مركز الصدرين للدراسات السياسية

الدولة الإسلامية دولة عالمية
الشيخ عبدالكريم آل نجف

الفصل الثاني

حينما نتكلم عن دولة إسلامية فانما نتكلم عن دولة عقائدية، وقبل الدخول في دراسة الابعاد العالمية للدولة الإسلامية نحتاج إلى وقفه قليلة نتأمل فيها دور العقيدة في تطوير الواقع السياسي، أو الكيفية التي يُتاح للعقيدة من خلالها اتحاف الواقع السياسي بدولة عالمية، ولكي نوضح هذا الدور نحتاج إلى بيان مثال اجتماعي ملموس قابل للأنطباق على ما هو المطلوب لدينا تماماً.
في مجلس العائلة يجلس الابناء واحداً تلو الآخر، وحضور كل واحد منهم إلى‏ جنب الآخر يمثل اضافة عددية لا تؤثّر في واقع الآخرين، ومهما تعدد الابناء يبقى كل واحد منهم يشعر بالاصالة والاستقلال عن الآخر، وأي مبادرة من أي منهم تجاه الآخرين تعد عدواناً عليهم مالم تحض برضاهم وموافقتهم، وليس لأي منهم ان يتخذ قراراً بشأن الآخرين ما لم يكن لهم دور في صنع لهذا القرار.
ثم يدخل الاب فيجلس في المحل المناسب له، إلّا ان حضوره بين ابناءه ليس له خصائص الاضافة العددية، فهو ليس مجرد شخص يضاف إلى الحاضرين، وانما هو اضافة نوعية تؤدي إلى انقلاب الواقع النوعي للحاضرين. اذ يفقد الابناء بحضور ابيهم شعورهم بالاستقلال والاصالة، ويصبح شعورهم الجديد هو التبعية له، دون ان يشترطوا على ابيهم ان يشاورهم ويجعل لهم حصة مساوية لحصته في صنع القرار. وهكذا فنظام العائلة قائم على اساس ان يتمتع المركز الابوي الطبيعي بخصائص الاستقلال والأصالة وحق اتخاذ القرار، وحينئذ لا يبقى للأبناء إلّا التبعية والاحترام لمواقف الأب.
فللأسرة خصائص معينة تتمتع بها لدى وجود الأب، وخصائص اخرى‏ عند فقده، والعامل في ظهور هذه الخصائص أو تلك هو حضور الأب وغيابه، بينما لا يكون لحضور وغياب سائر افراد العائلة هذا الانقلاب النوعي فيها.
وهذا الدور الذي يلعبه حضور الأب وغيابه في الأسرة مثال صالح للأنطباق على دور العقيدة في حياة الانسان، فالعقيدة الالهية بما هي امتداد طبيعي عن اللّه سبحانه وتعالى، يجسّد في حياة البشر الاجتماعية ارادة اللّه وخطاباته وحاكميته، تحتل في حياة الانسان ما يحتله الأب من موقع طبيعي في حياة الاسرة، وبالتالي فهي ليست عنصراً من العناصر في حياة الامة، ليست اضافة عددية كما يضاف شخص الى اشخاص آخرين، وانما هي عامل نوعي يؤدي إلى انقلاب الواقع الذي يعيشه الانسان انقلاباً نوعياً وجوهرياً كما ينقلب واقع الابناء عند حضور الأب فيما بينهم. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نقدّم رؤيتين مختلفتين للواقع الانساني، رؤيتنا له عند ما لا تكون هناك عقيدة الهية، وعند ما تكون هناك عقيدة، ففي ظل غياب العقيدة الالهية تأخذ العناصر المكونة للواقع الانساني خصائص الابناء عند فقد أبيهم فتكون عناصر متأصلة في نفسها، ولا اصل وراءها تعود اليه وتكون تابعة له كما هو شعور الانسان حينما ينظر إلى ما حوله وهو غير مؤمن باله خالق، فيرى نفسه هو الاصل وينكر ان يكون تابعاً لشي‏ء آخر، وحينئذ فكل مكوّنات حياته تأخذ هذا الطابع.
وفي ظل حضور العقيدة الالهية يشعر الإنسان بأصل مهيمن في الوجود يعود كل شي‏ء إليه، ولا اصالة إلّا له سبحانه وتعالى، وكل شي‏ء تابع له، كما هو الانسان يخسر شعوره بالاصالة، ويهيمن عليه الشعور بالتبعية حينما يكون إلى جنب ابيه. ومن الطبيعي ان تؤثر هذه النتيجة في عمق الحياة الانسانية وتجعلها بين خيارين متفاوتين جوهرياً، وأن ينعكس اثرها على مختلف مجالات الحياة، وابرزها المجال السياسي.
فعندما تنعدم العقيدة ينظر الانسان إلى الارض نظرة متأصلة فتكون هناك الوطنية بمفهومها الحديث الذي يعتبر الوطن مثلاً اعلى يُفتدى ويُضحّى من اجله، وينظر إلى اللغة التي يتحدث بها نظرة متأصلة فتكون هناك النظرة القومية التي تعتبر اللغة خزيناً تُودع فيه القوميات خصائصها وتجاربها وطباعها، وينظر إلى من حوله ممن يشترك معهم ببعض المشتركات نظرة متأصلة فتكون هناك القومية المتعصبة التي‏ترى ان لكل قومية خصائص مودعة فيها وروحاً كامنة بين جنباتها تهب لها الامتياز على القوميات الاخرى، وينظر إلى السلطة نظرة متأصلة فتتولد عنده الديمقراطية التي تعتبر المشاركة الجماهيرية في السلطة اصلاً قائماً بنفسه بغض النظر عن ما هو حق وما هو باطل، ولا بد من اتباعه وان ادى إلى مخالفة الحق وتأييد الباطل.
وعند ما يعيش الانسان في ضلال العقيدة الالهية التي تكرّس حاكمية اللّه وموقعه المتأصل في حياة الانسان، يشعر بتبعية طبيعية لهذا المحور، وبفقدان ما كان يشعر به سابقاً من موقع متأصل، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة ان ينعكس هذا الطابع على ما يعيشه من واقع اجتماعي وسياسي.
فحينما ينظر إلى الارض سوف لا يجدها بالصورة التي يطرحها مفهوم الوطنية الحديث عنها، كمثل اعلى وكرمز يستحق الولاء والفداء، وانما سيجدها عبارة عن ضرورة من ضرورات الحياة، وحاجة من حاجاتها، ولازم من لوازمها، ومن الممكن ان تنشأ رابطة عاطفية بين الانسان وبين مسقط رأسه أو محل عيشه، ولكنّ هذا ليس لأجل سبب ذاتي في تلك النقطة من الارض، بقدر ما هو تجليات عاطفية ايجابية في الانسان يعكسها تجاه ما ترتبط به حياته من انسان وجماد ونبات وحيوان وماء وهواء، ومهما أشتدت هذه التجليات لا تصل إلى مستوى‏ ان تكون هي الاساس في العلاقة مع الارض، ويبقى الاساس في العلاقة معها هو الحاجة.
فمسقط الرأس إذا لم يوفّر هذه الحاجة للانسان يهجره صاحبه وينتقل إلى نقطة أخرى توفر له حاجاته وتشبع اغراضه، ولذا قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»[1]، وهاجر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة مع اصحابه دون ان تنقطع عاطفته تجاهها.
وحينما ينظر إلى اللغة التي يتكلّم بها يراها وسيلة يحتاج إليها للتفاهم مع الآخرين، ولا ينظر اليها بالصورة التي تطرحها القومية الحديثة عن اللغات.
وهكذا حينما ينظر إلى الجماعة الانسانية التي يعيشها في وسطها، لا ينظر اليها بمنظار القومية التي تجعل الخواص المحلية المشتركة هي الاصل في الانتماء إلى هذه الجماعة، بل ينظر إليها بمنظار ايماني يجعل العقيدة هي الأصل والخواص المحلية عبارة عن هامش طاري‏ء في الشخصية الانسانية. كما هو الواضح من قوله تعالى‏: «يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى‏ وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند اللّه اتقاكم»[2].
فالذكورة والانوثة، والقوميات والاوطان والالسنة والالوان، خصائص محلية وشكلية تقع على هامش الواقع الانساني، ومن القبيح ان يقع التفاضل بمثل هذه الخصائص دون الخصائص الاصيلة المتمثلة بالجانب الروحي والمعنوي والقيمي عند الانسان.
وحينما ينظر إلى الحياة السياسية يرى ضرورة مشاركة الامة في السلطة من باب الشورى‏ بما هي وسيلة لادراك واكتشاف الحقيقة، ولا ينظر إلى هذه المشاركة من الزاوية الديمقراطية بما هي قيمة عليا في الحياة السياسية سواءاًادت الى حق او باطل، الشورى في الإسلام وظيفة من وظائف الحاكم وشرط من شروط السلطة وليست هي الأساس والمنبع لشرعية الجهاز الحاكم، ووظيفة الحاكم ليست هي الأخذ برأي الاكثرية، وانما وظيفته العمل بالصواب المتجلي من خلال عملية الشورى‏ بغض النظر عن طرفي الاقلّية والاكثرية، وقد يأخذ برأي الاكثرية لكن لا لأجل صفة الاكثرية وانما لأجل ما يتجلى له من خلال عملية الشورى‏ من ان الصواب هو ما عليه الاكثرية، او ان الصواب هو متابعة الاكثرية من باب المداراة والحيلولة دون انشقاق المجتمع، والنصوص الإسلامية في هذا المجال تشير إلى هذه الحقيقة. مثل قول الإمام علي(عليه السلام): «اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب»[3] وقوله(عليه السلام): «من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»[4] فالمشاورة ليس لها قيمة موضوعية ذاتية، وانما هي ضرورة للتوصل إلى الصواب، وكيف تكون المشاورة ذات قيمة ذاتية في الوقت الذي لا تحضى الدولة ورئاستها على مالها من الاهمية بهذه القيمة، وانما هي من وجهة نظر الإسلام وسيلة لاقرار حاكمية الدين في الحياة وتكريس العدالة واعطاء كل ذي حق حقه، كما هو واضح من كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام) مع ابن عباس يوم قال له: ما قيمة هذا النعل؟
فقال له ابن عباس: لا قيمة لها، فقال(عليه السلام): «و اللّه لهي احبّ اليّ من امرتكم، الا أن اقيم حقا، أو ادفع باطلا»[5].
فالدولة مطلوبة لأجل هذه القيم فإن قام بها زيد وأحسن ادائها لم يكن لعمر ان ينازعه فيها وان كان له من الانصار والمؤيدين أكثر من زيد، من مجموع هذه الامثلة التي تمثل جوانب مختلفة وعميقة من الحياة الانسانية يتضح لنا الدور الجوهري العميق الذي تلعبه العقيدة الالهية في الحياة الانسانية، ويتجلى بنحو واضح في الجانب السياسي منها.
و قد طرح آية اللّه السيد الشهيد الصدر«قدس‏سره» هذا المعنى بنحو آخر حينما بيّن في محاضراته القرآنية عناصر المجتمع في ضوء آية الاستخلاف «و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء...» [6].
فذكر ان للمجتمع صيغتان، صيغة ثلاثية، وصيغة رباعية، الصيغة الثلاثية هي المكوّنة من انسان وأرض وعلاقة، فهذه ثلاثة عناصر، العنصر الأول والثاني موجودان في كل مجتمع بنحو ثابت، والعنصر الثالث وهو العلاقة بين الكون والانسان هو العنصر المتغير من مجتمع لآخر، فاذا جمدت العلاقة على طرفين هما الانسان والارض كانت النتيجة مجتمعاً ارضياً يزعم لنفسه ملكية الارض، لكن الحقيقة هي ان الارض تملكه، والمادة تحكمه، وإذا طورت هذه العلاقة وادخل فيها عنصر رابع هو اللّه سبحانه وتعالى انقلبت العلاقة من علاقة ملكية وسيادة إلى علاقة استخلاف واستئمان، وهكذا يتضح ان«اضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية، ليس مجرد طرف جديد يضاف إلى الاطراف الاخرى‏، بل ان هذه الاضافة تحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها...هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي روحاً اخرى ومفهوماً آخر...اذ يعود الانسان مع اخيه الانسان مجرد شركاء في حمل هذه الامانة والاستخلاف، وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد امانة لا بد من رعاية واجبها واداء حقها...» [7]. وحينئذ فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع الصيغة الرباعية، والدولة الإسلامية هي دولة العنصر الرابع الذي يُعطي الدولة روحاً اخرى ومفهوماً آخر ينعكس على كل ابعادها واركانها، فيكون لها مفهومها الخاص عن الامة، ومفهومها الخاص عن الوطن، ومفهومها الخاص عن العلاقات الدولية.
الحياة الإنسانية ظاهرة عقائدية
أن الإنسان مخلوق مزدوج من روح ومادة، ومركب من عقل وغريزة، وأن النشاط الإنساني - ومن وراءه حركة المجتمع والتاريخ - ما هو إلّا حصيلة لنشاط هذين العنصرين والجزئين، الروح والعقل من جهة، والجسم والغريزة من جهة ثانية. والنقطة المثيرة للبحث هي: أي من العنصرين يقوم بالدور الأساس؟ وأي منهما يقوم بدور الظل والتابع؟ فهل النشاط الإنساني ينبعث من الغريزة ويكون دور العقل والفكر هو التبرير والتنظير واكتشاف سُبل التنفيذ؟ أم ينبعث من العقل والفكر، ويكون دور الغريزة هو التكيّف مع قراراتهما؟ على الرأي الأوّل تكون الحياة الإنسانية ظاهرة غريزية بيولوجية، وعلى الرأي الثاني تكون ظاهرة فكرية أو عقائدية بالمفهوم الواسع للعقيدة الشامل لكل فكرة يحملها الإنسان وتكون محوراً لسلوكه اليومي.
ولا يمكن القول بتكافؤ الدورين؛ لأن انبعاث النشاط يدلّ على وجود قوّة راجحة أفرزته. ومن الممكن أن تتذبذب الشخصية الإنسانية بين الدورين فتتبع أقواهما. ولا يمكن حصول التوافق بين الدورين إلّاعلى أساس أن يكون أحدهما هو المحور والثاني تابعاً له، لأنهما من ماهيتين مختلفتين ونوعين غير متجانسين.
ومنذ البدء لابدّ أن نقول: إن البحث الفكري في هذه المسألة نفياً وإثباتاً يتطلّب مجالاً خاصّاً به، ولا تسعنا الفرصة هنا للخوض فيه. والذي يهمّنا هنا هو استجلاء الموقف الإسلامي كمقدّمة للوصول إلى موضوع دراستنا هذه.
وفي الحقيقة إن هذه المسألة تمثِّل مثار خلاف بل تناقض أساسي بين نوعين من النظريات. فالنظرية السماوية الدينية تنظر إلى الروح والعقل على أنهما الامتداد السماوي على مستوى الفرد والمجتمع والتاريخ، وتسلك إلى إثبات ذلك سبيل البحث الفلسفي والأخلاقي، فيما تنظر النظرية الأرضية الوضعية إلى جانب الغريزة - بالمفهوم الواسع للغريزة - وتعتبره الأساس في تفسير السلوك الانساني على المستويات ذاتها، وتسلك إلى إثبات ذلك سبيل البحث الأكاديمي القائم على الملاحظة والتجربة، كعلوم الأحياء والنفس والتربية والاجتماع. وما النظريات العرقية والجغرافية والاقتصادية والسيكلوجية التي ظهرت في مجال تفسير حركة المجتمع والتاريخ إلّاتعبيرات مختلفة عن التفسير الغريزي للإنسان وسلوكه.
لقد عُرِّف الإنسان بأنّه حيوان ناطق أي حيوان مفكِّر. ومن الناحية الإسلامية قد لا يكون هذا التعريف سائغاً لأنّه يتضمّن الإقرار باستناد الإنسان إلى قاعدة حيوانية. بينما تفيد بعض الآيات القرآنية الواردة بشأن خلق الإنسان أنّه نوع قائم بذاته ومخلوق من طراز خاص. وأنّه قد استحق الخلافة الإلهية والسيادة على باقي المخلوقات لما يحمله من الماهية الخاصة. ولكن هذا التعريف يتّفق مع وجهة النظر الإسلامية في أن انسانية الإنسان تتقوّم بخاصية الفكر لديه وهي الخاصية التي احتج بها الله سبحانه على الملائكة عندما تساءلوا عن الحكمة من جعل الإنسان خليفة في الأرض.
