز كل منها بجاهليتها أكثر من أعتزازها بإسلامها، ولم
تبلغ الشيوعية وسائر الأفكار الهدامة التي دخلت محيط المسلمين جزءاً يسيراً من
المخاطر التي سببتها القومية لهم، والطريق الوحيد لمكافحة القومية والتغلب عليها
يتمثل في إبراز المعنى العالمي في الإسلام وتركيزه في فكر ومشاعر وعواطف وثقافة
المسلمين.
4 - ورغم ان الغرب يرتكز على مفهوم القومية في حضارته إلا انّنا نشاهده في بعض
الفترات يرفع لا فتة العالمية من أجل بسط نفوذه على العالم، كما حصل ذلك في العقدين
الرابع والعاشر من القرن العشرين، وفي مثل هذا الظرف يحتاج العالم الإسلامي الى فضح
هذا السلوك الاستعماري الذي يرفع لواء «العولمة» و«القرية العالمية الواحدة» لفرض
النمط الغربي على آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والمعنى العالمي الأخلاقي
التوحيدي للإسلام هو أفضل ما يتيح لنا ذلك، فهو من جهة يعبيء العالم الإسلامي في
وحدة عقائدية سياسية واحدة قادرة على الصمود في وجه التحدي الخطير، وهو من جهة
ثانية يبيّن التناقض الفاضح بين حضارة قومية وشعارات عالمية، وكيف ان العالمية لا
تجد معناها الحقيقي الصادق إلا في ظل حضارة توحيدية كالإسلام، فإن كان العالم يسير
بإتجاه قرية واحدة عالمية، فليس بوسع الغرب أن يكون اطاراً حضارياً جامعاً لها،
لأنّه حضارة قومية من حيث الأساس، وان الإسلام هو الاطار الوحيد القادر على أن يكون
اطاراً جامعاً لهذه القرية.
5 - ومن النقطة السابقة يتضح ان البحث في عالمية الإسلام يؤدّي أغراضاً تبليغية
كبيرة الأثر لصالح الإسلام في العالم، فالقرن العشرون الذي أذاقته القومية حربين
عالميتين وحرباً باردة، وقد استوعبته من بدايته الى نهايته جعل البشرية تتطلع الى
مجتمعٍ متآخٍ يبحث عن السلام بصدق، وقد أحسّت بسبب ذلك بالحاجة الى حياة معنوية
تحياها في اطار الأديان، وكان ذلك سبباً أساسياً في الظاهرة الدينية التي برزت في
نهاية القرن العشرين بالنحو الذي هيأ الأجواء النفسية والفكرية الكافية لتقبّل
الإسلام في العالم، وبوسع المسلمين اليوم أن يتخذوا من البعد العالمي في الإسلام
بوّابة واسعة لنشر وتبليغ هذا الدين الحنيف في مختلف نقاط العالم.
فلماذا لا نتحدث عن عالمية الإسلام كعطاء أخلاقي سياسي فريد لعالم القرن الواحد
والعشرين؟ ولماذا لا نجاهر بمركزية الإسلام في الأرض والحضارة بوصفها المركزية
الحقّة التي ليس هناك ما يفضح المركزية الغربية الباطلة بأحسن منها؟
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}
المؤلف
___________________________
[1] المائدة / 64.
[2] البروج / 16.
[3] الحديد / 2.
[4] البروج / 13.
[5] ق / 16.
[6] السجدة / 5.
[7] الزمر / 5.
[8] القصص/83.
[9] الحجرات/10.
[10] التوبة/40.
الفصل الأول
يقسّم علماء السياسة وفقهاء القانون الدستوري الدول عدّة تقسيمات، كل تقسيم بلحاظ
جهة معينة وملاك معيّن، وحصيلة هذه التقسيمات تكوّن قائمة طويلة بأسماء اشكال الدول
وانظمة الحكم. فطبقاً للمعيار الدستوري هناك دولة جمهورية ودولة ملكية مقيدة،
وثيوقراطية واستبدادية، وملكية غير مقيدة، ورئاسية وبرلمانية، وطبقاً للمعيار
الاقتصادي، هناك حكومة اقطاعية، ورأسمالية، واشتراكية، وطبقاً للمعيار الجغرافي،
هناك حكومة قبلية وقطرية، وقومية، والحكومة المتعددة القوميات، وحكومة عالمية،
وطبقاً لمعيار السيادة، هناك دولة وحدوية، وامبراطورية، واتحادية[1].
وهذه الاشكال والأنظمة تشكل بمجموعها خلاصة التجربة البشرية على صعيد الحكم
والدولة.
وحينما يتصدى الإسلام لبناء دولته الالهية لا بد وان يختار الشكل السياسي المتناسب
مع اطروحته السماوية، او بتعبير ادق. لا بد وان تتبدى هذه الاطروحة في شكل سياسي
معين وبهوية مستقلة وأصيلة، وقد حدّد السيد الشهيد الصدر الشكل السياسي للنظام
الإسلامي بقوله: «و من ناحية شكل الحكومة تعتبر الحكومة - يقصد الحكومة الإسلامية -
قانونية اي تتقيد بالقانون على اروع وجه، لأن الشريعة تسيطر على الحاكم والمحكومين
على السواء، كما ان النظرية الإسلامية ترفض الملكية اي النظام الملكي وترفض
الحكومة الفردية بكل اشكالها، وترفض الحكومة الارستقراطية، وتطرح شكلاً للحكم يحتوي
على كل النقاط الا يجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية
وضماناً لعدم الانحراف، فالأُمة هي مصدر السيادة في النظام وهي محط الخلافة ومحط
المسؤولية أمام اللّه تعالى في النظام الإسلامي.... ومن ناحية تحديد العلاقات بين
السلطات تقترب الدولة الإسلامية من النظام الرئاسي ولكن مع فوارق كبيرة عن الانظمة
الرئاسية في الدول الرأسمالية الديمقراطية...»[2].
وكل العناصر التي ذكرها سماحته عناصر ثابتة تمثل جوهر النظام الإسلامي، الا أنها
ليست العناصر الكاملة له، فهناك عناصر لم يذكرها، ولعله اعتبرها عناصر مستبطنة في
بعض ما ذكره، والسياق يدل على انه لم يكن بصدد بيان كافة الخصوصيات من كافة الجهات،
وأهم خصوصية لم يذكرها هي الخصوصية العالمية في الدولة السلامية، وهي خصوصية ذات
اهمية كبيرة بحيث نستطيع ان نجعلها في مقدمة امتيازات النظام الإسلامي على ما سواه
من الأنظمة، ولذا فهي تتطلب إبرازاً مستقلاً واكيداً اكثر من سائر الخصوصيات، ذلك
ان عالمية الدولة الإسلامية تارة يُنظر إليها من زاوية الموقع التشريعي الذي تحتله،
وأخرى من زاوية الغرض الإنساني الذي تؤديه، وكلاهما يؤديان الى نتيجة في القمّة،
فمن الزاوية التشريعية نجد ان عالمية الدولة الإسلامية ليست حكماً تشريعياً ذكره
القرآن الكريم في آية او آيتين، كما هو الامر بالنسبة الى خصوصية الشورى التي ان
طبقناها كان الحكم منسجماً مع اية قرآنية ومطبقاً لحكم تشريعي جزئي وان لم نطبقها
كان الحكم القائم مخالفاً لهذه الآية ومتنافياً مع ذلك الحكم التشريعي، وليس الأمر
كذلك في الخصوصية العالمية للدولة الإسلامية، لأنها ليست حكماً تشريعياً منصوصاً
عليه في اية او آيتين فحسب، وإنما هي كمثل احد الابعاد الثلاثة الرئيسية للإسلام
التي تمثل بمجموعها مقولة الاطلاق المكعب التي مرّت الاشارة إليها آنفاً، فعالمية
الدولة الإسلامية هي المظهر السياسي المعبر عن ربوبية شاملة لكافة افراد الجنس
البشري وناظرة للجميع بعين العدل والعطف والمساواة، واغفال هذا المظهر يعني اغفال
جانب من جوانب التوحيد، بما يعني في النتيجة ان التجربة القائمة ليست تجربة توحيدية
كاملة، وأنها تأخذ من السماء جانباً ومن الارض جانباً آخر، وبالتالي فهي مزيج من
حضارتين متناقضتين، ذلك ان التوحيد بما هو حقيقة مطلقة لا يمكننا ان نحبسه في نطاق
محدود من جهة من الجهات، ولا بد وان تأخذ هذه الحقيقة مداها في كل الافاق المحيطة
بها وتستوعب الساحة الإنسانية من ابعادها الزمانية والموضوعية والمكانية حتى يتاح
لنا الاعتقاد بأنها هي حقيقة الالوهية والربوبية التي ينشدها الإنسان في حياته،
وامتدادها في افق الزمان الى نهايته هو الذي يُعبر عنه بخلود الرسالة الإسلامية،
وامتدادها في افق الحياة البشرية الى نهايته هو الذي يعبر عنه بشمول الرسالة
الإسلامية لمختلف جوانب الحياة الإنسانية. كما ان امتدادها في الافق الجغرافي
للمجتمع البشري الى نهايته هو الذي يُعبر عنه بعالمية الرسالة الإسلامية.
وهذه الامتدادات الثلاثة تجسد الانعكاس الطبيعي لأطلاق المطلق على الساحة
الإنسانية، فالعالمية هي التعبير الطبيعي عن ربوبية مطلقة رحيمة وعادلة تدير دفة
الساحة الإنسانية على أساس المساواة والحق، ولذا فإن خصائص النظام الإسلامي يمكننا
ان نقسمها الى قسمين:
الاول - خصائص توحيدية نابعة من عمق فكرة التوحيد.
الثاني - خصائص تشريعية نص عليها القرآن الكريم كخصيصة الشورى التي اوردها القرآن
مرتين.
