الفصل الثالث
الدولة العالمية عطاء لا اعباء
اتضح من خلال الفصل الاول ان الدولة العالمية تتكون من بداية توحيدية اخلاقية
ونهاية جغرافية، واتضح ايضاً ان النهاية الجغرافية المتمثلة بسلطان سياسي يشمل
المجتمعات البشرية الاخرى لاتعبر عن عنصر اصيل في هذه الدولة، وانما هي بمثابة
النتيجة التى تسير الدولة العالمية باتجاه تحقيقها على نحو الافراز الطبيعي
المقصود، فهي افراز طبيعي للتفاعلات الايجابية الناتجة عن البداية الاخلاقية
التوحيدية التي تعمل كنواة في الدولة العالمية، وهي في الوقت نفسه افراز مقصود
باعتبار ان الدولة العالمية تسعى لتوسيع سلطانها السياسي، وهي مكلفة بذلك، وليس
بوسعها ان تنتظر حصوله من تلقاء نفسه ومن دون مبادرة واستهداف مبرمج ومدروس، غاية
الامر انه افراز مقصود بوسائل سياسية وثقافية غير عدوانية، تنسجم مع النواة
الاخلاقية التوحيدية للدولة العالمية، وليس هو مطلوباً على كل حال، فبإمكان الدولة
العالمية ان توجد وتحيا بلا اتساع، ولكن ليس بإمكانها ان توجد وتحيا بلانواة
توحيدية اخلاقية.
جدلية العقيدة والمنفعة
وفكرة الدولة العالمية هذه قد تثير في الاذهان استفهاماً كبيراً يتصل بجدواها
واهميتها في حياة الانسان، وطبيعة العطاء المتوخى منها، والثمار المرتجاة من
اقامتها، وقد يتطور هذا الاستفهام ويصل حد الاعتقاد بأن الدولة العالمية تؤدي الى
تحميل الاقليم الذي تقيم فيه تكاليف باهضة لصالح الأقاليم الاخرى، سياسياً
واقتصادياً وعسكرياً، وقد يرقى درجة اكبر فيصل حد الاعتقاد بأن الدولة العالمية
فكرة خيالية لاتقبل التجسيد، وهذا ما يستدعي عقد بحث خاص لمعالجة هذا الجانب بنحو
مفصل، والحقيقة ان الافكار والمبادىء والنظريات تقاس بثلاثة مقاييس:
1. مقياس الحقانية
2. مقياس الجداوئية والنفعية
3. مقياس الامكان العملي
ففي المرحلة الاولى يتم اثبات صحة النظرية بالمقياس العقلي والفلسفي التجريدي وبغض
النظر عن الناحية الانسانية، وفي المرحلة الثانية تقاس النظرية بالمقياس الانساني
على اساس ما تقدمه من العطاء لحياة الانسان، وما تقدمه من حلول لمشاكله، وفي
المرحلة الثالثة تقاس بالمقياس العملي على اساس ما تحضى به من صفة واقعية وامكان
عملي.
ولدى التأمل الدقيق يتضح لنا ان الناحية العقلية تقتضي التلازم بين هذه المراحل
والمقاييس، فإن الفكرة إذا ثبتت حقانيتها على الصعيد النظري ثبوتاً تامّاً وأكيداً
لزم من ذلك كونها فكرة ذات قيمة انسانية، وذات عطاء وجدوى في حياة الانسان، سوى
اننا نجهل حقيقة هذه القيمة فنحتاج الى بيانات تفصيلية مباشرة، اما الناحية العملية
فأمرها ثانوي يعود الى الواقع القائم وليس الى اصل النظرية، فالدعوة الى الفضيلة
والعفّة في مجتمع غارق في الفحشاء والمنكر قد تعتبر دعوة غير عملية وغير مثمرة،
ولكن ذلك لايقلل من حسن الدعوة ولا من قبح الواقع، كما لايعني رفع يد المسؤولية
تجاهه، بل اننا نعيد النظر في مفهوم ما هو عملي وما هو غير عملي، فالذي اعتبر هذه
الدعوة غير عملية انما نظر الى المسألة من زاوية عمره المحدود، وامكاناته المحدودة،
وهذه نظرة غير واقعية انتجت حكماً غير واقعي، والنظرة الواقعية تقتضي النظر الى قبح
الواقع وحسن النظرية وقدرتها على معالجته فقط، فاذا تم التاكد من ذلك انتقلنا الى
برمجة العملية التغيرية دون لحاظ العامل الزمني وعمر الافراد المغيّرين، وما إذا
كانت الثمرة ستظهر في جيلهم أم في الجيل الثاني أم الثالث؟ فالحق يجب ان يُعمل به
وان مضت على ذلك اجيال واجيال حتى ينصاع الواقع لارادة الحق.
وهكذا فالمقاييس الثلاثة ترجع الى مقياس واحد هو الحق، فإن الحق بحد ذاته يمتلك
قيمة ذاتية متأصلة فيه، وبالتالي فالثمرة الانسانية منحصرة فيه دون غيره، فلا حق
بلا ثمرة ولاثمرة بلا حق، ولذا فالفلسفة البرجماتية التي تقيس الافكار بالمنافع
صحيحة لو كانت تحسن تقدير المنافع، والله سبحانه وتعالى ما بعث الانبياء، وما انزل
الشرائع الا لأجل ايصال الانسان الى المنافع الحقيقية التامّة واعانته على الوصول
إليها بعزم قوي وإيمان راسخ ولو كان الانسان بمفرده قادراً على تشخيص المنافع
الحقيقية وتمييزها عن المنافع الكاذبة، والتمتع بعزمٍ كاف على جلب المنافع الحقيقة
وعدم الخضوع لاغراءات المنافع الكاذبة، لما سرق السارق وزنى الزاني واعتدى المعتدي،
فانما يسرق السارق لأجل مصلحة تصور حصولها بعمله هذا، ويستسلم الطالب لاغراءات
الراحة والنوم ويرجحها اثناء فترة التحصيل العلمي على الدراسة بسبب ضعف عزيمته على
المنافع البعيدة وانحصار همته بالمنافع القريبة الصغيرة، ولو كانت الفلسفة
البرجماتية في نفسها صحيحة لكان عمل السارق المتمكن من استغفال القانون والنجاح
بخطئه عملاً حسناً، وحينما تدعو الدولة القائمة على مثل هذه الفلسفة مواطنيها الى
التقييد بالقانون فانما تقع في تناقض فاضح، فإن القانون يحمي المصالح النوعية التي
قد تكون متعارضة مع مصالح بعض الافراد، واذا كانت المنفعة هي الاساس الوحيد المشروع
لتحرك الانسان، فإن تطبيق القانون على الافراد المتضررين به سوف يكون بلا اساس
مقبول، بل سيكون خرج هؤلاء على القانون مستنداً الى اساس فلسفي صحيح، وهذا يعني ان
القانون قد الزم نفسه بسقوط نفسه.
قد يقال في جواب هذا الاشكال: ان سقوط القانون سوف يكون اشد ضرراً على هؤلاء من
تقيدهم به، وحينئذ سيكون خروجهم عليه منافٍ لمصلحتهم، غير ان هذا جواب صوري لا
حقيقي، فإن المنفعة إذا كانت هي الاساس فإن هؤلاء سيقومون بأجراء موازنة بين الضرر
المترتب على تقيدهم بالقانون والضرر المترتب على خروجهم عليه، وسيأخذون حينئذ
بالخيار الاقل ضرراً بالنسبة لهم، وكلما كان هربهم من القانون اكثر نفعاً واقل
ضرراً من تقيدهم به سوف يكون ذلك السلوك مستنداً الى اساس فلسفي صحيح، وسيعني ذلك
ان القانون قد الزم نفسه بسقوط نفسه في مثل هذه الحالة.
وهذا يعني بوضوح ان النظام الاجتماعي لايمكن ان يقام على اساس نفعي مادي، ولابد من
اقامته على اساس قيمي، وذلك هو الذي نعبر عنه بالحق، وهو الذي نتخذه مقياساً للحكم
بالصحة او عدم الصحة على النظريات والمذاهب الاجتماعية المختلفة.
إن المقياس للشيء لابد وان يكون اسمى منه، كما هي الاستعانة بالمسطرة في رسم
الخطوط، وقد رأينا ان المنفعة تضيق بمصالح بعض الافراد وهذا ما يجعلها فاقدة للصفة
القياسية بالنسبة الى النظام الاجتماعي، وكما ان الظرف لابد وان يكون اوسع من
المظروف كذلك المقياس للشيء لابد وان يكون اوسع واسمى منه. ان المنفعة مقياس مادي،
ولو كانت الحياة الاجتماعية مادية فقط لما صلحت المنفعة في ان تكون مقياساً لها،
لأنها سوف لاتكون اسمى منها، فكيف تكون مقياساً لها وهي مركبة من نواحٍ مادية
ومعنوية معاً؟، ان الحقيقة المادية والمعنوية المركبة للحياة الاجتماعية تستلزم
مقياساً اسمى منها، وهو المقياس المعنوي المشتق من قيم مطلقة لاتشوبها ناحية مادية،
وهو المعبر عنه بالحقانية، فأيهما اقرب للواقع وانسب لشأن الانسان ان يقاس بمقياس
اوطأ منه، او يقاس بما هو اعلى منه؟ ان يقاس بمقياس اضيق منهام بمقياس اوسع منه؟
و ذلك هو مقياس الحقانية الذي يعني ان هناك حقيقة كونية اجتماعية لابد من اكتشافها
وبناء الحياة عليها، وما يعبر عنه بالعقيدة انما هو اعتقاد بهذه الحقيقة، وما يتفرع
عليها من رؤية كونية وفلسفة اجتماعية، وهذا امر مركوز في اعماق كل انسان، وحتى
المنكر له ليس بوسعه التجرد عنه، وانما ينكره في لسانه ويجري عليه في سلوكه، فأولئك
الذين ينظرون الى الانسان من زاوية اللذة والمنفعة ويعتبرونه مخلوقاً يبحث عن
لذائذه ومنافعه قبل ان يبحث عن افكاره وعقائده، انما يعبّرون بنحو من الانحاء عن
وجهة نظر يعتبرونها هي الحقيقة الكونية والاجتماعية الصحيحة، وان النظام الاجتماعي
الصحيح هو النظام الذي يقوم على اساس منها، ففكرتهم هذه لاتشكل نقضاً على دور
العقيدة الحقّة في الحياة، وانما تشكل تكريساً له وتأكيداً عليه، سوى ان هؤلاء
يمثلون وجهة نظر سطحية عن المنفعة والعقيدة واللذّة، بينما يمثل انصار العقيدة وجهة
نظر عميقة عن هذه المعاني الثلاثة، فإن الباحث عن العقيدة انما هو باحث عن الحقيقة
التي تمثل سرّ الوجود والحياة والتي يتمكن من خلالها من ادراك اكمل واتم لمنافعه
ومصالحه، فما لميكتشف ذلك السر كيف يتاح للانسان استيفاء منافعه ومصالحه ولذائذه
الحقيقية؟ فالمنفعة لاتنفك عن العقيدة، والعقيدة لاتنفك عن المنفعة، وكلاهما
لاينفكان عن الحقيقة، وهذا التلازم بين المعاني الثلاثة ليس بوسع انصار اللذة
والمنفعة التنكر له، واتجاههم هذا يؤكد ذلك بنحو مركوز ومستبطن.
واذا القينا نظرة فاحصة على العقيدة الإسلامية وجدناها مزيجاً من هذه المعاني
الثلاثة، فالحقيقة الكبرى هي الله سبحانه وتعالى، والعقيدة قد بنيت عليها في اصولها
الخمسة، وهي الطريق الوحيد امام الانسان لبلوغ منافعه ومصالحه ولذائذه وسعادته
بالمعنى الحقيقي التام لها، ولذا نجد القرآن الكريم تارة يحث الانسان على البحث عن
الحقيقة الكبرى للوجود مخاطباً بذلك عقله وادراكه، وتارة اخرى يخاطبه حسيّاً
ونفعياً ومصلحياً مبيناً له ان مصلحته ومنفعته الحقيقية منحصرة بالدين واتباع
الإسلام، مثال الاول قوله تعالى «افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون
بها»[1] ومثال الثاني «ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً»[2] وقوله تعالى «و ما
أرسلناك الا رحمة للعالمين»[3]، وهذا يعكس التلازم بين الحقيقة والعقيدة والمنفعة.
ومن الطبيعي ان تُعطى الاولوية لعنصريّ الحقيقة والعقيدة، ويعتبر عنصر المنفعة
متأخر رتبة عنهما، وان كانت العناصر الثلاثة متلازمة وموجودة معاً في آن واحد،
فالعقيدة التي كشفت عن الحقيقة هي الاساس في الوصول الى المنفعة، ولولاها لاندفع
الانسان وراء كل منفعة ظاهرية قريبة واهمل السعي وراء المنافع الحقيقية، كما يندفع
الطالب في اثناء فترة التحصيل وراء الراحة ويسترخي امام لذة النوم ويهمل منفعته
الحقيقة المصيرية المتمثلة باحراز الرتبة العلمية المنشودة.
وهذه الاولوية موجودة في الإسلام وفي كل نظرة كونية اجتماعية اخرى، سوى أنهافي
الإسلام تعتبر حالة ملحوظة، وفي النظرة النفعية البرجماتية غيرملحوظة لعدم وجود
فاصلة بين هذه النظرة وبين المنافع التي تنشدها، بينما توجد بين النظرة الإسلامية
وبين المنافع التي تنشدها فاصلة ملحوظة، كالمنافع الاخروية والمعنوية والمستقبلية،
والمنافع المرتبطة بالنظام الاجتماعي العام، والفرق بينهما يوضحه مثال الشاب الذي
تبيح له النظرة النفعية ارتكاب الرذيلة وتصورها نفعاً له، وبين النظرة الإسلامية
التي تحبّذ له العفّة والانتظار لحين التمكّن من الزواج، فكلتا النظرتين تؤمنان
بأولوية الفكرة على المنفعة المنشودة بها، سوى ان هذه الاولوية ملحوظة في النظرة
الإسلامية أكثر، لأنها تنشد منفعة اجتماعية اخلاقية تدرك بالعقل اكثر مما تدرك
بالحس، بينما هي غيرملحوظة في النظرة النفعية لعدم وجود فاصلة بينها وبين المنفعة
التي تنشدها، وهي اللذة نفسها بالنسبة الى هذا الشاب، وكلما كانت الفاصلة اكبر كان
التأكيد على عنصر العقيدة اكبر، فالشعب المستعمَر يحتاج الى تاكيد اكبر على فكرة
الاستقلال والتحرر كلما كانت مُنيته بعيدة التحقق اكثر، والانسان الخائف من مصيره
الاخروي يحتاج الى التاكيد على الايمان بالمعاد بنحو اقوى واكبر من تأكيده على امر
قريب، وبنحو عام يحتاج الانسان الى تاكيد اكبر على الفكرة والعقيدة كلما مدّ يده
الى منفعة ابعد.
وهذا هو الفرق بين القومية والعالمية، انه الفرق بين امر حسّي قريب وامر عقلي يبدو
بعيد المنفعة والصلة، والانسان يميل بطبعه الى اقامة الامر الحسّي القريب دونما
حاجة الى عناية وتكلّف وحث وتوجيه، انما هو بحاجة الى من يقيمه على الامر العقلي
ويحثّه نحوه ويركزّه في شخصيته.
وبأمكاننا ان ننظر الى جدلية العقيدة والمنفعة من زاوية علم الاخلاق، فمن المقرر في
هذا العلم ان للفضيلة رتبتان، رتبة مكارم الاخلاق ورتبة محاسن الاخلاق، الاولى هي
رتبة من يؤمن بالفضيلة ويطبقها لما للفضيلة من قيمة ذاتية لاتنفك عنها فهو يؤمن
بالصدق ويعمل به لأجل ما ينطوي عليه من قيمة ذاتية، والثانية رتبة من يؤمن بالفضيلة
ويطبقها لما لها من مردود ايجابي عليه، فهو صادق لأن الصدق يوجد له سمعة حسنة بين
الناس ويكسبه ثقتهم، فكلما احتاج الى هذه السمعة سلك سبيل الصدق، وكلما استغنى عنها
فقد الصدق عنده قيمته ومعناه، ولانحتاج الى مزيد من الروّية كي نقرّر بأن ماهية
الاخلاق وحقيقتها تنسجم مع الرتبة الاولى، بل تنحصر فيها، لأن الرتبة الثانية
تتقوّم بجوهر مادي نفعي لاينسجم مع حقيقة الاخلاق وجوهرها، وعندما يُدعى الى حاكمية
الاخلاق في الحياة فالمقصود بها رتبة مكارم الاخلاق.
وليس هناك من يستطيع ان يدّعي بأن الاخلاق مغايرة لمصالح الانسان ومنافعه، بل هي
الاطار السليم لتحقق هذه المصالح والمنافع، وهذا هو ذات المعنى الذي عبّرنا عنه
بأولوية العقيدة على المنفعة، وكلا التعبيرين يفيدان ان مقياس المنفعة لابد وان
يكون اسمى منها، ولئن كانت المنفعة امراً مادياً فلابد وان يكون مقياسها امراً
معنوياً هو الحقانية بالنظرة العقائدية، او مكارم الاخلاق بالنظرة الاخلاقية، او
المثل العليا بالنظرة الفلسفية.