قال تعالى: «و علَّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وماكنتم تكتمون»[8].
وهكذا فخاصية الفكر هي الأساس الذي تتقوّم به إنسانية الإنسان من جهة، والباعث على وجود الإنسان في الأرض من جهة ثانية، والملاك الذي كان من وراء جعل الإنسان خليفة وسيّداً على المخلوقات من جهة ثالثة. ومن هنا كان العقل - وهو آلة التفكير - أساس العقاب والثواب ومنطلق المسيرة الإنسانية. والقائد الذي إذا ضلّ أدّى بصاحبه إلى الهلاك، وإذا اهتدى أدّى بصاحبه إلى السعادة، وبلحاظ خاصية الفكر يمكننا تقسيم السلوك إلى ثلاثة أنواع:
1. سلوك غريزي محض، وهو السلوك الحيواني الذي لا ينطلق من أي فكرة سابقة. ويتّصف بالجبرية لأنّ الحيوان لا يملك اختياراً آخر غير الغريزة ولا يملك تفكيراً يساعده على الاختيار.
2. سلوك غريزي ناشى‏ء من فكرة سابقة باعثة عليه. فهو سلوك غريزي مشوب بالفكر، لكن بفكر ضعيف لايمكنه مقاومة الغريزة، لذا لا يستطيع إلّا الدوران من حولها.
3. سلوك فكري متين ينطلق بقوّة في واقع الحياة الإنسانية بحيث لا تستطيع الغريزة أن تفرض ارادتها عليه. وقد يستجيب لهاو لكن من ملاكات فكرية معيّنة لامن ضغوط وتحدّيات، والسلوك الأوّل سلوك حيواني محض ليس له في عالم الإنسان وجود، لأن خاصيّة الفكر لا تتوارى عن الإنسان بحال من الأحوال والنوع الثاني يحمل من رشحات الإنسانية شيئاً، لكننا ما لم نتأكّد من قيمومة الفكر على‏ الإنسان بحيث يكون العقل هو الموجّه وهو القائد لا الغريزة لا يمكننا أن نسمّي السلوك الناتج سلوكاً إنسانياً خالصاً. والنوع الثالث هو السلوك الإنساني المطلوب لأنّه ينطلق من خصيصة انسانية محضة ولا دور للغريزة في إنتاجه.
النوع الثاني هو مظهر لانحطاط الفكر وتدني الإنسان. والنوع الثالث يجسّد قوّة الفكر ورفعة الإنسان، وعلى هذين النوعين الاخيرين تتوزّع النظريات والآيديولوجيات. فالنظرية التي تنظر إلى الإنسان من زاويته المادية الجسدية تتبنّى الغريزة وتنظّر لتأثيرها الواسع في السلوك وتدعو لاستسلام الفكر أمامها بحيث يكون دائراً في فلكها. والنظرية التي تؤيّد رفعة الإنسان وتمجّد خاصية الفكر فيه وتعتبرها الأساس والمحور في شخصية تدعو إلى تهذيب الغريزة وإطلاق العقل لكي يكون مكيناً على إدارة دفّة السلوك ومواجهة تحدّيات الغريزة. النظرية الأولى لا يمكنها إلاّ أن تكون وضعية لأنّ الإنسان بمفرده لايمكنه أن يصنع عقيدة تمكّنه من السيطرة على طغيان عالم المادة والغريزة ولا يمكنه التخلّص من أسرالصندوق المادي الذي يحلّ فيه. والنظرية الثانية لا يمكنها إلاّ أن تكون سماوية لأنّ العلم والعقل والفكر خصائص من عالم غير مادي، فهي ماركة روحية سماوية «و علَّم آدم الأسماء كلّها». النظرية الأولى لا يمكنها أن تكون إنسانية لأنّها لم تنطلق من خصيصة إنسانية، لأنّ البدن والغريزة عالم مادّي ليس له صلة بإنسانية الإنسان. والنظرية الثانية لا يمكنها الّا أن تكون إنسانية لأنّها تنطلق من حيث تنبع إنسانية الإنسان. من خصيصة الفكر والروح. النظرية الأولى تنتج إنساناً بديناً ولكن بدون قيم إنسانية، والنظرية الثانية تصنع بدناً معتدلاً ذا روح خلّاقة تسرح بصاحبها في عالم القيم. النظرية الأولى تفسّر السلوك الإنساني في ضوء عوامل مادية غريزية. فتارة تفسره بالعامل الاقتصادي، وأخرى بالعامل الجغرافي وثالثة بالعامل العرقي ورابعة بالكبت الغريزي. ومن ثم تحاول إقامة المجتمع الإنساني في ضوء هذه العوامل غير الإنسانية فتريده تارة مجتمعاً اشتراكياً وأخرى مجتمعاً وطنياً وثالثة مجتمعاً قومياً ثم (تتطوّر أكثر!) فتريده مجتمعاً عابثاً (هيبيز). بينما تصرّ النظرية الثانية على تفسير السلوك الإنساني في ضوء الفكر والروح والفطرة، أي بعامل إنساني محض، ومن ثم تعمل على إقامة المجتمع الإنساني في ضوء هذا العامل، أي إنّها تقيمه على محور عقائدي.
إن المحور غير العقائدي ليس محلّاً لاختيار الإنسان وإرادته. فالإنسان لا يختار الوطن والقومية التي ينتمي إليها، بل هو انتماء قهري يفرض عليه منذ تكوّنه في بطن أمّه. وإلى جانب هذا آمن ماركس وفرويد بانسحاق الإنسان أمام العاملين الاقتصادي والجنسي، ثم بالجبرية والحتمية. وهذه رشحات من خصائص السلوك الغريزي المحض الذي لمسنا جبريته في عالم الحيوان، بينما يقع المحور العقائدي محلّاً لاختيار الإنسان وإرادته ولذا فهو حرّ في اختيار الأمّة العقائدية والكيان السياسي العقائدي الذي ينتمي إليه، والانتماء يتبعه الولاء. فحينما ينتمي الإنسان قسراً إلى أرض أو أمّة ما أو دولة ما فإنّه يجد نفسه في أجواء غريزية تفرض عليه الولاء لرموز محدّدة مفروضة عليه. فمطلوب من الفرنسي أن يمنح ولاءه لفرنسا الأرض والأمّة والدولة والثقافة والتاريخ سواء كانت على حقّ أم على باطل وإلّا عُدّ خائناً، وتختفي هذه الحالة في المحور العقائدي لأنّ الإنسان مختار فيه. فهو يوالي أمّة اختار الانتماء إليها وكياناً كان حرّاً في الانتساب إليه. ولان المحور العقائدي قائم على تبنّي قائم على تبنّي ما هو حق ورفض ما هوباطل.
إن الوطنية والقومية تمثِّلان شكل الوجود الإنساني. قال تعالى: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» [9]. ولا يصلح هذه الشكل أن يكون محوراً وأساساً في بناء المجتمع الإنساني .
وكلمة «لتعارفوا» الواردة في الآية تستبطن الاستنكار وكأنها تريد أن تقول: إنّ الانقسام إلى ذكر وأنثى وتكوّن المجتمعات من شعوب وقبائل حالة خلقها الله سبحانه لتكون في خدمة هدف أخلاقي وهو التعارف. فلماذا صارت وسيلة للصراع؟ ولماذا أصبحت بعكس الهدف الذي وجدت من أجله ؟ لقد أصبحت هكذا لأنّها اتُّخذت محوراً في بناء المجتمع، وليس ذلك من شأن الوسيلة بل من شأن الأهداف والمقدّسات والقيم الفكرية والأخلاقية. ليس من شأن الغريزة أن تكون محوراً في بناء المجتمع فإذا اختارها المجتمع محوراً له فقد التعارف والقيم الأخلاقية وعاش التناحر والصراع الداخلي، وهذه خصائص حيوانية تغزو المجتمع الإنساني كلّما حاول الإنسان محاكاة الحيوان في سلوكه الغريزي.
بينما تمثّل العقيدة القيمة الخلقية للوجود الإنساني، ولذا تصلح وحدها أن تكون محوراً في بناء المجتمع الإنساني، وإليها أشارت الآية السابقة في تتمتها: «إنّ أكرمكم عندالله أتقاكم»، فالإنسان سواء كان في الغرب أم في الشرق. إذا استطعنا أن نجرّده عن اللون والوطن والقومية فإنّ حقيقته لا تتغيّر. لكننا إذا جرّدناه عن محتواه الفكري والروحي فإنه يصبح كائناً آخر وحقيقة أخرى. ومن هنا تنقسم الأرض وبتبعها المجتمع الإنساني في التصوّر السياسي الإسلامي إلى قسمين؛ قسم يعتقد العقيدة الحقّة وهم المسلمون، وقسم آخر يعتقد العقيدة الباطلة وهم ما عداهم. وتسمّى أرض المسلمين بدارالإسلام، وحصّة الآخرين بدار الحرب.
والإسلام كأطروحة سماوية لا يسعه إلّا اختيار التفسير العقلي والروحي للسلوك الإنساني، ولذا اعتبر العقل أساس التكليف وملاك العقاب والثواب وبالتالي منطلق المسيرة الإنسانية ومحور حركة الفرد والمجتمع والتاريخ. وهذا لا يتناقض مع ما قُرّر سابقاً من أن النشاط الانساني حصيلة العقل والغريزة لأن، لان الاخذ بأحد الطرفين لا يعني الغاء دور الطرف الاخر بل يعني خضوعه للطرف المختار وتكيّفه معه.
وعالم العقل يقسّم الأفكار إلى صواب وخطأ. كما أن عالم الروح يقسّم السلوك إلى حق وباطل. والعالمان متجانسان، فالصواب هو الحقّ والخطأ هو الباطل. وهما - أي العقل والروح - يحكمان بأنّ الوجود ينبغي أن يكون مسرحاً لحركة الحق وحده، وأن الباطل وجود غير مشروع، وأن ظهوره في أي بقعة من الأرض انّما هو اغتصاب لها. وهكذا فللحق قيمومة طبيعية على الوجود؛ ومنه الأرض والمجتمع البشري الذي يستوطنها.
وطبقاً للنظرية السماوية التي تنطلق من الإيمان بإله أحدي أوجد الكون وهو المدبِّر له والمهيمن عليه، فإن المقياس الذي يحكم به على كون الشي‏ء حقّاً أو باطلاً يكون واضحاً. فالحق هوما يقرّره الله سبحانه وتعالى من أحكام تأسيسية خارجة عن نطاق العقل. وما يقرّره العقل الوجداني السليم من أحكام تكون دائماً مورداً لتأكيد الشرع وإرشاده. وما الإسلام إلّا اسم جامع لهذين النوعين من الأحكام والمبادئ. وبالتالي فهو الحق الذي يتمتع بصفة القيمومة وتكون الأرض بل الوجود ميدانه الذي يختص به. ومن هنا كانت العالمية هي الأصل في كل دين ونبوّة سماوية بحيث لا يتطلّب اثباتها الى دليل، بل يحتاج التقييد إلى إثبات. ومن هنا أيضاً كانت النبوّات والأديان السماوية تجد نفسها صاحبة حق طبيعي في القيمومة على الأرض والانتشار فيها ومكافحة المعارضين لها. ففي نبوّة موسى(عليه السلام) ورد قوله تعالى: «و نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين»[10].
وقوله تعالى: «و لقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين. من فرعون إنّه كان عالياً من المسرفين. ولقد اخترناهم على علم على العالمين»[11].
وفي نبوّة عيسى(عليه السلام) قال تعالى: «إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفيك ورافعك اليّ ومطهّرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة»[12]. وحول بني إسرائيل أيضاً قال تعالى: «و أورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها»[13].
وقال أيضا: «قال موسى لقومه: استعينوا باللّه واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون»[14].
وفي قصّة صالح(عليه السلام) قال تعالى: «و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عادوبوّأكم في الأرض»[15].
والأمر ليس خاصّاً بنبوّة دون أخرى. فالاستخلاف ووراثة الأرض قانون عام يشمل كل النبوّات وكل الأمم. قال تعالى: «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض»[16]. «أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم»[17]. «إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده»[18]. «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون»[19]. وخلاصة كلّ هذه الآيات تفيد أن أتباع الأنبياء - نبوّة بعد أخرى - هم الأئمة للبشرية وهم الوارثون للأرض من الكفّار الساكنين فيها. وهم الخلفاء والخلائف الذين جعلهم الله سادة البشرية. وهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وهم الذين اختارهم الله على العالمين.
وإذا كان ذلك هو شأن كل نبوّة فإنّ للإسلام حسابه التفصيلي الخاص، حيث يمكننا إثبات قيمومته بالوجوه والآيات التالية:
1. الآيات الدالة على قيمومة النبوّات التي سبقت الإسلام؛ فإنّها بنفسها تكون دالة على قيمومة الإسلام بحكم خاتمية هذا الدين ووراثته للأديان السابقة.
2. الآيات الدالة على قيمومة النبوّات كقانون عام دون أن تسمّي نبوّة بعينها؛ فإن الإسلام مشمول بهذا القانون وهو أكبر النبوّات وخاتم الرسالات.
3. قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون»[20].
4. قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً»[21].
5. قوله تعالى: «و كذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً»[22].
6. قوله تعالى: «و في هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس»[23].
7. قوله تعالى: «وعدالله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً...» [24].
8. قوله تعالى: «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون»[25].
9. قوله تعالى: «و أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم...» [26].
10. قوله تعالى: «و لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين»[27].
11. قوله تعالى: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم»[28].
12. قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون»[29].
13. قوله تعالى: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله»[30].
14. قوله تعالى: «و لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون»[31].
15. قوله تعالى: «هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج»[32].
16. حديث الإمام الصادق(عليه السلام): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[33] وقد نُسب في المصادر السنّية إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن بهذا النص: «الإسلام يعلو ولا يعلى».
17. ومن الممكن الاستشهاد لقيمومة الإسلام بالآيات التي وصفت الإسلام بأنّه الدين القيم، ولكن بعد تفسير هذه الصفة بالقيمومة وصرفها عن التفسير بالقوام أي ما يتقوّم به أمر الإنسان. والثاني هو الظاهر من (مفردات الراغب الأصفهاني) وقد اعتمده العلّامة الطباطبائي في تفسيره لكنّه ذكر المعنى الأوّل أيضاً وأشار إليه ولم يرفضه.
إن هذه النصوص والوجوه وغيرها ممّا لم يكن غرضنا استقصاءه تمثّل الأساس الأيديولوجي لحق الإسلام في السيادة على الأرض والإنسان. هذه السيادة التي صيغت عقائديا من خلال عنوان الحاكمية الالهية.
والخلاصة من كل ذلك أن الإسلام هو الدين الحق الذي يجب أن يظهر على سائر الأديان ويكون أتباعه شهداء على سائر الناس وخلفاء الأرض ؛ لأنّ كلمة الله فيهم، وكلمة الله هي العليا، وأن تكون العزّة لهم وحدهم، وهذا ما يساوق السيادة؛ إذ لا تنحصر العزّة بأحد من الناس إلّا على أساس أن يذعن الآخرون له، وهذا ما يفرز قاعدتين في التصور السياسي الإسلامي هما:
1. القاعدة الأوّلية وهي أن تكون الأرض كلّها إقليماً واحداً لدولة واحدة تسكنها أمّة واحدة هي أمّة الإسلام، وأن المسلمين مكلّفون ببسط سيادة التوحيد على الأرض وعدم ترك بقعة واحدة منها لراية أخرى، وحيث إنّ تحقّق هذه القاعدة موكول لانتصار المسلمين؛ لذا تظهر قاعدة أخرى إلى حين ظهور الدولة العالمية الواحدة المستوعبة للأرض كلّها وهي الدولة المهدوية.
2. القاعدة الثانوية وهي أن تنقسم الأرض إلى دارين؛ دار للإسلام ودار للكفر، وهذا الانقسام بلحاظ الواقع لا الشرعية؛ إذ لا شرعية للكفر في مطلق الظروف والأحوال.