وكلا القسمين خصائص ثابتة لا تقبل التغيير، الا أن القسم الأول مستمد من اصل
التوحيد ويمثل خصائص جوهرية ليس للإسلام فيها شريك ولا نظير، بينما لا يحمل القسم
الثاني هذه الصفة، فمن الممكن العثور على انظمة حكم تحمل الخصيصة الشوروية كما
يحملها النظام الإسلامي بينما ليس بالامكان العثور على نظام سياسي يحمل الخصوصية
العالمية بجدارة وصدق لا كشعار عاطفي سرعان ما يتحول إلى وسيلة استعمارية غير
النظام الإسلامي التوحيدي، وحينما نقول: ان الخصيصة العالمية في الدولة الإسلامية
مستمدة من التوحيد فهذا لا يعني أنها تفتقر الى الدليل القرآني والنبوي. فالقرآن
الكريم مليّ بالشواهد والادلة على ذلك، وكذا السنة النبوية، والمقصود ان الأساس في
الخصيصة العالمية هو المنبع التوحيدي لها، وإنما القرآن - وكذا السنة - يكشف عن ذلك
ويؤكده، وبتعبير آخر، ان القران الكريم حينما ينص على الشورى نستكشف من ذلك ورود
الجعل التشريعي بها، وحينما يشير الى عالمية الإسلام ودولته لا نستكشف من هذه
الاشارة ورود الجعل التشريعي بها بل نستكشف التاكيد القرآني عليها، لأن الشريعة
الصادرة من رب هو رب العالمين العادل الرحيم ليس بوسعها ان لا تكون عالمية حتى
تحتاج عالميتها الى نص وجعل، فالعالمية خصيصة اعلى شأناً من ان تحتاج الى جعل
تشريعي، لأنها خصيصة توحيدية ترقى الى موقع القمة في الإسلام والنظام الإسلامي،
واذا كانت الخصائص التشريعية تمثل شروط النظام الإسلامي، فان الخصائص التوحيدية
تمثل روح وجوهر هذا النظام، واذا كان انعدام الخصائص التشريعية يؤدي الى اختلال
النظام الإسلامي ونقصانه فإن انعدام الخصائص التوحيدية كالخصيصة العالمية يؤدي إلى
انهدام النظام واستحالته الى صورة غير إسلامية، فالشورى وسيلة يرعى بها وحدة الامة
وتعبر عن احترام الحاكم لها، بينما تمثل عالمية الدولة الإسلامية قيمة ذاتية مستقلة
تقاس بها إسلامية الدولة وشرعيتها.
واذا ألقينا نظرة على الساحة الإنسانية وجدناها على الدوام بحاجة ماسّة الى أطار
يجمعها، وما ظاهرة النظم الامبراطورية قديماً، وظاهرة الاستعمار والامبريالية
حديثاً ودعوة العولمة اخيراً، الا ظواهر عدوانية تكشف في حقيقتها عن حاجة الإنسانية
الى اطار عالمي جامع يحتضن البشرية في نطاق إنساني اخلاقي وسياسي واحد، ولما لم يكن
بوسع الإنسان ان يبدع اطاراً كهذا، اذ لا بد وان يكون الظرف غير المظروف، وان تكون
ظرفية الظرف اوسع من المظروف بحيث يصدق عليه انه ظرفاً له، فلا بد من استمداد هذا
الاطار من قدرة عليا تكون ما فوق الإنسان، وهي اللّه سبحانه وتعالى، ولا بد وان
يكون التوحيد هو الأساس الطبيعي والوحيد للعالمية، فإن اقيمت الحضارة على أساس
التوحيد كانت عالمية في حقيقتها وجوهرها، وان رفضت هذا الأساس لم تجد امامها ما
يكون أساساً لها غير القومية، وكانت حضارة تعصبية في حقيقتها وجوهرها، فالتوحيد هو
الأساس الحتمي الوحيد للعالمية، وانكار التوحيد طريق حتمي الى القومية، وعندما تقام
الحضارة على أساس قومي وتخلو الساحة الإنسانية من اطار إنساني جامع، تجد القومية
القوية الغالبة في هذه الساحة فرصتها الذهبية في اشباع غرورها القومي ونزوعها
الجامح للإستئثار والسيطرة والانانية، فتطرح شعار الإنسانية والعالمية وتتخذه جسراً
الى اهدافها القومية وطريقاً لتكريس موقع ابوى غاشم في هذه الساحة، ويكون الإنسان
الاقوى هو الظرف للإنسان الاضعف، وتكون العالمية شعاراً خادعاً كاذباً حقيقته تتمثل
في ان القومية الاقوى قد انتفخت وطرحت نفسها كإطار مستوعب لما حولها من القوميات،
وهذه هي حقيقة الظواهر العدوانية الثلاثة التي شكلت بمجموعها خلاصة الخط العدواني
في تاريح الإنسانية قديماً وحديثاً، وهي النظم الامبراطورية، والاستعمار، والعولمة.
وهكذا نجد ان الخصوصية العالمية تحتل موقعاً ايديولوجيا متقدماً على ما سواها من
خصائص الدولة الإسلامية، كما أنها في الوقت نفسه تمثل مطلباً إنسانياً رفيع
الاهمية، الأمر الذي يتطلب اهتماماً فكرياً وسياسياً بها يتناسب في النوع والحجم مع
هذه المكانة الا يديولوجية والإنسانية التي تحتلها.
- الدولة العالمية تأريخ متنوع
قد يتصور البعض ان فكرة الدولة العالمية لا تحضى بسند تاريخي كبير، وأنها تمثل فكرة
محدودة على الصعيد التاريخي، غير ان الواقع عكس ذلك تماماً، وهو يحكي حضوراً واسعاً
لهذه الفكرة اكثر بكثير مما لفكرة الدولة القومية فيه من حضور، فطبقاً للنظرية
الإسلامية القائلة بأن الدولة ظاهرة سماوية اصيلة نشأت على يد الانبياء[3]، وبدأ
ظهورها على الساحة الإنسانية مع ظهور اول نبوة تشريعية عامة من نبوات اوليالعزم
وهي نبوة نوح(عليه السلام)، وذلك في مرحلة ما بعد الطوفان الذي لم ينج منه سوى
المؤمنون بهذه النبوة، لا يبقى لدينا مجال للشك في ان واقع ما بعد الطوفان كان واقع
الدولة النبوية العالمية التي يخضع لسلطانها البشرية المتبقية من الطوفان، فإن هذه
البشرية وان كانت قليلة العدد، إلّا أنها من الناحية النوعية حينما تذعن لسلطة
نبوية تستند إلى حاكمية اللّه العادلة الناظرة لأفراد البشرية بعين المساواة فإنما
تجسد بذلك المقولة الأساسية للدولة العالمية، وهذا يعني من الناحية الإسلامية على
الاقل ان الدولة الإسلامية لا تبدأ ولا تكون إلّا عالمية.
لقد عرف الإنسان في تأريخه أنواعاً متعددة من الدول العالمية شكلت بمجموعها حلقات
متواصلة ومستوعبة للتاريخ، بحيث يكون استعراضها بمثابة استعراض لتاريخ الدولة
العالمية وهي:
1. دولة تدعي العالمية على أساس استغلالي
وهي الاكثر انتشاراً، والاسوأ نتاجاً، ومثالها البارز النظم الامبراطورية التي شاعت
في التاريخ منذ مطلعه وحتى الحلقات الحديثة منه، وهي النموذج الذي وصفناه بالدولة
العالمية الكاذبة القائمة على أساس تسخير المشاعر الإنسانية لدى الشعوب الخاضعة
لحكمها لإشباع اغراض تسلطية، ومن الغريب ان يشار إليها من قبل بعض الباحثين وعلماء
السياسة كنوع من الانظمة العالمية، فكأنهم ينظرون الى العالمية من زاوية السلطان
السياسي المتسع لاكثر من أمة وشعب فقط، مع ان هذه الزاوية تمثل النتيجة ولا تمثل
المنشأ الذي تنبع منه الصفة العالمية في الدولة. والشيءالمقبول هو أن يشار إلى هذه
الدولة كشاهد تأريخي يدل على عمق الفكرة والشعور العالمي لدى الإنسان،
فالامبراطورية المصرية يشيدها تحوتمس «2000،ق.م»، والامبراطورية الاكدية يؤسسها
سرجون في العراق حدود عام «2750 ق.م»، ثم يقوم من بعده آشور بانيبال بتأسيس
المبراطورية الآ شورية حدود عام «668 ق.م» ثم ظهر الاسكندر المقدوني «356-334 ق.م»
كأبرز داعية في عصره لتوحيد العالم تحت سلطة واحدة، وتعتبر الامبراطورية الرومانية
ابرز مثال تاريخي في عالم الامبراطوريات لما لها من الدور الكبير الذي لعبته في
تارخ اوروبا خاصة وتاريخ العالم بوجه عام. ولعل المؤرخ البريطاني ويلز يشير إليها
بقوله: ان «تاريخ اوروبا من القرن الخامس الى القرن الخامس عشر يتكون على نطاق واسع
جداً من الفشل في تحقيق الفكرة العظيمة بإقامة حكومة عالمية»[4].
وأخيراً اعتبرت الامبراطورية البريطانية اكبر امبراطورية في التاريخ لأنها كانت
تسيطر على اكثر سكان العالم وتمتد عبر القارات الست.
والاستعمار بما هو ظاهرة تستهدف السيطرة على العالم على أساس استغلال المشاعر
الإنسانية لدى المستعمرات يتحد نوعياً مع النظم الامبراطورية، او هو نوع متطور
منها، كما ان اطروحة العولمة في الثقافة والاقتصاد والسياسة التي يتزعمها الامريكان
اليوم، تعد صيغة حديثة، وطبعة جديدة من هذه الظاهرة، وبالتالي فالعولمة وليدة
الاستعمار، والاستعمار هو الابن الروحي لصيغة الحكم الامبراطوري.