الدولة العالمية في مقياس المثل العلي
وفي ضوء هذه النتيجة نلاحظ ان اطروحة الدولة العالمية لاتقاس بمقياس نفعي مادي،
شأنها في ذلك شأن كل اطروحة قيمية، وكما لايصح لنا ان ننظر إلى الصوم - مثلاً - من
زاوية منافعه الصحية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، بل يجب علينا ان ننظر اليه من
زاوية التعبّد والمعنى السماوي له، كذلك لايصح لنا ان ننظر الى الدولة العالمية من
زاوية ما تقدمه من عطاء، لأن هذه النظرة تؤدي الى اسقاط المعنى القيمي لهذه
الاطروحة كما تؤدي الى اسقاط المعنى المساوي التعبدي للصوم، واذا سقط المعنى القيمي
وتركز المعنى النفعي كان ذلك بمثابة البداية للتحول نحو القومية القائمة على اساس
واسع من الانانية، انما تقاس الدولة العالمية بمقدار ما تتمتع به من الحقانية
والاساس العقائدي التجريدي المتين، فاذا ثبت لها ذلك الاساس وجب السعي لأقامتها على
من ادرك فوائدها ومن لميدرك فوائدها، وعليهما معاً تكييف الواقع في ضوء مقولات هذه
الدولة مهما كانت الفاصلة كبيرة بين هذا الواقع وهذه الدولة.
وهذه من الناحية الايدولوجية العقائدية لاتعني مصادرة حق الانسان في تفهّم حياته
ومنافعه ومصالحه، فبأمكان الانسان ان يبحث عن المعنى النفعي الدنيوي للصوم - مثلاً
- ولكن على اساس ان يتخذ هذا المعنى قنطرة للتحول الى المعنى السماوي الاساسي لهذه
الفريضة، بحيث يؤدي الصوم على اساس المعنى السماوي التعبدي لاالمعنى النفعي الارضي.
وهذا المثال جارٍ بعينه في مسألة الدولة العالمية، فأن حقانية هذه الاطروحة وما
تتمتع به من اساس اخلاقي وعقائدي متين ينعكس بنحو حتمي على الساحة الاجتماعية بصورة
عطاء وافر للإنسان والحياة، وليس هناك من يريد مصادرة حق الانسان في انيدرك الوجه
الانساني لهذه الاطروحة، وانما الامر الاكيد هو ان لايتجمد الانسان عند الوجه
الانساني النفعي لها، وانما يتخذه قنطرة للإيمان بها بما تمثله من قيم مطلقة ومثل
عليا كانت الاساس في ظهور الوجه الانساني النفعي بحيث لو لميكن هذا الاساس ما كان
للدولة العالمية عطاء على الساحة الانسانية. بل ما كانت هناك دولة عالمية.
ومن هذا المنطلق نحاول في هذا البحث استكشاف الوجه الانساني للدولة العالمية وطبيعة
العطاء الذي تقدمه لحياة الانسان. ولابد لنا في هذا المجال من انندرس المسألة على
مستويين:
1. المستوى الانساني العام
2. المستوى الخاص بالعالم الإسلامي وفيما يلي بيان لجوانب من عطاءات الدولة
العالمية على كلا المستويين.
- اولاً. العطاء الانساني العام للدولة العالمية مسألة المثل العليا للانسان
الدولة بمعنى من المعاني هي المؤسسة التي تتصدى لتنظيم علاقة المحكوم بالحاكم،
وعلاقة المواطن بأخيه المواطن الآخر، وعلاقة الجميع بالبلد الذي يعيشون فيه.
والمفهوم الحديث للدولة يركز على العلاقة الثالثة كأساس واطار للعلاقتين السابقتين.
فالبلد المكوّن من وطن وأمة يُعد في هذا المفهوم اساس العلاقة بين المواطن والمواطن
الاخر من جهة، وبين المواطنين والحكّام من جهة اخرى، بما يعني ان المفهوم الحديث
للدولة مفهوم قومي يرتكز على اساس معروف هو الولاء للوطن والامة، وهنا تأتي الدولة
العالمية لتناقش في مضمون ومصداقية هذا الولاء. وتطرح ولاءاً آخر يتناسب وشأن
الانسان.
فإن الحياة المدنية - التي ليس بوسع الانسان الفرار منها - تفرض عليه ابراز ولاءه
لمحور معين لا يعدو ان يكون واحداً من ثلاثة، فاما ان يعبر عن ولاءه لنفسه
وللمجموعة البشرية التي يعيش ضمنها المعبر عنها بالأمة، واما ان يعبر عن ولاءه لما
هو ادنى من رتبته في سلم الوجود كالارض المعبر عنها بالوطن، واما ان يعبر عن ولاءه
لما هو اعلى منه شأناً وهو اللّه سبحانه وتعالى، الولاء الاول ينتج دولة قومية،
والثاني ينتج دولة وطنية، والثالث ينتج دولة عالمية، ورغم التمايز النظري بين
الولائين الأول والثاني الا انهما من ناحية عملية أُعتبرا ولاءاً واحداًمندمجامع
بعضه، فإن ولاء الانسان لجماعته القومية وان كان من الناحية النوعية ارقى من ولاءه
لوطنه، الا ان الوجه المادي المشترك بينهما اسقط هذا الفارق النوعي بينهما، فالوطني
يمنح ولاءه للوطن بما هي حضن مشترك للجماعة التي ينتمي اليها، والقومي يمنح ولاءه
للقومية بما هي مجموعة بشرية يشترك معها في الدم واللغة والارض، وكلاهما ينظران
للإنسان من ناحيته المادية، فالقومي لا يمنح ولاءه للإنسان وانما يمنح ولاءه
الحقيقي للعناصر التي تمثل منشا القومية، وهي عناصر مادية بحكم المناخ المادي الذي
ترعرعت فيه الفكرة القومية، وبالتالي فالمثل القومي الاعلى كالمثل الوطني، كلاهما
من رتبة ادنى من الرتبة الانسانية، فالمثل الاعلى اما ان يكون اعلى من الانسان واما
ان يكون ادنى، ومن الخداع الحديث عن مثل انساني، لأن مقهورية الانسان امام الكون
تجعله متأرجحاً بين الولاء للأرض أو للسماء.
والحديث عن القيمة الموضوعية للدولة العالمية هو في الحقيقة حديث عن القيمة
الموضوعية لاتخاذ التوحيد مثلاً اعلى في الحياة بدلاً عن الارض. وقد أفاض القرآن
الكريم في هذا الجانب. فتحدث عن نوعين من المثل العليا في حياة الانسان. مثل عليا
مشتقة من التوحيد، فهي مثل عليا حقيقية، ومثل عليا ارضية فهي مثل زائفة مصطنعة تلعب
دور المثل العليا بسبب انحراف الانسان عن المثل الحقيقية، وقد تلألأت يراعة المفكر
الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر في تناولها لهذا الجانب في محاضراته
القرآنية، ومن المناسب ان نقتطف شيئاً من حديقة افكاره فيه، فهو يقول:
«بقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات
صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدوداً او منخفضاً تكون الغايات
المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً»[4] «و كل جماعة اختارت مثلها الاعلى فقد اختارت
في الحقيقة سبيلها وطريقها...» [5] «حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى: ارأيت من اتخذ
الهه هواه، عبّر حتى عن الهوى بأنه اله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً
فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك... وهذه المثل العليا
التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة اقسام: القسم الاول: المثل الاعلى الذي
يستمد تصوره في الواقع نفسه...و حينما يكون المثل الاعلى منتزعاً من واقع الجماعة
بحدودها وقيودها وشؤونها يصبح حالة تكرارية يصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا
الواقع وحمله الى المستقبل...و لهذا سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي»[6]
وحيث ان «المثل الاعلى دائماً يحتل مركز الاله بحسب التعبير القرآني»[7] فظهرت بسبب
ذلك «الاديان التي يفرزها الانسان من خلال صنع هذه المثل ومن خلال عملقة هذه المثل
وتطويرها من تصورات الى مطلقات...هذه الاديان هي اديان التجزئة في مقابل دين
التوحيد سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الاعلى القادر على استيعاب البشرية...»
[8].
«النوع الثاني: يعبر عن كل مثل اعلى للأمة يكون مشتقاً من طموح الامة من تطلعها الى
المستقبل...ليس هذا المثل تعبيراً تكرارياً عن الواقع بل هو تطلع الى المستقبل»[9]
ومشكلة هذا النوع «حينما يصنع مثله الأعلى وينتزع هذا المثل الأعلى من تصور ذهني
محدود للمستقبل. لكي يحول هذا التصور الذهني المحدود الى مطلق»[10] «و حينئذ سوف
يتحول هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة، الى عائق عن التطور، الى مجمد لحركة الانسان
لأنه اصبح مثلاً، اصبح الهاً، اصبح ديناً اصبح واقعاً قائماً، وحينئذ سوف يكون
بنفسه عقبة امام استمرار زحف الانسان نحو كماله الحقيقي»[11] «و تتجلى هذه المشكلة
في نزوع هذا المثل المستقبلي المحدود نحو التعميم الخاطيء، افقياً تارة وزميناً
أخرى، مثال التعميم الإنسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى
لأنه رأى إن الإنسان الغربي كان محطماً ومقيداً... وهذا شيء صحيح إلّا أن الشيء
الخاطى في ذلك التعميم الافقي، فإن هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذه الانسان هذا
قيمة من القيم، هذا اطار للقيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الانسان، ليس هذا هو المثل
الاعلى» «و اذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل والدمار الى الويل
الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم...»، ومثال التعميم الزمني «حينما اجتمع في
التاريخ مجموعة من الاسر فشكلوا القبيلة، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكلت
عشيرة، حينما اجتمت مجموعة من العشائر فشكلت امة، هذه الخطوات صحيحة في تقدم
البشرية وتوحيد البشرية، ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول الى مثل اعلى. لا
يجوز ان تتحول الى مطلق، لا يجوزان تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من اجله
الحقيقي، يبقى هو الله سبحانه وتعالى...» [12].
«النوع الثالث من المثل العليا هو المثل الاعلى الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، في
هذا المثل، التناقض الذي واجهناه سوف يحل بأروع صورة، كنا نجد تناقضاً وحاصل هذا
التناقض هو ان الوجود الذهني للإنسان محدود، والمثل يجب ان يكون غير محدود...هذا
المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان، ليس افرازاً ذهنياً للانسان، بل هو مثل اعلى
عيني له واقع عيني»[13] «و هذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة
الانسانية...سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة... اما التغيير الكمي على
هذه الحركة فهو بإعتبار ما أشرنا اليه من ان الطريق حينما يكون طريقاً الى المثل
الاعلى الحق يكون طريقاً غير متناهٍ، اي ان مجال التطور والابداع والنمو قائم ابداً
ودائماً...» [14] «و اما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة
فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني، للتناقض
الانساني، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الانسان»[15] «المثل الاعلى يوحد
الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا ا لمثل الاعلى،
باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ويهضم كل الاختلافات...لا يوجد
ما يميّز بعضها عن بعض لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية او
طبقية، المثل الاعلى بشموليته يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزيء
البشرية، وتشتت البشرية انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول: «ان هذه امتكم امة واحدة
وانا ربكم فاعبدون.»... استمعوا الى المثل المنخفض. الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع
الظلم كيف يقولون، او كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم: «ان فرعون علا في الارض وجعل
اهلها شيعاً»[16].
اذن فالفرق بين الدولة العالمية والدولة القومية هو ذاته الفرق بين مثل اعلى حقيقي
يمنح المسيرة البشرية معنى تكاملها ورقيها، وبين مثل زائف يصطنعه الانسان لنفسه
وينسجه في ضوء ملابسات الواقع الذي يحياه بما فيه من ضعف وقوّة، والذي عبر الانسان
القديم عنه تعبيراً ساذجاً من خلال اصطناع الاصنام وعبادتها وعبر الإنسان الحديث
عنه من خلال اصطناع القومية والوطنية كمثل اعلى في الحياة المدنية، وقد تنبه
الفيلسوف الانجليزي المعروف براتراند راسل الى هذه النتيجة فكتب يقول: ان«الولاء
للوطن غير كافٍ وحده ان يكون مثلاً اعلى لانه باعتباره مثلاً اعلى ينطوي على انعدام
قوة الابداع»[17].
ان القومية والوطنية حقائق طبيعية تعبر عن انتماء الانسان وتبين موضع قدميه على
الارض، ولا تعبّر عن قيمة هدفية تكاملية بالنسبة للإنسان الذي عليه ان يميز بين
محور الولاء ومحور الانتماء، فهو ينتمي لأسرة وعشيرة ومحلة ومدينة وبلد وقومية،
وهذه الانتماءات لا تستحق ان تكون مُثلاً عليا ولم تخلق كمحاور للولاء. الّا عند من
لا يميّز بين الموضع الداني لقدميه والموضع الرفيع لرأسه، فيتجاهل رفعة رأسه ويمنح
ولاءه للتربة التي تقف عليها قدماه.
الدولة العالمية تحول ولاء الانسان من اسفل الى اعلى، من المحدود الى المطلق، من
الداني الى الرفيع، بينما تقوم الدولة القومية بعكس ذلك حينما تحوّل ولاء الانسان
من اعلى الى اسفل حيث الدم والتراب وسائر القيم المادية المنخفضة التي خلقت لتكون
بخدمة الانسان، لا ان يكون الانسان تابعاً لها وعبداً ذليلاً امامها.
هذا هو العطاء الاساسي الذي تقدمه الدولة العالمية للإنسان، ومنه تتشعب سائر
العطاءات.
ثورة الافق
ان الارتباط بالمطلق اللامتناهي يفتح امام الانسان نافذة يطلّ من خلالها العالم
المادي المحدود على عالم المطلق اللامتناهي، فترتبط الساقية الصغيرة بالمحيط
الكبير، ولولا هذا الارتباط لطغت هذه الساقية وتصورت نفسها هي المحيط الكبير غروراً
وانتفاخاً، ولتضررت كثيراً من التقوقع في هذه المحدودية التي هي فيها، لكنها
بالارتباط بالمحيط الكبير سوف تعرف حجمها وتتوسع افاقها وتسعى نحو الكمال الذي تجده
في المحيط الكبير.
والدولة العالمية تؤمّن هذه الرابطة للإنسان لتنقذه من القمقم المحلّي الذي يفرض
عليه الولاء لدائرة صغيرة محدودة، وتعوّضه عن ذلك بولاء لا يعرف الحدود، بوصف ان
الارض وطن مشترك لجميع أفراد البشرية، فالانتماء لهذا الوطن المشترك، والولاء
والتبعية للخالق العظيم، وليس لتراب يوطأ بالأقدام، والفرق بين الانتمائين
والولائين ينعكس على البناء الذهني والروحي والثقافي للإنسان، فالولاء للقيم
الأرضية المادية بكل ما تمثله من انحدار وهبوط، لا يختلف من ناحية جوهرية عن الولاء
الجاهلي للأصنام، بينما الولاء للّه سبحانه يعني الولاء للقيم المطلقة السامية
والكمال المطلق، كما أن تحديد الانتماء ببقعة محدودة يحولها إلى قيد ذهني واخلاقي
يحول دون انطلاق الذهن في الآفاق الواسعة، ودون انطلاق القيم الإنسانية المطلقة في
شخصية الإنسان، والتاريخ زاخر بالادعاءات المتكررة الصادرة من جماعات قبلية أو
قوميةترى نفسها فوق سائر الناس، أو استثناءاً خاصاً من الخليقة، كالرومان والفرس
وعرب الجاهلية واليهود ومجموعات اُخرى في سائر بقاع الأرض، وليست النازية إلّا طبعة
حديثة منها، والحقيقة أن هذه الادعاءات التي يجمع الناس على استنكارها تشكل الضمير
الداخلي لكل حركة قومية، والفرق بين النازية وسائر الحركات القومية أن النازية كانت
صريحة صادقة كشفت عن أفكارها ومبادئها بوضوح بينما عمدت سائر الحركات القومية إلى
التخفيف من لهجتها والتلفع بعباءات انسانية شفافة، بسبب إن النازية حينما هزمت في
الحرب العالمية الثانية أصبحت مثالاً بشعاً يثير التقزز والقشعريرة، ولو قدر لها أن
تنتصر لكانت الامثولة الرسمية لكل القوميات في العالم. ولو اننا رصدنا سيرة وسلوك
القوميات الغالبة القوية في تعاملها مع القوميات الضعيفة الصغيرة لوجدناه سلوكاً لا
يختلف عن النازية إلّا في الإسم، فالنازية هي الحقيقة المتحركة في باطن كل حركة
قومية، سوى أن هذه الحقيقة تظهر بوضوح في واقع القومية الغالبة القوية وتبقى دفينة
الباطن في القوميات الضعيفة غير القادرة على الاعتداء، والتيترى أن التلفع بشعار
الإنسانية هو السلوك المناسب لحالها ومصلحتها.