وحينما ننظر إلى هذه القاعدة نجدها خلاصة شديدة التركيز من الرؤية العالمية. ولكي يكون بالإمكان شرحها وتسليط الضوء الكافي عليها لا بدّ لنا من تحليلها إلى عناصرها الأولية التي تتكوّن منها وهي:
1. مفهوم الأمّة في الإسلام.
2. دار الإسلام ودارالكفر.
3. الدولة الإسلامية واحدة ام متعدّدة.
4. فريضة الجهاد والدعوة. إن هذه الأبعاد والقاعدة الفكرية التي انطلقت منها تبيّن أن المجتمع السياسي الإسلامي يقوم على محور عقائدي وأن النشاط الإنساني المتجسد في حركة الفرد والمجتمع والتاريخ إنّما هو من وجهة النظر الإسلامية ظاهرة عقائدية.
مفهوم الأمّة في الإسلام‏
الأمّة مفهوم حيوي يختلف من حضارة إلى أخرى، ومن مدرسة فكرية إلى مدرسة أخرى. وقد يختلف تبعاً للاختصاصات العلمية الأكاديمية أيضاً. فنجد له تعريفاً في علم السياسية وتعريفاً آخر مختلفاً عنه في علم الاجتماع.
ففي الجاهلية العربية كانت الأمّة تعني الدين.
قال الشاعر: وهل يستوي ذو أمّة وكفور؟
ونسب إلى النابغة قوله:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع؟[34]
فجاء الإسلام وأجرى تغييراً أساسياً عليه. فعندما نطالع الآيات التي وردت فيها مفردة الأمّة نجد القرآن الكريم قد أوجد لها استعمالات جديدة ومتعدّدة. فاستخدمها في الدين والطريقة والجماعة من الناس، والجماعة من الحيوان، والرجل القدوة المستجمع للكمالات، والجماعة ذات المبدأ، ثم جاءت السنّة النبوية فحددته وحصرته بالمعنى الأخير. ففي العشرات من النصوص النبوية نطالع تعبير«أمّتي» وتعبير «أمّة محمّد» وتعبير «أمّة المسلمين» وتعبير «أمّة اليهود».
وعندما جاءت الحضارة الحديثة ابتكرت مفهوماً جديداً للأمّة ينطوي على محدّدات جديدة كالتاريخ واللغة والثقافة والجنس والأرض. ويرى الباحث أحمد حسين، أن الدارس للتأريخ الإنساني منذ اقدم العصور وحتى القرن التاسع عشر لا يصادفه هذا المعنى الخاص للأمّة. فهناك الولاء للقبيلة والمدينة والأمير والحكومة، أمّا هذا الولاء للجماعة المشتركة في الجنس واللغة والثقافة والتاريخ فشي‏ء من مبتكرات القرن التاسع عشر ومن مبتكرات أوروبا على وجه التحديد، ويلاحظ أيضاً أن قواميس اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية ومعاجمها لا تنطوي على التعريف المتداول الآن عن الأمّة[35].
ويبدو أن تعدّد الآيديولوجيات والمذاهب الفكرية والاختصاصات الأكاديمية وتنوّع الأمم الغربية من حيث كيفية تكوّنها تأريخياً قد انعكس بشدّة على مفهوم الأمّة، وجعله يعيش الإبهام والغموض والميوعة. فالماركسي والعنصري والليبرالي كلّ منهم وضع تعريفه الخاص به للأمّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوميي الإنجليز والأمير كان والإيطاليين وغيرهم، لأنّ كلّاً من هؤلاء يمثَّل أمة تكوّنت في ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة. فالألمان يركّزون على العرف واللغة، والفرنسيون يختارون التاريخ والآمال المشتركة، والأمير كان منزعجون من عامل التاريخ واللغة، ومهتمون بعامل الأرض والتفكير المتجانس. والإيطاليون يؤكدون على وحدة الأرض واللغة والعادات. وإذا سألت قوميي الهند وجدتهم مشمئزين من وحدة الدين والثقافة لأنّ هذا العامل يهدّد الأمّه الهندية بالانشطار إلى أكثر من أربعمئة دين وثقافة[36].
والشي‏ء الذي تجتمع عنده هذه النظريات هو اتّفاقها على استبعاد العقيدة من مفهوم الأمّة استبعاداً تامّاً، فلم تعد العقيدة المحور الوحيد للأمة، بل ولا أحد العناصر المكوّنة لها.
نعم، الشي‏ء المتّفق عليه هو الثقافة، لكن الثقافة شي‏ء آخر غير العقيدة. وهذا ما يدعونا إلى رفض النظرية التطورية التي طرحها الاستاذ محمد المبارك في كتابه «الأمّة والعوامل المكوّنة لها» حيث أدّعى أنّ هناك سيراً ارتقائياً لمفهوم الأمّة. ففي العصور القديمة كانت الرابطة العنصرية هي الأساس في تكوّن المجتمعات، وبشكل تدريجي بدأت تظهر العناصر المعنوية وتضعف العناصر المادية، حيث أدخلت عناصر التأريخ واللغة والدين والثقافة في مفهوم الأمّة إلى جانب عناصر الأرض والقومية. وأخذ التركيز أخيراً يشتدّ على النوع الأوّل على حساب النوع الثاني.
إنّ هذه النظرية تتجاهل التاريخ الإسلامي الذي تجلّى فيه مفهوم معنوي خالص للأمّة لا تشوبه أي شائبة مادية، حيث لا تقوم الأمّة في مفهوم الإسلام إلاّ على عنصر معنوي واحد وهو العقيدة. بينما جاء عصر النهضة بمفهوم للأمّة يتكى‏ء على العناصر المادية أكثر ممّا يتكى‏ء على العناصر المعنويه، وحتى العناصر التي اعتبرها المبارك انها معنوية لم تكن بالنسية الى النهضة الأوروبية معنوية لأنّها كانت قد أعطتها تفسيرات مادية. وهذا سير قهقرائي لا تطوّري.
ومن الممكن تصديق هذه النظرية في حدود تاريخ النهضة الأوروبية نفسها حيث بدأت هذه النهضة بفورة عنصرية عنيفة لكنّها بدأت تضعف منذ منتصف القرن العشرين، ولكن لا يمكن الثقة بهذا التطوّر لأنّه نشأ من عامل سياسي متغيّر وهو الفزع الأوروبي الشديد الذي خلقته الحربان العالميتان الأولى والثانية الناتجتان عن تلك الفورة المقيتة. وما لم تتغيّر القاعدة المادية للحضارة الغربية لا يمكن التصديق بتطوّر معنوي أوروبي حقيقي.
ولا زالت الأمّة في المهفوم الغربي تتقوّم بالأرض والرابطة القومية بشكل أساس، ولا يقصد من عوامل اللغة والتاريخ والثقافة والآمال المشتركة إلّا المعنى القومي الذي يعكس تجليات ومظاهر قومية محدّدة فهي عوامل تابعة للأرض وللغريزة القومية وليست حاكمة عليها. أي أن الجماعة البشرية لا زالت محكومة بالغريزة لا العقل، وهذه نقطة الخلل الأخلاقية المركزية في المفهوم الغربي عن الأمّه.
وهي التي يقابلها الإسلام بالانتصار الحاسم للعقل حيث يجعل العقيدة وحدها الأساس والمحور الوحيد الذي تقوم عليه الأمّة. ذلك أن العقيدة هي مظهر التوحيد بالنسبة للأمّة. فكما لايحقّ للأمّة أن تعبد غير الله سبحانه وتعالى كذلك لا يحق لها أن تكوّن نفسها على أساس غير العقيدة، وهذا لا يعني التحليق في السماء وقطع الارتباط بالأرض، وإنّما يعني أن تكون الروابط الأرضية «تاريخ. لغة. آمال. أرض. قوم» محكومة بالرابطة السماوية. بالتوحيد. بالعقيدة. «ذلكم الله ربّكم لا إله إلّا هو خالق كلّ شي‏ء»[37] ومنه الروابط الأرضية. وأن الحكم لله «أمر ألّا تعبدوا الّا إيّاه»[38] وألا تكون رابطة فوقه حتى تعبدوا «الله مخلصين له الدين»[39].
ولننصت هنيئة إلى الوحي وهو يحدِّثنا عن الرابطة التوحيدية المتحكمة بالروابط الأرضية. قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبُّوا الكفر على الإيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون. قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقتر فتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين»[40].
«أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون»[41].
«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يُخرجون الرسول وإيّاكم أن تؤمنوا بالله ربّكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرُّون إليهم بالمودّة... لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآءٌ منكم ...» [42].
«لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروحٍ منه»[43].
«و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك ولو أعجبكم...» [44].
«ووصينا الإنسان بوالدية حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما...»[45].
«و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا...» [46].
«الزاني لا ينكح إلّا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلّا زانٍ أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين»[47].
وخلاصة هذه التلاوة أن الأمّة الإسلامية تبدأ فرداً توحيدياً ثم أسرة موحّدة ثم مجتمعاً توحيدياً يقبل كلّ شي‏ء ينسجم مع إطار التوحيد ويرفض كلّ شي‏ء يتضاد معه. فعلاقات النسب المرفوضة بشدّة عندما تكون خارج إطار التوحيد نجدها مطلوبة بقوّة عندما تكون ضمن أطار التوحيد، قال تعالى: «... واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام»[48]. «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم»[49]، فالتوحيد هو المتحكم بالغرائز والروابط والعواطف.
إن هذا الرسوخ والاستحكام لدور العقيدة في بناء الأمّة الإسلامية يجعلنا نرفض تقسيم المسلمين إلى جنسياتهم وقومياتهم واعتبار العرب أمّة والفرس أمّة والترك أمّة. فالمسلمون أمّة واحدة ليسوا مجموعة أمم.
لقد وردت كلمة الأمّة في القرآن الكريم 64 مرّة وبمعانٍ مختلفة هي:
1. الطريقة أو الدين، قال تعالى: «...إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون»[50].
2. جماعة الحيوان، قال تعالى: «و ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلّا أمم أمثالكم»[51].
3. جماعة الباطل، قال تعالى: «كلّما دخلت أمّة لعنت أختها»[52].
4. جماعة المسلمين، قال تعالى: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس...» [53].
5. جماعة الناس، قال تعالى: «و لو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة...» [54].
6. الإنسان الكامل، قال تعالى: «إنّ إبراهيم كان أمّة قانتاً لله»[55]. وفي تفسير الميزان عرّف العلّامة الطباطبائي الأمّة قائلاً: «الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد»[56].
والظاهر أن هذا المعنى جامع للمعاني الستّة المذكورة حيث يمكن إرجاعها بنحوٍ ما إليه.
وعندما ننظر في السنّة الشريفة نجدها أكثر تحديداً في استخدامها لمصطلح الأمّة حيث أطلقته على جماعة المسلمين وجماعة أعدائهم. وفالمسلمون أمّة وأعداؤهم أمّة أو أمم أخرى. وكثيراً ما ورد التعبير عن جماعة المسلمين ب«أمّة محمّد» و«أمّتي»، ولا أجد بين نصوص السنّة نصّاً يعيننا على اقتناص مفهوم الأمّة أفضل من معاهدة المدينة أو صحيفة المدينة التي عقدها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل الكتاب، فقد صدرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «هذا كتاب من محمّد بن عبد الله النبي نبي المسلمين والمؤمنين من قريش يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم إنّهم أمّة واحدة من دون الناس...».
واذا اقتطعنا من النص عبارة «و من تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم» وقمنا بتسليط الضوء عليها وجدناها تنضح بامتياز أساسي وهو أن الأمّة الإسلامية تقوم على أساس مبدأ يقع ضمن إرادة الإنسان واختياره، ومن هنا جاءت الأفعال «تبع، لحق، جاهد» بخلاف المفهوم غير التوحيدي للأمّة والمعتمد على روابط لا اختيار للإنسان فيها كالأرض والتاريخ والثقافة والقوم واللغة، حيث يأتي الإنسان إلى الدنيا فتفرض البيئة عليه هذه الروابط وتشدّه إليها من خلالها دون أن يكون له فيها اختيار أو إرادة. فإذا ما كبر واكتشف خللاً فيها وقرّر التمرّد عليها لا حقه أبناء البيئة بتهمة الخيانة حيث يفترض في المفهوم الأرضي للأمّة أن يعطي الإنسان ولإه لبيئته المتكوّنة من إنسان وأرض.و من هنا تنبع الأزمة الأخلاقية في المجتمع غير الديني، حيث يعطي ولاءه لقيم مادية على غرار ولاء الإنسان البدائي للأصنام والتماثيل، بينما يفترض أن يُعطي الولاء لقيم عليا ومُثُل مطلقة لتسمو بالإنسان وتجعله يتحرّك في إطار لانهائي من الفضيلة، بحيث لا تتجمّد حركته الإيجابية نحو الفضيلة عند نقطة من حياته. بل تواصل هذه المثل توظيفه في الخير وتمتص منه كل قواه إلى آخر لحظة من حياته، لتوفّر للإنسانية معينا لا ينضب من طاقات الخير وامكانات البناء. بينما تميت القيم المادية جذوة الخير في الإنسان، ولا توجّه إليه إلّا نداء الانانية الذي يقتضي أن تستحوذ الذات الفردية أو الوطنية أو القومية على كل شي‏ء من حولها ولا تترك للآخرين شيئاً فيهتف مثلاً: «ألمانية فوق الجميع» أو «سودي يا بريطانيا واحكمي».
ان القيم المادية قيم جامدة تتجّمد عندها الروح والأخلاق ويتوقّف المجتمع بسببها على الروابط التي فرضتها البيئة عليه، ومن هنا لا نجد فيه اتساعاً إلى ما وراء اللغة والتاريخ والأرض والقومية، إلّا على نحو العدوان والاغتصاب والسيطرة الاستعمارية.
بينما القيم الروحية قيم مطلقة خلّاقة تدفع الإنسان إلى النموّ، والمجتمع إلى الاتساع، فإذا كانت النواة قد تكوّنت على يد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة فإن هذه النواة ستتحرّك وستنمو وسيلتحق بها آخرون ويتبعها الباقون، وسيقوم هؤلاء الملتحقون والتابعون مع النواة بدورة جهادية جديدة من أجل النمو والاتساع المتواصل إلى أن يتحقّق ظهور الدين على الأرض كلّها «و من تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم»، ولا يقوم هذا الاتساع على العدوان والاغتصاب وإنّما على الحكمة والموعظة الحسنة ؛ إذ لا إكراه في الدين، والقوّة الوحيدة التي يستخدمها هي قوّة إزالة الفتنة التي تحول بين الناس وبين الدين وتفرض عليهم - بشكل ما - عدم الالتحاق به.
وعلى أساس ذلك يكون المسلم الذي دخل الإسلام توّاً عضواً كباقي أعضاء الأمّة الإسلامية، ولا تلحظ فوارق التاريخ واللغة والقومية التي قد يتفرق بها عن باقي المسلمين. وقد يرتقي المسلم الجديد في سلّم التقوى درجة تؤهله لمكانة سامية في المجتمع، وقد يتخلّف المسلم المنحدر من سلالة إسلامية عريقة في مكانة واطئة، والتاريخ الإسلامي ملي‏ء بشواهد الصعود السياسي والعلمي لأفراد من الموالي والعبيد، وبشواهد الانتكاس لأفراد ينسبون إلى البيت النبوي.
ومن الملاحظ أن اتساع الأمّة الإسلامية لا يتوقّف عند حدّ بل يستمرّ حتى تستوعب الكرة الأرضية، ذلك أن الأمّة التوحيدية مرّت وتمرّ بثلاث مراحل هي:
1. مرحلة الوحدة الفطرية، قال تعالى: «و ما كان الناس إلّا أمّة واحدة فاختلفوا»[57]. وذلك قبل نبوّة نوح(عليه السلام) فكان التوحيد شاملاً ومستوعباً للمجتمع البشري كلّه.
2. مرحلة الانقسام بين التوحيد وأعدائه. وتشمل المرحلة التالية لنبوّة نوح(عليه السلام) والمستمرّة إلى قيام الدولة المهدوية العالمية.