ومع اننا من اشد الناس استنكاراً لإطلاق صفة العالمية على هذه الصيغة، إلّا اننا
ندرجها هنا في قائمة صيغ النظم العالمية مجاراة لما عليه الكثير من الكتاب
والباحثين من جهة، ومجاراة لادعاء ارباب هذه الصيغة بالصفة العالمية من جهة ثانية،
ولكي نواكب الاطروحة العالمية في الحكم والدولة من نقطة الافتراض والادّعاء بغض
النظر عمّا لها من رصيد في الواقع وحتى ندرك الحقيقة في المرفأ الأخير المتمثل
بالدولة الإسلامية.
2. دولة عالمية على أساس مادي
وتتمثل هذه الصيغة بالاطروحة الماركسية التي اعتبرت القومية والوطنية اموراً من
مخلّفات الصراع الطبقي، ونادت بالحكم الأممي للطبقة العاملة، وعلى أساس ذلك سجل
البيان الشيوعي الاول نداءاً عالمياً تحول فيما بعد إلى شعار الأممية في كل مكان،
وهو «يا عمال العالم اتحدوا»، وتعتقد الماركسية ان التحول نحو الأممية امر حتمي،
وان البشرية ستشهد في نهاية المطاف ظهور الشيوعية الثانية التي ستسود العالم وتجعله
عالماً متوحداً.
وواضح أن انهيار الماركسية بعد ما اتيحت لها الفرصة الكافية، للتطبيق قد جعل الباحث
في غنى عن مناقشتها، وإنما يلتزم بذكرها بما هي نظرية عرفها الإنسان في زمن قريب.
ولما لم تكن هذه الاطروحة قائمة على أساس واقعي من الناحية الفلسفية، فمن الطبيعي
ان تجنح نحو الخيال من الناحية الاجتماعية والناحية السياسية، وقد كانت فكرتها عن
الأممية من جملة ذلك الخيال، ذلك ان فلسفة مادية، ايا كانت لا تستطيع ان تكون
أطاراً جامعاً للمجتمع البشري، واعطاؤها هذا الاعتبار بمثابة وصف الشيء بعكس ما
يقتضيه، فإن الفلسفة المادية تنطوي على خطوتين متمازجتين، انكار الالوهية من جهة
واثبات الاصل المادي للكون والحياة من جهة ثانية، وكلتاهما تؤديان إلى انكار الوحدة
البشرية، فانكار الالوهية يعني في مدلوله الاجتماعي والسياسي انكار الاطار الواحد
الذي يمكن ان تجتمع عنده البشرية، واثبات الاصل المادي للكون والحياة يعني في
مدلوله الاجتماعي والسياسي ربط كل فرد من البشرية بالمنشأ المادي القريب منه بنحو
منفصل عن الفرد الآخر، فالالماني يرتبط بالارض الالمانية والدم الالماني باعتباره
المنشأ المادي له، والفرنسي كذلك، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين، وهذا يعني في
النتيجة ان النهج القومي والوطني هو الخيار الطبيعي والوحيد لكل فلسفة مادية، وان
التنظير المادي باتجاه الغاء هذا النهج واثبات نهج أممي يكشف عن وجود رؤية خيالية
ومغالطة جوهرية كامنه في عمق تلك الفلسفة المادية، وهذا ما تصدت له الكتب المختصة
بنقد الفلسفة الماركسية واثبتت وجوده، ومن حق الباحث ان يسأل الماركسية عن الجانب
الذي تؤمن به كأطار جامع سيأخذ على عاتقه مهمة حمل العامل الالماني - مثلاً - عل
انكار خصوصيته الالمانية وتجاهل ما توفره له - حسب اعتقاده - من امتيازات مادية وفي
مقدمتها حقه - الذي يدعيه - في قيادة العالم وانشاء الحضارة، والاعتقاد بدلاً عن
ذلك بالمساواة بينه وبين العامل الاسيوي والآخر الافريقي؟ فان ادعائها بالأممية
يقتضي منها بيان الظمانات الموضوعية التي ستتكفل باذابة الشعور القومي الممتاز عند
القوميات التي تعتبر نفسها ممتازة على ما سواها وابدالها بشعور إنساني بالمساواة،
وهذه مسألة اخلاقية روحية ليست من سنخ الفكر المادي، بل هي من سنخ الفكر الديني.
3. دولة عالمية على أساس عاطفي
وهذه الصيغة ليس لها نموذج قائم فعلاً، وإنما هي مستفادة من نداءات بعض المفكرين
وساسة العالم الذين هالتهم الصراعات القومية، ومساويء التمييز العنصري في العالم،
ونتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، وارقام التسليح العسكري وما ترصد له من
ميزانيات مذهلة على حساب الاكثرية الجائعة من سكان العالم، فناهضوا القومية، ونادوا
بإقامة حكم عالمي واحد تنطوي تحته كافة المجتمعات البشرية، واعتبروا هيئة الأمم
المتحدة صيغة قابلة للتطوير بحيث تكون بمستوى الدولة العالمية المنشودة. وقد اتضح
مما سبق ان هذه صيغة عاطفية لا تتضمن ضمانات موضوعية كافية للتطبيق. والاسوأ من ذلك
أنها سرعان ما تتحول إلى وسيلة خداع وتمويه تتكيء عليها القوميات الغالبة للهيمنة
والنفوذ في داخل القوميات المغلوبة، واكبر شاهد على ذلك اعطاء حق الفيتو للدول
الكبرى الخمس في العالم، وخضوع الأمم المتحدة للسياسة الامريكية الى حدّ كبير خلال
السنوات الأخيرة التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز امريكا كقوة طاغية في
العالم.
4. دولة عالمية على أساس عقلي
ولهذه الدولة مثال واحد هو الذي نادت به المدرسة الرواقية في اثينا في القرن الرابع
قبل الميلاد، فإنه يكاد يجمع علماء السياسة والقانون، ومؤرخوا الفكر السياسي على ان
المدرسة الرواقية هي أول مدرسة فكرية وضعية نادت بفكرة الدولة العالمية، وذلك على
يد مؤسسها زينون حدود عام 340 ق.م الذي كان يدرس في رواق «أستوا» بأثينا فجاءت
التسمية بالرواقية من هذه الجهة.
وخلاصة فكرة الدولة العالمية في المدرسة الرواقية، ان هذه الدولة ترتكز على أساس ان
هناك طبيعة مشتركة بين افراد الجنس البشري، وان هذه الطبيعة من شأنها ان تؤدي الى
اخوّة إنسانية شاملة، تقوم على أساس فكرة «المساواة العالمية» بين هؤلاء الأفراد،
وعلى أساس ذلك ظهرت فكرة «القانون الطبيعي» الذي نادت به المدرسة الرواقية كدستور
للدولة العالمية بوصفه القانون الثابت الصالح لكل زمان ومكان، لأنه إنما يصدر عن
طبيعة الاشياء، وفكرة القانون الطبيعي هذه قد تقاذفتها الغايات المختلفة، فبدأت
فكرة تأمل فلسفية، ثم لم تلبث ان تحولت إلى فكرة قانونية، ثم صارت فكرة دينية
مسيحية، وأخيراً اتخذها الفلاسفة والكتاب اداة لزلزلة الطغيان، فمهدوا بها للثورة
الفرنسية.
وتستهدف الدولة العالمية الرواقية تحقيق السعادة للفرد على أساس الاكتفاء الذاتي،
والتدريب الشديد على الفضيلة وقيم الخير استناداً الى الايمان بوحدة الطبيعة وكما
لها، وتقبل ارادة اللّه والاستسلام لها، والمساواة هي الأساس العارم للدولة
العالمية، فلا فرق في هذه الدولة بين فقير وغني، وحسيب وغير حسيب، ويوناني وغير
يوناني، ولا يستثنى من هذا الأساس سوى التفرقة بين العاقل والاحمق، وهو استثناء
حتمي تفرضه الطبيعة الفكرية للدولة العالمية الرواقية[5]. ورغم التنظير الفلسفي
الذي ازدانت به هذه الصيغة وتظافرت عليه جهود عدد كبير من الفلاسفة الرواقيين مدّة
طويلة إلّا أنها من الناحية العملية لا تمتاز بشيء مهم على الصيغة العاطفية، فإن
المسألة الأساسية التي نواجهها في اقامة الدولة العالمية ليست مسألة الطرح العاطفي
ولا التنظير الفلسفي وإنما هي مسألة الضمانات العملية التي تجعل الخواص العقلية
والعاطفية والروحية والاخلاقية هي المتحكمة في الشخصية الإنسانية بحيث يكون الإنسان
تابعاً لها وقادراً بفضلها على التحكم بخواصه الارضية والغريزية ومنها شعوره القومي
والقبلي والأسري والوطني، فإن مشكلة الإنسان الدائمة هي مشكلة الخواص الارضية التي
تستغل قربها منه وشدّة تأثيرها عليه، وشدّة تحسسه بها، فتهيمن عليه وتخضعه لتأثيرها
حتى تتهمش خواصه العقلية والروحية، فتراه يلهج بالمساواة ويطبق الانانية، يدعو إلى
الغاء الامتيازات القومية لكنه يطبق العصبية، ومثل هذه المشكلة لا تحل بالنصائح
الوجدانية، والدعوات النظرية وإنما تحتاج الى قوة فعالة نافذة تدخل إلى عمق النفس
وتعيد التوازن إليها، أضافة إلى ذلك نلاحظ إن المدرسة الرواقية اتخذت من فكرة
القانون الطبيعي أساساً للمناداة بالدولة العالمية، واعتبرته بمثابة الضمانة
الكافية لإقامة مثل هذه الدولة، غير ان مؤرخي الفكر السياسي اشاروا إلى ان هذه
الفكرة شهدت تحولات متعددة، فإنها بدأت فكرة فلسفية، ثم اصبحت ذات صبغة مسيحية،
وأخيراً دخلت معترك الثورة واعتبرت من جملة الاسس الفكرية للثورة الفرنسية، وهذا
يعني ان أساس الدولة الرواقية لم يثبت على حالة واحدة، وانه قابل للاصطباغ بألوان
متعددة بينها اختلاف جوهري.