بل أن سقوط النازية كان درساً بليغاً فهمته القوميات الكبيرة التي ظهرت على مسرح
التاريخ بعد القومية الالمانية. حيث ادركت هذه القوميات أن القومية الاعتدائية
السافرة مصيرها إلى السقوط، وأن العمل على مسرح الحياة الدولية يقتضي اخفاء اللهجة
القومية وراء شعار عاطفي خادع كشعار الإنسانية وحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات في
العالم.
وهكذا فالإنسانية شعار مشترك ترفعه القومية الضعيفة لأنها عاجزة عن الإعتداء،
وترفعه القومية القوية لكي تمرّر من خلاله اعتداءاتها على الآخرين.
الخيار الاخلاقي
ان الدولة العالمية المنبعثة عن مثل اعلى حقيقي هي الخيار الاخلاقي الذي ينقذ
الانسان من مساوىء الدولة القومية.
ذلك ان الشعور القومي - وكذا الوطني - شعور انفعالي منشؤه العاطفة غير الموجهة، لذا
يظهر بشدة في الازمات والحروب القومية والوطنية ويضعف في اوقات السلم. والتركيز على
هذا الجانب في الانسان يقود الى تغليب العاطفة على العقل. يقول تقي الدين النبهاني:
«ينشأ بين الناس كلما انحط الفكر رابطة الوطن، وذلك بحكم عيشهم في ارض واحدة
والتصاقهم بها فتأخذهم غريزة البقاء بالدفاع عن النفس... وهي اقل الروابط قوة
واكثرها انخفاضاً وهي موجودة في الحيوان والطير كماهي موجودة في الإنسان، وتأخذ
دائما المظهر العاطفي، وهي تلزم حالة اعتداء اجنبي على الوطن بمهاجمته او الاستيلاء
عليه. ولا شأن لها في حالة سلامة الوطن من الاعتداء، واذا رد الاجنبي عن الوطن او
اخرج منه انتهى عملها ولذلك كانت رابطة منخفظة. وحين يكون الفكر ضيقاً تنشأ بين
الناس رابطة قومية وهي الرابطة العائلية ولكن بشكل اوسع، وذلك ان الانسان تتأصل فيه
غريزة البقاء فيوجد عنده حب السيادة وهي في الانسان المنخفض فكرياً...» [18] ويعتبر
الرابطة الوطنية فاسدة لثلاثة اسباب هي «اولاً لأنها رابطة منخفضة لا تنفع لأن تربط
الانسان بالانسان حين يسير في طريق النهوض وثانياً لأنها رابطة عاطفية تنشأ عن
غريزة البقاء بالدفاع عن النفس والرابطة العاطفية عرضة للتغيير والتبديل فلا تصلح
للربط»[19]، ويقول هربرت لوثي «1744 - 1804» «القومية مذهب يعتمد على حفنة من
الجزميات التي تفتقد المسوّغ العلمي والعقلي ولا يعتقد بأصالته سوى اتباعه»[20].
ويقول لويس .ل. شنايدر: «و في خلال القرن القرن التاسع عشر بدأ الشك في العقل يساور
النفوس بصورة تدريجية، فظهرت الرومانتيكية اولاً ضد الاتجاه العقلي في التفكير فاند
مجت مع القومية وبدلاً من الالتجاء الى العقل والفكر اتجه الرومانتيكيون القوميون
الى القلب والروح والدم ينشرون منها الوحي والالهام...و قد اعتقدوا ان العقل كان
ضعيفاً امام هذه القوى البايلوجية الاخرى كالغرائز...و قد دفع هذا التفكير الى
استمالة جماعات كثيرة من الناس تحولوا فيما بعد الى قادة وسحرة وغوغائيين يفكرون في
الدم...ان القرن العشرين خير شاهد على هذا التحلل عن العقل والالتجاء الى الخرافات
والاساطير ويمكن معرفة هذا التطور بصورة احسن اذا التجأ الى استخدام اساليب علم
النفس لوصف الانحطاط العقلي والفكري»[21].
والواقع ان القومية تمثل احد التحديات التي افرزتها النهضة الاوروبية ضد العقل،
ويتكامل دورها السلبي في هذا الاتجاه مع المحاولات العلمية والفلسفية المختلفة
الرامية لربط الانسان بكيانه المادي ومصادرة وجوده المعنوي بالتنكر لبعضه كالروح
وتفسير البعض الاخر من هذا الوجود المعنوي على اساسٍ مادي كما فعلوا مع العقل.
ونتيجة لمحدودية ونسبية المثل القومي وانبعاثه عن عالم الغريزة جاءت القومية حركة
مناهضة للأخلاق، فإن الاخلاق لا تتولد الا في اطار المثل المطلقة. بينما القومية
مزيج من طباع انسانية رديئة كالانانية والعصبية والكبر والغرور. واذا ما انحصرت
مُثل الانسان في حدود بلاده كما يفترض المفهوم الحديث للقومية، فإن ذلك سيؤدي الى
طرح الاخلاق طرحاً عنصرياً حيث تكون الفضيلة هي ما تقتضيه المصلحة الوطنية والقومية
والرذيلة ما يتعارض معها، وان كانت تلك المصلحة وسبل تحقيقها غير مشروعة، يقول
فولتير: «ما تمنى احد العظمة لبلاده الا وتمنى التعاسة للآخرين»[22] ويقول براتراند
رسل: «ان الشعور القومي يتسم بعنصر خفي او واضح من العداء للغير»[23]، ويقول احد
المستشرقين الهولنديين ان القومية اضحت: «الهاً تضحى على مذبحه جميع مبادي الحق
والعدل والخير»[24].
وقد شرح الاستاذ «مود» الشرف والمجد القومي بقوله: «إن المجد القومي انما يعني ان
يكون الشعب يملك قوة يسلط بها رغبته وهواه على آخرين اذا مسّت الحاجة ... فالشرف
كما قال المستر - بلدون - عبارة عن قوة تنال الامة بها المجد والفخار وتستلفت اليها
الانظار وتشغل الافكار، ومعلوم ان هذه القوة التي تنال الامة بها هذه الدرجة من
الشرف انما تتوقف على قنابل نارية متفجرة ومشعلة للنيران وعلى وفاء الشبان وولاءهم
للوطن، الذين يحبون القاء تلك القنابل على المدن... فأرى ان الشعب يجب ان يعد
همجياً وغير مهذب بالمقدار الذي يملكه من الشرف...» [25].
ويقول عالم الاجتماع والترلاكور: «من الخصائص الرئيسية للقومية حب الذات والتقليل
من شأن الآخرين وفقدان روح النقد الذاتي وعدم الشعور بالمسؤولية وعدم رعاية جانب
الانصاف. ولذلك تفقد القومية الرؤية الواقعية بالتدريخ ليسيطر التصور الخيالي على
المجتمع»[26]. ويقول جون هرمان راندال: «كان الفاشيست الا يطاليون اول من فاخر
بصراحة من جديد بالانانية المقدسة للدولة القومية»[27].
إن الأخاء الإنساني فضيلة ليس بإمكان البشرية الحياة بدونها، غير أن الاُخوّة لا
توجد إلّا ظلال الابوّة، فهل وجد أخوان من دون أب؟ وهكذا الاخوّة الإنسانية العامة
لا توجد ما لم تستشعر البشرية ابوّة السماء، وتذعن لهيمنة الخلّاق العظيم عليها
وتعمل على اساس التبعية له. وهذه هي العالمية التي يريدها الإسلام ويسعى لتحقيقها.
والفضيلة - كما مر آنفاً - لا تقاس بما تحقق من أهداف دنيوية ومنافع مادية، وإنما
تقاس بقيمتها الذاتية وما تحدثه في النفس من تجليات، وما توجده من آفاق روحية خيّرة
،و حاجتنا إلى الأخاء الإنساني لا تعني الحاجة إلى السلام العالمي فحسب، مع ما لهذا
الهدف من صفة إنسانية نبيلة، وإنما تعني بالدرجة الاُولى الحاجة إلى صقل النفس
الإنسانية وتهذيبها وإطلاق اشعة النور فيها وتكريس روحية الخير والحب والرحمة
والرأفة فيها.
في عالم كهذا الذي صنعته القومية تأتي الدولة العالمية لتنقذ الانسان مما حلّ فيه
من اجواء غريزية لا تتناسب وشأنه، وتجعله يتسامى على انانيته وغروره، وتقوده بدلاً
عن ذلك الى عالم الاخاء الانساني.
من فكرة الصراع الى فكرة الجماعة
الاسرة تأخذ معناها الحقيقي عندما يكون هناك أبٌ يتوسطها ويرعاها ويستقطب افرادها
وتتمحور حوله فيسودها شعور جماعي وفكرة جماعية، وعندما تفقد ذلك الاب المستقطب تفقد
معنى الاسرة ويتبدد شعورها الجماعي ليحل محلّه شعور فردي يقود كل فرد قوي من افراد
هذه الاسرة للبحث عن موقع افضل من الاخرين، فيما يحاول الفرد الضعيف ضمان موقعه
العادي، فوجود الاب يؤدي الى نشوء اسرة قائمة على اساس فكرة جماعية وفقدانه يؤدي
الى سقوط هذه الاسرة وتحولها الى افراد تسودهم فكرة معاكسة هي فكرة الصراع، ولو على
مستوى الاحساس الوجداني الداخلي الذي يجعلهم على أهبّة الاستعداد للدخول في اي نزاع
ينشب ولو من اسباب صغيرة.
وما يصدق على الاسرة يصدق على المجتمع البشري الكبير، فهو يسير بين خيارين لا ثالث
لهما، خيار المجتمع المتمحور حول اب والمشبع بفكرة جماعية، وخيار المجتمع الفاقد
لهذا المحور والمشبع بفكرة صراعية، الاول هو المجتمع التوحيدي المتمحور حول الله
سبحانه وتعالى، والثاني هو المجتمع المادي الفاقد لهذا المحور، والدولة العالمية هي
دولة المجتمع الاول، والدولة القومية هي من حيث الاصل دولة المجتمع الثاني، بمعنى
ان القومية مظهر طبيعي من مظاهر فكرة الصراع الراسخة في المجتمع غير التوحيدي، هذه
الفكرة تجلت بتمام ابعادها في الحضارة الغربية التي عبّرت عنها فلسفياً من خلال
فكرة الديالكتيك وصراع الاضداد، وتاريخياً من خلال فكرة صراع الطبقات، وعلمياً من
خلال فكرة الصراع من اجل البقاء، ودولياً من خلال الحروب والاسلحة الفتاكة حتى كتب
روجيه غارودي يقول: «ان هيمنة الغرب منذ خمسة قرون تكللت بإرادة مدمرة للكرة
الارضية» ويضيف: «ان نتائج هذه الهيمنة تمثلت بوفاة 50 ميليون انسان جوعاً،اي
هيروشيما يومية على العالم الثالث»[28].
كما تجلت فكرة الصراع ونوازع الدمار في الحضارة الغربية على الصعيد الاجتماعي بتفكك
الاسرة وشيوع الجريمة والانتحار وتقنين الشذوذ الجنسي، وتجلت على الصعيد الانساني
من خلال الفكرة العنصرية القائلة بأن الحضارة وليدة العنصر الراقي، وانهاتقتضي
اخضاع العنصر البشري الرديء لحاكمية العنصر الاوروبي الرفيع، وكان من الطبيعي ان
تأخذ هذه الفكرة مداها على الساحة السياسية فتظهر من خلال فكرة القومية التي مهما
قيل عن برائتها عن الطابع العنصري الا انهامع ذلك يبقى لها جذر يضرب في العنصرية،
وقد اكد العديد من المفكرين المعاصرين الطابع التدميري للقومية.
يقول براتراند رسل: «..و هكذا فعالمنا الحديث يكون الجيد فيه كسلاناً وفقط السيء
هو النشيط يمشي ثملاً باتجاه الدمار...فالى جميع الذين ليسوا سكارى الخطر الواضح ان
القومية هي القوة الرئيسية التي تسوق حضارتنا الى دمارها»[29].
ويقول ارنولد توينبي: «ان مخلفات الحضارة الغربية هما الخمر والقومية...» [30].
ويقول اقبال اللاهوري في وصف القومية بأنها: «نوع من الوحشية»[31].
ويقول ابو الاعلى المودودي: «قد سلط على الامم الغربية شيطانان قويان يجرانهاالى ما
فيه الهلاك او لهما شيطان قطع النسل والاخر شيطان القومية»[32].
ويقول تولستوي: «صرحت مراراً ان عاطفة الوطنية في زماننا هذا عاطفة غير طبيعية بل
خارجة عن الصواب ومضرّة وهي علة اكثر امراضنا الاجتماعية...لذا لا ينبغي ان تعلّم
كما هو الحاصل الآن، يجب منعها واستئصال شأفتها بكل الوسائل الفعلية التي تبدو
لأولي النهى»[33].
ويقول البرت أشفيتسر: «و من هذين العنصرين اعني الاحساس بالواقع والاحساس التاريخي
ينشأ التعصب القومي الذي ترجع اليه الكارثة الخارجية التي يتم بها انحلال
حضارتنا»[34]. ومن هنا يُجمع الكتاب والمفكرون على ان القومية تقف وراء حروب
القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي القرن التاسع عشر تمثلت القومية بالمعارك وانشاء
المستعمرات ثم اصبحت مصدراً للتوسع وتعارض المصالح للدول المختلفة على حد تعبير احد
المؤرخين الاجتماعيين[35].
يقول فرانسيس كوكر - مفكر غربي - : «اقتنع الكثير من القوميين في القرن التاسع عشر
اثر المشاعر القومية المتطرفة بأن الشعوب المتطورة والتي تتميز بتأريخ وتراث عظيمين
وتحضى بتفوق عنصري وقومي لا يحق لها حصر قدراتها وامكانياتها داخل حدودها، اذ ان
الواجب القومي والوطني لا ينحصر بالدفاع عن سيادة الوطن وحفظ الاستقلال فحسب وانما
توجد هناك رسالة عالمية ويتوجب عليهم بسط نفوذهم السياسي وحضارتهم القومية وفق ما
تتطلبه المصلحة على جميع الدول المتأخرة حتى وان تم ذلك باستخدام القوة
والعنف»[36].
و يقول الدكتور هات احد رواد القومية في القرن التاسع عشر:
«ان الاكتفاء بحفظ سيادة الوطن ليس كل شيء، لأن التخلف عن التنافس الاقتصادي -
السياسي العالمي يعني عدم اداء الواجب الكامل في حراسة العظمة والهبة التأريخية
للوطن، فعدم الاقدام على التوسع يعني تعريض الغرور القومي للصدمة والموت في معركة
تنازع البقاء بين الدول، وان الاقتدار والمخاطرة والنزعة الحربية هي الكفيلة
بالابقاء على غرورنا القومي وحفظه»[37].
وبلغت القومية اوجها في القرن العشرين، وبسببها خاض العالم حربين عالميتين عدا
الحروب الاقليمية المحدودة، وفي ذلك يقول لويس ل. شنايدر: «و قد زادت حدة التنافس
بين الدول الوطنية يوماً بعد آخر وبتأثير واقع المصالح الانفعالية المتخلفة من
الماضي اخذ الجنس البشري يميل الى تناسي ان جميع الناس في الاساس متشابهون كأفراد،
والواقع ان ضرورات التكامل القومي قد جعلت من الضروري ان تغلب الدولة الاخرى قبل ان
تعيش احدى الدول في سلام»[38].
ويقول ايضاً: «ان دماء الملايين الاخرين التى اهدرت وثروات الشعوب التي نهبت
والفضائح الانسانية التي ارتكبت كل ذلك قد جعل العالم متحيراً في امره فيما اذا كان
الشعب الالماني قد اصبح فاقداً لشعوره وخصائصه الانسانية»[39].
وهذا ما يؤكد ان العنصرية ملازمة للقومية ولا يمكن التفكيك بينهما. وهذا ما يؤيده
تأريخ الحركة القومية في العالم خصوصاً في المرحلة الحديثة التي شهدت ظهور النازية
في المانيا وسياسة الفصل والتمييز العنصري في امريكا وجنوب افريقيا. فضلاً عن ان
الاستعمار وهو من ابرز معالم التأريخ الحديث يعتبر ظاهرة عنصرية افرزتها الحركة
القومية في العالم. ولو ان الحرب العالمية الثانية لم تنته بهزيمة النازية لكانت
العنصرية فخراً يتجاذبه القوميون. ولكن تلك الهزيمة حولت العنصرية الى فضيحة يتبارى
الجميع لدرئها عن انفسهم، فأخذ القوميون من كل قومية يسعون لإثبات ان حركتهم
انسانية ومناوئة للعنصرية. وتركز هذا الاتجاه اكثر في القوميات الناشئة حديثاً.