3. مرحلة الوحدة المهدوية، حيث تقوم دولة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، وتكون الارض كلّها إقليماً واحداً ودولة واحدة وأمّة واحدة.
والمرحلة الثالثة هي عملية استرداد تاريخي لطبيعة وخصائص المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية التي نحياها قد تتذبذب فيها الأمّة الإسلامية اتساعاً وتقلصاً لكنّها في الحسابات النهائية في توسّع مستمر. والتاريخ يشهد أن الإسلام لم يصل أرضاً ثم انحسر عنها إلّا في الاندلس حيث كان الانحسار استئصالاً صليبياً دموياً ومروّعاً ولم يكن ارتداداً من الناس عن الإسلام، وهذا يعني أن الأصل الذي خلق الله المجتمع البشري عليه هو أن يكون أمّة واحدة للإسلام وكأن الدولة المهدوية العالمية ما هي إلّا عملية استرداد إلهي لهذا الأصل ضمن عملية الاسترداد الكبرى التي ستجري في نهاية المطاف البشري للعهود والمواثيق الإلهية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في النفس البشرية والمسيرة الإنسانية. حيث يطالب الله البشرية بالأصول التي خلقها عليها. فالانقسام الذي تحياه الأرض بين أمّة الإسلام وأمم أعدائه حالة استثنائية، ووظيفة المسلمين في هذه المرحلة هي مكافحة الاستثناء واسترداد الأصل. وسنجد عمّا قليل في بحث دار الإسلام ودار الكفر أن الأصل في الأرض أنّها دار واحدة للمسلمين.
وهكذا نجد أن صحيفة المدينة قد طرحت مفهوماً حيوياً وواضحاً جدّاً عن الأمّة. ومن الغريب أن يستفيد الشيخ محمد مهدي شمس الدين من بعض نصوصها وجود مفهومين للأمّة فيها، مفهوم سياسي وآخر ديني؛ وذلك استناداً إلى فقرة من الصحيفة ينص فيها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن «يهودبني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» فهو يعتقد أن هذه الفقرة تعني: «التوحيد في الانتماء إلى المشروع السياسي»، وأن العبارة السابقة التي وصفت المسلمين بأنّهم «أمّة واحدة من دون الناس» تعني «أن الأمّة هنا تقوم على اعتبار الانتماء الديني وحده»[58]. فكأن هناك أمّة تتكوّن من المسلمين واليهود وأخرى تتكوّن من المسلمين وحدهم، الأولى هي الأمّة الإسلامية بالمفهوم السياسي والثانية هي الأمّة الإسلامية بالمفهوم الديني. ولعل المنشأ لهذا التصوّر الثنائي هو وصف النبي ليهود بني عوف بالأمّة. فتوقّف في هذا الوصف انطلاقاً من الاعتقاد بأن وصف الأمّة خاص بالمسلمين، ثم فسّره بأن المراد منه وصف المجموع المتكوّن من المؤمنين وبني عوف بالأمّة. وحينئذ يكون المقصود بها معنىً سياسياً غير المعنى الديني المطروح في صدر الصحيفة. والحال أن وصف الأمّة ليس خاصاً بالمسلمين وقد وجدنا القرآن يستخدمه في جماعة الحق وجماعة الباطل على حدّ سواء، ولا محذور في أن يكون أهل الكتاب أمّة تعيش في ذمة الامّة الإسلامية، ولا ضرورة لأختراع مفهوم للمجموع المكوّن من أُمّة المسلمين وأمّة اليهود، لأنّهم أقلية ملحقة بالأصل، وحتى الكيانات السياسية الحديثة لا تغيّر عنوانهالأجل التحاق أقلية صغيرة بها، حتى لو كبرت هذه الأقلية وصارت وجوداً بشرياً معتدّاً به من الناحية السياسية. فإن أهل الكتاب أهل دين باطل فلا يكون وجودهم مهما اتسع ملاكاً لظهور مفهوم إسلامي خاص.
على أن العباره ظاهرة في الفصل بين اليهود والمؤمنين الذين وصفهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر الصحيفة بأنهم «أمّة واحدة من دون الناس» وعبارة «من دون الناس» يؤكد فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عدم صحّة إدخال غير المسلمين في مفهوم الأمّة، فتفسير العبارة وكأنّها تقول: «إن يهود بني عوف والمؤمنين أمّة» تفسير يخالف المفهوم المؤكّد من الصحيفة.
وفي ختام البحث عن مفهوم الأمّة في الإسلام أجد ضرورياً نقل كلمة لعميد قسم الدراسات العربية بجامعة ادنبرة (مونتجمري وات) حول المفهوم الإيجابي للأمّة في الإسلام، فقد كتب يقول: « إن فكرة الأمّة كما جاء بها الإسلام هي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها، ولم تزل إلى هذا الزمن ينبوعاً لكل فيض من فيوض الايمان يدفع المسلمين إلى الوحدة في أمّة واحدة تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات وعصبيات النسب والسلالة، وقد تفرّد الإسلام بخلق هذه الوحدة بين أتباعه، فاشتملت أمّته على أقوام من العرب والفرس والهنود والصينيين والمغول والبربر والسود والبيض على تباعد الأفكار وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حظيرة هذه الأمّة أحد ليشق عليها ويقطع الصلة بينه وبينها، بل كان المنشقّون عنها يعتقدون أنّهم أقرب ممّن يخالفونهم إلى تعزيز وحدتها ولمّ شملها ونفي الغرباء عنها».
ثم يلاحظ: «إن فكرة الأمّة هي التي جعلت أناساً من الفرس يؤمنون بأنّهم أحق من بني أمية بنصرة الخلافة الإسلامية على قواعد المساواة بين جميع المسلمين، وإن فكرة الأمّة هي التي حدّدت للبلاد الإسلامية في كل عصر قبلة تعوذ بها وتهتدي بهداها، وهي التي بثّت في صدور المسلمين أنّهم أمّة واحدة أيّام الغزوات الأجنبية...و سرّ هذه القوّة في العقيدة الإسلامية أنّها منحت الفرد مقياساً للحياة أرفع وأسلم من مقياس العصبية والمنعة وهو مقياس الضمير المستقل عن أصحاب السيادة، وأنّها مع هذا الاستقلال الفردي لم تترك الجماعة بغير جهة تتّجه إليها، فأبدعت فكرة الأمّة وحرّرت هذه الفكرة من ربقة العصبية وحدّدت الوراثة فأصبح معنى الأمّة قابلاً للتطوّر مع الأحداث والظروف»[59].
دار الإسلام ودارالكفر
تتحدّد علاقة الإنسان بالأرض - التي عنونت حديثاً بعنوان الوطنية - تبعاً لنظرته الكونية. فالإنسان الذي لا يعتقد بإله خالق له وللكون والأرض، أو يعتقد بإله خالق لكنّه يجمّده في المسألة الكونية ويجعله بمعزل عن المسألة الاجتماعية على غرار «قالت اليهود يدالله مغلولة»[60] وما يذهب إليه العلمانيون حديثاً؛ مثل هذا الإنسان ينظر للأرض نظرة المالك لملكه فينسبها لنفسه ويتصرّف في علاقاته مع الآخرين على هذا الأساس، لأنّه لا يرى في الأرض كائناً أعلى ولا أفضل منه فيها. ومن هنا نجد فرعون ينسب الأرض له ولقومه وكذلك ملأه وسحرته، قال تعالى على لسان فرعون: «قال: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى»[61].
وخاطب فرعون ملأه قائلاً: «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره»[62].
وتحدّث السحرة فيما بينهم قائلين: «إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويَذْهبا بطريقتكم المثلى»[63].
فالأرض لهم وليس لموسى أي حق فيها. وإذا كان له من حق فهو فرد كباقي أفراد الشعب وعليه أن يسلّم للإرادة الوطنية العامة ولا يفرض رأيه عليها. ولم يكن موسى(عليه السلام) بدعاً من الأنبياء، فقد عانى كلّ الرسل والأنبياء من هذه القضية، قال تعالى: «و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا...» [64].
فإن الإرادة الوطنية العامة هي العليا وهي فوق كلّ شي‏ء فمن لم يشأ الإذعان لها فعليه الخروج من الحدود الإقليمية للوطن.
وهكذا، فعندما يعزل المجتمع والأرض عن المسألة الإلهية والإيمانية تصبح الوطنية هي العنوان الطبيعي والوحيد لعلاقة الإنسان بالأرض. وكلّما ترسّخ هذا العنوان وتأكّد بدت العناوين الأخرى في نظر الإنسان أكثر غرابة وبعداً. وهل هناك في ذهن فرعون استغراب أكبر من استغرابه من ثورة يقوم بها موسى(عليه السلام) - الغريب قومياً عن مصر - ضد الحكم الفرعوني؟
ومن هنا يمكننا القول: أن الوطنية كشعور وكممارسة وكفكرة أوّلية ليست شيئاً جديداً أوجدته النهضة الأوروبية الحديثة، بل هي ظاهرة قديمة قدم الإنسان. والشي‏ء الجديد الذي أنتجته النهضة الأوروبية الحديثة. هو تحويل هذا الشعور وهذه الفكرة الأولية إلى نظرية ومجموعة قوانين دولية. وهذا يعني أنها ليست أمراً يلازم الحضارة والتقدّم كما يُدعى. بل إن انتسابها إلى عالم الغريزة - وذلك طبقاً لمؤشرات عديدة - يمنع من جعلها أساساً صالحاً لإدارة الحياة الدولية التي لابدّ من إدارتها على أساس مثل وقيم مطلقة، وهي ما لا تكون إلّا قيماً فكرية روحية. لذا فإن الإصرار على اتخاذ الوطنية أساساً في الحياة الدولية الحديثة ما هو إلّا مؤشر على عدم تقدّمية الحضارة الحديثة. بينما يجد الإنسان المعتقد بإله خالق مدبِّر للكون والمجتمع أن علاقته بالأرض لا يمكن أن تكون علاقة تملّك. وكيف يكون مالكاً متصرّفاً فيها ولها خالق قد خلقها وأوجدها ولا زال يتصرّف فيها تكوينياً وتشريعياً؟
وإذا ما نظرنا في القرآن الكريم نجده يتحدّث عن علاقة الأرض بالله سبحانه وتعالى من جهات أربع:
1. خلق الله الأرض، قال تعالى: «و هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق»[65].
2. مالكيته لها، قال تعالى: «و لله ملك السماوات الأرض وما بينهما...» [66].
3. تصرّفه التكويني المستمرّ فيها. فهو الذي ينقص الأرض من أطرافها، قال تعالى: «أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها»[67]. وهو الذي يحييها بعد موتها، قال تعالى: «وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت...»[68] وهو الذي يأمرها بمعاقبة الكفّار فتطيعه، قال تعالى: «فخسفنا به وبداره الأرض»[69] وهو الذي سيجعلها في صورة جديدة، قال تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض»[70].
4. تصرّفه التشريعي فيها. فإذا كان الله هو خالقها ومالكها والمتصرّف التكويني فيها إلى يوم القيامة فمن الطبيعي أن لا يكون متصرّف تشريعي فيها غيره، ومن حقّه أن يأمر بعدم الفساد فيها، قال تعالى: «كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين»[71] ويمنع التجبّر فيها، بل ويتدخّل ويمنع المقدّمات المؤدية إلى ذلك، قال تعالى: «لو بسط الله الرزق لعبادة لبغوا في الأرض»[72].
ثم يحكم على المفسدين في الأرض بأن يقتلوا، قال تعالى: «إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا...» [73].
ويأمر عباده بالهجرة من أرض إلى أخرى، قال تعالى: «... ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها»[74]. وفي ذلك سلب لما يدّعيه الإنسان من حق له في الأرض. ولذا يذكر الله سبحانه وتعالى الانسان بأن الأرض له سبحانه، قال تعالى: «يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون»[75]. وقد سخرها للمؤمنين به «و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة»[76]. بل انّه سبحانه ينتزعها ممن يدعي ملكيته لها ويجعلها بيد هؤلاء المؤمنين، قال تعالى: «و أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم»[77].
فاليهود يدّعون أن خيبر أرضهم والقرآن يؤكّد أنّ اللّه قد أعطى هذه الأرض للمسلمين. فالسكنى في الأرض لا تولّد حقّاً للساكنين فيها مهما امتد زمن السكنى ذلك «ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده»[78]. «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون»[79]. «و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربّهم لنهلكنّ الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم»[80].
وفي ضوء هذه العلاقة التي تشدّ الأرض بخالقها تتحدّد طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض، وهي لا يمكن إلّا أن تكون علاقة استخلاف.
قال تعالى: «و اذ قال ربّك للملائكة: إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك...» [81].
والفرق بين التملّك والاستخلاف فرق أخلاقي لصالح الإنسان، لأنّ التملّك علاقة ثنائية بين الأرض والإنسان، والإنسان من شأنه - الضعف أمام الأرض بشكل يؤدّي إلى أن تفرض الأرض قيمها المادية عليه. قال تعالى: «و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه»[82]. «ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض»[83].
فتأتي علاقة الاستخلاف الثلاثية «الله، الإنسان، الأرض» لتعالج هذه المشكلة حيث يصبح الإنسان في ضوء هذه العلاقة خليفة يستمدّ من القدرة المطلقة للمستخلف ما يمكِّنه من السيطرة على جذبة الأرض وإغراءاتها.
وبعبارة أخرى إن علاقة التملّك ظاهرها ملكية الإنسان للأرض لكن حقيقتها ملكية الأرض للإنسان، فتأتي علاقة الاستخلاف لتنقذ الإنسان من عبودية الأرض وتجعله المتصرّف فيها. إذن الأرض لله سبحانه وتعالى، والإنسان خليفته فيها. وهي من حيث الأصل إقليم واحدة لدولة واحدة. وقد مرّ سابقاً أن السيادة الشرعية على هذا الإقليم هي لأتباع الدين الحق، وقد استخلف الله سبحانه هؤلاء الأتباع نبوّة بعد أخرى حتى وصل الأمر إلى النبوّة الخاتمة فأسند إلى المسلمين وظيفة الشهادة على الناس والسيادة على الأقليم الأرضي الواحد. هذا في الأصل التشريعي ولكن حيث أن الواقع الموضوعي غير متطابق مع هذا الأصل، لذا فقد انقسمت الأرض بين المسلمين وغيرهم قسمين؛ فسمّيت أرض المسلمين بدار الإسلام وأرض غيرهم بدار الكفر أو دار الحرب أو دار الشرك، بانتظار مجي‏ء اليوم الموعود الذي سيزول فيه هذا الانقسام وتتحقّق السيادة الإسلامية على كل الأرض. فكما استلم الخليفة الأرض من خالقها إقليماً واحداً يسوده التوحيد وحده، كذلك عليه أن يرجعها إلى المستخلف على الحالة التي استلمها منه، وليرث الله الأرض ومن عليها.
غير أن انقسام الأرض إلى دارين لا يعني أن الشريعة الإسلامية تصبح إقليمية؛ ذلك أن مفهوم العالمية ليس مفهوماً جغرافياً يقاس بأمتار الأرض، بل مفهوماً أخلاقياً آيديولوجياً يقاس بالقيم الشمولية التي ينطلق منها. فما دام الإسلام يطبّق المساواة ولا يتّخذ من الألوان والأوطان مقياساً له فهو شرعة عالمية حتى لو لم يطبق الاعّلى المدينة المنوّرة، وما دام النظام الدولي العالمي يتخذ من الاوطان والقوميات مقياساً له فهو شرعة غير عالمية وإن طبّق على العالم أجمع، خلافاً لما اعتقده المفكِّر الإسلامي عبدالقادر عودة من أن الشريعة عالمية في أصلها النظري وإقليمية في واقعها العملي نتيجة لانقسام الأرض إلى دارين[84].
وإذا ما جمعنا النتائج المستفادة أخيراً مع النتائج التي توصلنا لها سابقاً أمكننا إقرار النقاط التالية:
1. أن الأصل في الأرض كونها إقليماً واحداً تسوده راية واحدة هي راية التوحيد وأن المسلم يتحرّك في الأرض كما تتحرّك السمكة في البحر.
2. أن وجود الرايات الأخرى كحقيقة واقعة يفرض انقسام الأرض بين التوحيد وخصومه بين دار الإسلام ودارالكفر.