وهذه القابلية الكبيرة على التلون ناشئة من ان فكرة القانون الطبيعي ليست محددّة
تحديداً كافياً، بل هي بطبعها فكرة فضفاضة تتسع لمعانٍ متعددة وقابلة للتلون بالوان
كثيرة، بمعنى أنها فكرة غير مضمونة، وبالتالي فالدولة التي تقام عليها سوف لن تكون
ذات اهداف وخصائص مضمونة.
5. دولة عالمية على أساس ديني
لكي ندرس هذه الصيغة ونحكم لها أو عليها لابد وأن نبدأ من النقطة التي تمثل نقطة
الانطلاق الأولى للدين على الساحة السياسية.
فإن الدين كمقولة ربانية سماوية عُلوية يبدأ مسيرته السياسية على أساس تحكيم
التوحيد كقيمة سماوية مطلقة تمتلك حقاً ذاتياً في توجيه الإنسان والزامه بما تشاء
من الالتزامات والمناهج والاتجاهات في مختلف مجالات الحياة، وهذا المعنى مندك في
عمق الدين، بحيث يفقد الدين رسالته بدونه، قال تعالى: «و ما خلقت الجنّ والانس
إلّا ليعبدون»[6].
والعبادة مفهوم روحي شمولي يبدأ من خضوع العبد لربه وينتهي بمشروع اجتماعي سياسي
متكامل. فالصلاة التي تبدو عملاً فردياً بين العبد وربه سرعان ما تأخذ طريقها إلى
الساحة الاجتماعية حتى تبلغ ذروتها في صلاة الجمعة التي هي عبارة عن تظاهرة سياسة
اسبوعية متكررة يعلن فيها المجتمع عن انسجامه واتحاده على أساس الدين، وعن استعداده
المستمر للدفاع عن كيانه السياسي والديني، فامام الجمعة يتكيء على سيف، وجمهور
الجمعة الذين يجب حضورهم فيها ليسوا نساءاً ولا اطفالاً ولا كهولاً بل شباب ورجال
مقتدرون، وخطبتا الجمعة بمثابة الركعتين المحذوفتين من صلاة الظهر التي يؤتى
بالجمعة - وهي ركعتان - بدلاً عنها كتتمة لهاتين الخطبتين العباديتين، ويقرأ امام
الجمعة في ركعتي الجمعة بعد الحمد في الركعة الأولى سورة الجمعة وهي مخصصة للتنديد
باليهود وتحذير المسلمين منهم كأعداء للنظام الإسلامي من الخارج، ويقرأ في الركعة
الثانية بعد الحمد سورة «المنافقون» وهي مخصصة للتنديد بالمنافقين وتحذير المؤمنين
منهم كأعداء للنظام الإسلامي من الداخل. وهكذا يبدأ الدين كإعلان عن التوحيد، ثم
ينتقل بهذا الاعلان إلى الساحه الاجتماعية ليدخلها عبر مفهوم العبادة، ثم ينتزع من
العبادة مشروعه الاجتماعي والسياسي المتكامل، فالصلاة عمود الدين، وصفتها هذه تعني
أنها منطلق التغيير الشامل، أي ان العبادة مفهوم شمولي بطبعه، وليس مفهوماً
انعزالياً فردياً كما يقول العلمانيون، وهذا المفهوم الشمولي هو النواة الأساسية
للمشروع السياسي الذي جاء به خط النبوات والرسالات السماوية، ومن حوله تدور سائر
الاحكام الشرعية ذات الصفة السياسية، قال تعالى: «الذين ان مكناهم في الأرض اقاموا
الصلاة وءاتَوُ الزكوة وأمروا بالمعروف...» [7].
وهذا يعنيان المشروع السياسي للدين يتكيء على قاعدة عبادية، والقاعدة العبادية
تستند إلى رؤية كونية توحيدية، بحيث ان السياسة تعني في المفهوم الديني عملاً
عبادياً يستهدف اثبات حاكمية التوحيد على الإنسان ونفي حاكمية ما عداه، وبالتالي
فكل شيء من مفاهيم واحكام الدين يعود إلى مقولة التوحيد الأساسية «لا إله إلّا
اللَّه»، وفي عمق هذه المقولة تكمن امتيازات الدين على ما سواه، وحينما ينادي
الانبياء وحملة الرسالات السماوية واتباعهم بتطبيق الدين كمنهج في الحياة فإنما
يريدون للإنسان ان يحضى بهذه الامتيازات التي لا يجدها في غيره. وتأتي الصفة
العالمية للدولة الدينية مثالاً بارزاً لما يقدمه الدين من امتياز حقيقي لا يجده
الإنسان في غيره، فهي ليست شعاراً عاطفياً، ولا عنواناً طارئاً، بل دعوة مضمونة
صادقة وجدّية، لأنها مستمدة من عمق التوحيد، ومضمونة بما للتوحيد من قدرة ذاتية
خلاقة على الزام الإنسان وتوجيهه وتهذيبه، بحيث ان نفي العالمية لا يعني افتراق
الدولة الدينية عن حكم او مفهوم من احكام او مفاهيم الدين، وإنما يعني بالأساس عدم
صدقها في ادعاء اصل الصفة الدينية التوحيدية.
ذلك ان الصفة العالمية للدولة الدينية لا تنبع من حكم شرعي جزئي، وإنما تتبع من
الرافد التوحيدي نفسه، فالقاعدة التوحيدية لهذه الدولة تجعلها محكومة بنظرة عالمية
تجاه من يقع في دائرة خطابها الفكري والسياسي، بحيث تهمل الخصائص المحلية من اللون
واللغة والوطن والقومية، وتتجه بكل ثقلها نحو الخصائص الإنسانية المشتركة والمتأصلة
في الإنسان كالعقل والفطرة والاخلاق والروح والقيم المعنوية، فخطابها ارقى من خطاب
من لا يميّز بين إنسان وآخر على أساس اللون والقومية وسائر الخصائص المحلية، وإنما
هو خطاب من لا ينظر إلى هذه الخصائص اصلاً، ويركز نظره على الخصائص المتأصلة
والمشتركة في افراد النوع البشري بإعتبارها الجوهر الثمين الذي صار به الإنسان
إنساناً.
بمعنى ان الرؤية الكونية التوحيدية تنعكس في الواقع السياسي إلى رؤية سياسية
توحيدية تحمل كل خصائص الرؤية الكونية التي انبثقت عنها، فلما كانت تلك الرؤية
الكونية هي رؤية الاله الذي هو خالق الجميع من مادة واحدة وبكيفية واحدة وهو الرب
الذي يدير شؤون الجميع وينظر إليهم نظرة واحدة غير متمايزة، فليس بوسع الرؤية
السياسية المنبثقة عنها إلّا ان تكون عالمية في مداها الجغرافي ومحتواها الاخلاقي،
ومن هنا ينبع الامتياز الأساسي للدولة الدينية في بعدها العالمي، فالدولة الدينية
ترى نفسها ملزمة بالبعد العالمي بقدر ما هي ملزمة بأصل التوحيد، بينما الدولة
الوضعية التي تختار المنهج العالمي في سلوكها لا ترى نفسها ملزمة بهذا المنهج.
وإنما هو امر تحبذه وتتقبله بإختيارها، ويمكنها في يوم ما ان تتحايل عليه أو ترفضه
عندما لا تجده موافقاً لمصلحة من المصالح، أو تجد ان المصلحة تقتضي تسخير هذا
المنهج كغطاء عاطفي يمكن تمرير اغراض عدوانية على الأمم الأخرى من خلاله.
الدولة الدينيةترى نفسها مسؤولة امام اللَّه سبحانه وتعالى عن بعدها العالمي، بينما
تنفي الدولة الوضعية وجود قوة اعلى تكون مسؤولة امامها، وهي ليست مسؤولة امام احد
في قضية من قضاياها.
وبعد المسألة التوحيدية، تأتي المسألة العبادية، فالعبادة حلقة وسطى بين عقيدة
التوحيد وبين السياسة والمجتمع، وظيفتها ترويض النفس الإنسانية وتربيتها على الخضوع
والاذعان امام التوحيد وما ينبثق عنه من قيم معنوية اخلاقية روحية، وتقبل حاكمية
هذه القيم والتبعية لها كتعبير طبيعي عن تقبل حاكمية التوحيد والتبعية له، وهذا هو
المفهوم الشمولي الطبيعي للعبادة، خلافاً للمفهوم الفردي الانعزالي المصطنع الذي
يروج له العلمانيون ويرونه الخلاصة الاخيرة لدور الدين في الحياة. بما يعني في
النتيجة ان الدولة الدينية تطل على الساحة السياسة من شرفة العبادة. وتنظر إليها من
زاوية هذا المفهوم الحيوي الذي يتصدى للسياسة بما هي نقطة صراع الارادات، وميدان
المنازلة بين الحاكميات المختلفة، ليهذبها ويقوّمها ويصلحها ويخضعها لحاكمية
التوحيد بالنحو الذي يهيء النفس والمجتمع للالتحام مع الدولة الدينية في كل
ابعادها وطروحاتها، ومن جملتها البعد العالمي الذي قد تستثقله النفس في الوهلة
الأولى لما يتضمنه من عبء والتزام بتكاليف قد تكون باهضة الثمن في بعض الحالات،
لكنها حينما تمر بدورة ترويضية تهذيبية تربوية عبر الشعائر العبادية سوف لا تكون
على اتم الاستعداد لتقبل هذا البعد فقط وإنما ستطرحه كمطلب وشعار تنادي بتحقيقه،
وتطالب الدولة بانجازه ايضاً.
وهكذا فالبعد العالمي للدولة الدينية - بالمعنى الإسلامي للدين - يستند الى رصيد
روحي خلّاق وفعال ومتصل بالقاعدة التوحيدية، بما يتيح لنا الجزم بأن الدولة الدينية
اما لا تكون، واما تكون دولة عالمية بنحو حتمي، وهذه النتيجة الحاسمة تسلط الضوء
على حقيقة المسلك السياسي للدولة الدينية المزعومة في الديانتين اليهودية
والمسيحية.