والحقيقة ان القومية بما تقوم عليه من تمييز الذات والتأكيد عليها وما يستتبعه ذلك
من الاقلال من شأن الغير تنتهي بشكل تلقائي الى شعور عنصري استعلائي، غير ان هذا
الشعور يكون فيطور القوة والخفاء عند القوميات الناشئة حديثاً والضعيفة التي تأخذ
بالتركيز على البعد الانساني لغرض مقاومة قوميات اخرى معادية لها في صورة الدفاع عن
الاخلاق والانسانية. ويخرج هذا الشعور الىطور الفعل كلما شعرت القوميات بإمتلاك
وسائل الاعتداء على الغير. من هنا تسلك العديد من القوميات سلوكاً مزدوجاً، فعند
مواجهة القوميات الكبرى الاستعمارية تتشبث بالاخلاق والانسانية وفي علاقتها مع
القوميات الصغرى تعتصم بشعور عنصري استعلائي ضمن صورة غريبة تحكي صورة العلاقات بين
وحوش الغاب. وذلك من معالم انحطاط الشعور القومي وكونه ينطلق من الحس والانفعال
بدلاً عن العقل والتفكّر. وبقدر ما تؤدي الفكرة القومية إلى الحروب والنزاعات، تقود
الفكرة العالمية إلى السلم والأمن، ولذا يفزع الإنسان بعد كل دورة حرب تشعل القومية
فتيلها إلى الفكرة العالمية طامحاً من خلالها إلى السلم، فبعد الحرب العالمية
الاولى ظهرت عصبة الاُمم، وبعد الحرب العالمية الثانية تشكلت هيئة الأمم المتحدة.
يقول توينبي: «ان الدولة العالمية تتقبل الحياة لكلي تضع حداً للحروب ولتستبدل
بالتعاون سفك الدماء»[40] ويعود الفشل الذريع الذي منيت به عصبة الأمم سابقاً وهيئة
الأمم حالياً في إقرار الأمن في العالم إلى إنهما لم يستندا إلى فكرة عالمية حقيقية
وإنما إلى شعار عاطفي أوحت به نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، ففي ظل
عصبة الأمم وصلت العنصرية الالمانية ذروتها على يد هتلر، وفي ظل هيئة الامم تكوّن
الكيان العنصري الاسرائيلي وبلغ العدوان الامريكي على بقاع عديدة من العالم مديات
واسعة، وهذا يعني إن العالمية العاجزة التي لا تتجاوز مرحلة الشعار العاطفي سرعات
ما تتحول إلى غطاء تمرّر من خلاله القوميات الكبيرة اعتداءاتها على القوميات
الصغيرة، وقد توصل الامريكان أخيراً إلى أن رفع شعار العولمة والقوية العالمية
الواحدة هو الطريق الأفضل لإبتلاع العالم وفرض السيطرة عليه.
اختلاط العناصر ضرورة حضارية
والدولة العالمية تعني اختلاط العناصر والأجناس والقوميات وامتزاجها في نطاق تجربة
اجتماعية وسياسية وثقافية واحدة، وقد اثبت التأريخ إن الحضارة الإنسانية مدينة لهذا
الاختلاط فأينما وجد الاختلاط كانت الحضارة، وكلما اتجه الإنسان نحو العزلة سار نحو
الضعف وضمور القابليات، وشاهدنا على ذلك أن الحضارة الإسلامية نبعت من مراكز
الاختلاط القومي، فظهرت بغداد والكوفة وسمرقند والري والأندلس كحواضر علمية هامة،
بينما ضعف دور مكة والمدينة ودمشق، المدن الثلاث التي لم تسعد بهذا الإختلاط.
وهذا ما ينقذ المجتمع البشري من العزلة القومية التي عندما تستبد بالانسان تقوده
الى التعميم اللامنطقي. وهو تعميم مكعب يشتمل على ثلاثة انواع من الخطا. خطأ في
تعميم الايجابيات المدعاة لهذه القومية او تلك على كل ابناءها مع انهاوجود كبير
متنوع يشتمل على الافراد الجيدين والرديئين، الاذكياء والاغبياء معاً. وخطأ في
تعميم الادعاء بالايجابيات بحيث ينسب الفرد كل ايجابية لقوميته ويبعد كل سلبية عنها
مع ان كل قومية وكل امة لها ايجابياتها وسلبياتها. ولم يحفل التأريخ بمثال لإنسان
منزه عن النقص - عدا المعصومين -، وخطأ ثالث في تعميم الادعاء بالايجابيات على
مستوى التأريخ، حيث تؤكد مناهج التربية والتعليم في الانظمة القومية على تصوير
التأريخ القومي على انه نموذج المُثل والاقتدار والابداع. وهذا لا يعني ان القوميين
ينكرون نسبية قومياتهم او يدعون الخصائص المطلقة لها على الصعيد النظري، فان
النسبية واقع انساني وليس بالامكان انكاره ولكن الشعور القومي المتعصب يجعل الانسان
يتعامل مع قوميته كما لو كانت استثناءاً من الواقعالانساني وانهاحالة مطلقة. وما
شعار «المانيا فوق الجميع» «ايطاليا فوق الجميع» وامثاله من الشعارات التي رفعتها
العديد من القوميات الاوروبية الى فترة متأخرة من الزمن الا تعبيراً عملياً عن شعور
يتعامل مع هذه القوميات كحقائق مطلقة، وعلى نحو مشابه تماماً للحقيقة الالهية التي
يُستعمل بأزاءها تعبير «يدالله فوق ايديهم» او «كلمة الله هي العليا».
ولقد كان من مساويء سيادة هذه الروح القومية في الحياة الحديثة، ان اتجهت الانظمة
القومية في العالم الى تلقين الناشئة والطلاب في مختلف مراحل الدراسة بأنهم ينتسبون
الى اعظم الامم، وادعاء المجد يستلزم عادة المبالغة في تعظيم الذات على حساب
الاخرين مما ادى الى ظهور صراعات ثقافية بين القوميات في مجال التأريخ العلمي
والفكري.
يقول ويل ديورانت:
«ظهرت القومية في القرن التاسع عشر فأفسدت ضمائر المؤرخين»[41].
وعن سلبية القومية في المجال العلمي يقول روبرت.م. ما كيفر:
«و يكون هذا التقدم - يقصد التقدم العلمي - افضل واسرع فيما لو شعر الناس بوجودهم
شعوراً اعمق بصفتهم علماء ومهندسين ومخترعين وفنانين ورفاقاً في عملية تقدم واحدة
وعاملين في سبيل مصلحة واحدة بدل ان يشعروا بوجودهم بصفتهم بريطانيين وفرنسيين ويا
بانيين والمان وامر يكيين فيصبحون اعضاءاً في نظام عالمي يحكمه القانون ويصبح
شعورهم بالامن في ظل هذا النظام اقوى من شعورهم به في ظل الكيانات القومية الخاصة
التي تفرق الآن بينهم والتي لم تعد تستطيع ان توفر للإنسان ما يحتاج اليه من
امن»[42].
وقد كان من النتائج السلبية للحركة القومية في الميدان العلمي ما جعل الفيلسوف
الرياضي براتراند رسل يدعو الى انشاء جامعة عالمية «تفتح ابوابها لجميع الاجناس
وجميع الاديان وجميع الاراء السياسية ما عدا تلك التي ترفض المعاونة العالمية...و
لكل رجل او امرأة على استعداد علمي ان يدخلها فلا يحول بينه وبين دخولها لونه
الاصفر او لونه الاسمر او لونه الاسود»[43]. وعنده ان العرف القومي اضر في تأريخ
العلوم، فالقاعدة التي تعرف عند الانجليز بإسم قاعدة بويل تسمى قاعدة مارييت بين
الفرنسيين ويقول: «ان الامم الكبرى جميعاً - على تفاوت في الدرجة - تزيّف التأريخ
وتتعرض له بالتمويه والتعديل»[44].
- ثانياً. العطاء الخاص بمجتمعات العالم الإسلامي
ويكسب العالم الإسلامي من أطروحة الدولة العالمية عطاءات خاصة تنفعه فيما يعيشه من
مشكلات وظروف وملابسات اضافة لتلك التي تقدمها هذه الاطروحة على الصعيد الانساني
العام.
حل مشكلة ازدواجية الحضارة
قبل عصر الاستعمار عاش العالم الإسلامي منسجماً مع نفسه واثقاً من عقيدته لا يعاني
ازمة بينه وبين ذاته . صحيح ان مظاهر الانحراف عن الإسلام كانت تسود حياته لكن
الساحة كانت تخلو من فكرة منافسة للإسلام وكان المسلم واثقاً من ان الصواب يتمثل في
دينه فقط وكان يرى نفسه مذنباً عندما يبتعد عنه. حتى جاءت موجة التغريب التي اوجدت
امام المسلم فكرة بديلة عن الإسلام مهدت لها بحملات التشكيك واثارة الشبهات حول
مصداقية الإسلام وقدرته على توجيه الحياة الحاضرة، ولأسباب عديده لا مجال لذكرها
الآن نجحت موجة التغريب الى حد ما في اظهار الغرب كنموذج بديل عن الإسلام واثارة
الشكوك والشبهات في ذهنية الفرد المسلم فيما يخص دينه وعقيدته . وكانت القومية احدى
المفردات التي آمن بها في اطار تأثره بالبديل الغربي.
ان هذا البديل يُقيَّم تارة بما هو اسس ومفاهيم جديدة للحياة. واخرى بما هو تجربة
يراد اقامتها في مجتمع مسلم له مُثله وقيمه ومفاهيمه المتعاكسة مع هذا البديل،
والذي يهمنا الآن الدراسة من النوع الثاني. فبغض النظر عن تقييمنا الموضوعي لمفاهيم
الغرب وافكاره في الحياة نجدان عملية نقل هذه المفاهيم والأفكار الى مجتمع مسلم
يؤمن بقيم ومُثل ومفاهيم كونية واجتماعية مخالفة ومحاولة تطبيقها فيه تنطوي على
مخاطرة كبيرة بالنسبة الى البناء الاجتماعي والنفسي والثقافي للفرد والمجتمع، فإن
الإسلام وبرغم الظروف والملابسات التأريخية والاجتماعية والسياسية يبقى قوة روحية
واجتماعية وثقافية خالدة ومؤثرة في حياة الفرد المسلم. وتبقى القيم الإسلامية
مسيطرة على احاسيسه ومشاعره وعواطفه . ويبقى المسلم ينظر الى الإسلام على انه
الاساس في حياته الاجتماعية والثقافية . وفي ضوء هذه الحقيقة نجد ان عملية التغريب
من شأنها ايجاد قوة معاكسة تعمل على ضرب القوة الإسلامية في المجتمع، واذا ما فرضت
هذه العملية بالوسائل السياسية والاعلامية والعسكرية والقانونية فإنها ستؤدي الى
اختلال التوازن في الحياة النفسية والثقافية والاجتماعية وستظهر نخب تؤيد التغريب
واخرى تؤيد الإسلام. وثالثة تحاول المزج بينهما، وعلى مستوى العامة من الناس يؤدي
ذلك الى اختلال الرؤى والمفاهيم وظهور السلوك المزدوج الذي يميل نظرياً الى قيم
الإسلام ويطبق عملياً مفاهيم الغرب في حالة شديدة من الاضطراب النفسي والفكري . ومن
الطبيعي ان هذه المظاهر تسبب ضعفاً في حيوية الامة واختزالاً لطاقاتها. وتفقد عملية
البناء الاجتماعي زخمها وفاعليتها لأنها ستتوزع بين اتجاهين متعاكسين وستكون محصلة
القوى منهما صفراً، بل إن عملية مزج الإسلام مع الغرب في تجربة واحدة أشبه بعملية
مزج السكر والملح في محلول واحد، فإن حصيلة هذا المزج ستكون فاقدة لخواص السكر
والملح معاً وحاوية لخواص جديدة مجّة تعافها الاذواق السليمة، وقد أدّت عملية تغريب
المسلمين الى ايجاد شخصية من هذا القبيل لا تحمل مواصفات الإسلام ولا مواصفات
الغرب، والتغريب مهما استمر لا يتوقع منه ان يؤدي الى حذف الإسلام وانتاج شخصية
غربية، بل وجدنا في نهاية القرن العشرين عودة المسلمين الى الإسلام واشتداد هذا
الدين في واقعهم.
والقومية تمثل احد اركان عملية التغريب، وهي تلعب دورها السلبي الاساسي في هذا
الاطار.
وهنا يأتي البعد العالمي في الدولة الإسلامية لينقذ المجتمع الإسلامي المعاصر من
آفة ازدواج الحضارة في المحور القومي ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وفي هذا المضمار
يقول الدكتور كليم صديقي:
«ان العالم الإسلامي مجزء الى قوميات وكل قومية قد أنشأت لها دولة خاصة بها على
غرار الدول الاوروبية» «ان هذه كلها هي دول قومية من نتاج الحضارة الغربية في فترة
سيطرتها الفعلية على العالم الإسلامي، ان اهداف هذه الدول القومية وبنيتها وانماط
سلوكها هي تلك التي تسود اوروبا...ان القومية الاقليمية هي بعينها نقيض
الإسلام»[45].
ويقول ايضاً:
«ان علينا ان نعد طلبتنا واجيالنا القادمة للوقت الذي سيشهد نهاية الدول القومية،
ان علينا ان نتطلع بأبصارنا الى نهاية القومية»[46].
ويقول أيضاً: «ان على اساتذه العلوم السياسية المسلمين ان يضعوا مجموعة من الكتب
التي تثبت ان الدولة القومية لا تستطيع ان تحل اياً من المشكلات التي تواجهها الامة
الإسلامية»[47].
حل مشكلة التمزق القومي
بعد سقوط الدولة العثمانية انقسم المسلمون الى قوميات متعددة وظهر شعار الوحدة
القومية بدلاً عن شعار الوحدة الإسلامية. ويومها اشاع القوميون ان القومية تمثل
اطاراً وحدوياً افضل من الدين. بحجة ان الدين يقسم المجتمع الواحد الى مسلمين
ومسيحيين ثم يقسم هؤلاء وهؤلاء الى مذاهب متعددة. وهي مغالطة واضحة لأن الإسلام يضم
دائرة بشرية وجغرافية اوسع بمرات ومرات من الدائرة التي تشتمل عليها اي قومية من
قوميات المسلمين. والتعدد المذهبي يمكن التغلب عليه بوسائل متعددة خاصة وانه لم
يصبح سبباً للإنقسام والصراع الا في ظل ظروف تأريخية وسياسية طارئة. وفي اكثر
المجتمعات الإسلامية يشكل اهل الكتاب اقلية ضئيلة وليس من المعقول تعطيل الوحدة
الإسلامية والإسلام في المجتمع الإسلامي من اجل تلك الأقلية. ان المشكلة التي تسببت
بها القومية لا تتمثل في تفتت القوة الإسلامية وانقسامها الى عدة قوميات فحسب. بل
انهاتتمثل ايضاً في ان البلدان الإسلامية يقطن اكثرها قوميات متعددة، ففي العراق
يوجد عرب وكرد وتركمان، وفي ايران تعيش ست قوميات رئيسية . وينقسم شمال افريقيا بين
العرب والبربر، وفي تركيا يعيش الاكراد الى جنب الترك. وهكذا مما اوجد في كل بلد من
هذه البلدان مشكلة قومية. اذ ان الاقليات القومية اخذت تنظر الى الحكم المركزي على
انه صورة من صور الحكم الامبراطوري. وهل لحكم القومية العربية على بلد يتشكل من
ثلاث قوميات، أو حكم القومية الفارسية - ايام الشاه - في بلد يتشكل من ست قوميات
معنى غير ذلك؟
الامر الذي دفع بظهور اطار وحدوي جديد هو الاطار الوطني، لكنه كان في الحقيقة اضافة
جديدة لعوامل الانقسام والتمزق. فأضافة الى ان حصيلة الانقسامات اصبحت تتكون من ضرب
عدد القوميات بعدد الاوطان فإن الفرد تحير في الجهة التي تستحق الولاء منه الوطنام
القومية ؟ كما تسبب ذلك في عشرات المشاكل الاقليمية بين المسلمين.
وفي واقع كهذا يأتي البعد العالمي من الدولة الإسلامية ليحل المشكلة القومية في
العالم الإسلامي من الجذور، فهذه الدولة قائمة على اساس عقائدي، والولاء فيها
للإسلام وليس للقومية.