3. وتبعاً للأصل أيضاً فإن العلاقة بين الدارين هي من حيث الأصل علاقة حرب، وأن الحرب لا تنتهي إلّا بفرض السيادة الإسلامية على دار الكفر، فيعطي أهل الكتاب الجزية ويتلفّظ المشركون بالشهادتين. وفي حالة العجز تلجأ دار الإسلام إلى عقد الهدنة مع دار الكفر.
وهذا يعني أن العلاقة بين الدارين لا يمكن أن تكون طبيعية وودية. فإمّا الحرب وإمّا الهدنة، وليس المسلم مأذوناً بالإقرار للكافر بالسيادة على الأرض التي هو فيها، فإن السيادة شي‏ء من جنس العزّة، ولا تكون العزّة إلّا لله ولرسوله وللمؤمنين. وهذه النتيجة التي توصلنا إليها من خلال بحث مفاهيمي توحيدي قرآني متسلسل قد أطبق عليها جمهور الفقهاء السنة والشيعة قديماً وحديثاً من خلال بحوث سجالية مطوّلة في الكتاب والسنّة[85].
لكن الفترة الأخيرة شهدت ظهور محاولة من فقيه سنّي وأخرى من فقيه إمامي لاثبات أن الأصل في العلاقة بين الدارين هي السلم، وأن الحرب استثناء كما هو الأمر المقرّر في القوانين الدولية السائدة. وسنعالج هذه المحاولة في بحث الجهاد، والشي‏ء الذي يهمّنا من هذه المحاولة الآن هو أن الدكتور وهبة الزحيلي وهو صاحب المحاولة الأولى أيّد رأيه بكون الأصل في العلاقة بين الدارين هو السلم، بأن تقسيم الدنيا إلى دارين أمر «مبني على أساس الواقع لا على أساس الشرع ومن محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري...فهو نقسيم طاري‏ء بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها فهو ينتهي بانتهاء الأسباب التي دعت إليه»[86].
ويقول أيضاً: «إن استنباط تقسيم الدنيا إلى دارين من الدعوة إلى الهجرة غير سليم، لأن ذلك قد نسخ بفتح مكة وقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا هجرة بعد الفتح[87]، ويؤيّد رأيه باعتبار الإمام الشافعي للدنيا في الأصل أنّها أرض واحدة، وأن التقسيم الثنائي أمر طارى‏ء وهذا يعني أن الأصل هو السلم» [88].
ولكنّنا وجدنا فيما مرّ من البحث أن انقسام الأرض إلى دارين أمر حتمي، فمادام الإسلام كلمة الله، وغيره كلمة الكفر وإن كلمة الله يجب أن تكون هي العليا وكلمة الكفر يجب أن تكون السفلى، فلا مفرّ من انقسام الأرض بين الكلمتين إلى دارين ولا مفرّ من أن تكون دار الإسلام هي العليا ودارالكفر هي السفلى، فإن كان هذا الانقسام من صنيع الفقهاء فعلاً فهو أمر حتمي ليس بوسع فقيه الخروج عليه. على أن الأمر ليس من صنيع الفقهاء، فقد ورد مصطلح دارالحرب ومصطلح دارالإسلام في نصوص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) المروية بطرق الإمامية مرّات عديدة.
ففي وسائل الشيعة للحر العاملي تكرّر مصطلح دارالحرب في ست روايات، وتكرّر مصطلح دار الإسلام في أربع عشرة رواية. ومصطلح دار الحرب بالذات ورد في رواية معتبرة عن الإمام الصادق(عليه السلام) يروي فيها الإمام عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ألا أني بري‏ء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار الحرب»[89]. وفي رواية معتبرة أخرى عن الامام الكاظم(عليه السلام) في مسألة حول الجواري والغلمان أجاب فيها الامام بجواب تضمّن استخدام المصطلحين معاً[90]، كما أن الشيخ الزحيلي نفسه أورد نصّاً من رسالة لخالد بن الوليد يستخدم فيها مصطلحي دار الهجرة ودار الإسلام حيث كتب: أن فقراء أهل الذّمة «..إن خرجوا إلى‏ غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم»[91].
وهذا يعني أن الأرض مقسّمة إلى دارين دار للإسلام وأخرى لغيره. وان هذا الانقسام كان موجوداً على لسان الصحابة قبل ان يأني عصر الفقه الفقهاء.
ويرد على قول الشيخ الزحيلي «إن استنباط تقسيم الدنيا إلى دارين من الدعوة إلى الهجرة غير سليم، لأنّ ذلك قد نسخ بفتح مكة وقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا هجرة بعدالفتح» عدّة ردود، اهمها:
1. أن انقسام الأرض إلى دارين ليس مستفاداً من الهجرة وإنّما من حق الإسلام في السيادة على الأرض من ناحية مبدئية وامتناع الكفّار عن الإقرار بهذه السيادة من ناحية عملية.
2. إن الهجرة تشريع دائم ما دام الكفر باقياً، قال الشيخ صاحب الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً بيننابل ظاهر المسالك انحصار المخالف في بعض العامة... والنبوي: لا هجرة بعد الفتح مع عدم ثبوته من طرقنا معارض بالآخر: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» [92].
والشيخ الزحيلي نفسه لم يثبت على القول بانقطاع الهجرة حيث رأى بعد ذلك أنّها تشريع دائم لا مجال للخروج عن أحكامه[93].
إن الهجرة معلم ثابت من معالم عالمية النظرية السياسية في الإسلام، وهو يكشف عن مفهوم حيوي متحرّك عن الأرض والإنسان فما دامت الأرض لله، والإنسان خليفة الله، فمن الطبيعي أن يتحرّك الخليفة فيما استخلف فيه، وأن يكون له الحق في الحركة على كلّ نقطة من نقاط الأرض، فالأرض للمؤمن كالبحر للسمكة.
ولأهمية الهجرة في النظرية السياسية الإسلامية اتخذها المفكِّر الإسلامي أبو الأعلى المودودي أساساً ثانياً للمواطنة في الإسلام استناداً إلى قوله تعالى: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‏ء حتى يهاجروا»[94]، حيث استفاد من الآية أن أساس المواطنة الذي تترتّب عليه الحقوق هو الإيمان وسكنى دار الإسلام او الانتقال اليها بالهجرة[95]، وعلّق الباحث السيّد صدر الدين القندرچي على ذلك بأن الآية: «لم تتحدّث عن قانون عام لنستفيد منها شرطاً عامّاً ودائمياً في المواطنة، وإنّما تحدّثت الآية الكريمة عن قضية خاصّة أوجب الله تعالى فيها الهجرة على المؤمنين...إلّا أن القرآن الكريم هنا لم يسجِّل قانوناً مطرداً وإنّما قانوناً في حالة خاصّة...فلا أحد يستطيع أن يقول اليوم مثلاً: إن على كل المسلمين في العالم الهجرة إلى دار الإسلام واتخاذها وطناً لهم، ثم إن الآية دعت إلى قطع كل الروابط مع غير المهاجرين فهل يمكن القول اليوم بأن من لم يهاجر الى دارالإسلام تنقطع معه كل الروابط حتى الود والولاء»[96]. ويرى السيد القبانجي طاعة الإمام أساساً ثانياً للمواطنة، وأن المسلم الساكن داخل إقليم الدولة يلزم بطاعة الإمام، فإن أخلّ بذلك فقد صفة المواطنة. ويستشهد لذلك بقول الإمام علي (عليه السلام) للخوارج: «كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسكبوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب».
كما يرى أنّ المسلم خارج إقليم الدولة الإسلامية يصبح مواطناً إذا منحته الدولة صفة المواطنة. ويستشهد لذلك بقصّة أبي جندل الذي قدم المدينة بعد صلح الحديبية فردّه الرسول إلى مكّة التزاماً ببنود الصلح حيث قال له الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك مخرجاً وفرجاً، إنّا عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وإنّا لا نغدر بهم»[97].
ولكنّنا لا نجد لهذا التصوّر ما يؤيّده، فإنّ سيرة الامام علي(عليه السلام) مليئة بشواهد حفظ الحقوق للمسلمين المخالفين له، والنصّ المذكور هو أحد هذه الشواهد، فهو يؤكّد أن حقوق الخوارج تبقى محفوظة حتى مع مخالفتهم للإمام، وأن الإمام لا يقاتلهم بسبب مخالفتهم له، بل بسبب رفع راية الحرب ضد الدولة، فإذا رفعوها قاتلتهم.
وهذا لا يعني أن طاعة الإمام غير واجبة، بل يعني أن الدولة لا تعاقب على عدم طاعة الإمام، وإنّما تعاقب من يريد أن يقوّض أصل وجود الدولة أو يخلّ بأمنها، فعدم الطاعة وحده لا يخلّ بحقوق المواطنة حتى يتحوّل إلى تخريب أو محاولة لهدم الدولة. فالأولى تحوير التصوّر المذكور من اشتراط طاعة الإمام في المواطنة إلى اشتراط الاعتقاد بالدولة الإسلامية وعدم الإخلال بها.
كما أن الاستشهاد بقصّة أبي جندل على أن مسلمي ما وراء إقليم الدولة يحملون صفة المواطنة إذا منحتهم الدولة ذلك غير تام أيضاً؛ لأنّ هذه القصة تدلّ على أن الأصل في المسألة هو استحقاق أبي جندل للمواطنة، وأن صلح الحديبية أوجد حالة طارئة هي تجميد هذا الاستحقاق. وعلى أساس هذه القصّة يصبح من حق كلّ مسلم أن يحمل جنسية الدولة الإسلامية، وأن من واجب الدولة الإسلامية أن تمنح ذلك للمسلمين الساكنين خارج إقليمها ولا تُعذر إلّا في ظروف قاهرة طارئة، وحينئذٍ نتساءل: من أين استمد أبو جندل الحق في حمل جنسية الدولة النبوية بحيث لم يكن بوسع النبي ردّه إلّا برفق واعتذار بأمر قاهر؟
الحق أن سلوك أبي جندل واعتذار النبي عن طلبه بصلح الحديبية ينسجمان مع استدلال أبي الأعلى المودودي انسجاماً تامّاً. فأبو جندل كان مؤمناً وقد هاجر متصوّراً أنّه سيستحق ولاية النبي له انطلاقاً من الآية: «و الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‏ء حتى يهاجروا»، كما أن اعتذار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) له يستبطن الإقرار المبدئي أن له الحق في ذلك، سوى ان هذا الحق قد ارتفع لأجل ضرورة طارئة اكبر منه. ولعلّ الأصح تحوير عنوان الهجرة إلى عنوان أعمّ كعنوان الاعتقاد بدار الإسلام والتعهّد بصيانتها. فإن الهجرة بدأت كحكم تشريعي يراد به حماية الدعوة من تحديات الأعداء وحماية المسلم الملتزم من ضغوط المناوئين، وانتهت في صورة الموقف السياسي الذي يقاس به مستوى الولاء للدولة النبوية.
من هنا نجد الآيات القرآنية التي تناولت موضوع الهجرة على قسمين: قسم أشار إلى أصل الحكم ومبرراته كقوله تعالى: «إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها»[98]. وقوله تعالى: «يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون»[99] وقوله تعالى: «و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة»[100].
وقسم آخر ربط بين الهجرة والدولة كقوله تعالى: «و الذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شي‏ء حتى يهاجروا»[101]، «...فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله»[102]، والآية الاخيرة جعلت عدم الهجرة علامة من علامات المنافقين حيث صرّحت: «فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم... تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله.».
وهذا يعني أن الهجرة التي تناولتها هذه الآيات وان كانت في واقعها التاريخي حادثة واحدة إلّا أننا يمكننا تعليلها بسببين مختلفين هما:
1. عدم القدرة على إظهار شعائر الإسلام.
2. تعزيز دار الإسلام والاستجابة لنداء ولي الأمر فيها.
السبب الأوّل يوجب الهجرة إلى أي بلد تتوافر فيه الحرية للدين والدعوة. ولا يحدّدها بالهجرة إلى دار الإسلام، فقد لا تكون هناك دار للإسلام بعد، كما حدث في الهجرة إلى الحبشة. والسبب الثاني يحدّد الهجرة بكونها إلى دار الإسلام.
السبب الأوّل حكم ديني لا دخل لولي الأمر فيه، والسبب الثاني حكم ديني مرتبط بقرار من ولي الأمر فهو الذي يقرّر الهجرة ويحدّد كيفيتها وعلى المسلمين إطاعته.
في السبب الأوّل لا تترتّب إجراءات قانونية في حالة عدم الهجرة. بينما في السبب الثاني هناك إجراءات قانونية تترتّب على عدم الهجرة، لأنّه سيعني عدم الاعتقاد بدار الإسلام وعدم الاهتمام بصيانتها وحمايتها، والاجراء القانوني هو سقوط حق المسلم غير المهاجر في ان تتولاه الدولة الإسلامية كما قرأنا في الآيتين السابقتين وكما نلمس من الحديث النبوي الصحيح: «إني بري‏ء من كل مسلم نزل مع مشرك في دارالحرب». وقد ورد هذا الحديث بطرق اهل السنّة بنصّ آخر: «أنا بري‏ء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين...»[103].
ويظهر جلياً من إسناد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر إلى نفسه «إني بري‏ء. أنا بري‏ء» ولم يقل «الله بري‏ء، أو الإسلام بري‏ء» أن الهجرة إلى المدينة كانت إمّا للسببين معاً أو للسبب الثاني خاصّة، فإن إشارة النبي إلى نفسه في الحديث تعني أن الهجرة كانت بحكم من الكتاب وقرار ولائي من ولي الأمر. وصح الحديث المروي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا هجرة بعد الفتح» فيكون مؤيّداً لهذا التفصيل، لأنّه سيكون قراراً نبويّاً بإيقاف الهجرة إلى مكّة خاصّة، لأنّها أصبحت جزءاً من دارالإسلام. ومن الممكن لأي ولي شرعي آخر إصدار قرار بالهجرة من مدينة أخرى عندما تتوافر الأسباب الداعية إلى ذلك، وعلى هذه يكون للمواطنة في الإسلام أساسان:
1. الاعتقاد بالإسلام كدين وكمنهج في الحياة.
2. الإيمان بالكيان السياسي الإسلامي والتعهّد بحماية دارالإسلام وتوسيعها، وذلك استناداً إلى الآية ذاتها «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض...»، فالإيمان هو الأساس الأول فلا يدخل المشرك ولا الكتابي المعاند لدار الإسلام في جنسية هذه الدار. ولا مانع من دخول أهل الذمّة لأنّهم آمنوا بسيادة الإسلام عليهم وتعهّدوا بشرائط الذمّة. فالأساس إمّا الاعتقاد بالإسلام أو احترام سيادته، على أن لا تكون جنسية المسلم والذمّي واحدة، ولا بدّ من تفاوت بالدرجة لصالح المسلم، لأنّ الدار داره والدولة دولته وقد غذّاها بدمه وماله، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ويفهم من علو الإسلام نفي مساواة الآخرين معه. خلافاً لما قاله الاستاذ عبدالقادر عودة من أن جنسيتهما واحدة[104] ومن الطبيعي أن يخرج المرتد من الجنسية الإسلامية.
والأساس الثاني هو الإيمان بالكيان السياسي الإسلامي والتعهّد بحماية دار الإسلام وتوسيعها. ولا يمكننا أن نتّخذ عنوان الهجرة بصورة مستقلّة، لأنّ سببي الهجرة لا يوجدان في زمن ما أو مكان ما، ولأنّ الآية اشتملت على عناوين الجهاد والنصرة وإيواء المهاجرين. فإذا اعتمدنا عنوان الهجرة فلابد أن نعتمد هذه العناوين أيضاً. فلماذا اكتفى الاستاذ المودودي بالهجرة؟ ومن المعلوم ان الانصار لم يهاجروا فهل يجب ان لا نعدهم مواطنين؟
ومن هنا نجد أن العناوين المذكورة في الآية لا بدّ من أخذها بنحو العنوان المشير لاالعنوان المستقل. فالهجرة تشير إلى الاعتقاد بدار الإسلام ودولته، والجهاد يشير إلى التعهّد بتوسعة رقعة السيادة الإسلامية حتى تبلغ كل من يحيا على‏ وجه الأرض، وكذلك عناوين الايواء والنصرة.