فالفكر السياسي اليهودي يقوم على أساس الزعم بأن اليهود هم شعب اللَّه المختار، وان
السيادة السياسية على العالم حق طبيعي لهم، وان المفهوم الصحيح للحكومة هو ان يخضع
العالم لحكومة واحدة هي حكومة اليهود العالمية، وان التاريخ سائر بهذا الاتجاه،
وسيشهد في نهايته ظهور هذه الحكومة وتحققها على ايدي اليهود، ولا يحتاج الإنسان إلى
مزيد من التأمل في هذه الفكرة حتى يحكم بانها فكرة عنصرية تتناقض مع الدين ومع
المعنى العالمي في آن واحد، وإنما الذي يحتاج إلى التأمل هو كيفية ظهور فكرة عنصرية
بلباس ديني؟
فقد عاش اليهود جماعة معزولة مقهورة مضطهدة تحت الحكم الفرعوني، وارادت السماء ان
تنتصر لهم، وان تتخذ منهم انصاراً لقضية التوحيد وتجندهم في المعركة ضد الشرك،
فبعثت فيهم انبياء ومكنت لبعض هؤلاء الانبياء فكانوا حكاماً وملوكاً في الارض.
لكن المشكلة التي ظهرت في هذه الجماعة القومية الخاصة، ان حالة التقوقع والانعزال
كانت وبسبب شدّة المأساة التي تعرضوا لها، وطول أمدها، قد تأصلت فيهم وأثّرت في
واقعهم النفسي والذهني تأثيراً عميقاً بحيث صار حالة موروثة عبر الاجيال، ولم تسمح
لهم بالانفتاح على النافذة السماوية التي اطلّت عليهم، واوحت لهم حالتهم هذه بدلاً
عن ذلك بالتعصب القومي، وكان من فرط هذا التعصب فيهم أن جعلوا القومية الاسرائيلية
أساساً في فهم الدين الذي اطلّ عليهم، وكان من نتائج تحكيم القومية في فهم الدين
ظهور فكرة شعب اللَّه المختار الذي يستحق وحده السيادة والحكم على العالم، ذلك انهم
حرّفوا الامتيازات التي يعطيها الدين لخط النبوات وانصار التوحيد في الارض، وصوروها
بأنها قد منحت لهم دون سواهم، وانهم ورثة هذا الخط، وبالتالي فهم الاوصياء على
الدين وان على العالم ان يطيعهم ويذعن لسلطانهم.
اذن فالدين لم يكن عنصرياً، ولم يكن اليهود اتباعاً للدين حتى نحسب عنصريتهم عليه
وإنما كانوا منذ البدء جماعة منعزلة عنصرية أبت إلّا أن تبقى على هذه الحالة، ورفضت
ان تخضع لتأثير الوحي والنبوة، بل اصرت على ان تستثمر الدين استثماراً عنصرياً بشعا
لصالحها.
ولذا كان موقف النبوات منهم شديداً، وعقوبات السماء لهم عديدة، وأخيراً قررت السماء
الاعلان عن رسالة جديدة هي رسالة عيسى المسيح عليه السلام التي ركزت تركيزاً شديداً
على القيم المعنوية والروحية لتنتشل الواقع الاجتماعي من الهوّة المادية السحيقة
التي كان اليهود قد وقعوا فيها بنحو خاص وسائر المجتمعات التي من حولهم بنحو عام،
وتركيز النبوة الجديدة على الجانب المعنوي والاخلاقي لا يعني بحال من الاحوال
انصرافها عن الجانب السياسي، لان خط النبوات يرتكز على خصائص مشتركه ثابتة في كل
نبوة، والجانب السياسي المتمثل بالحكم والدولة هو احد هذه الخصائص الثابتة قال
تعالى: «.. فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه»[8]، والسياسة هي الساحة التي تظهر فيها اكثر واشد واعمق
الاختلافات البشرية.
واذا كانت اليهودية قد وقعت في الانحراف المادي والعنصري، فإن المسيحية وقعت في
الانحراف الانعزالي الرهباني الذي يصور الدنيا خطيئة لا تقبل الاصلاح، فعلى
المؤمنين الانعزال عنها انعزالاً تاماً ليحققوا في ذواتهم النقاء والطهر والتزكية
المطلوبة.
وبمرور الزمن دخلت في موجات متتالية من التحريف والتزييف، فمنذ القرن الرابع
الميلادي بدأت المسيحية تدخل عالم السياسة بمباركة من الامبراطور الروماني الذي احس
بالحاجة إلى المسيحية لتكون اداة في توسيع سلطانه ونفوذه واستقرار امبراطوريته، ومع
ظهورها الجديد على مسرح السياسة بدأت الكنيسة تشعر بمكانة هامة. وبالتدريج بدأت
تسعى لتأليف فلسفة سياسية مناسبة من مجموع المعطيات الفكرية القائمة على الساحة،
فأخذت فكرة القانون الطبيعي عن الرواقيين، وصبغتها بصبغة دينية، واصبحت تعني من
منظار الكنيسة ذلك القانون الالهي الذي يسمو على القانون الوضعي، وانه من الهام
اللَّه باعتباره خالق الطبيعة، وكان هدف الكنيسة من وراء ذلك تمكين البابا من سلطان
الملوك، أي اخضاع الدولة إلى الكنيسة. ومن هنا يعتقد البعض ان بعض تعاليم القديس
بولس عبارات مأخوذة من الرواقيين ككلمته التي وجهها إلى أهل اثينا ويقول فيها: «ليس
هناك يهود واغريق ولاحرولاعبد ولا ذكر ولا انثى فكلهم سواء في يسوع المسيح» بأنها
عبارة وردت حرفياً في تراث الراوقيين[9].
وفي القرن الرابع الميلادي استحدث القديس اغسطين فكرة الأمم المسيحية، واشترط في
الدولة ان تقوم على أساس العقيدة المسيحية كرابطة مشتركة وكشرط لتحقيق العدالة
المطلوبة من كل دولة.
وفي القرن الثالث عشر انتهى دانتي «1265 - 1321 هـ» إلى ان الجنس البشري كله يكون
مجتمعاً واحداً تحت رئاسة حاكم واحد له السيطرة الكاملة على جميع الناس، وتتركز في
يده السلطة فتصبح سلطة واحدة مثل سيطرة اللّه على الطبيعة، وارتأى ان الامبراطورية
الرومانية هي المحاولة الخامسة في التاريخ لإنشاء امبراطورية عالمية، وأنها الوحيدة
التي كتب لها النجاح والسيادة على العالم، وهو يعتقد بالامبراطورية المثالية كدولة
عالمية مثالية[10].
هذه فكرة مختصرة عن المشروع السياسي للكنيسة، وقد غدا واضحاً انه مشروع الكنيسة بما
هي مؤسسة ظهرت في ظروف فكرية وسياسية معينة، وهي لا تمت إلى المسيح(عليه السلام)
ولا إلى رسالته ونبوته بصلة، وقد استمد وجوده واستمراره وتطوره من عوامل غير دينية،
فنجد - مثلاً - البعد العالمي الذي نعتني بدراسته قد بدأ في هذا المشروع فكرة
مستعارة من المدرسة الرواقية، ثم اخذ بالاشتداد والتعمق لتلبية حاجة الامبراطورية
إلى النفوذ الواسع، ولمواجهة الزحف الإسلامي الذي كان يهدد اوروبا سياسياً ودينياً،
وكانت اوروبا تشعر ازاءه بضرورة مواجهته من خلال بعد عالمي مضاد، ولم تكن تملك
وسيلة إليه سوى التأكيد على كيانها الامبراطوري حتى نادت في عام 800 م بشارلمان
كأمبراطور مسيحي على كل اوروبا، وذلك عندما كان العالم الإسلامي في ذروة سلطانه
السياسي الممتد من الصين وحتى مشارف اوروبا.
وهكذا لم يتح للساحة الإنسانية ان تنعم بمشروع سياسي ديني يرفع لواء دولة عالمية
حقيقية، فالدولة العالمية بالمفهوم اليهودي تعني حكومة شعب اللّه المختار دون سواه
على العالم، وهي بالمفهوم المسيحي تعني خضوع العالم لسلطة الكنيسة بكل ما تجسّده من
تشويه للدين والتوحيد، وكلاهما غريب عن الدين، بعيد عن حقيقته فكان لابد من انتظار
مبادرة سماوية جديدة تطلق مشروعاً صادقاً في هذا الاتجاه.
فظهر الإسلام في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي مبادرة سماوية جديدة،
وكان هو المبادرة الخاتمة، وخاتميته حقيقة تعني كونه الحلقة الاكمل والاتم في خط
النبوات، والكمال حقيقة سارية تنطلق من جذور الشيء واعماقه حتى تتبدى وتمتد في
امتداداته وآفاقه، بمعنى ان كمال الإسلام المتجلي في التشريع مستمد من كمال عقيدته،
وكمال عقيدته مستمد من كمال فكرة التوحيد لدينه، ولم تنحرف التجربة المسيحية ومن
قبلها التجربة اليهودية على الصعيد السياسي والتشريعي إلاّ بعد ما جرى تحريف فكرة
التوحيد في كلتا الديانتين، ومن هنا كان الإسلام شديد الحرص على قاعدته التوحيدية،
شديد التأكيد على ابراز رؤية كونية توحيدية خالصة ونقية من الشوائب وذات محتوى
فعّال قادر على تفجير الطاقات الكاملة في الإنسان، ذلك ان قوّة المشروع الاجتماعي
والسياسي الإسلامي ستعتمد على قوّة وفعالية هذه الرؤية الكونية، والبحث هنا ليس
بصدد شرح كل تفاصيل وابعاد العلاقة بين التوحيد كرؤية كونية وبين قوة المشروع
الاجتماعي والسياسي الإسلامي، وإنما نركز على البعد العالمي من الإسلام بوصفه موضوع
هذا الكتاب، وهو مما يصلح للإستشهاد به كمثال على تلك العلاقة في سائر ابعاد
المشروع الاجتماعي والسياسي الإسلامي.