حل مشكلة التبعية للغرب
التبعية واقع مرير وحالة مَرَضية تنشأ من عاملين. اختلال ميزان القوى بين التابع
والمتبوع بحيث يكون التابع اضعف والمتبوع اقوى فتنشأ علاقة التبعية بسبب ذلك. كما
تنشأ بسبب فكرة تدعو التابع الى التبعية وتسيّره نحوها. وهذان العاملان قائمان في
القومية. فقد تبين مما سبق انهاتسبب اختزالاً في طاقات المجتمع . وهدراً لإمكانياته
وهو ما يؤدي الى ضعف الامه امام الاستعمار، وهذا هو العامل الاول للتبعية، كما ان
القومية بما هي مفردة من مفردات التغريب تشكل دعوة الى التبعية للغرب، فإن التغريب
ليس له الا معنى واحداً هو ان يقتفي المسلمون اثر الغرب ويتابعوا خطواته الحضارية،
وهذا هو العامل الثاني للتبعية، لقد كانت القومية وسيلة الغرب لإسقاط الخلافة
العثمانية وانهاء وحدة المسلمين واثارة الاقتتال فيما بينهم وحرفهم عن خط الإسلام
وارساء قواعد السيطرة عليهم، وهي منشأ المصائب التي عانى منها المسلمون في القرن
العشرين وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ولا يمكننا ان ننتظر غير ذلك من حركة تقوم
على اساس فكرة غربية وتنشأ في احضان المؤسسات الاستعمارية وتعمل في ظل الاحتلال
والهيمنة الغربية، ماذا يمكننا ان ننتظر من حركة قومية يؤسسها لورنس القائل:
«لقد كنت اؤمن بالفكرة العربية القومية ايماناً عميقاً وكنت واثقاً قبل ان احضر الى
الحجاز انهاهي الفكرة التي ستمزق تركيا شذر مذر»[48] ويقول ايضاً:
«كان في نيتي ان اشكل امة جديدة وان اقدم الى عشرين مليوناً من الساميين الاسس التي
يبنون عليها احلامهم الهوائية في توجهاتهم القومية، ان كل ولايات الامبراطورية
العثمانية لا تعدل عندي موت انكليزي واحد»[49].
وماذا ننتظر من وحدة عربية يدعو لها انتوني ايدن - وزير خارجية بريطانيا عام 1941 -
الذي قامت على اساس دعوته الجامعة العربية؟
والبعد العالمي في الدولة الإسلامية يقدّم حلًّا جذرياً لمشكلة التبعية، لأنه يعيد
المجتمع الى اصالته الإسلامية من جهة ويمنحه شعوراً كافياً بالثقة بالنفس من خلال
الاحساس بدعم العالم الإسلامي له من جهة ثانية.
حل مشكلة الهوية الضائعة
ان الخطأ الفادح الذي وقع فيه قوميوا العالم الثالث انهم تقدموا الى الاستعمار بطلب
ان يشيّد لهم قومياتهم، وكان من الطبيعي ان لا يحصلوا على شيء، لا لأن الاستعمار
لا يريد لهم ذلك فحسب بل لأن الذات لا يمكن بناؤها بواسطة الغير. وصدق اقبال في
مخاطبته القوميين المسلمين حينما قال:
فـي قديم الدهر كـنـتـم امـة لهف نفسي كيف صرتم اممـا
كــل مــن اهمل ذاتـيته فهـو اولــى الـنـاس طـرّاً بـــالـقـضـا
لــن يـرى فـي الدهر قوميته كـل من قلّد عيش الغربا[50]
ولهذا السبب - ضياع الشعور القومي الحقيقي - والسبب السابق - التبعية - اخفقت
القوميات في العالم الثالث في الحصول على قيادات مخلصة ونزيهة وانجرفت بإستمرار
وراء قيادات عميلة وخائنة. من هنا نتساءل وبمقياس القومية نفسة اليس عبد الحميد
الثاني الذي رفض محاولات هرتزل لفتح الطريق الى فلسطين مقابل 22 مليون ليرة
انجليزية وبناء اسطول كامل للدفاع عن الدولة العلية وعقد قرض بمبلغ 100 مليون فرنك
تصرف في سبيل التسليح في وقت كانت الدولة العثمانية في احرج الظروف الاقتصادية،
اليس هذا السلطان التركي المسلم مع كل ما فيه من قصور وتقصير افضل في مقياس العروبة
والقومية العربية من أدعياء العروبة الذين ساقوا بلدانهم ذليلة الى الغرب وساهموا
في ضياع فلسطين بدلاً من ان يساهموا في تحريرها؟ اليس الامام الخميني(قدس سره) افضل
للعزّة الايرانية والعربية من ادعيائهما القوميين؟
اليس الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق وهو فارسي ايراني أفضل
وانفع للعروبة من الملك فيصل وابيه قائد الثورة العربية الشريف حسين؟ أليس الحجة
الشيخ مهدي الخالصي - وهو عربي عراقي - الذي اعترض على النفوذ الاجنبي في ايران
ايام نفيه فيها افضل الى القومية الفارسية والوطنية الايرانية من الشاه رضا بهلوي؟
وهكذا فالإسلام طريق افضل في تحقيق العزّة والهوية القومية الصحيحة من القومية
نفسها، شريطة ان لا يطرح الإسلام بمفهوم قومي، والا كانت النتيجة هي النتيجة، وانما
يطرح بكامل بعده العالمي الاصيل.
المساهمة في دحض المادية في المجتمع الإسلامي
ان القومية جزء من نسيج حضارة مادية ومن الطبيعي ان ينعكس الاثر المادي على الفكر
القومي. وفي العالم الإسلامي مرّت القومية بمرحلتين من الفكر المادي، فقبل الحرب
العالمية الثانية كانت القومية تتغذى من مادية الفكر الغربي وبعد هذه الحرب تبنى
القوميون الاشتراكية كمذهب اقتصادي لهم مستعينين في ذلك بالتجربة الماركسية مما
ادخل القومية في العالم الإسلامي مرحلة اكثر عمقاً في الفكر المادي.
ومن شواهد المادية في الفكر القومي في العالم الإسلامي قول الدكتور احمد زكي ابو
شادي:
ان الـــعــروبـــة والـــكـــنــانــــة ملتي دين يوحده الوفي العابد
وكتب احد القوميين السوريين مقالاً جاء فيه:
«..الطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هو خلق الانسان
الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن ان الله والاديان والاقطاع والرأسمال والمتخمين
وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست الا دمى محنطة في متاحف التاريخ»[51].
يقول علي ناصر الدين: «القومية بالنسبة الينا نحن القوميين العرب دين له جنته وناره
ولكن في هذه الدنيا»[52] ويقول عمر فاخوري: «لا ينهض العرب حتى تصبح العربية أو
المبدأ العربي ديناً يغارون عليه كما يغار المسلمون على القرآن الكريم والمسيحيون
على انجيل المسيح»[53].
وما اصرار القوميين على طرح الجاهليات السابقة على الإسلام كمراحل معبّرة عن
قومياتهم، وتأكيدهم عليهاو قراءتهم للمرحلة الإسلامية من خلال ما تفصح هذه
الجاهليات عنه من هوية قومية سابقة، الا مظهراً يعبر بوضوح عن معانٍ مادية كافرة.
وكان من نتائج القومية في حياة المسلمين ان طبق القوميون افكارهم على الإسلام
وتسببوا في تحريف الفكر الإسلامي ومن ابرز مظاهر هذا التحريف ربط الإسلام بالعروبة
على اساس الفكرة القومية القائلة بأن عقائد الامم وثقافاتها مظاهر قومية ناشئة من
الخصائص التأريخية والفكرية لتلك الامم. وفي ضوء ذلك يكون الإسلام مظهراً من مظاهر
القومية العربية بل هو وليد آلام العروبة على حد تعبير ميشيل عفلق[54]. وليس وليداً
للسماء، ذلك ان للأمة العربية رسالة خالدة تظهر بأشكال مختلفة ومتكاملة في مراحل
التأريخ وكل هذه الاشكال مقدسة، فالجاهلية هي رسالة الامة العربية في مرحلة ما قبل
البعثة وبعد البعثة أصبح الإسلام رسالتها، والآن رسالتها تتجسد في الفكرة القومية
الاشتراكية حسب التصور القومي الذي يعطي الجاهلية والإسلام قيمة واحدة ويعتبر مشركي
قريش ضروريون لتحقق الإسلامضرورة المؤمنين له. والذين حاربوا الرسول ساهموا في ظفر
الإسلام كالذين ايدوه ونصروه[55].
وخضع التأريخ الإسلامي لتأثير القومية واصابه التشويه بسببها، فمن جهة ركّز
القوميون على اظهار صورة ايجابية لعصور ما قبل الإسلام واثبات ان الامة العربية
وغيرها لم تتكون بالإسلام وانما تكونت في عصور جاهليتها. ومن جهة ثانية جهدوا في
اعطاء تفسيرات قومية للتراث وحوادث التأريخ الإسلامي كالفتوحات الإسلامية، وساقهم
المبدأ القومي الى مواقف متعسفة كامتداح العصر الاموي بإعتباره عصر القومية العربية
في الإسلام واضطهاد المذهب الشيعي بأعتباره مذهب الخارجين على ذلك العصر.
وواضح ان طرح البعد العالمي في الإسلام من شأنه ان يعيد الامة الى مسارها الاصيل
وينقذها من القومية وآثارها التحريفية وجذورها المادية.
مواجهة العولمة وفضحه
العولمة مشروع امريكي يحاول الهيمنة على العالم من خلال التحكم بالمحاور الرئيسية
للحياة كالاقتصاد والتسليح والثقافة والعلاقات الدولية، ومن الطبيعي ان تقع الدول
النامية والضعيفة كضحايا لمثل هذا المشروع الذي سبق للغربيين طرح مثيل له وواجه
اعتراضات شديدة، يقول عباس محمود العقاد: «كثرت بعد الحرب العظمى دعوات الوطنية
وكثرت بعدها كذلك دعوة اخرى تشكك في الوطنية وتنزع الى توهينها واضعاف شأنها ولا
سيما في نفوس الشعوب الطامحة الى الحرية، هذه الدعوة الاخرى هي دعوة الدولية او
الاممية...و المشاهد في امر هذه الدعوة انهالا تروج ولا تشتد الا من جانب الامم
التي استوفت معالم الوطنية وصنوفها ولا ينتظر من دخولها في الاتفاق الا ان تجور على
الوطنيات الاخرى وتحد من حريتها ومطامحها، فدعاة الامم اليوم هم ابناء الامم
الغالبة التي تستفيد كل شيء من هذه الدعوة ولا تخسر شيئاً في سبيلها...» [56].
ويقول انور الجندي في شأنها ايضاً: «و قد أستمدت هذه الدعوة وجودها من منطق مغلوط
ومن منطلق استعماري في الاساس هو ما أطلق عليه اسم رسالة الرجل الابيض الى العالم
الملون والهدف الكامن من وراء هذه الدعوة هو سوق الناس جميعاً الى الولاء والعبودية
للسيادة الغربية الحاضرة...» [57].
ثم ينقل عن هنريك رالف عن كتابه (الانسانية والوطنية) يقول فيه: «ان النزعة
الانسانية يجب ان لا يعتنقها الا الامم القوية، اما الامم الضعيفة فإن لم تستمسك
بمقوماتها الخاصة سحقتها الامم القوية...» [58].
وهكذا فالعولمة وحكاية القرية العالمية الواحدة طبعة جديدة من مشروع قديم فحواه
انترفع القومية القوية لا فتة باسمة عنوانها الانسانية والعالمية وحقيقتها الهيمنة
والسيطرة على الامم الضعيفة التي ليس بإمكانها النجاة من مخالب هذا المشروع ما لم
تتمسك بأصالتها وهويتها.
وفي مواجهة هذا المشروع يقدّم الإسلام للعالم الإسلامي اعلى درجات الاصالة واكثرها
حيوية كما يقدم بعداً عالمياً حقيقياً من شأنه ان يفضح العالمية الزائفة التي يتمسح
بها اصحاب هذا المشروع ويكشف زيفهم وخديعتهم.
طرح مركزية المسلمين في العالم
إن المشاكل العديدة التي عانى منها المسلمون في تأريخهم الحديث لا يمكن حلها إلّا
بقيام الوحدة الإسلامية وظهورهم كقوة عظمى تقف في وجه التحديات الاستكبارية. ولا
سبيل للوصول إلى هذه القوة إلّا بإتكاء المسلمين على النظرة العالمية في الإسلام .
تلك النظرة التي تذيب كافة الفوارق الاقليمية والقومية وتجمعهم في إطار واحد، وإذا
ما تحقق هذا الهدف فسيكوّن المسلمون القوة الأولى في العالم، ذلك إن الموقع
الستراتيجي والعامل السياسي والقدرات الاقتصادية والبترولية والعامل البشري إضافة
إلى قوة الايديولوجية الإسلامية عناصر فريدة يختص بها المسلمون دون غيرهم. وإذا
استندوا إليها فبإمكانهم التغلب على القوى الأخرى التي لاتتفوق عليهم إلّا بالعامل
التكنو لوجي الذي يمكن ابطال مفعوله من خلال تلك العناصر، ومما لاشك فيه أن قضايا
مصيرية من نوع القضية الفلسطينية وقضية التبعية للغرب ستبقى مؤجلة إلى حين ظهور
القوة الإسلامية العالمية التي تعيد إلى المسلمين الثقة بأنفسهم والهيبة المفقودة
إليهم. ان البعد العالمي للإسلام والدولة الإسلامية من شأنه ان يسقط المركزية
الغربية في العالم ويبين عدوانيتها، ويشيد على انقاضها مركزية منطقية سلمية هي
مركزية الإسلام التي تعني من الناحية الانسانية مركزية المسلمين على الساحة
الدولية، وبالتالي يخرج المسلمون من دائرة الانكفاء والتقوقع الى دائرة الفعل
الايجابي المؤثر على الساحة الانسانية، وهذه قوّة لا يستهان بها عند الامم التي
تفهم معنى حياتها ولا تقبل بالتهميش والذيلية.
المساعدة على نشر الإسلام
وطرح البعد العالمي للإسلام والدولة الإسلامية من شأنه ايضاً المساعدة على نشر
الإسلام في العالم وتعبئة المسلمين من أجل هذه الوظيفة الإسلامية - الانسانية
المقدسة التي تساعد بدورها على تقوية الوجود الإسلامي على الساحة الدولية.
الدولة العالمية قوة للجميع وليست استنزافاً لأحد
هذه جملة ما يمكن تصوره بشأن العطاء المتنوع الواسع الذي يتاح للدولة الإسلامية
العالمية تقديمه الى الساحة الانسانية بنحو عام والساحة الإسلامية بنحو خاص. ويجب
ان يكون واضحاً ان الحديث عن الدولة العالمية في الإسلام لا يعني بحال من الاحوال
تحميل اقليم هذه الدولة اعباء مسؤوليات سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة النطاق في
دائرة العالم الإسلامي والدائرة الدولية ككل ولا يعني افساح المجال امام المسلمين
في العالم للتزود من امكانات هذه الدولة، ولا يعني صرف موارد وامكانات ذلك الاقليم
في خارج حدوده وفي مجالات لا تعنيه، وانما يعني بالدرجة الاساس حذف المعنى الوطني
والقومي المتعصب الذي يربي الانسان على الولاء للتراب والدم ويكسبه نظرة ضيقة تجعله
انانياً يفكر في نفسه فقط، واحلال المعنى الإسلامي المعنوي العالمي الرحيب الذي
يربي الانسان على الولاء للتوحيد والقيم التوحيدية في الحياة ويكسبه نظرة اخلاقية
تجعله يفكر بشكل تلقائي بالمحور الايماني والجماعة الايمانية التي ينتمي اليها، من
كان منها داخل اقليمه ومن كان منها خارج اقليمه، ويقدّم شيئاً من امكاناته
الإقليمية لصالح المحور الايماني والجماعة الايمانية في خارج اقليمه، بحيث لا يتحول
المعنى الاقليمي إلى صنم، ويبقى في دائرة الحالة التنظيمية للحياة الاجتماعية
والسياسية، كما ينظّم الافراد وضعهم المعيشي الخاص في اطار متصل بالجماعة التي
تتولى الدفاع عن افرادها في مختلف الميادين.
ان قوة الجماعة الايمانية تعني قوة افرادها والاقاليم المنتمية اليها، وعندما يساهم
اقليم الدولة الإسلامية في تقوية الجماعة الإسلامية على الساحة الدولية انما يساهم
بتقوية نفسه، ويكسب موقعه الدولي عزّة ومنعة حينما تهب هذه الجماعة دفاعاً عنه في
هذه القضية او تلك.
والعالم المعاصر مليء بالشواهد على دور الاتباع فى حماية وتصعيد نواة دولية يؤمنون
بها، فالاحزاب الشيوعية في العالم هي التي جعلت من الاتحاد السوفيتي في النصف
الثاني من القرن العشرين دولة عظمى تناطح الغرب، وعندما أحسّت امريكا بذلك ووجدت
نفسها فاقدة لأساس فكري يتيح لها تأسيس احزاب عالمية تؤيدها، طرحت في الخمسينات
مشروع المساعدات الامريكية لدول العالم الثالث لتكرس من خلاله وجودها على الساحة
الدولية وتكسب عن طريقه اعواناً من الدول والحكومات القائمة فعلاً في العالم
الثالث، وتصبح قادرة على ايصال من تريد ايصاله الى الحكم وابعاد من تريد ابعاده
عنه.