وهذا ما ينسجم تماماً مع قصّة أبي جندل في صلح الحديبية. فإنّه كان مؤمناً متوفّراً على‏ الأساس الأول ثم هاجر متأخّراً استجابة لنداء دار الإسلام واعتقاداً بحقّانية هذه الدار، فامتلك الأساس الثاني فاستحق بذلك على‏ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امتلاك الجنسية الإسلامية، فأجابه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هذا الاستحقاق معترف به من قبل دار الإسلام ودولته لكنّه قدتجمّد بسبب ظروف قاهرة خارجة عن إرادته. ولو كانت هجرته قبل صلح الحديبية لما كان لولي الأمر عذر في ردّه.
فلكلّ مسلم معتقد بالإسلام وبداره ودولته ومستعدّ للجهاد من أجل توسيع سيادته الحق في اكتساب الجنسية الإسلامية. ولايخرج من هذالأصل إلّا الضرورات القاهرة التي يقدرها ولي الأمر، ويتساوي في هذا الأصل سكّان إقليم الدولة مع غيرهم من المسلمين. فإذا وجد الملاك المذكور في مسلم، استحق اكتساب الجنسية الإسلامية، وبفقده يفقد هذا الاستحقاق بلافرق بين مسلم ومسلم، لأن الأرض ليست لها صفة حقوقية قانونية في الإسلام. والآيديولوجية هي الأساس والمنبع الوحيد للحقوق والقوانين والواجبات.
الدولة الإسلامية واحدة ام متعددة؟
إن الدولة الإسلامية هي المظهر السياسي للتوحيد. أو هي التوحيد في الحقل السياسي. ومن الطبيعي أن تعكس خصائص التوحيد المعبَّر عنها في العقيدة بالأسماء الحسنى‏، بوصفها يدالله في‏ الأرض. والعالمية خصيصة من صميم التوحيد بحيث لاعالمية حقيقية حتى‏ تستند إلى‏ المطلق.
ولا نعني بالدولة العالمية تلك التي تستوعب الأرض بسلطانها. فالامبراطورية البريطانية كانت لها السيادة على‏ ثلثي الأرض لكنها لايمكن أن تكون عالمية لأنّها قائمة على‏ أساس سيادة الرجل الأبيض الإنجليزي على‏ من سواه. والدولة النبويّة لم‏تستوعب الجزيرة العربية لكنّها كانت دولة عالمية. فملاك العالمية هو المبادى‏ء والقيم الإنسانية النبيلة التي هي بطبيعتها قيم مطلقة لاتعترف بحدود الزمان والمكان. فالدولة التي تقوم بصدق على‏ المساواة والعدالة والحق دولة عالمية، لأن هذه القيم لا تفاوت بحسابها الأوطان والأقوام، والدولة التي تقوم على‏ تقديس قومية معيّنة أو أرض معيّنة لايمكنها أن تكون عالمية مهما اتسع سلطانها.
إن قيم المساواة والحق عالمية لأنّها من جنس الفضيلة النابعة من الروح والعقل حيث القمّة والشرف الإنساني. وقيم الأرض والقوم والعصبية قيم محلية لأنّها من جنس الرذيلة النابعة من الغرائز غير المهذّبة التي تشدّ الإنسان ببيئته المحدودة وتمنعه من التعالى‏ عليها. ولايمكن للدولة العالمية أن تتعدّد، وكيف يكون المظهر السياسي للتوحيد متعدداً؟ وهكذا يبدو تعدّد الدولة الإسلامية أمراً غريباً، لكننا نلاحظ عدداً من المفكِّرين والكتّاب الإسلاميين قد أيّدوا تعدّدها بشكل صريح أو ضمني.
فالعلامة الطباطبائي رآى: أن الباحث لايستطيع أن يبتّ في مثل هذه المسألة إذ ليس في الشريعة حكم ثابت لذلك، وإنّما تتبع مصلحة الوقت ونمط الحكومة الذي يتحدّد في ضوء ثلاثة عوامل هي الوحدة الإسلامية، والمصلحة الإسلامية والحدود التى تفصل المجتمع الإسلامي عن المجتمعات غير الإسلامية[105].
واعتقد الاستاذ عبد القادر عودة أن الإسلام لايتنافى مع نظام كنظام الجامعة العربية والمهم أن تتحقّق الأهداف الإسلامية وأن يكون المسلمون يداً واحدة على‏ غيرهم. ولايرى دليلاً على‏ ذلك أقوى‏ من: «أن النظريات الإسلامية وضعت في عهد العباسيين بعد أن انقسمت الدولة الإسلامية الأولى‏ إلى‏ ثلاث دول، دولة العباسيين في المشرق ودولة العلويين في المغرب ودولة الأمويين في الأندلس، وقد ظلّت هذه النظريات تطبّق بعد أن أصبح في كل قطر إسلامي دولة إسلامية»[106]. وفي تعليقه على‏ هذا الرأي اشترط المرحوم السيّد اسماعيل الصدر أن تكون هذه الدول خاضعة لحكم المعصوم. وهذا الشرط مرتفع في‏ظرف الغيبة فأيّد بذلك التعدّد[107].
وكتب إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ ): «إن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز وقد حصل الاجماع عليه، وأمّا إذا بعد المدى‏ وتخلّل بين الإمامين شسوع النوى‏ فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع»[108].
واستدلّ ظافر القاسمي لصحّة تعدّد الإمامة بما رواه الطبري حول التراضي بين الإمام علي(عليه السلام) ومعاوية على‏ أن تكون الكوفة للإمام والشام لمعاوية، فلو لم‏يكن هذا التدبير جائزاً لما قام به إمام كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) [109].
ورأى‏ الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن الاعتقاد بوحدة الامامة في عصر المعصوم لايقتضي الاعتقاد بها في عصر الغيبة، فلابد من ملاحظة الأساس الشرعي الذي تقوم عليه حكومة عصر الغيبة. وهنا لاحظ أن نظرية ولاية الفقيه لايمكن أن تكون أساساً لدولة عالمية تشمل الأقاليم الإسلامية. إذ إن عمدة أدلّة هذه النظرية مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق(عليه السلام) التي يقول فيها الإمام: «... ينظر ان الى‏ من كان منكم ممّن روى‏ حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً».
فالحاكم المجعول يكون - طبقاً لهذا النص - حكمه خاصاً بمن نظر ولايشمل غير الناظر. مع الإصرار من الشيخ شمس الدين على‏ تفسير النظر بالاختيار والانتخاب ثم يختار نظرية ولاية الأمّة على‏ نفسها، وهي‏ تعني أن ينتخب كلّ شعب مسلم حكومته في إطار وحدة الأمّة[110].
ومال العلاّمة فضل الله العمري إلى‏ تعدّد الدولة الإسلامية، وأن وحدتها حالة خاصّة بالدولة المعصومة، واستدل على‏ ذلك بمقبولة عمر بن حنظلة[111].
وأيّد الشيخ وهبة الزحيلي تعدّد الحكومات الإسلامية[112].
وإذا نظرنا إلى‏ رأي العلّامة الطباطبائي وجدنا أن العوامل الثلاثة التي تحدّد نمط الحكومة عنده وهي المصلحة الإسلامية والثغور الفاصلة بين المسلمين وغيرهم، والوحدة الإسلامية، لايمكن أن تؤدّي إلّا إلى‏ دولة واحدة. فأي مصلحة وأي وحدة تتحقّق مع تعدّد الإمامة؟ وأي ثغور تحمى حينئذ؟
صحيح إن حكماً تشريعياً ثابتاً بوحدة الإمامة في عصر الغيبة أمر غير موجود، ولكن هناك جملة مؤشرات عقائدية وتشريعية تؤدي إلى‏ هذا الاتجاه، وهي كافية للقول به.
ودليل الاستاذ عبد القادر عودة غريب جداً. فمتى‏ أصبحت سيرة الأمويين والعباسيين دليلاً يعتمد عليه في الاجتهاد والاستنباط؟ وإذا كانت نظريات الإمامة في المذاهب الأربعة قد وضعت في ضوء تجارب الحكمين الأموي والعبّاسي فإن هذا يكشف عن خلل عميق في هذه النظريات، والأولى‏ حينئذٍ طرحها واستنباط نظريات أصيلة في ضوء الكتاب والسنّة الصحيحة.
وفي تعليقة المرحوم السيّد إسماعيل الصدر تفريق بين عصر الحضور فلايجوز التعدّد في الإمامة وعصر الغيبة فيجوز. فإذا كان عصر حضور المعصوم لا يحتمل تعدد الإمامة فكيف يحتمل عصر الغيبة ذلك؟ ولو كان التعدّد في عصر الغيبة أمراً صحيحاً وممكناً ولاتلزم منه مفسدة فلماذا لم‏يكن جائزاً في عصر الحضور؟
ويرد على‏ رأي الجويني ما ورد على رأي الاستاذ عبدالقادر عودة، لأنّه من تلك النظريات التي صيغت في ضوء سيرة الحكم العباسي، على‏ أن جواز التعدّد عنده مقيّد ببعد المدى‏. وقد حلّت المواصلات الحديثة هذه المشكلة فيكون رأيه - وهو المشهور في المذاهب الأربعة - دليلاً على‏ عدم صحّة التعدّد في العصر الحاضر خلافاً لما قرّره الأستاذ عودة، كما أن بعد المدى‏ بين الاصقاع المتباعدة قد يبرّر تعذّر النصرة بينها وتبقى الوحدة في ما عدا ذلك لازمة، فإنّ تعذّر النصرة لايستلزم تعدّد الإمامة.
واستدلال ظافر القاسمي غريب أيضاً. فلو صحّت رواية الطبري وهي مرفوضة من قبل مؤرّخي الشيعة فإنّها لاتدلّ على‏ جواز تعدّد الامامة، لأن الصلح المدعى‏ على‏ أن تكون الشام لمعاوية والكوفة للإمام علي لايثبت مشروعية دولة معاوية. فالدولة الثانية ستكون أمراً واقعاً من الناحية التاريخية لكنّه غير مشروع، شأنه في ذلك شأن‏دار الكفر التي هي أمر واقع ومعترف به، لكن ذلك لايدلّ على‏ كونه مشروعاً. وهل يكون الكفر والبغي مشروعين من وجهة نظر الإسلام؟
وما يراه الشيخ شمس الدين من عدم استلزام وحدة الإمامة في عصر المعصوم لأن تكون كذلك إمامة موحّدة في عصر الغيبة فيه مجال للنظر؛ لأنّ حيثية الإمامة بما هي رئاسة في الدين والدنيا حيثية واحدة. والفرق بين عصر المعصوم وعصر الغيبة هو فرق في الدرجة وشدّة التركيز، فقيادة المعصوم أعلى‏ شأناً وأشدّ تركيزاً من قيادة غيره. وإذا كانتا مختلفتين في النوع لا الدرجة فإن تعدّد الإمامة إذا لم يكن جائزاً في القيادة الأعلى‏ نوعاً فكيف يصحّ في القيادة ذات النوع الأدنى‏؟
وما اعتقده من أن المدرك الفقهي لولاية الفقيه لايساعد على‏ ظهور دولة عالمية موحدة وأيّده في ذلك السيّد فضل الله العمري يمكننا التأمّل فيه من جهة التفسير الذي اختاره لكلمة «ينظران إلى‏ من كان منكم» حيث فسّر النظر بالاختيار والانتخاب وأن مفاده مفاد العلّة لقوله «... فإنّي جعلته حاكماً» وهو تفسير لا شاهد عليه. فإن النظر هنا ليس بمعنى‏ الانتخاب الاختيار وإنّما بمعنى‏ البحث عن الفقيه المعيّن حاكماً من قبل الإمام في مرحلة سابقة. فإن الإمام في هذا النص عيّن على‏ نحو القضية الحقيقية الفقيه الجامع للشرائط حاكماً على‏ الناس، أو قل إن التعيين جرى‏ على‏ النوع والخط. وعند تعدّد أفراد هذا النوع يمكن أن يكون للانتخاب دور في تشخيص الفرد المطلوب كولي فقيه. ولكن الانتخاب مفهوم عام لايختص بعملية إدلاء الأصوات في صناديق الاقتراع فإذا تطابقت آراء أكثرية الأمّة من بلدان شتى‏ على‏ فقيه معيّن بطريقة ما ولو عبر المسيرات الشعبية والتظاهرات والاحتفالات الجماهيرية، فإنّه يكون الفقيه المنتخب من قبل الأمّة. فحتى‏ لو فسّرنا النظر بالانتخاب فان بإمكان أهالي البلدان المتعدّدة أن يشاركوا بطريقة ما في عملية انتخاب ولي فقيه واحد لهم. ولو كانت حكومة الفقيه خاصة بمن نظر إليه وانتخبه بنحو يتيح شرعية حكومات فقهاء متعدّدين في آن واحد، فإن هذا المعنى‏ صالح للإنطباق والتحقّق في بلد واحد فتكون لكل مدينة من مدنه حكومة يرأسها فقيه معيّن. فإذا جاز لأهالي البلدان المتعدّدة ان ينظر كل منهم إلى‏ فقيه المحلي وينتخبوه دون أن يأخذوا بنظر الاعتبار وحدة البلد وكيانه السياسي. فحينئذ تكون ولاية الفقيه أساساً غير صالح لإقامة دولة واحدة حتى‏ في داخل بلد واحد. وتسليم الشيخ شمس‏الدين بصلاحية ولاية الفقيه لأن تكون أساساً لدولة واحدة تشمل بلدان متعدّدة. لأنّ تعدّد البلدان يقوم مقام تعدّد المدن داخل البلد الواحد. فإذا كان تعدّد المدن لايضرّ بإنشاء دولة واحدة فإن تعدّد البلدان لايضرّ كذلك بإنشاء دولة واحدة. والفرق بين البلد والمدينة فرق جغرافي وإداري نشأ حديثاً ولم يكن له وجود في العصور الإسلامية.
وبإمكاننا أيضاً الاستعانة بعنوان نيابة الفقيه عن الإمام لإثبات ذلك أيضاً، فكما أن دولة الامام عالمية واحدة لاتعدّد فيها فكذلك دولة الفقيه النائب عنه يجب أن تكون واحدة لا تعدّد فيها، وفرق العصمة بين الإمام والفقيه من شأنه أن يؤكّد ذلك فإذا لم‏يصحّ التعدّد في دولة المعصوم فكيف يصحّ في دولة الفقيه؟ وإذا وجب الاتحاد في الأولى‏ كان في الثانية أولى‏ وآكد. وهذا ما اختاره الشيخ حسين علي المنتظري مؤيّداً رأيه بما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وإن تعدّد الآلهة إذا كان يفسد الكون فإنّ تعدّد الولاة يفسد المجتمع. وإن تعدّد الإمامة في عصر الحضور إذا لم‏يكن صحيحاً فكيف يكون في عصر الغيبة جائزاً؟ ولايقبل بتعدد الامامة إلّا في صورة تعذّر الوحدة لأنّ إقامة دويلات إسلامية أفضل من إهمال أمر الأُئمّة رأساً[113].
و في تعليقه على‏ رأي العلّامة الطباطبائي المذكور آنفاً يؤيّد الشيخ محمد مهدي الآصفي القول بلزوم وحدة الدولة الإسلامية وعدم صحّة تعدّدها، ويعدّ ذلك من ثوابت النظام الإسلامي. وذلك في‏هامش كرّاس «نظرية السياسة والحكم في الإسلام».
إن الحياة الدولية المعاصرة تشهد لصحّة وإمكانية الدولة الواحدة وترفض تعدّدها، فلو اجتمع المسلمون في نطاق دولة واحدة فإن هذه الدولة ستكون من حيث السكّان مشابهة للصين ومن حيث المساحة مشابهة للاتحاد السوفياتي. ألا يحق للمسلمين الحلم بواقع دولي كهذا؟ ولماذا يعدّ هذا الحلم واقعياً للبوذيين وخيالياً للمسلمين؟
إن تعدد الإمامة يهدد وحدة الأمة ووحدة السيادة الإسلامية ووحدةدار الإسلام وتحوّلها إلى خيالات وأحلام. وقد أثبتت التجارب السياسية فشل صيغة الهيئات والتكتلات في تحقيق الوحدة. فما الذي حققته منظمة المؤتمر الإسلامي للمسلمين على‏ صعيد الوحدة الإسلامية؟
إن الإسلام دين يدعو إلى‏ رب واحد وله دولة واحدة تتطابق جغرافياً مع دار واحدة هي‏دار الإسلام وتساوي بشرياً أمة واحدة هي أمة الإسلام.