ان مفهوم الدولة العالمية يتمثل ببساطة ببداية اخلاقية هي المساواة، وبنهاية
جغرافية سياسية هي السلطان السياسي الشامل لكل افراد البشرية، والتاريخ السياسي
البشري كان يدور منذ نبوة نوح وحتى عصر النهضة الاوروبية الحديثة التي ابدعت فكرة
الدولة القومية كبديل عن الدولة العالمية بين المناداة بهذه البداية والمناداة بتلك
النهاية، وكانت نقطة الضعف البشري الأساسية تتمثل بالعجز عن الجمع بين الندائين في
اطار نظري فعّال وحقيقي، وكان هذا التفكيك بين البداية الاخلاقية المتمثلة
بالمساواة والنهاية السياسية المتمثلة بالسلطان السياسي العالمي يؤدي إلى انحراف
مسيرة النداء بكل منهما، فالنداء بالمساواة تحول إلى نداء محلي خاص بنطاق قومي
معين، والنداء بالسلطان العالمي تحول إلى نداء عدواني يعني اخضاع الآخرين لسلطة
الانا القبلية أو القومية واشباع غريزة التسلط إلى اوسع الحدود، وفي ذلك دلالة مثلى
على ان الجمع بين الندائين لا يتحقق إلّا في اطار سماوي توحيدي فعّال. وان الدولة
العالمية الحقيقية لا تكون إلّا إسلامية، كما ان الدولة الإسلامية لا يمكن ان تكون
إلا دولة عالمية، وفيه دلالة أخرى على اصالة النداء بالمساواة والنداء بالسلطان
السياسي الشامل لكل افراد البشرية في النفس الإنسانية، وبمعنى جامع، اصالة النداء
بالدولة العالمية المتكونة منهما فيها، سوى ان هذا النداء الوجداني ينحرف عن مسيره
الطبيعي كلما ابتعد الإنسان عن السماء والتصق بالارض، ويواصل نهجه المستقيم كلما
تطابق مع السماء واتخذها قاعدة لانطلاقه، وهذا يعني في النتيجة ان المظاهر المنحرفة
تعود إلى اصل صحيح، فكما أن عبادة الاصنام تدل على ان النفس تبحث عن التوحيد. وان
هناك عوامل معينة تقودها خطأً إلى الاصنام بدلاً عن التوحيد كذلك حصر النداء
بالمساواة بنطاق وطني او قومي معين وعدم السماح له ببلوغ الافق البشري الى نهايته،
وتحويل النداء بالسلطان السياسي الشامل بكل افراد البشرية من مسيره الإنساني العادل
إلى اتجاه قومي عمرواني تعصبي يعبر عن نفسه بصيغ الحكم الامبراطوري تارة،
وبالاستعمار العالمي تارة أخرى وبالعوالمة والقرية العالمية الواحدة ثالثة، يعني ان
النداء بالدولة العالمية المتكون من مجموع هذين الندائين أصل فطري تبحث عنه النفس
الإنسانية، وان الصيغ الامبراطورية التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ في مصر
والعراق وفارس والروم، وعرفها الإنسان الحديث في الامبراطورية البريطانية،
والامبراطورية الالمانية، والامبراطورية الصينية، والامبراطورية الفرنسية وغيرها،
وكذلك الصيغة الاستعمارية الحديثة، وصيغة العولمة التي ينادي بها الامريكان حالياً،
إنما هي صيغ انحرافية تعبّر عن ذلك الاصل بنحو مغاير لحقيقته، وليس ضرورياً ان يكون
الاصل الذي تعبر عنه هذه الصيغ المنحرفة قائماً في مؤسسي ورواد هذه الصيغ، بل يكفي
حضوره في المجتمعات البشرية التي تخضع لحكمها وتخدع عن طريق رفع العالمية كشعار
يدغدغ عواطفها الإنسانية بالنحو الذي يتيح للمؤرخ فيما بعد أن يستنبط أن قيام تلك
الصيغ على أرض الواقع كان مستمداً من ذلك الاصل الفطري الذي جعل تلك المجتمعات
تسترخي امام صيغ حكم ترفع لافته مطابقة له، وكلما تعرضت لظلم او عدوان ندّدت بتلك
الصيغ واعتبرتها منسلخة عن ذلك الاصل. بمعنى ان الشعور الإنساني المشترك لدى كل
افراد الاسرة الإنسانية كان يمثل الارضية العاطفية والسياسية الكافية لقيام انظمة
حكم ترفع شعار الدولة العالمية مع فارق بين دولة عالمية صادقة وأخرى كاذبة، يتمثل
في أن الكاذبة تقيم أمرها على أساس ان المجتمعات المحكومة تحمل شعوراً إنسانياً
مشتركاً يمكن تحويله من خلال وسائل ترغيبية وترهيبية وتضليلية مختلفة إلى رصيد
سياسي مساعد لها، بينما تقيم الدولة العالمية الصادقة أمرها على أساس نية صادقة في
حذف الفوارق القومية والقبلية، والنظر لجميع المواطنين على أساس المساواة، فنحن
نؤمن بأن كل إنسان يحمل عاطفة إنسانية صادقة ولكن الواقع القائم يرغمنا على الايمان
بأن العاطفة التي يحملها الإنسان الابيض - مثلاً - ليست كافية لأن تكون أساساً في
نظام حكم عالمي بحيث يتنازل هذا الإنسان عن غروره القومي ويتصور نفسه مساوياً
للإنسان الافريقي كما يتساوى الابيض مع الابيض، ويتخلى عن العرش العرقي الذي يقول
له: انت كنت ولا زلت وستبقى سيد البشرية.
ولذا تحتاج الدولة إلى أساس اعمق وارسخ من العاطفة حتى تكون عالمية بالمعنى
الحقيقي، وقد يقال: ان الأساس الاعمق هو الأساس العقلي، بمعنى ان الدولة العالمية
هي الدولة الفكرية المستندة إلى الحقائق العقلية الثابتة والمشتركة بين افراد
البشرية، فاذا نادت هذه الدولة بالمساواة بين الابيض والاسود فإنها لا تنادي بشعار
عاطفي وإنما تنادي بحكم عقلي يذعن له جميع العقلاء.
ومما لا شك فيه ان الأساس العقلي اعمق من الأساس العاطفي، غير أن هذا الأساس هو
الآخر ليس كافياً لحلّ المشكلة، والملاك في كون الأساس كافياً لبناء الدولة
العالمية عليه يتمثل في مدى قدرته على انجاز التحول الاخلاقي المطلوب في إنسان
الدولة العالمية بحيث تتأصل الخواص الإنسانية الرفيعة فيه وتصبح هي الحاكمة
والموجهة له، وتصبح الخصائص الارضية في شخصيتة تابعة ومحكومة وخاضعة لإشراف وتوجيه
الخواص الإنسانية، العقلية والعاطفية، بمعنى ان الإنسان لو يُترك على الحالة
الطبيعية التي هو عليها لا يتاح لخواصه العقلية والعاطفية التحكم في شخصيته، ولا
يتاح لها القدرة على تهذيب غرائزه وسائر خواصه الارضية، بل تصبح هذه الغرائز
والخواص الارضية في الاعم الاغلب هي المتحكمة بحيث تتهمش الخواص العقلية والعاطفية
والروحية.
وفي مثل هذه الحالة التي يفتقد فيها الإنسان الى التوازن المطلوب يحتاج إلى قوة
تدعم الخواص العقلية والروحية والعاطفية إلى الحد الذي تكون معه هي القدرة الحاكمة
والموجهة للشخصية الإنسانية، فإذا حصلت هذه القوة، وتحققت هذه القدرة يصبح التحول
الاخلاقي المطلوب ممكناً، ويكون الأساس المطلوب لبناء الدولة العالمية قد توفر،
وسيكون إنسان هذه الدولة هو ذلك الإنسان القادر على ان يساوي بين نفسه وبين الإنسان
الآخر من الزاوية القومية والوطنية، مهما أغرته هذه الزاوية بإمتيازات تاريخية
وفروق حضارية، فنحن لا ننكر دور العاطفة والعقل في بناء الدولة العالمية، وإنما
نراهما بحاجة إلى دعم وتفعيل وزخم شديد بحيث يهيمنان على الشخصية الإنسانية
ويتحكمان بخواصها المحلية، من القومية والوطنية والقبلية والأسرية، ومثل هذا الدعم
لابد وان يتصف بخصال خمس هي:
1. ان يكون نابعاً من خارج اطار الشخصية الإنسانية، اذ لو كان هذا الدعم موجوداً في
داخل الإنسان لما ظهرت المشكلة.
2. ان يكون نابعاً من قدرة اعلى من الإنسان، اذ لو كان نابعاً من قدرة مساوية او
اقل من قدرته لما حلّت المشكلة. ولما ظهرت الحاجة إليه.
3. ان يكون هذا الدعم فعّالاً بنحو يتناسب مع القدرة التي نبع منها، ومع المشكلة
التي يراد حلها بإخضاعها لتأثيره.
4. ان يحضى هذا الدعم اضافة إلى صفة الفعالية الشديدة، بصفة الالزام بحيث يشعر
الإنسان ازاءه بالتبعية، ويرى له الحق بالالزام.
5. ان ينطوي هذا الدعم على محتوى روحي وعقلي واخلاقي اعلى مما هو موجود في الإنسان،
اذ لابد من وجود سنخية واشتراك جوهري بين الداعم والمدعوم، ولا بد وان يكون الداعم
مشتملاً على درجة اعلى من ذلك المحتوى بحيث اصبح ملجأً وملاذاً للمدعوم.