وقد حارب الغرب بشدة الثورة الإسلامية حينما احسّبقوة انصارها في الخارج، وبخطورة
بعدها العالمي عليه، فشنّ عليها من خلال صدام حسين حرباً لمدة ثماني سنوات بغية
استنزاف طاقاتها وامكاناتها ومعنوياتها الثورية على مقربة من حدودها، ولقد سئل رئيس
فرنسا السابق فرانسوا ميتران ابان حرب الخليج الفارسي الثانية عما اذا كان نادماً
على دعم فرنسا السابق لصدام حسين في حرب الخليج الفارسي الاولى فاجاب بالنفي
قائلاً: «لولا دعمنا لصدام لكانت الثورة الإسلامية على مشارف فرنسا». ومن المؤكدان
اي اقليم إسلامي يتحرك على اساس الإسلام يجد نفسه في قوة ومنعة اكبر مما لو يتحرك
على اساس الوطنية او القومية، والمقارنة بين ايران الشاه وايران الإسلام توضح ذلك.
وهذا ما يجعلنا نكتشف سر اصرار المستشرقين على انكار عالمية الإسلام رغم وضوحها الى
حد البداهة.
فاذا كان الغرب القومي يتهالك الى هذا الحد من اجل دعم موقعه المركزي على الساحة
الدولية، افليس العالم الإسلامي الذي يؤمن بعالمية الإسلام ولا يؤمن بالقومية اولى
بطرح موقعه المركزي المشروع على الساحة الدولية؟
خطوات نحو الدولة العالمية
آن لنا والكتاب قد بلغ نهايته ان ننتقل من حقل الفكر إلى حقل الواقع، من النظرية
إلى التطبيق، نترسم مواقع الاقدام في ضوء خطوات الفكر، بغية الوصول إلى منهج عملي
متكامل في مضمار بناء الواقع، دولة ومجتمعاً وثقافة، في ضوء عالمية الإسلام، واضعين
علامات الصواب والخطأ والاستفهام والاستنكار كل بحسبه امام ما نراه كذلك، مشيرين في
الوقت نفسه الى الخطوات اللازمة على طريق التصحيح.
والبحث التالي عبارة عن إثارات على هذا الطريق موزعة على الصعد المختلفة، بعد مقدمة
عن مستلزمات الرسالة العالمية، واخرىعن العوامل المشجعة لسلوك النهج العالمي.
- مستلزمات الرسالة العالمية أن الرسالة العالمية تستلزم مجتمعاً قد بني بناءاً
عالمياً كافياً يتيح له التجاوب مع اطروحاتها واهدافها وبرامجها المختلفة، بمعنى ان
القائمين على هذا المجتمع لابد وان يلاحظوا ضرورة الارتفاع بالواقع الاجتماعي
القائم إلى مستوى التطابق مع خصوصيات الرسالة الإسلامية، وفي مقدمتها الخصوصية
العالمية، وهي وان كانت لا تتطلب بالنسبة إلى مجتمعاتنا الإسلامية شيئاً يزيد على
اجلاء الفطرة الانسانية وتعميق الإسلام في واقعها السياسي والاجتماعي والثقافي،
إلّا ان الالتفات إلى هذه الجهة والاهتمام بها، والتركيز عليها من شأنه المساعدة
على أمرين ضروريين في عملية البناء الاجتماعي وهما:
1. زيادة التحسّس وتركيز الانتباه تجاه الظواهر والممارسات الاجتماعية والثقافية
المخالفة لتلك الخصوصية، بحيث لو لم يكن هناك التفات إلى الضرورة المذكورة لكان
التحسس بتلك الظواهر المخالقة قليلاً، ولغفل رعاة المجتمع عنها، أو لاعتبروها من
الأمور الهيّنة التي يمكن التسامح بشأنها، ولكانت النتيجة ان البناء الاجتماعي يقام
على واقع غير منسجم معه، مما يقلل من كفاءة هذا البناء وهدفيته.
2. البرمجة والتخطيط: ذلك ان البناء الاجتماعي وعملية التغيير تتطلب تخطيطاً وبرمجة
كافية وهذا بدوره يتطلب اهتماماً وتركيزاًعلى المحور المقصود بالتغيير، فلو لم تكن
هناك ملاحظة لضرورة الارتفاع بالواقع الاجتماعي إلى مستوى التطابق مع خصوصيات
الرسالة الإسلامية لم تتيسر عملية التخطيط والبرمجة، وكانت الحركة الاجتماعية حركة
مرتجلة غير مدروسة. وأهمية هذين الامرين تقاس بأهمية الجهة المطلوبة منهما، فكلما
كانت الجهة المطلوبة بهما رفيعة ازدادت أهمية التحسس لما يخالفها والتخطيط من أجل
الوصول إلى حالة مطابقة لها، والجهة المطلوبة لدينا تحضى بأهمية عقائدية رفيعة،
بوصف ان العالميّة هي الوجه الانساني الذي يجسد اطلاق التوحيد على الساحة
الانسانية، بحيث ان حذف العالمية أو اهمالها في الحسابات العقائدية أو الاجتماعية
يؤدي إلى اختلال الرؤية الكونية للمجتمع الإسلامي، وتعويم التوحيد في الساحة
الاجتماعية.
ان على المجتمع الحامل للواء الرسالة الإسلامية في كل زمان ومكان ان يعدّنفسه ليكون
بالمستوى العالمي لهذه الرسالة وان يثبت أهليته لذلك، والمجتمع العاجز عن قراءة أفق
من افاقها أو التفاعل مع بعد من ابعادها ليس بوسعه ان يكون حاملاً للواءها على
الساحة الانسانية، وان كنا لانشك في كونه مجتمعاًمسلماً، لكن القيادة امتياز لا
يحلّ إلّا في واقع ممتاز عن غيره.
ان الانسان المسلم الذي يتقوقع في محل عيشه ويأبى التفاعل مع نظرة عالمية تحدق في
آفاق الأرض الاخرى يجب ان ينظر إليه من وجهة نظر إسلامية على انه انسان مريض قد فقد
بعض خواصه الطبيعية المطلوبة منه، وكيف يتاح لانسان يتربى على العبودية لرب
العالمين، وينتمي لرسالة عالمية تدعوه للشهادة على الناس ولا تكون له عينان تجولان
بين شرق الارض وغربها؟ إلايكشف ذلك عن شخصية ناقصة ومختلّة؟ ثم اذا تقوقع المؤمن في
محل عيشه وسكناه مستأنساً بوطنيته إلا يكون ذلك سبباً لظهور فراغ دولي سيملأه
الآخرون بنحو عدواني؟ بل سيكون ذلك سبباً لظهور ما هو أسوأ، حينما يدّعي هؤلاء ان
أوروبا هي الموطن الأبدي للقيادة العالمية، وان الرجل الأبيض هو ا لمؤهل للعب هذا
الدور دون سواه وبنحو دائم، وان على الآخرين اتباعه في كل زمان ومكان، وإلأسوأ من
كل هذا وذاك ان يقبع المسلم بالفشل ويسلّم لغريمه بهذه الادعاءات، ويقتنع بها
كحقائق غافلاً عن اوضح الحقائق التاريخية التي تقول: بأن المسلم كان يقود العالم
لمدّة عشرة قرون يوم كان الرجل الأبيض يتعثر في دياجيرالقرون الوسطى التي يسميها
بالعصور المظلمة.
وهل من مفارقة اكبر من ان يدعى القومي الاوربي قيادة العالم!، وهو ادعاء غير منطقي
وغير منسجم مع نفسه وينطوي على عدوان صريح طبقا للمقياس القومي الذى ابتكره الغرب
نفسه، بينما يستكين المسلم امامه رغم ما يحمله من رسالة عالمية تتيح له وبنحو منطقي
مشروع الادعاء بهذه القيادة العالمية؟ بل توجب عليه ذلك كوظيفة شرعية.
والقسم المتعلق بالمسلم من هذه المفارقة هو الذى يسيئنا اكثر. فادعاء القيادة
العالمية رغبة فيما تحققه من امتيازات وعلو امر متوقع من الاوربي وغيره، والشيء
الذي يؤسف له تصديق المسلم وتسليمه له بذلك. كما لو كانت الاقدار الكونية قد اقتضت
ان تكون اوربا هى القيادة لما سواها من القارات دوما. وهذا مما لا واقع وراءه، بل
هو اسلوب دعائى تلجأ اليه الحضارات الحاكمة رغبة منها فى تكريس الواقع الذي تريده
وتخليده لتخلد من خلاله. ولتثبط عزائم الامم الاخرى عن النهوض والتحرك لاخذ زمام
المبادرة والانفلات من الدوران فى فلكها، وما حكاية نهاية التاريخ التى
اطلقهاالامريكان اخيرا الاطبعة منقحة من هذه الدعاية القديمة، ولا ادل من ذلك على
ضرورة اعادة بناء الشخصية الإسلامية بنحو يرفع عنها هذا الخلل الذي ترزح فيه.
ويجعلها اكثر توافقا مع مقتضيات العزة والاصالة الإسلامية. واهم ما ينبغي القيام به
في هذا المضمار تزريق الروح والنظرة العالمية الواسعة في المجتمع الإسلامي بحيث
يصبح هذا المجتمع يعيش القضية الانسانية كأصل، والقضية المحلية كفرع، يعيش الواقع
المحلي الفرعي بما هو صورة مصغرة عن الواقع الانساني الاصيل ككل، يعيش انسانيته
كدائرة انتماء اساسي، ويعيش محليته كدائرة انتماء ثانوي، كما هو الانتماء للمدينة
والمحلة التي يعيش فيها كإنتماء ثانوي بالقياس الى البلد ككل.
وقد حقق الإسلام هذا الانجاز في بداية انطلاقته حينما استطاع ان يخرج العربي من
قمقم القبلية الضيق الى افق الانسانية الرحيب، من قضية محلية عاشها العربي كاصل حتى
حولها الى صنم يعبد، الى قضية انسانية في اطار العبودية لرب العالمين. وفي ظل هذه
الشخصية الجديدة التى انجزها استطاع الإسلام ان ينطلق في بناء حضارته الشامخة التي
اظلّت البشرية طيلة عشرة قرون، ثم ما فتأت هذه الشخصية تضعف وتذوي حتى بلغ بها
الامر حد الاذعان لخصمها التأريخي والحضاري بالسيادة عليها.
وحينما يراد للإسلام ان ينطلق من جديد من بقعة جغرافية معينة لابد وان تستجيب هذه
البقعة للروح العالمية التي يختزنها الإسلام، وان تتحلى بهذه الروح كأصل وتعيش
خصوصيتها المحلية كإمتداد، ويتخذ منها انسانها موطنا لقدمية حتى تعتدل قامته عليها
ويجول ببصره وروحه وأفقه الاخلاقي والفكري من حول العالم، ويتعبأ من خلال ذلك
بروحية القيادة العالمية. وتكون له همة بهذا المستوى الصارخ وان كان واقعه الفعلي
اقل من ذلك بكثير. فبالطموح الكبير والعزيمة القوية والاستعداد الروحي والتربوي
يتاح للانسان انجاز ما قد يبدو في الوهلة الاولى ضربا من المستحيل، وبالخواء
والخوار الضعف يفقد الانسان ما يحوزه فعلاً من امتيازات كبيرة.
ان الرسالة العالمية تتطلب مجتمعا ودولة يقومان على اساس ان يكون الحماس الاول لها
بوصفها المحور والقاعدة التى يقوم عليها ذلك المجتمع وتلك الدولة.
فالإسلام يبحث عن مجتمع رسالي ودولة رسالية، ومن الطبيعي ان تنازع القومية في ذلك،
وتحرص على جعل الحماس الاول لها لا لغيرها، والواجب في مثل هذه الحالة السعي
لترويضها وتهذيبها وتوجيهها، لان من شأن الاستجابة لها ان تتسرب القومية الى مضمون
الدولة. وتصبح تلك الدولة متناقضة بين شعار إسلامي رسالي عالمي، ومضمون قومى اناني،
وعندما تخضع القومية لتهذيب الإسلام وتوجيهه لابد وان يقال لها: ان الإسلام يرعى
المعنى القومي الذي تبحثين عنه بنحو افضل من رعايتك له، وان ما يحققه الإسلام منه
افضل مما تحققيه له. انتِ تحولين المعنى القومي الى مثل اعلى وتدورين من حوله
وتقدمين له النذور والقرابين، وهذا يؤدي الى تجميد المحدود والحيلولة دون كماله
وارتقاءه في صورة ما ينسج له من الوهية كاذبة تستغني بالعجب والغرور والانتفاخ عن
التطور والارتقاء الحقيقي، بينما يقدم الإسلام خدمة حقيقية لهذا المعنى حينما يضعه
فى موقعه المناسب مع حجمه ويقول له: انطلق نحو الكمال عبر التبعية للمطلق سبحانه
وتعالى. ونحن حينما نعطي الحماس الاول للإسلام، فإنما نعني بذلك اعطاءه لهذا المطلق
سبحانه وتعالى الذي يفيض كما لا على من حوله من المعاني المحدودة، وحينما نشجب
اعطاء الحماس الاول للقومية فلكى لا نغري بهذا المعنى المحدود، ونحول دون تحويله
الى عملاق كاذب يخدع نفسه والمؤمنين به ويقودهم باتجاه الصراع مع سائر العمالقة
الكاذبين من امثاله فى القوميات الاخرى، فتتحول الساحة البشرية الى ساحة صراع بين
الالهة الكاذبة المنتفخة.
ان عنصر الحماس شاخص مهم في تعيين درجة استقامة الانسان فى خط معين، فان اعطى حماسه
للارض فهو وطني، وان اعطى حماسه لابناء وطنه فهو قومي، وان اعطى حماسه للإسلام فهو
في الخط العالمي المقابل للوطنية والقومية، ومن السخف الاعتقاد بأن يعطى الانسان
حماسه لاكثر من محور واحد في آن واحد، وقد انكر القرآن الكريم ذلك بشدة اذ قال
تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه»[59] نعم الشيء الصحيح هو ان نزعة
الكمال لدى الانسان تحثه بإتجاه الاشتمال على كل المطالب الضرورية لحياته. غير ان
ذلك لا يعني القبول بكل المحاور المطروحة وتقديم الولاء والحماس لها جميعا، فإن ذلك
تناقض يورث النفاق، وانما الترجمة السلوكية الصحيحة لهذه النزعة تتمثل في اكتشاف
المحور الصحيح الذي اذا اخذ الانسان به تمكن من استيعاب سائر المحاور، وقابليته هذه
على استيعاب الاخرين يمكننا ان نجعلها دليلا على مصداقية وحقانية المحور الذي يتحلى
بها، وهى السمة التى يتمتع بها الإسلام، ويمتاز بها على ما سواه. وحينئذ فالحماس
للإسلام هو الحماس للوطنية الصحيحة والقومية الصالحة.
العوامل المشجعة على سلوك النهج العالمي
ومما يشجع الدولة الإسلامية المعاصرة على سلوك النهج العالمي في حقول الدولة
والمجتمع عوامل عديدة ومهمة من شأنها تذليل الكثير من الصعوبات والمعوّقات التي
ربما نظر الانسان اليها وحدها فأورثته نظرة متشائمة بشأن امكانية قيام تجربة عصرية
ذات مضمون عالمي حقيقي. ولكنه الى جانب ذلك عليه ان ينظر الى العوامل المشجعة لتكون
لديه نظرة واقعية متوازنة، وهي:
1. الاتجاهات الجديدة للانسان المعاصر
لقد غدا واضحا ملموسا لدى اكثر المتتبعين ان الانسان المعاصر بدأ يميل نحو
المعنويات بعد ما قضى دورة من حياته في مادية حادة، ومن الطبيعي ان يترجم هذا الميل
بنزوع نحو الدين الصحيح المتمثل بالإسلام، وهو، اصبح يشكل ظاهرة ملموسة على مستوى
المجتمع الانساني ككل، رغم كل ما يواجهه الإسلام من حملات تشويهية وقمعية وحروب
ظالمة لا هوادة فيها. كما غدا واضحا ايضا ان الانسان المعاصر بدأ وبفضل عوامل عديدة
ينبذ العنصرية ويميل نحو التآخي الانساني والروح العالمية المنفتحة. وما الحكاية
الاستعمارية الجديدة عن العولمة والقرية العالمية الواحدة، الّامحاولة امريكية
لاستثمار هذا الميل واستغلاله، وهذا ما يوفر فرصة سانحة وارضية ثقافية وسياسية
كافية لتحرك إسلامي باتجاه العالمية، واخذ زمام هذه المبادرة وفضح المحاولة
الامريكية الموسومة بالعولمة، بوصفها محاولة كاذبة لا تقصد احتذاء المعنى العالمي
وتطبيقه في الحياة الدولية وانما تقصد اخضاع العالم للهيمنة الامريكية، بما يعني في
النتيجة ركوب الموجة العالمية المعاصرة لصالح المعنى القومي الامريكي.