فريضة الجهاد والدعوة
الإسلام دين يتّسم بالحيوية ومصارعة الجمود وله مجتمع يتميّز بالنمو، ذلك ان المجتمع القائم على‏ محور عقائدي يكون مجتمعاًنامياً في الكم والكيف، بينما يتّسم المجتمع القائم على أساس خصائصه البيئية بالجمود الكمي، لأن الرابطة الوطنية والقومية غير قابلة للاتساع، قال تعالى‏:
«هو الذي أرسل رسوله بالهدى‏ ودين الحق ليظهره على‏ الدين كلّه وكفى‏ بالله شهيداً. محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على‏ الكفّار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فاستوى‏ على‏ سوقه يعجب الزراع ليغظ بهم الكفّار...» [114]. فالمجتمع الإسلامي «محمّد والذين معه» يتخذ من عبودية الله «ركّعاً سجّداً» أساساً للنمو النوعي والكمي «كزرع أخرج شطأه... فاستوى‏ على سوقه»، وهذه خصيصة نابعة من صميم المجتمع التوحيدي. ولذا لايحتاج المجتمع الإسلامي إلى‏ من يبرّر له اتساعه، بينما يحتاج المجتمع القومي إلى‏ ذلك، لأنّ القومية ليس من شأنها الاتساع، فمن أين جاء الانجليز بامبراطورية لاتغيب عنها الشمس وهم قومية صغيرة؟
إن الحقيقة عالمية بطبعها والتوحيد عالمي بجوهره، وما يكون عالمياً بطبعه وجوهره لايسأل عن مبرّرات انتشاره وتوسّعه، بينما تسأل القومية عن ذلك لأنّها محلية بطبعها وجوهرها فما يحصل لها من الانتشار والتوسّع لايكون إلّا على‏ أساس العدوان وعلى‏ حساب القوميات الأخرى‏.
ومن هنا نجد ان المحاولات الفكرية الرامية إلى‏ اثبات الطابع الدفاعي للجهاد والدعوة في الإسلام محاولات غريبة عن روح الإسلام وكنه التوحيد. وكأن الجهاد نوع من الاعتداء فيحتاج إلى‏ شى‏ء من التبرير. وكيف يكون المجاهدون معتدين وأنت تراهم «ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيما هم في وجوههم من أثر السجود»؟
وكيف يكونون معتدين وهم يريدون الدار الآخرة التي جعلها الله للذين «لايريدون علوّاً في الأرض ولافساداً»[115].
إن الاتساع القومي ينطوي بطبعه على‏ الاعتداء لأنّه لايقوم إلّا على‏ أساس فرض ثقافة وقيم شعب على‏ شعب آخر. بينما ينطوي الاتساع الإسلامي على‏ الرحمة لأنّه قائم على‏ أساس فرض سيادة التوحيد وقيمه على‏ الأرض. والتوحيد ثقافة سماوية لا علاقة لها بالأوطان والقوميات، فلايكون فرضها على‏ الأرض إلّا رحمة لأهلها، والمحاولات التي يبذلها البعض لإثبات دفاعية الجهاد لا تستند إلى‏ رؤية كافية.
ويعتقد الأستاذ سيّد قطب أن الذين يبررّون الجهاد بحماية الوطن يغضون من شأن المنهج ويعتبرونه أقل من الموطن، بينما لاتجد الأرض في‏الإسلام قيمة ذاتية وكل قيمة لها في‏التصوّر الإسلامي إنّما هي مستمدّة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها[116].
ويجيب الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر عن سؤال وجّه إليه حول الفرق بين الفتح الإسلامي والاستعمار بما ملخّصه: إن لكلّ حضارة قاعدة تستند إليها، وإنّ سعي الحضارات نحو التوسّع لابدّ أن يُقيّم في ضوء القاعدة الفكرية التي تستند إليها، فإن كانت تنسجم مع الاتساع فهو مشروع وإلّا فلا. والحضارة الإسلامية تقوم على‏ قاعدة التوحيد، وهي تستبطن في داخلها الحق في السيادة والانتشار والاتساع، وحينئذٍ لايحتاج الجهاد إلى‏ تبرير. بينما تقوم الحضارة الغربية على‏ تقديس الحرية وهذه القاعدة تشجب بطبعها كل صور الإكراه والفرض حتى‏ لو كان إكراهاً على‏ الحرية نفسها، وحينئذٍ لايحقّ للغربيين - طبقاً لحضارتهم - التدخّل في شؤون الشعوب الأخرى‏ حتى‏ لو كان هذا التدخّل معنوناً بالدفاع عن الحرية والديمقراطية، فكيف به إذا كان دفاعاً عن الديكتاتورية كما هو الغالب؟[117].
والحقيقة أن السعي نحو الاتساع ظاهرة قائمة في‏كل الحضارات، وهذا ما يدلّ على‏ أن العالمية نزوع عميق في الإنسان، لكن هذا النزوع إذا صادف عقيدة أخلاقية فسيكون لصالح الإنسانية، وإذا خلي الإنسان وأهواءه فيكون اعتداءً عليها.
ويحاول الشهيد مرتضى‏ المطهري طرح المسألة من زاوية حقوقية فيتساءل: هل التوحيد حق شخصي أم حق إنساني عام كالحق في الحرية والحماية؟ فإذا كان شخصياً فلايجوز التدخّل في الحقوق الشخصية للإنسان، وان كان حقّاً عامّاً يكون التدخّل واجباً من أجل حماية النوع؛ كالإجراءات الوقائية التي تفرضها الدولة ضد بعض الأمراض الجرثومية حيث تجد الدولة من حقّها إلزام الأفراد بالتطعيم ضد الوباء. وأخيراًيصل إلى‏ أن التوحيد من النوع الثاني[118]. ولكن النظر في الآيات القرآنية والنصوص الشريفة يساعد على‏ كون التوحيد حقّاً للّه تعالى‏. قال تعالى‏: «و ما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون»[119].
كما أن القول المشهور للإمام علي(عليه السلام): «إلهي ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في‏جنّتك ولا خوفاً من نارك وإنّما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» يدلّ على‏ أن العبودية هي إيفاء لحق الله على‏ الإنسان. ولكن حق الله ينسجم تماماً مع حق الإنسان، لأنّ الله أولى‏ بعبده وأعرف بمصلحته وأدرى بحاجاته وهو أرحم به من الإنسان بنفسه، وحينئذٍ تكون مشروعية الجهاد أشدّ وأقوى‏، لأنّ التوحيد سيكون حق الله بالذات وحق الإنسان بالعرض، ولو كان حقّاً إنسانياً محضاً لكان بإمكان الإنسانية أن تسقط هذا الحق فلايكون وجه للإلزام بالتوحيد أو العقوبة على‏ الشرك. ويعتقد الشهيد المطهري أن الحرية تعني إزالة ما يمنع عن فعالية قوّة تقدّمية وفكرة فعّالة لدى‏ الإنسان، وعبادة الأصنام ليست من هذا النوع لأنّها جمود في الفكر والعواطف، وبالتالي فإن محاربتها لاتعني محاربة لحرية الفكر وإنما إطلاق لحركة الفكر والعقل[120].
ويؤيّده العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله العمري بالقول: «إن الشرك لايعتبر بمثابة العقيدة التي يمكن أن يقام لها وزن في حساب الحرية لدى‏ الإسلام.... ومن هنا لابدّ من إخضاع أتباعه لسيطرة الدولة الإسلامية... كطريق عملي للسيطرة على‏ عنصر الفساد والإفساد في الأرض»[121].
ولكن هذا الجواب يتم في الشرك ولايتم في غيره من الجهات المقصودة بالجهاد. فالدهريون والملحدون الذين يفلسفون الحياة والمجتمع في ضوء المادة يجاهدهم الإسلام كما يجاهد المشركين، ويخاطبهم بحكم واحد وهو التخيير بين إعلان الشهادتين أو القتل، فهذا الجواب صحيح لكنّه فرعي خاص والجواب الأساسي العام هو ما تقدّم.
ومن نتائج البحث في الجهاد البحث في طبيعة العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب وهل الأصل فيها الحرب، والسلم استثناء أم بالعكس؟
فقد ذهب جمهور الفقهاء قديماً وحديثاً من السنّة والشيعة إلى‏ القول: بأن الأصل في العلاقة بين الدارين الحرب وأن السلم استثناء. وفي ضوء ما مرّ من البحث يتّضح لنا أن هذا الموقف أمر طبيعي وحتمي لم‏يكن بوسع فقيه الخروج عليه لأنّه متفرّع على‏ مقدّمة قرآنية أكيدة. فما دامت السيادة على‏ العالم حقاً طبيعياً للإسلام وحده من جهة، وما دام هناك أناس يرفضون الإقرار للإسلام بهذا الحق من جهة ثانية، فمن الطبيعي أن ينظر الإسلام لهؤلاء المعاندين على‏ أنّهم وجود سياسي غير شرعي، فيكون الأصل في العلاقة بين‏دار الإسلام ودار الكفر هو الحرب إلى‏ أن يستوعب الإسلام بسلطانه آخر شبر من الأرض وآخر فرد يعيش عليها. فهذا الموقف نتيجة حتمية للمقدّمة القرآنية الأكيدة المتمثّلة بحق الإسلام في السيادة على الأرض. وهناك نصوص عديدة في السنة الشريفة تعزّز هذا الموقف تناولها الفقهاء في أبحاث الجهاد من مؤلّفاتهم.
ولكن الفترة الأخيرة شهدت ظهور محاولة من فقيه سنّي وأخرى من فقيه إمامي لإثبات أن الأصل في العلاقة بين الدارين هو السلم وأن الحرب استثناء جرياً على ما سار عليه القانون الدولي ‏الوضعي. المحاولة الأولى للشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» والمحاولة الثانية للعلّامة السيّد محمّد حسين فضل الله العمري في كتابه «الإسلام ومنطق القوّة». المحاولة الأولى تبدأ من القول: بأنّ الجهاد نوع ممّا يسمّى الآن بمقتضيات الدفاع الوقائي، وأنّه بكلمة موجزة وسيلة «في يد ولي الأمر لحماية نشر الدعوة أو للدفاع عن المسلمين». وأن الفتح أجيز بشرط أن تكون الدولة المفتوحة قد اعتدت على الإسلام أو ثبت لدى المسلمين أنّها تأخذ الأهبة للاعتداء، فليست المسألة حقاً طبيعياً في الاتساع والسيادة يمارسه الإسلام كلّمالمس ظرفاً مؤاتياً، وإنّما مسألة دفاع وقائي. ثم يصل إلى القول: بأنّ تقسيم الدارين مبني على أساس الواقع لا الشرع ومن صنيع الفقهاء في القرن الثاني وأنه كان بسبب قيام حالة الحرب فعلاً، ولا ضرورة في‏أن يتواصل إلى الأبد بل ينتهي بانتهاء الأسباب التي دعت إليه. وهكذا يقرّر في النهاية. أن عبارات الفقهاء في أن الأصل هي الحرب ليست حجّة على أحد إذ لا دليل عليها من قرآن أو سنّة وإنّما هي حكم زماني.
وأن الشافعي اعتبر الأرض داراً واحدة وأن التقسيم الثنائي أمر طارئ.
ويستفيد الدكتور الزحيلي من هذا الاعتبار أن الأصل هو السلم. ويؤكّد قائلاً: إن آيات القرآن قاطعة الدلالة على أن الأصل هو السلم حتى يكون اعتداء[122]. وأكّد السيّد محمد حسين فضل الله العمري في محاولة أن «كل ما هناك ان الجهاد مشروع في نطاق شروطه الشرعية ولذا فإننا لانستطيع اعتباره أصلاً يحتاج تركه إلى الرخصة». وبعد أن يطرح عدداً من الآيات القرآنية حول القتال ويناقش دلالاتها يبدي «التحفظات حول الفكرة التي يدعو إليها جمهور فقهاء المسلمين من اعتبار الحرب أصلاً في الشريعة الإسلامية حيث يحتاج السلم إلى مبرّر، فربّما كانت الفكرة الأكثر قرباً للإسلام هي اعتبار السلم أصلاً لتكون الحرب قضية طارئة تخضع لمبرراتها، ولهذا ترجع إليه كلّما زالت المبررات. أو ربّما كانت قضية السلم والحرب خاضعة لمصلحة الإسلام والمسلمين فليس أحدهما أصلاً ليكون الآخر أمراً طارئاً».
ويبدو منه أخيراً الميل إلى عدم إعطاء الأصالة لأي من الحالتين «فقد تتطلّب المصلحة العليا أن يكون الأسلوب السلمي سبيل العقيدة إلى الدخول في حياة الناس، وقد يكون العنف هو الأسلوب الأمثل في ذلك كلّه. فللقائمين على التخطيط لحركة العقيدة أن يأخذوا بهذا أو بذاك من دون خوف أو حرج»[123].
ونلاحظ على محاولة الدكتور الزحيلي أن حروب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم‏تكن كلّها دفاعية وإن كان الطابع الدفاعي هو الغالب فيها. ولو كان الدفاع هو الأساس في الجهاد لقُدّر الجهاد بقدر ردّ الاعتداء المعبّر عنه بالتأديب ولكان الزائد عنه غير مشروع. فلماذا يصرّ الجهاد على المضي إلى الإمام حتى تحقيق الفتح؟
صحيح أن ملك الفرس استهزأ بكتاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)و رسوله إليه وبعث إلى الجزيرة من يأتي إليه بالنبي مخفوراً ولكن هذا لايبرّر فتح بلاد فارس لو كان الجهاد دفاعياً فقط. وهذا السلوك من ملك الفرس أمر متوقّع من أمثاله. فلو لم‏يكن الفتح هدفاً للجهاد منذ البدء وكان دفاعياً محضاً لما كان لفتح بلاد فارس ما يبرّره. ولو كان الدفاع هو الأساس لوجدناه واضحاً في لسان قادة الفتح الثلاثة الذين سألهم رستم قبل المعركة عن السبب الذي جاء بهم إلى هنا فأجابوه بجواب غريب عن الدفاع تماماً حيث قالوا: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده... ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسل رسوله بدينه إلى‏ خلقه فمن قبله منّا قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر».
وهو جواب يتطابق تماماً مع قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لاإله‏ إلاّ الله فمن قالها: فقد عصم مني نفسه وماله...»[124] وكأنّهم فهموا هذا الحديث وجاءوا انطلاقاً منه. وهو خير ما يوضّح أن الجهاد ليس دفاعياً بل هدفه فرض السيادة الإسلامية في الأرض.
وقد رأينا في بحث دار الإسلام ودار الكفر أن تقسيم الأرض إلى دارين ليس من صنيع الفقهاء وأن نصوص الأئمّة(عليهم السلام) اشتملت على هذا التقسيم، وأن نصّاً نبويّاً صحيحاً ورد بطرق الإمامية وهو مشتمل على مصطلح دار الحرب. وإن كان من صنيع الفقهاء فعلاً فإنّه صنيع حتمي يفرضه حق الإسلام في السيادة من جهة وامتناع المعاندين عن الإقرار بهذا الحق من جهة أخرى. وهذا واقع دائم ثابت ما دام هناك مسلم وكافر على وجه الأرض. ولا معنى لقول الشيخ الزحيلي بأن هذا الواقع ينتهي بانتهاء أسبابه، إلّا أن يذعن المسلم للكفر بشرعية وجوده عل وجه الأرض. وهذا ما لايمكن أن يقوله مسلم. فالمسلم بإمكانه الإذعان للأمر الواقع لكنّه ليس مأذوناً بالاعتراف للكافر بالشرعية لوجوده السياسي. والفرق جلي بين الإذعان للواقع والاعتراف بشرعيته. ومن الغريب أن يستعين الشيخ الزحيلي لإثبات رأيه بما رآه الشافعي من أن الأرض دار واحدة وأن التقسيم الثنائي أمر طارئ. وقد مرّ بنا هذا المعنى فيما سبق من البحث؛ ذلك أن الأرض في الأصل دار واحدة للإسلام ولا انقسام في دار الإسلام. وأن انقسام الأرض إلى دارين حالة طارئة - بالقياس إلى هذا الأصل - ناشئة من عناد الكفّار في الإقرار بالسيادة الإسلامية. وهذا المعنى لا غبار عليه ولايدلّ على مراد الشيخ الزحيلي. وكيف يقصد الشافعي من كلامه هذا أن الأصل هو السلم وهو يرى أن قتال المشركين يستمر حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية كما نقله الشيخ الزحيلي نفسه؟
كما أن الآيات التي ادّعى دلالتها القاطعة على رأيه منصرفة عن هذه الجهة.