وهذه الشروط الخمسة منتفية عن جملة المذاهب الوضعية، والمبادي الفلسفية والنظم
الاجتماعية، والاطر القانونية التي يبدعها الإنسان، لأنها جميعاً تحكي حقيقة
إنسانية، وبالتالي فهي فاقدة للشروط الخمسة المذكورة التي لا يتحقق بعضها، ولا
تجتمع كلها إلّا في الدين بوصفه القناة الروحية التي توصل الإنسان بالمبدأ الاعلى،
فيتزود من القدرة الازلية ويخضع لتأثيرها، فتشتد بذلك خواصه الروحية والعاطفية
والعقلية بما تستمده منها عن دعم مؤكد، وتتهذب خواصه الارضية والغريزية وتتضائل
امام تعاظم المدّ الروحي. وهذا وجه آخر لما قررناه آنفاً من ان الدولة العالمية لا
يمكن ان تقام الاعلى أساس ديني، ومن هنا فالدولة الإسلامية ليست دولة فكرية كما
وصفها الاستاذ ابوالاعلى المودودي[11]، وإنما هي دولة عقائدية، الدولة الفكرية هي
التي تعتمد على ما ينتجه العقل والفكر من مقولات واحكام أساسية شاملة للنوع البشري
ككل، مثل قبح الظلم وحُسن العدل، قبح الفاحشة وحسن العفة، ونحو ذلك، وابرز مثال لها
الدولة التي تخيلتها المدرسة الرواقية، وقد اتضح ان هذه الدولة قاصرة عن تطبيق هذه
المقولات والأحكام بسبب غلبة المحسوسات على المعقولات النظرية في الشخصية
الإنسانية، وعجز الدولة الرواقية بما هي دولة فكرية عن معالجة هذه الحالة.
وهنا يأتي دور الدين ليحقق التعادل المطلوب في الشخصية الإنسانية لصالح المعقولات
بحيث تكون هي المتحكمة فيها بنحو مستوعب للمحسوسات ومهذّب لها وحائل دون طغيانها،
وذلك عبر دعم وتأكيد هذه المعقولات في النفس من جهة، بنحو تكون معه اكثر وضوحاً
وزخماً وفعالية، واعطائها صفة الزامية وقدرة اجرائية من خلال مبدأ الثواب والعقاب
الالهي من جهة ثانية، وتحقيق عمق إضافي لها من خلال ما يحضى به الدين من صفة فطرية
من جهة ثالثة، أو بتعبير آخر ان الدين هو تلك القوة التي تسعى الى تحويل المقولات
العقلية من واقع نظري دستوري قائم في الذهن إلى واقع عملي تطبيقي، فالعقيدة
الإسلامية تصب في هذا الاتجاه لتشكل رافداً من الروافد المكونة لهذه القوة، ونظام
العبادات يصب فيه كرافد آخر لها، والشريعة الإسلامية في ابعادها الاجتماعية تصب فيه
ايضاً لتشكل الرافد الثالث لها، العقيدة الإسلامية تطرح التوحيد كمحور كوني يملك
حقانية ومصداقية مطلقة في توجيه الإنسان، ونظام العبادات يتكفل بإيجاد صلة روحية
عميقة ومؤثرة بين الإنسان - بما هو إنسان ونوع لا بما هو فرد كما يدعى العلمانيون -
وبين هذا المحور، وفي المرحلة الثالثة تأتي الابعاد الاجتماعية من الشريعة
الإسلامية لتنظم الروابط الاجتماعية بين الإنسان واخيه الإنسان طبقاً لهذه الصلة
التي تجمعهما مع اللّه سبحانه وتعالى، وهكذا يبدأ الدين عقيدة توحيدية مركزة
وينتهي كمشروع اجتماعي وسياسي توحيدي متكامل مبني على أساس ايجاد جذبة سماوية في
الإنسان من شأنها تمكينه من السيطرة على الأرض والتحكم بما تثيره فيه من إغراءات
وغرائز ونزوات. وهذه هي الوظيفة الأساسية للدين في الحياة الإنسانية، ومعناه
الإنساني العميق المتعالي على متغيرات الزمان والمكان مهما امتدا، العقيدة هي إسلام
الفكر والعقل بنحو ينتهي إلى ازديادهما اتقاداً واشعاعاً واثراً، والعبادة هي إسلام
الشخصية، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي إسلام المجتمع والحياة،
ومجموع هذه المحاور تمثل الدين بما هو رؤية توحيدية متكاملة.
وحينما تتكفل العقيدة بهذا الدور الأساسي فمن الجفاء للواقع ان نقول إذن: بأن
الدولة الإسلامية دولة فكرية، الدولة الفكرية ليست قابلة للظهور والتحقق، لان الفكر
والعقل وما ينتج عنهما من مقولات واحكام أساسية لا يحضيان بقدرة اجرائية بحيث تكون
هناك دولة قائمة على أساس تلك المقولات كما رأينا في مثال المدرسة الرواقية، إنما
تلك المقولات تدخل الساحة وعالم التطبيق بفضل قوة العقيدة ودعمها وزخمها
وفعّاليتها، وبالتالي فالدولة القائمة على أساسها إنما هي دولة عقائدية، ومن المؤكد
ان ابا الاعلى المودودي لا يقصد حذف الصفة العقائدية عند ما وصف الدولة الإسلامية
بأنها فكرية، وإنما اراد ان ينظر إلى الزاوية الفكرية المحضة لغرض المقابلة بين
الدولة الإسلامية والدولة القومية، وهو يعتقد ان: «الدولة الفكرية القائمة على
مباديء وغايات بحيث من قبلها واعرب عن استمساكه بها اصبح مشاركاً في تسيير دفعتها
من غير ان ينظر الى جنسيته او سلالته، فمما لم يخطر على قلب بشر وما اتسعت صدور
العالم الضيقة لمثله قط»[12].
والنتيجة التي نخلص إليها من كل ما مضى من البحث ان مفهوم الدولة العالمية في
الإسلام يتمثل ببداية عقائدية اخلاقية وبنهاية جغرافية، والبداية الاخلاقية هي
الأساس لأنها تمثل النواة، اما النهاية الجغرافية فلا تحضى بأصالة وإنما تمثل
الامتداد الذي قد يقف عند حدود الجزيرة العربية، وقد يتجاوزها إلى الاندلس، وقد
ينكفيء طبقاً لمعطيات السياسة والمعادلة الدولية الحاكمة إلى المدينة النبوية،
فليست الدولة العالمية في مفهوم الإسلام تلك التي تخضع الآخرين لسلطانها، وإنما
الدولة العالمية هي تلك الدولة التي تركز على المعنى التوحيدي والعقائدي للحياة
وترى وظيفتها وظيفة اخلاقية تتمثل في اقامة القسط والعدل والمساواة والحق على أساس
التوحيد، فهي تكتسي حلّة عالمية وتحضى بجوهر عالمي عندما تبتني على ذلك المعنى
التوحيدي وهذه الوظيفة الاخلاقية، المعنى التوحيدي يقودها إلى رؤية عالمية طبيعية،
والوظيفة الاخلاقية تسلك بها اتجاها عالمياً تلقائياً، اذ لا معنى لتوحيد لا يأخذ
صفة «رب العالمين». صفة الربوبية الشاملة لكل الناس من كل الجنسيات والاقطار، بل
لكل العوالم البشرية وغير البشرية، حتى تندمج البشرية في الفضاء اللامتناهي وتدرك
حينئذ من علياء هذه النظرة كم الفكرة القومية المتعصبة ضيقة؟.
والوظيفة الاخلاقية تقول لنا: ان الحق هو الحق سواء كان في اسيا ام اوروبا ام
افريقيا، والباطل هو الباطل سواء كان هنا ام هناك، ولا معنى لإقامة الحق في ارض دون
أخرى، ولا معنى لمطاردة الباطل في أرض دون أخرى، التدرج امر معقول والعذر أمر
مقبول، فالعاجز عن اداء الوظيفة لا يقال له: انهض بها، وهذا لا كلام فيه، إنما
الكلام في الاصل النظري للمسألة، فاذا كان الدين حق، كما هو معتقدنا، فهو حق
بالنسبة لجميع البشر وليس حقاً لمن اطلع عليه وآمن به فقط، وحينئذ فوظيفة الدولة
الدينية[13] تقتضي منها السعي لإقرار هذا الحق في سائر الأرض عبر الدعوة الإسلامية
بالحكمة والموعظة الحسنة، وان تحطم الحواجز التي تحول دون وصول شعاع الإسلام إلى
سائر الاقطار والمجتمعات حسب قدرتها السياسية والعسكرية المتاحة لها.
ومن هنا فإننا ومن ناحية إسلامية وواقعية معاً نشجب المفهوم الشائع لعنوان «الدولة
العالمية» في اغلب المؤلفات السياسية حتى بعض الإسلامية منها الذي يعتبر الدولة
العالمية هي الدولة التي تبسط سلطانها على اوطان وقوميات مختلفة بغض النظر عن
المحتوى الا يديولوجي لها، وسواءاً كانت مكتفية برقعة معينة من الارض أو طامحة إلى
السيادة على المعمورة كلها، وحينئذ يكون النموذج الواضح لها هو النظم الامبراطورية،
ولذا نجد كاتباً كأحمد حسين يتحدث في سياق دعوته إلى الحكومة العالمية الواحدة عن
النظم الامبراطورية في التاريخ على أنها حكومات عالمية كانت هي السائدة في التاريخ
الإنساني وهي التي عرفها التاريخ اكثر من غيرها[14]، ومن وجهة نظره فإن قيام الدولة
العالمية من جديد«لن يحتاج إلى اجراءات ثورية أو تطورات حادة وعنيفة، فما على قادة
الدول إلّا أن يتخذوا من ميثاق هيئة الأمم الحالي نقطة الأساس والمنطلق، وادخال بعض
التعديلات على ميثاقها لسد الثغرات التي كشفت عنها التجربة والتطبيق»[15].
فالمسألة دستورية ادارية وليست ايديولوجية عقائدية!!