2. القدرة الانتشارية للإسلام
ومما يشجع على سلوك النهج العالمي ايضا قدرة الإسلام العالية على الانتشار والنفوذ،
فما ان يلامس شعاع الإسلام شغاف القلوب حتى تتفتح امامه، وتتلقفه النفوس، والشاهد
التاريخي على ذلك ان الشعوب والقوميات التى دخلت في الإسلام بنحو متعاقب فى اكثر
بقاع آسيا وأفريقيا قد أقبلت عليه بمجرد أن تعرفت عليه وارتفع الحاجز السياسي الذي
يحول بينها وبينه. فيوم كان هذا الدين ضعيفا كان مشركوا مكة يحاربوه بقسوة وشدة
ويوم اصبح قويا بعد فتح مكة قابل قسوتهم بالعفو عنهم جميعا الا من حمل السيف ضده،
واطلق لهم الامان وجعل بيت ابي سفيان من مراكز هذا الامان على الرغم من ان هذا
الرجل كان من الدّ اعداءه ولم ترتفع راية ضد الإسلام الا وكان وراءها. والمؤرخون
يؤكدون على ان العرب الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية في سنتي الصلح اكثر
من الذين دخلوا فيه فى العشرين سنة السابقة عليه.
ودخلت فارس في الإسلام بعد معركة لم تستهدف الفرس كشعب وانما استهدفت الجهاز الحاكم
فيها. وما كاد زمنا طويلا يمر على إسلام الفرس حتى برعوا في العلوم الإسلامية
واصبحوا يمثلون القسم الاعظم من حملتها. وهذه ظاهرة غير مألوفة فإن الفاتحين يجب ان
يكونوا اكثر عطاءاً لثقافتهم من اهالي البلاد المفتوحة الذين يتوقع منهم ان يدافعوا
عن ثقافتهم القومية الخاصة بهم. فكيف اهمل الفرس ثقافتهم الخاصة بهم واصبحوا من
ابرز حملة ثقافة الفاتحين؟، لقد انفتحت الشخصية الفارسية على الإسلام انفتاحا نفسيا
وفكريا كاملا، ولم تبقِ على حجاب في اعماقها يفصلها عنه، مع ان ذلك يمثل عملية
حضارية هي بالنسبة للفرس اصعب بكثير مما هي للعرب وذلك من جهتين:
الاولى: العنصرية الشديدة التى كانت تحكم النظرة الفارسية تجاه العرب وبالعكس.
بينما العرب لم يعانوا من حجاب قومي يمنعهم عن الإسلام.
الثانية: ان الفرس كانوا اهل حضارة وثقافة وفلسفة وكان دخولهم فى الإسلام يحتاج الى
عمليتي هدم وبناء كاملتين. بينما الجاهيلة العربية لم تكن تمثل حضارة وفلسفة، ولم
يكن دخول العرب فى الإسلام يحتاج الا الى عملية هدم جزئية وعملية بناء كاملة.
فما هو نوع القوة التي ازالت عن الفرس هاتين الصعوبتين الى الحد الذي جعلهم مستعدين
الى هجر حضارتهم وثقافتهم ونظرتهم العنصرية الراسخة تجاه العرب والدفاع عن ثقافة
الفاتحين بما في ذلك خدمة اللغة العربية اكثر من اهلها؟ هل هناك سيف يستطيع أن يصنع
ذلك ام هو سيف الحقيقة الإسلامية التي تشب جذوتها في النفس منذ الوهلة الاولى
للتعرف عليها. ومن الذي فتح بلاد الاندلس غير البربر الذين كانوا من ابرز من تثقف
بالإسلام وحرص عليه في شمال افريقية وبلاد الاندلس؟ فهل دخل البربر في الإسلام عن
طريق القوة؟ ام بفضل القدرة الانتشارية للإسلام؟.
ويمثل دخول اندونيسيا ومناطق اخرى من شرق وجنوب شرقي آسيا في الإسلام عن طريق
الدعاة من التجار المسلمين شاهد لانظير له على دين ذى قدرة انتشارية مذهلة. وهل
دخلت افريقية في الإسلام بقوة السيف ام بقوة الاقناع؟.
ويُعد دخول المغول والتتر في الإسلام حالة من عجائب التأريخ، فهؤلاء الذين نزحوا من
اوطانهم ليكونوا اقسى غزاة عرفهم التأريخ الانساني ما ان لامس الإسلام شعورهم
واحساسيسهم حتى انقلبوا على جاهليتهم ودخلوا فيه، وقد اثبتت وقائع القرن العشرين،
خاصة العقود المتأخرة منه، ان الجاذبية والقدرة الانتشارية خصوصية مستمرة في
الإسلام، فرغم مادية القرن العشرين الحادة، وفقدان المسلمين لروحية الدعوة،
وتقاعسهم عن هذه الوظيفة، الاان شعاع الإسلام قد نفذ الى قلوب الملايين فى اوربا
وافريقيا ومناطق من آسيا بدون وسيط، اكثرهم من اوساط ثقافية رفيعة، ومنهم رموز
فكرية معروفة على مستوى عالمي، كالفيلسوف الفرنسي المعروف روجيه غارودي.
3. قابلية المجتمعات الإسلامية على تجاوز المعنى القومي
صحيح ان المجتمعات الإسلامية قد اُشربت في تأريخها المعاصر المعنى القومي بنحو
ابعدها عن المعنى العالمي الذي ينشده الإسلام، ولكننا من ناحية اخرى يجب ان نلاحظ
ان عمق الإسلام فى هذه المجتمعات لم يسمح للقومية بتجاوز السطح، وما دام العمق
سليما فبوسع هذه المجتمعات ان تتجاوز الاثار السطحية التي تركتها القومية عليها
يوما ما. فالمجتمعات التي تتربى عقائديا وروحيا على تقديس نقطه جغرافية خارج حدودها
الاقليمية، وهي مكة المكرمة، وتتخذ منها قبلة في صلواتها اليومية، وحرما الهيا
امنا. بحيث تكون هذه النقطة اكثر حرمة وقدسية من اوطانها، هذا من جهة. وتتربى من
جهة ثانية على عقيدة تنصهر بين جنبتيها كل عصبيات الارض والدم والقبيلة، وتنمو بدلا
عنها قيم الفضيلة، فمثل هذه المجتمعات لا يمكن ان تعيش المعنى القومي في حياتها
كحالة عميقة، ولا يمكن ان يختفي المعنى العالمي عن ضميرها الداخلي، واذا ما القينا
نظرة عابرة على تأريخ هذه المجتمعات وجدناها تتبع القيادات التي تؤمن بها بغض النظر
عن انتمائها القومي والاقليمي، كما نجد هذه القيادات تبادر الى تبني قضايا إسلامية
خارج دائرة انتمائها القومي والاقليمي، بحيث نستطيع ان ندعي اليوم أن شخصيات
إسلامية كالميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين، في العراق والشيخ حسين
النائيني والسيد أبوالحسن الأصفهاني قائدي الحركة الاستقلالية في العراق اصدق في
ميزان الوطنية العراقية من عبد المحسن السعدون وياسين الهاشمي واضرابهما من دعاة
الوطنية والعروبة في العراق، كما ان شخصية إسلامية كالشيخ مهدي الخالصي اصدق وطنية
في ميزان الوطنية الايرانية من امثال رضاخان ونجله محمدرضا شاه، كما ان شخصية من
قبيل عبدالحميد الثاني اصدق في الدفاع عن فلسطين من كثير من دعاة الوطنية
الفلسطينية.
وتمثل مسألة مرجعية التقليد والفكر ميداناً بارزاً يتجلى من خلاله المعنى العالمي
الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية في اعماقها، فسيد قطب المصري اتخذه المسلمون في
الهند وباكستان وتركيا فضلاً عن مناطق افريقيا مرجعاً فكرياً بارزاًلهم، ولعب أبو
الاعلى المودودي الدور نفسه، هذا على الصعيد السني، اما على الصعيد الشيعي فالظاهرة
نفسها تتكرر بنحو اكمل وابرز، فالمرجع الديني الشيعي يُقلّد في الامور العبادية
ويتبع في الامور السياسية والفكرية من قبل العرب والفرس والترك والهنود
والباكستانيين والتبت بغض النظر عن انتمائه القومي والاقليمي، وكل من طالع التاريخ
الشيعي الحديث يعرف الدور الواسع الذي لعبه المحقق الكركي والشيخ جعفر كاشف الغطاء
والشيخ موسى كاشف الغطاء والشيخ مهدي الخالصي وهم مراجع عرب في الواقع الايراني،
كما يعرف دور أمثال السيد اليزدي والميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد أبوالحسن
الاصفهاني والسيد هبة الدين الشهرستاني - وهم مراجع وفقهاء فرس - في الواقع
العراقي. ومن يعرف ان كربلاء والنجف تعيشان في ضمير الشيعي الهندي والباكستاني
والايراني اكثر مما تعيشه كلكتا وإسلامآباد وشيراز فيه، يستطيع ان يقدر مدى قدرة
المجتمعات الإسلامية على تجاوز المعنى القومي والالتفاف حول المعنى الإسلامي
العالمي. وحجم الارضية الاجتماعية المساعدة لبناء دولة عالمية تتجاوز المعنى الوطني
والقومي في بنيتها الدستورية والسياسية والحقوقية والاجتماعية.
خطوات نحو الدولة العالمية
يمكننا تقسيم الخطوات اللازمة على طرق الدولة العالمية المنشودة الى ثلاثة اقسام
هي:
1. خطوات على الصعيد العقائدي
ذكرنا انفاً ان الدولة الإسلامية هي الدولة العالمية الوحيدة بالمعنى الحقيقي
للعالمية، بحكم ان التوحيد هو المنشأ الوحيد لها، وبالتالي فلا عالمية الا عالمية
الدولة التوحيدية، وهذا يتطلب بطبيعة الحال من الناحية السياسية فضلاً عن العقائدية
ان تكون الدولة الإسلامية وفية لقاعدتها العقائدية، حريصة عليها حارسه لها مدافعة
عنها، كما تدافع كل دولة عن اساسها ومبدأها الذي تقوم عليه. وعليها في الوقت نفسه
ان تسعى لتعميق هذه العقيدة في الواقع الاجتماعي الذي تقوده ما دامت أنهاقد راهنت
على دور الإسلام في حل المشكلات الاجتماعية المختلفة للانسان في كل زمن ومكان، واي
فتور في ذلك من شأنه ان يخل بسمتها العقائدية الايديولوجية ويؤدي في النتيجة الى
تسلل مفاهيم اجنبية عنها الى داخلها، بحكم ان الوجود لا يتلاءم مع الفراغ. فلا يفرغ
مكان من شىء الا وحلّ فيه شىء آخر. على غرار قاعدة الاواني المستطرقة التي تنطبق
على عالم الفكر كما تنطبق على عالم المياه، وليس غريباً من الإسلام ان يتشدد في
قاعدته العقائدية، كما ليس غريباً من الماركسية ذلك، وليس غريباً من النظم
اليبرالية العلمانية أيضاً ان تشجب كل محاولة للتطاول على اساسها الذي تقوم عليه،
وتعاقب على ذلك بشدة، وتشدّد الإسلام في قاعدته العقائدية المتجسد في موقفه من
الارتداد ومن الكفر يُعد من جملة مئات الشواهد الدالّة علىان الإسلام لا يعتبر
نفسه مسألة فردية، بل هو منهج شمولي للحياة الاجتماعية والسياسية أيضاً وفي هذا
الاطار تأتي عدة نقاط أساسية هي:
أ. ان للعقيدة دور متقدم على الشريعة في مضمار الحضارة والنظام الاجتماعي المطلوب
من وجهة نظر الإسلام، فالعقيدة تقدّم للإنسان الرؤية الكونية الصحيحة التي توجه
المجتمع نحو المفاهيم الاساسية الصحيحة الحضارة، كالعدل والمساواة والعلم والاخلاق
والعالمية، وتهىء بذلك الإرضية الفكرية والروحية اللازمة لتطبيق الشريعة
الإسلامية. ولذا قلنا ان العالمية لانشأة واقعية لها الا في ظل التوحيد، كما ان
العدل والاخلاق والمساواة وسائر المفاهيم الاساسية للحضارة لا نشأة واقعية لها
الافي ظل التوحيد، والمنكرون لذلك من اصحاب الايديولوجيات الاخرى غير التوحيدية
انما ينكرون الفرع ولا ينكرون الاصل، بل ان انكارهم مبني على التسليم بالاصل
المتمثل بوجود دور أساسي تلعبة العقيدة الصحيحة في توجيه المجتمع نحو المفاهيم
الاساسية للحضارة، انما يقع البحث بين الفريقين في ان العقيدة الصحيحة التي تلعب
هذا الدور هل هي الدين ام الرؤية المادية المقابلة له؟
ب. ضرورة طرح الإسلام من الزاوية العقائدية الإنسانية المزدوجة.
هناك ثلاثة مناهج في اسلوب طرح الإسلام هي:
1. المنهج التجريدي الذي يناقش موضوعات العقيدة من زاوية نظرية محضة منفصلة عن
الزاوية الانسانية وعلاقة العقيدة بالانسان، ومتجاهلة للإتجاه الانساني في العقيدة،
وهذا هو المنهج المتبع في علم الكلام منذ نشأته وحتى الان. 2. المنهج الانساني الذي
يحاول ان يكيّف الإسلام ويفسره بنحو مطابق لما يريده الانسان. 3. المنهج القرآني
الذي يطرح العقيدة من زاوية سماوية مقرونة برؤية انسانية. المنهج الاول قاصر عن
الايفاء بالغرض الانساني من العقيدة، بما يحوّلها في النتيجة الى حالة منفصلة عن
الحياة، وهو من جملة العوامل التي ادّت الى اقصاء الإسلام بمعناه الشمولي والاصيل
عن الواقع الانساني، والمنهج الثاني يحوّل العقيدة الى العوبة بيد الانسان يكيفها
كيفما شاء فتفقد اصالتها السماوية ومعناها الالهي الذي لاقيمة لها بدونه.
والمنهج الثالث هو المنهج الصحيح الذي نلمسه بوضوح في خطابات القرآن الكريم والسنة
النبوية، حيث تقرن المطالب العقائدية بالمطالب الانسانية الملحّة. ففي القرآن
الكريم نقرأ:
«وما أرسلناك الا رحمة للعالمين»،[60] «و لو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما انزل
اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم»[61]، «و لو ان اهل القرى أمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض»[62]، «و ان لو استقاموا على الطريقة
لأسقيناهم ماءاً غدقا»[63]، «ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»[64] «و اذن في
الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم»[65]
والامر نفسه يتكرر في السنة النبوية. والشواهد القرآنية تغني عن تكرار الشواهد
النبوية.
ولهذا الاقتران معنى ومغزى عميق يتصل بمقولة الإسلام القائلة بصلاحيته لكل زمان
ومكان، فإن مقتضى هذه المقولة ان يكون الإسلام مطلباً ملحاً تتوقف سعادة الانسان
عليه، وبنحو يتيح لنا ان نفسر وبنحو دائم وشامل شقاء الانسان في حالاته واماكنه
وازمنته المختلفة على اساس ان السبب هو غياب الإسلام عن متن الحياة.
فنقول للمجتمع المصاب بالفقر، والاخر المصاب بالتخلف، والثالث المصاب بالأميّة
والرابع المصاب بالاستبداد، والخامس المصاب بالتمييز العنصري، والسادس المصاب
بالتناحر الداخلي، والسابع المصاب بتفشي الجريمة والانتحار، والثامن المصاب بانحلال
الاسرة، والتاسع المصاب بظلم الحكام له، والعاشر المصاب باعتداء الاخرين له، نقول
لهذه المجتمعات جميعاً: ان الإسلام خشبة الخلاص لكم جميعاً.
ولكي يكون كلامنا هذا حقيقة ملموسة ومبرهنة لابد وان يكون واقعياً ومصاغاً بإسلوب
منطقي عميق ومشفوعا ببيانات وادلة كافية. بحيث نستطيع من خلال ذلك ابراز المعنى
الانساني للإسلام في حياة كل واحد من هذه المجتمعات، او بتعبير آخر، تستطيع كل هذه
المجتمعات ان تلمس المعنى الانساني للإسلام في حياتها، وتتأكد من حاجتها اليه،
فوجود هذا المعنى امر حتمي، والبحث عنه وابرازه وظيفه إسلامية انسانية.
أن العقائد سواءاً كانت ارضية تعود في نشأتها الى الانسان. او سماوية تعود في
منشأها الىالله سبحانه وتعالى. لابد وان يكون لها مدلول انساني، فإن كانت ارضية
فهي ناشئة من ظروف الانسان ومعبّرة عن تطلعاته ورغبته في التوصل الى حياة افضل،
وان كانت سماوية فهي تجسد رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان وحبّه له وحرصه على
ايصاله الى ساحل السعادة، وهذا مما يقطع به المؤمن في اصل العقيدة الإسلامية سواء
اتضح له هذا المدلول الانساني بنحو تفصيلي او بقيت تفاصيله مجملة مكنونة في طي
الغيب.