وخلاصة الموقف من المحاولتين معاً أن الآيات والنصوص الدالّة على حق الإسلام في بسط سيادته على الأرض تؤدي بنا إلى القول بانقسام الأرض إلى دارين، وان العلاقة بين الدارين تدور بين أصل واستثناء. الأصل هو الحرب والاستثناء هو الهدنة، ولايمكن أن تقوم علاقة ودية سلمية طبيعية بينهما. وهذا لايعني أن تكون دولة الإسلام دموية على طول الخط وأنّها لاتختم حرباً حتى تعلن أخرى. فمن الممكن أن تلجأ إلى الهدنة والمعاهدات في علاقاتها مع الدول الأخرى كلّما وجدت ذلك ضرورياً لها ولحركة الإسلام في العالم، وهذا شيى‏ء غير جعل السلم أصلاً في العلاقات، فإن الهدنة تسمح لدار بالشعور بحقّها المستمر في الاتساع عندما تحين الفرصة المؤاتية وبعدم مشروعية دار الكفر، وبضرورة إخضاعها للسيادة الإسلامية يوماً ما، بينما يُسحق هذا الشعور عندما يكون الأصل في العلاقة بين الدارين هو السلم.
وعلى أساس الجهاد ينقسم المجتمع البشري إلى ثلاثة أقسام:
1. إنسانية ملتزمة بالتوحيد التزاماً تامّاً وهؤلاء هم المسلمون الذين يستحقون السيادة على الأرض. فالحقوق السياسية خاصّة بهم.
2. إنسانية شبه ملتزمة. وهؤلاء هم أهل الكتاب الذين تفرض عليهم الجزية ويمنحون حقوقاً إنسانية فقط ويكونون خاضعين للسيادة الإسلامية.
3. إنسانية غير ملتزمة وهؤلاء هم المشركون والملحدون الذين يفرض عليهم الإقرار بالشهادتين، فإن تلفّضوا بهما أصبحوا من رعايا دار الإسلام وإلّا استحقوا القتل.
ومن المفيد أن نختم هذه الدراسة بما كتبه الإمام الشهيد الصدر عن الاستحقاق السياسي الإسلامي للأرض كل الأرض، فقد كتب يقول:
«ان استحقاق الدولة الإسلامية للأرض نوعان؛ النوع الأوّل الاستحقاق السياسي وهو ما تستحق الدولة الإسلامية من الأرض باعتبارها الإدارة السياسية العليا للإسلام، أي باعتبارها المسؤولة عن الكيان والموظّفة الشرعية عن تطبيقه ونشره وحمايته. ودائرة هذا الاستحقاق ليست محدودة بحدود؛ لأنّ الكيان السياسي للدولة الإسلامية قائم على مبدأ فكري عام لا تختلف بحسابه الأراضي والبلاد، ولذلك كان الإسلام المتمثّل في الدولة الإسلامية صاحب الحق الشرعي في الأرض كلّها «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» فيحق للدولة الإسلامية إخضاع جميع أراضي العالم لها سياسياً، غير أن طريقة استعمال هذا الحق وشكل تنفيذه يختلف باختلاف طبيعة الأشخاص المستوطنين من حيث كونهم مسلمين أو ذميين أو كفّاراً غير ذميين إلخ... وتشرح ذلك الأحكام الشرعية المتعلّقة بسياسة الدولة الخارجية»[125].
________________________
[1] نهج البلاغة / قصارالحكم 442.
[2] سورة الحجرات / 13.
[3] غررالحكم / ص 152.
[4] نهج البلاغه / قصارالحكم 161.
[5] نهج البلاغه / بداية الخطبة 33.
[6] سورة البقره / 30.
[7] المدرسة القرآنية / ص 130-131.
[8] سورة البقرة: 31-33.
[9] سورة الحجرات: 13.
[10] سورة القصص: 5.
[11] سورة الدخان: 30 - 32.
[12] سورة آل عمران: 55.
[13] سورة الأعراف: 137.
[14] سورة الأعراف: 128 - 129.
[15] سورة الأعراف: 74.
[16] سورة فاطر: 39.
[17] سورة الأعراف: 100.
[18] سورة الأعراف: 128.
[19] سورة الأنبياء: 105.
[20] سورة التوبة: 33.
[21] سورة الفتح: 28.
[22] سورة البقرة: 143.
[23] سورة الحج: 78.
[24] سورة النور: 55.
[25] سورة يونس: 14.
[26]سورة الأحزاب: 27.
[27] سورة آل عمران: 139.
[28] سورة التوبة: 40.
[29] سورة الصف: 9.
[30] سورة الأنفال: 39.
[31] سورة المنافقون: 8.
[32] سورة الحج: 78.
[33] وسائل الشيعة ج‏26/ص 14.
[34] لسان العرب، ج‏1، ص‏213.
[35] الأمة الإنسانية/ص‏29 - 30.
[36] انظر المصد السابق ص‏36 - 45 حول النظريات الألمانية والفرنسية والإيطالية والبلقانية والأميركية حول الأمّة، إضافة إلى النظرية الماركسية.
[37] سورة الأنعام: 102.
[38] سورة يوسف: 40.
[39] سورة البينة :5.
[40] سورة التوبة: 23 - 24.
[41] سورة التوبة: 16.
[42] سورة الممتحنة: 1 - 4.
[43] سورة المجادلة: 22.
[44] سورة البقرة: 221.
[45] سورة العنكبوت: 8.
[46] سورة لقمان: 15.
[47] سورة النور: 3.
[48] سورة النساء: 1.
[49] سورة محمّد: 22.
[50] سورة الزخرف: 22.
[51] سورة الأنعام: 38.
[52] سورة الأعراف: 38.
[53] سورة آل عمران: 110.
[54] سورة هود: 118.
[55] سورة النحل: 120.
[56] تفسير الميزان/ ج‏14 / ص‏322.
[57] سورة يونس: 19.
[58] نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/ ص‏536 - 537.
[59] ما يقال عن الإسلام، ص‏147 - 148، نقلاً عن كتاب «الإسلام و الجماعة المتّحدة» تأليف مونتجمري وات.
[60] سورة المائدة: 64.
[61] سورة طه: 57.
[62] سورة الشعراء: 35.
[63] سورة طه: 63.
[64] سورة إبراهيم: 13.
[65] سورة الأنعام: 73.
[66] سورة المائدة: 17.
[67] سورة الأنبياء: 44.
[68] سورة الحج: 5.
[69] سورة القصص: 81.
[70] سورة ابراهيم: 48.
[71] سورة البقرة: 60.
[72] سورة الشورى: 27.
[73] سورة المائدة: 33.
[74] سورة النساء: 97.
[75] سورة العنكبوت: 56.
[76] سورة النساء: 100.
[77] سورة الأحزاب: 27.
[78] سورة الأعراف: 128.
[79] سورة الأنبياء: 105.
[80] سورة إبراهيم: 13 - 14.
[81] سورة البقرة: 30.
[82] سورة الأعراف: 175 - 176.
[83] سورة التوبة:38.
[84] التشريع الجنائي في الإسلام/ ص‏440.
[85] جواهر الكلام / ج‏21 ص 21 ص‏46 - 49. انظر كذلك: كتاب الجهاد من موسوعة الينابيع الفقهية، جمع و إعداد علي أصغر مرواريد.
[86] آثار الحرب في الفقه الإسلامي / ص‏195.
[87] المصدر نفسه / 171.
[88] المصدر نفسه / 132.
[89] وسائل الشيعة / ج‏15 / باب 36 / ص‏101.
[90] المصدر نفسه / ج‏15 / ص‏131.
[91] آثار الحرب في الفقه الاسلامي / ص‏170.
[92] جواهر الكلام/ ج‏21/ ص 36.
[93] آثار الحرب في الفقه الاسلامي / ص‏746.
[94] سورة الأنفال: 72.
[95] نظرية الاسلام و هديه/ ص‏301.
[96] المذهب السياسي في الاسلام/ ص‏130.
[97] سيرة المصطفى/ص‏539.
[98] النساء: 97.
[99] العنكبوت: 56.
[100] النساء: 100.
[101] الأنفال: 72.
[102] النساء: 89.
[103] ورد النص الأوّل في وسائل الشيعة، ج‏15، ص‏101، طبعة مؤسسة آل البيت. وورد النص الثاني في سنن الترمذي/ كتاب السير/ ح 1530 / بترقيم العالمية، وفي سنن أبي داود/ كتاب الجهاد/ ح 2274 بترقيم العالمية.
[104] التشريع الجنائي في الإسلام/ ص‏484.
[105] نظرية السياسة والحكم في الإسلام / ص‏36.
[106] التشريع الجنائي في الاسلام / ص‏464.
[107] المصدر السابق / ص‏463.
[108] الارشاد / ص‏358.
[109] نظام الحكم في الشريعة و التاريخ الإسلامي / ج‏1 / ص‏320.
[110] نظام الحكم والادارة في الاسلام / ص‏135 / ص‏418 - 419.
[111] الحركة الإسلامية هموم و قضايا / ص‏301 - 303.
[112] آثار الحرب في‏الفقه الاسلامي / ص‏195.
[113] دراسات في ولاية الفقيه / ج‏1 / ص 410 - 420.
[114] الفتح 28-29.
[115] القصص: 83.
[116] معالم في الطريق / ص‏104.
[117] المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد محمّد باقر الصدر / ج‏13 / ص‏99.
[118] الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن / ص‏31، 32.
[119] سورة الذاريات / 56.
[120] الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن / ص‏44.
[121] الإسلام ومنطق القوّة / ص‏217.
[122] وردت هذه الآراء والأفكار مبثوثة ضمن أبحاث الكتاب، انظر الصفحات التالية 55، 63، 74، 125، 132، 133، 135، 172، 194، 739.
[123] الإسلام ومنطق القوّة / 221-224.
[124] صحيح البخارى / كتاب الزكاة / ح 1312 بترقيم العالمية، وورد ايضاً في صحيح مسلم / كتاب الايمان / ح‏29 بترقيم العالمية.
[125] الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر / ص.


مصادر الكتاب

- القرآن الكريم‏
- آثار الحرب في الفقه الإسلامي / وهبة الزحيلي / القاهرة المكتبة الحديثة.
- الآفات الاجتماعية وعلاجها / تولستوي / القاهرة ترجمة محمد رضا.
- الأمة الانسانية / احمد حسين / ط القاهرة.
- الأمة والعوامل المكونة لها / محمّد المبارك / دمشق دار الفكر.
- الامام الشهيد محمد باقر صدر / محمد الحسيني.
- الإسلام يقود الحياة / السيد محمد باقر الصدر / ط وزارة الارشاد في الجمهورية الإسلامية.
- الإسلام ومنطق القوة / السيد محمد حسين فضل الله العمري / الدار الإسلامية بيروت.
- الإسلام والقومية / د. علي محمد النقوي / ط منظمة الإسلام الإسلامي - ايران.
- الإسلام والعقل / محمد جواد مغنية.
- الانسان العقائدي / حمدي الحنبلي.
- الاصوليات المعاصرة / روجية غارودي.
- اعمدة النكبة / د. صلاح الدين المنجد / دار الكتاب الجديد بيروت.
- الإسلام والدعوات الهدامة / انور الجندي.
- الارشاد الى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد / امام الحرمين الجويني / تحقيق اسعد تميم / مؤسسة الكتب الثقافية.
- جواهر الكلام / الشيخ محمد حسن النجفي / ط مؤسسة التاريخ الإسلامي.
- الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن / الشهيد مرتضى المطهري / منظمة الاعلام الإسلامي.
- دراسات في ولاية الفقيه / الشيخ حسين علي منتظري / قم جامعة المدرسين.
- وسائل الشيعة / محمد بن الحسن الحر العاملي / ط مؤسسة آل البيت.
- حقيقة القومية العربية / محمد الغزالي/ مكتبة دار العروبة.
- الحركة الإسلامية قضايا واهداف / د. كليم صديقى / لندن المعهد الإسلامي.
- الكافي / محمد بن يعقوب الكليني / ط آخوندي.
- لسان العرب / ابن منظور.
- ما يقال عن الإسلام / عباس محمود العقاد / بيروت دار الكتاب العربي.
- موسوعة الينابيع الفقهية / جمع علي اصغر مرواريد / مؤسسة فقه الشيعة.
- المذهب السياسي في الاسلام / صدرالدين القندرچي / ط بيروت.
- معالم في الطريق / سيد قطب / مكتبة وهبة.
- المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد الشهيد الصدر.
- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين / أبو الحسن الندوي.
- المذاهب الكبرى في التاريخ / البان ويد جيري / ترجمة ذوقان قرقوط / بيروت دارالقلم.
- المجتمع الإسلامي المعاصر / محمد المبارك/ القاهرة دار الفكر.
- المفردات / الراغب الاصفهاني.
- المنهاج الثقافي المركزي لحزب البعث في العراق.
- المدرسة القرانية / السيد الشهيد الصدر/ دار التعاريف - بيروت.
- نظام الحكم والادارة في الإسلام / محمد مهدي شمس الدين / ط 3.
- نهج البلاغة / تنظيم صبحي الصالح.
- نظرية السياسة والحكم في الإسلام / السيد محمد حسين الطباطبائي / تعليق الشيخ محمد مهدى الاصفي.
- نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي / ظافر القاسمي / دار النفائس.
- نظام الحكم في الإسلام / د. محمد عبدالله العربي / دارالفكر.
- نظام الإسلام / تقى الدين النبهاني / القدس.
- نظرية الإسلام وهدية في القانون والسياسة / ابو الاعلى المودودي / مؤسسة الرسالة.
- سيرة المصطفى / هاشم معروف الحسني / ط قم.
- سنن الترمذي / محمد بن عيسى‏ سورة / بترقيم العالمية.
- سنن أبي داود / سليمان بن الاشعث / بترقيم العالمية.
- ساعات بين الكتب / عباس محمود العقاد / بيروت دارالكتاب العربي.
- علم السياسة / د. ابراهيم درويش / ط القاهرة.
- العالم في القرن العشرين / لويس. ل. شنايدر/ ترجمة سعيد عبود السامرائي / بيروت دار مكتبة الحياة.
- الفكر القومي / نجاح عطا الطائي / منظمة الاعلام الإسلامي.
- فلسفة الحضارة / البرت شفيتسر/ ترجمة عبدالرحمن البدوي / بيروت دار الاندلس.
- فلسفة اقبال / محمد حسن الاعظمى/ دمشق دار الفكر.
- صحيح البخاري / محمّد بن اسماعيل البخاري / بترقيم العالمية.
- صحيح مسلم / مسلم بن الحجاج القشيري / بترقيم العالمية.
- ردود وحدود / عباس محمد العقاد / دار حراء 1969.
- تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي / مؤسسة الاعلمي بيروت.
- التشريع الجنائي في الإسلام / عبدالقادر عودة / ط مؤسسة البعثة.
- تكوين العقل الحديث / جون هرمان راندال / ترجمة بورج طعمة / بيروت دار الثقافة.
- التربية والنظام الاجتماعي / براتراندرسل / بيروت مكتبة الحياة.
- تكوين الدولة / روبرت م. ماكيفر/ ترجمة حسن صعب / ط دار العلم للملايين.
- الثورة الاجتماعية في الإسلام / عبدالحافظ عبد ربه/ بيروت دار الكتاب اللبناني.
- غرر الحكم ودررالكلم / عبدالواحد الامدي التميمي / منشورات الاعلمي.
 

السابق

مركز الصدرين للدراسات السياسية