بل أن هذا المعنى ينطبق على ما هو اسوأ من ذلك، ففي العديد من المؤلفات يجري اطلاق
تسمية «الدولة العالمية» على الحكومة اليهودية التي يحلم اليهود بإقامتها على
العالم. وفي ثلاثينات القرن الميلادي الحالي روّج الغرب لفكرة الدولة العالمية
الواحدة وظهر لها انصار في بعض بلدان العالم الإسلامي ولكن الموقف العام كان
معارضاً لها لما تحمله من طابع استعماري. ولذا نجد كاتباً كأنور الجندي يعدها في
ضمن الدعوات الهدامة. فقد كتب يقول: «لقد علا صوت الدعوة العالمية في مصر والعالم
الإسلامي في الثلاثينات وحمل لواء الدعوة إليها امثال سلامة موسى وغيره ولم تكن قد
تكشفت بعد تلك الغايات البعيدة»[16] و«قد استمدت هذه الدعوة وجودها من منطق مغلوط
ومن منطق استعماري في الأساس هو ما اطلق عليه اسم رسالة الرجل الأبيض إلى العالم
الملوّن، والهدف الكامن من وراء هذه الدعوة هو سوق الناس جميعاً إلى الولاء
والعبودية للسيادة الغربية الحاضرة وتذويب الفكر الإسلامي في اتون العالمية أو
إحتواء مقدراته ودمجها في مفاهيم وقيم تختلف في جوهرها عن قيم الإسلام»[17].
ونقل عن هزيك رالف انه يقول في كتاب له بعنوان «الإنسانية والوطنية»: «أن النزعة
الإنسانية يجب ان لا يعتنقها إلّا الأمم القوية، اما الأمم الضعيفة فإن لم تستمسك
بمقوما تها الخاصة سحقتها الأمم القوية»[18].
وندد المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي بهذه الدعوة، فقد كتب يقول:«اما مبدأ
العالمية فهو وإن كان مبدأ الإنسانية والسلام والخير العام إلّا أن أمم الغرب
وحكومات الاستعمار جعلته شبكة تصطاد بها ضعاف العقول وتكسر به حدّة المقاومة عند
الشعوب المظلومة حتى تكون لقمة سائغة لها»[19].
وندد بها أيضاً الاستاذ عباس محمود العقاد وذكر عنها كلاماً مشابهاً لما سبق[20]،
ومن يقرأ كتاب «احجار على رقعة الشطرنج» للأميرال وليام غاي كار يجده حاشداً
بتأكيدات متوالية على ان فكرة العالمية قد نشأت من مخططات التلمود والصهيونية.
وهنا نقاط ثلاثة لابد من بيانها وهي:
1. ان المفهوم الذي يطرحه هؤلاء للعالمية هو مفهوم سياسي محض لا تلامسه أي جنبة
اخلاقية، وانه قد اساء بسبب ذلك إلى اصل الفكرة العالمية وجعلها محمّلة بتركة ثقيلة
وسمعة مشوّهة بحيث يصعب على من يريد الدعوة إليها مجدداً ان يجد من يصدّق بنزاهته،
وهذه صعوبة جديدة تضاف إلى الصعوبات الاصلية التي تواجه فكرة الدولة الإسلامية
العالمية التي تعد من اصول الفكر السياسي الإسلامي وضروراته البارزة.
2. ان موقف المعارضين للعالمية لم يكن دقيقاً، وانه وقع ضحية الخلط بين أصل الفكرة
والتوظيف الاستعماري الغربي لها. فإن العديد من اقطاب الفكر الغربي دعوا إلى
العالمية ونبذ القومية تحت ضغط الواقع المرير الذي عاشه الغرب خاصة والعالم عامة
خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. والذي تمّ تفسيره على انه من افرازات
القومية، وهناك عشرات الشواهد والارقام التي يمكن ايرادها في هذا المجال، ولكن ضيق
المجال لا يسمح لنا إلاّ بذكر شاهد واحد هو ان الفيلسوف الانجليزي المعروف
برتراندرسل كان من الدعاة إلى العالمية ونبذ القومية وانه قد تعرض إلى السجن اثناء
الحرب العالمية الثانية بسبب دعونه إلى السلم والتسامح العالمي، وانه كان يعتقد
بدور الجامعات ومؤسسات التعليم الأخرى في تحقيق المجتمع العالمي المطلوب، وكان
يطمح إلى تأسيس جامعة تفتح ابوابها لكل الجنسيات والقوميات ولا ترفض إلّا الرافضين
للمعاونة العالمية[21].
وفي كتابه «التربية والنظام الاجتماعي» نقرأ قوله: «ان القومية هي القوة الرئيسية
التي تسوق حضارتنا إلى دمارها»[22] و«انه مهما كانت الحاجة الاكثر حيوية للمستقبل
فسوف تكون تنمية الافكار لامعة للمواطنة العالمية»[23].
ولكن العامل السياسي المتمثل بالنزعة الاستعمارية المتحكمة في الذهنية السياسية
الغربية هو المسؤول عن تحويل هذه الدعوة إلى دعوة هدّامة: وإلّا فإن اصل العالمية
كمبدأ وكفكرة من افكار القرن العشرين ليست سلبية وإنما هي مظهر اخلاقي انفلت من
قبضة المادية المتحكمة في هذا القرن ليعبر عن اعماق إنسانية تحاول التعبير عن ضمير
مكبوت.
3. وهذا لا يعني ان تلك الفكرة العالمية كانت جديرة بالنجاح. فقد كان من الطبيعي ان
تقع في الفخ الاستعماري وتصبح واحدة من ادواته. ولم تكن قادرة وهي في الصورة التي
ظهرت فيها والخلفية الفكرية التي انطلقت منها على تجاوز ذلك المصير. ذلك ان
العالمية في أساسها مفهوم اخلاقي متقوّم بحب الإنسانية وشعور عميق بأصالة الوحدة
النوعية للبشر وغلبتها على الفوارق المحلية من لون ولغة ووطن وقومية، وهو شعور
موجود لدى كل إنسان. ولكنه لا يصبح حقيقة مؤثرة في الفكر والسلوك ما لم يستند إلى
عقيدة اخلاقية متكاملة، وهذا هو العنصر الغائب في الغرب والذي لا يسمح بظهور فكرة
إنسانية حقيقية، وغاية ما تظهر فيه شعارات قد تكون صادقة لكنها سرعان ما تصبح مطية
العدوان والصراع.
ولذا نعتقد ان العالمية الإسلامية هي العالمية الحقيقية والوحيدة في تأريخ الإنسان،
وهي العالمية التي تخدم الجنس البشري وترقّيه وليس فيها خطر على أحد، فليست المسألة
ادارية دستورية حتى يمكن حلها بهيئة كهيئة الأمم المتحدة، ولا تعليمية حتى يمكن
حلها عبر مؤسسات التعليم، وإنما هي مسألة اخلاقية روحية.
ولذا يعجز مفكر غربي ليبرالي امثال «رسل» عن فهمها، ولذا نجده يقول: «ان الدعوات
الوطنية إنما نجحت في الاغلب الاعم لأحساسهم أنها تجري مع المصالح الوطنية في مجرى
واحد فإذا أريد للنظرة العالمية الجديدة أن تفلح وتؤتي ثمارها فمن الضروري ان تتمثل
للناس موافقة للمصالح الوطنية على ذلك المنوال»[24]. وهكذا فالطريق إلى العالمية
يمر عبر قناة الوطنية، وفي هذا تغليب وتعميق واضح للوطنية وجعلها ذات أولوية على
العالمية، وما هو إلا تفسير الماء بعد الجهد بالماء، فالنتيجة هي الوطنية لا
العالمية. ولا معنى لذلك إلّا ان الوطنية هي قدر الإنسان المرتبط بالأرض، والعالمية
هي قدر الإنسان المرتبط بالسماء، ومن حقنا أن نسأل رسل:
هل بأمكان جامعته العالمية المنشودة ان تنتج يوماً ما مواطناً انجليزياً يؤيد
استقلال الدول النفطية ويرى ذلك افضل من الهيمنة الانجليزية عليها؟.
ان الدولة العالمية حقيقة اخلاقية وطموح إنساني طبيعي، إلّا إنه لا وجود لهذه
الحقيقة والطموح إلّا في نطاق الإسلام، لأنه العقيدة الوحيدة القادرة على دعم
المحتوى الاخلاقي للإنسان والارتفاع به إلى المستوى الروحي المطلوب والسيطرة على
الغرائز وتهذيبها ومنها الغريزة القومية التي هي في الحقيقة تعبير اجتماعي وسياسي
عن الانانية الفردية وحب الذات.
____________________________
[1] تكوين الدولة / ص190.
[2] الإسلام يقود الحياة / ص17-18.
[3] الإسلام يقود الحياة / ص5.
[4] المذاهب الكبرى في التاريخ / ص 293.
[5] استفدنا هذه الخلاصة بشكل أساس من كتاب علم السياسة لابراهيم درويش / ص 65-75ط.
القاهرة.
[6] سورة الذاريات / 56.
[7] سورة الحج / 41.
[8] سورة البقرة / 213.
[9] علم السياسة / ص 78.
[10] المصدر نفسه / ص 90-92.
[11] نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون / ص47، ص 71.
[12] نظرية الإسلام وهديه / ص 72.
[13] نقصد بالدولة الدينية حسب المفهوم الإسلامي لا المفهوم الغربي الذي يعتبر
الدولة الدينية تلك التي يقودها رجال الدين، وتخضع لسلطة الكهنوت.
[14] الأمة الإنسانية / ص 388.
[15] المصدر نفسه / ص 432.
[16] الإسلام والدعوات الهدامة / ص 159.
[17] المصدر نفسه / ص 158.
[18] المصدر نفسه / ص 158.
[19] حقيقة القومية العربية / ص 200.
[20] ساعات بين الكتب / ص 298.
[21] ردود وحدود / ص 140.
[22] التربية والنظام الاجتماعي / ص 138.
[23] المصدر نفسه / ص 27.
[24] ردود وحدود / ص 241.
التالي