والانسان يتعامل مع العقائد تارة عقلياً من زاوية الدليل والبرهان، واخرى حسياً من
زاوية ما تحققه هذه العقائد من اغراض وما تقدمه من عطاء وحلول لمشاكل الانسان في
حياته اليومية. ومهما تكن هذه العقائد واضحة واكيدة من زاوية الدليل والبرهان، فان
غموضها من الزاوية الانسانية يجعلها مورد شك وترديد. او على الاقل نقطة غير فاعلة
وغير مشعة في النفس. والعقيدة الإسلامية كعقيدة سماوية ليس بوسعنا ان نتوقع منها ان
تفصح عن أغراضها الانسانية بنحو تفصيلي لأن البيان التفصيلي يؤدي الى تركيز
الناحية الحسّية في الشخصية الانسانية ويتعارض مع الشأن الاساسي للعقيدة المتمثل
باجلاء الناحية العقلية وتركيز الناحية الروحية في الشخصية الانسانية. ولذا فمن
الطبيعي ان تكتفي هذه العقيدة ببيان الحد الأدنى وبنحو كلي لأغراضها الانسانية.
مثل قوله تعالى: «وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين»[66]. لكنها في الوقت نفسه تحث
الانسان المؤمن باتجاه التعقل والتدبر المفضي في النتيجة الى تصيّد الحِكم
المحتملة والاغراض الانسانية التفصيلية المتوقعة في مختلف الجهات العقائدية
والتشريعية من الإسلام، وحينما ندعو الى اكتشاف المعنى الانساني التفصيلي للإسلام
بالنسبة لكل زمن ومكان ومجتمع وحالة، لابد وان نطرح ذلك في اطار شمولي وكمنهج
اجتماعي متكامل، لأننااذا نظرنا الى الإسلام من الزاوية الفردية الشخصية نكون قد
حولناه الى هامش الحياة، والمبدأ الهامشي، سماويا كان ام أرضيا لايمكن ان يكون خشبة
خلاص لأحد من البشر، فضلاً عن الانسانية في كل ازمنتها وامكنتها.
وحينما نتحدث عن المعنى الانساني الحتمي في الإسلام لابد وان نتذكر ضرورة ان يحافظ
هذا المعنى على حجمه وموقعه، وان لايتخذ من التأكيد عليه سببا للغرور والانتفاخ،
فإن الإسلام يفرز معناه الانساني كتعبير عن الرحمة الالهية، كما في قوله تعالى:
«وما ارسلناك الّا رحمة للعالمين». فإنسانية الإسلام مستقاة من التوحيد، والتوحيد
هو النواة التي تعود كل حلول الإسلام ومعانيه الانسانية اليه، والسر الذي يجعل
الإسلام خشبة الخلاص الوحيدة للانسانية، ومن الضروري ان يحفظ للتوحيد موقعه كما
يحفظ لكل اصل دوره المهيمن على الفروع المنشعبة عنه. وان لا يطغى المعنى الانساني
للإسلام عندنا على النواة التوحيدية التي ينبع منها، لئلانقع في المنهج الانساني في
التعامل مع الإسلام، وهو ما اتضح فساده انفاً.
وحينما نتحدث عن الدولة العالمية في الإسلام فلابد وان نحسن ابراز الوجه الانساني
الضروري لهذه المقولة مع التأكيد على ان الاساس في هذه المقولة ليس هذا الوجه،
وانما الاساس هو حقانية الإسلام المستمدة من التوحيد، ومما لاشك فيه ان عملية ابراز
المعنى الانساني للإسلام في هذا المجتمع وذاك، والتعبير عنه بنحو متناسب مع الاجيال
المختلفة في كل مجتمع مع الحفاظ على الاصالة، واشباع كل متطلبات المعاصرة أمر ليس
هينا، وهو يحتاج الى حركة فكرية عملاقة تتناسب في حجمها ومستواها واصالتها مع هذا
المطلب الكبير جداً.
ج. الحذر من منزلقات المعاصرة.
الافراط في الأصالة امر مخالف للاصالاة نفسها، ويؤدي الى تكلّس الإسلام وجموده في
مرحلة معينة من التأريخ، والى التفريط بالمعاصرة، كما ان الافراط في المعاصرة يؤدي
الى التفريط بالإسلام، ومن هنا جاءت مقولة الاجتهاد في الإسلام لتوازن بين
الضرورتين ضمن معادلة دقيقة جداً.
فالاجتهاد الاصيل الواعي هو المرجعية الفكرية المطلوبة لحل كل ما يعترض الساحة
الإسلامية من اشكاليات وجدليات في كل زمان ومكان بحسبهما، ومنها ابعاد مسألة الوطن
والقومية في الإسلام والدولة الإسلامية، فمع ان اصل موقف الإسلام من هذه المسألة
واضح ومعلوم للجميع الا ان امتداداته وابعاده المختلفة في حياة المجتمع والدولة
والعالم امر يحتاج الى حركة فكرية مناسبة تعالجها معالجة عميقة متوازنه بين مطالب
الاصالة وضرورات المعاصرة. وتستخرج منها صورة حقوقية تفصيلية كافية.
د. الولاء للإسلام فقط.
في الدولة الإسلامية عنوانان متمايزان الانتماء والولاء، فالانتماء للأرض والجماعة
المحلية، الا ان هذا الانتماء واقع ارضي لا يملك قداسة وليست له قيمة ذاتية في حياة
المسلم، وبالتالي لا يستحق الولاء والتبعية والحماس، انما الولاء والتبعية والحماس
لما له قيمة ذاتية مقدسة في حياة الانسان، الارض حاجة وهبها الله للإنسان كي يعيش
عليها ويتخذها مأوى له، كما هو البيت مأوىً للانسان، ولا معنى لان يمنح الانسان
ولاءه وحماسه وتبعيته لبيته!! فإن هذا اشبه شيء بالصنمية، يصنع الانسان الصنم
بيديه ثم يتوجه اليه بالعبودية والولاء والتقديس، اننا يجب ان نبحث عن محور الولاء
في الجانب المتصل بمسيرة الانسان واهدافه ومنهجه المطلوب في الحياة وهو العقيدة،
العقيدة هي المحور الذي يستحق التقديس والولاء والتبعية في الحياة لما تقوم به من
دور في مسيرة الانسان في حياته، فالولاء للعقيدة ولاء لمصير الانسان ومستقبله
واهدافه، والارض لاعلاقة لها بذلك، انما هي من لوازم العيش والحياة، وبالتالي
فالولاء لها ولاء للوازم العيش، وما ينتفع الانسان بهذا الولاء؟ ولماذا يلهو بعشق
الارض عن عشق المصير والاهداف المرتبطة بأصل وجوده ومعنى حياته؟
العقيدة هي المحور المقدس الذي يضفي القداسة على الانسان وعلى لوازم عيشه ومنها
الارض، فيصبح المؤمن مقدساً بعد ما كان في الكفر لا قداسة له، وتصبح لوازم عيشه
ومنها الارض مقدسة وتأخذ عنوان دار الإسلام بعد ما كانت تعنون بدار الكفر.
فالعقيدة ذات قيمة وقداسة ذاتية، ومن يقترب منها ويرتبط بها تحل فيه وفي لوزام عيشه
رشحات مكتسبة من تلك القداسة.
وفي ضوء ذلك نستطيع ان نميّز بين المفهوم الغربي عن الوطنية والقومية والمفهوم
الإسلامي عنهما، فالوطن في المفهوم الغربي يمتلك قيمة ذاتية بحيث يستحق الولاء
والحماس، بينما امره في الإسلام غير ذلك، وهو ان الولاء والحماس والقيمة الذاتية
للإسلام فقط وليس للوطن الّا رشحة مكتسبة من ذلك حينما يكون جزءاً من دار الإسلام.
والمشكلة التي تعيشها الدولة الإسلامية في ظل هيمنة الغرب والمفاهيم الغربية في
العالم، مشكلة تداخل المفاهيم في أذهان الناس بحيث انهم يتحدثون عن الوطن بذهنية
مأنوسة بالمفهوم الغربي عنه ويتناسون انهم يعيشون في ظل نظام إسلامي عقائدي له
مفهومه الاخر عن الوطن، ثم يصرّون على المفهوم الغربي ويحاولون الاستدلال عليه
بشواهد من الكتاب والسنة دون علم منهم بأنهم يدافعون عن مفهوم غربي.
وحلّ هذه المشكلة يكون بإيضاح الحد الفاصل بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم غير
الإسلامية ايضاحاً كافيا واكيداً، من خلال شواخص بارزة كشاخص الحماس والولاء.
ووظيفة الدولة الإسلامية في هذا المجال تتمثل في تربية المجتمع الإسلامي على الحماس
الاكيد والولاء القاطع للعقيدة وحدها، والحذر من تسلل الوطنية والقومية الى النفوس
واختلاس ذلك منها وتحويله الى محور الوطنية والقومية، والحذر من مقولة الجمع بين
الولائين والمحورين فإنها مقولة خادعة، اذليس بوسع الانسان ان يمنح ولاءه وحماسه
لمحورين متناقضين في ان واحد، ولم يُخلق الانسان بطريقة تمكنه من ذلك، قال تعالى:
«ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه»[67] ولا مجال للجمع الاعّلى اساس ان يكون احد
المحورين تابعاً والثاني متبوعاً فإن كانت الارض تابعاً والإسلام متبوعاً فهذا هو
الحماس للإسلام والمفهوم الإسلامي عن الوطن، وان كان الإسلام تابعاً والارض متبوعة
فهذا هو الحماس للوطن بمفهومه الغربي.
2. خطوات على الصعيد السياسي
ان إسلامية النظام الإسلامي تقاس من خلال تمسكه بالإسلام عقيدة وشريعة ومدى ما يتسم
به من رسالية في معالجته لقضايا المجتمع والدولة والامة بنحو يفرز جملة من الشواخص
التي تميز حركة النظام الإسلامي واتجاهاته العامة عن الانظمة الإسلامية.
وابرز تلك الشواخص شاخص العالمية المتصل ببنية الدولة والمجتمع والذي يعني اقامة
دولة على اساس العقيدة السماوية بدلاً عن الانتماء الارضي الوطني او القومي، دون ان
يعني ذلك الغاء هذا الانتماء، بل وضعه في المحل المناسب له وعدم اتخاذه كأساس في
بناء المجتمع والدولة، والاساس هو العقيدة السماوية التي تنظر الى الارض كوحدة
واحدة، والى الانسان بما هو انسان بعيداً عن خواصه المحلية، فالدولة العالمية ليست
تلك التي تحكم العالم، وإنما تلك التي لا تجعل من الانتماء الارضي قيمة عليا
واساساً في الحياة حتى لو كانت تحكم مدينة واحدة، فانها بذلك تتخذ صورة جوهرية
مصغرة تحكم العالم، او أنهاتختصر صورة العالم في تلك المدينة.
الدولة الإسلامية بين اطروحتين
بلحاظ بعدها العالمي يمكننا تصور اطروحتين عن الدولة الإسلامية هما:
1. التفكيك بين عالمية الإسلام كرسالة سماوية وعالمية الدولة كتجربة وتطبيق،
فالإسلام بما هو رسالة عالمية لا يقف عند حد، بخلاف عالميته حينما يكون دولة، فإن
عالمية هذه الدولة لا يمكنها إلّا ان تتوقف عند الحدود الجغرافية والقومية للدول
الاخرى، وحينئذ يكون لعالمية الإسلام في رسالته حسابات، وفي دولته حسابات أخرى.
فالرسالة عالمية بنحو مطلق والدولة عالمية بمعنى نسبي هو أن تكون هذه الدولة عالمية
ترتكز الى المبدأ السماوي ولكن داخل اطارها الجغرافي والانساني الخاص بها، بحيث
تكون دولة إسلامية لذلك الاقليم فقط مفهوماً ومصداقاً، وما عداها يحمل عنوان
الاجنبي وان كان من المسلمين فرداً او جماعة او اقليماً، وقد نجد لهذه الاطروحة
انصاراً يؤيدونها بإعتبار انسجامها مع الواقع الدولي القائم على مفاهيم الوطنية
والقومية.
غير اننا ومن ناحية مبدأية لايمكننا القبول بهذه الاطروحة، صحيح ان حسابات الإسلام
كرسالة تختلف عن حساباته كدولة، ولكن هذا الاختلاف بلحاظ ما هو مستطاع ومقدور وما
هو غير مستطاع وغير مقدور، فيجب انجاز المقدور ويُصبر على تعذر غير المقدور، وحيث
ان موضوع القدرة يرتبط بالدولة اكثر من ارتباطه بالرسالة، لذا تنفصل حسابات كل منها
عن الاخر من جهة القدرة ويبقى لهما حساب واحد من الناحية المبدأية، ذلك أن القدرة
تؤثر في الانجاز والتحقق ولا تؤثر في اصل المبدأ، فإذا واجه الإسلام امراً متعذراً
في ظل ظروف دولية معينة ،فهذا التعذر لا يؤثر في اصل النظرة الإسلامية اليه، وانما
يرفع التكليف الشرعي بشأنه عن عاتق المسلمين في مقام العمل.
صحيح ان الواقع الدولي القائم على مفاهيم الوطنية والقومية لا يسمح للدولة
الإسلامية المعاصرة بتجاوز حدودها الاقليمية، لكن هذا لا يقتضي ايجاد نظرية جديدة
مركبة من الإسلام والقومية، وإنما يقتضي انجاز الممكن وتحويل الباقي الى طموح متوثب
ومبرمج بانتظار الفرصة المناسبة للإنجاز، وربما أمكن انجاز بعض المقدمات المؤدية
اليه او المساعدة عليه.
ويمكننا ابراز الإشكال الاساسي على هذه الاطروحة ببيان ايديولوجى مفاده ان هذه
الاطروحة تؤدي الى القول بأساس جديد للدولة العالمية غير الذي ذكرناه.
فقد عرفنا الدولة العالمية هي تلك التي ترفض ان تتخذ من الانتماء الارضي أساساً
لها، وتجعل اساسها الوحيد هو العقيدة السماوية التي تنظر الى الارض كوحدة واحدة
والى الانسان بما هو انسان بعيداً عن خواصه المحلية من لون وعرق ولغة ووطن،
والمفروض اخضاع الواقع الانساني لهذا الاساس حتى تكون هناك دولة عالمية، ولا يفترض
تحقق ذلك بنحو كامل، بل يكفي تحقق القدر المستطاع منه، مع الاحتفاظ للباقي بحقه في
الوفاء له ولمقدماته مهما امكن.
بينما تقتضي هذه الاطروحة جعل الحدود الاقليمية حدّاً فاصلاً بين ما هو مستطاع وما
هو غير مستطاع، ثم تلغي غير المستطاع من حساباتها نهائياً، صحيح ان الناحية العملية
بين العاجز وبين المنكر لامر معيّن واحدة، ولكن الفرق النظري والعقائدي بينهما واضح
ومهم، فالعاجز لا زال وفياً لمبدأه، والمنكر قد تنازل عما عجز عنه من ذلك المبدأ،
وواضح ان المبدأ امر لا يقبل التبعيض، فالايمان ببعض واسقاط الباقي يعني بنحو ما أن
هناك دولة جديدة غير الدولة العالمية التي ننشدها، واساساً آخر غير الذي آمنا به.
2. النظر للواقع كنواة لما هو مطلوب، وانطلاقة اولى على الطريق الانساني الجديد
وعدم الاعتراف بالقومية ولا الوطنية كمبدأ وكقيمة حقوقية وان اضطرتنا الظروف
الدولية القائمة للعمل بها خلافاً لإرادتنا في بعض المجالات، والثبات على هذه
النظرية مهما كان المطلوب الكامل بعيداً وعسيراً.
وهذه هي الاطروحة التي تتناسب ايديولوجياً مع الاساس المذكور للدولة العالمية، وهي
التي نقصدها حينما نتحدث عن هذه الدولة بشغف. وعلى اساس الايمان بها ندعو الى خطوات
ضرورية في هذا المضمار.
وهنا خطوات ضرورية جداً نجملها فيما يأتي:
أ. ضرورة تدوين العالمية في واقع دستوري واضح ومؤكّد لايقبل الالتباس والتفاسير
المختلفة وبنحو تفصيلي يعالج كل القضايا الحقوقية ذات العلاقةعلى اساس إسلامي اصيل،
مثل موضوع المواطنة وتثبيت مفهوم إسلامي عنه لا يتجمد عند حدود سكان الاقليم بل
يتسع ضمن شروط معينة لسائر المسلمين، وموضوع القيادة العليا للدولة بإعطاء دور رسمي
لمسلمي سائر الاقاليم في ان تكون لهم نوع مدخلية فيه وان كانت مدخلية ذات طابع
تشريفاتي في ظل الظروف الراهنة. إلّا أن دستوراً إسلامياً لا يمكنه ان يتجاهل مثل
هذه الجهة بالمرّة، وموضوع واجبات الدولة الإسلامية تجاه قضايا الإسلام والمسلمين
في العالم، وموضوع واجبات المسلمين في العالم تجاه الدولة الإسلامية، بمعنى ان
يترجم شعار العالمية الى واقع حقوقي دستوري تفصيلي ثابت ينظّم العلاقات والحقوق
والوجبات المتبادلة بين الدولة الإسلامية ومسلمي العالم، كما ينظم العلاقات والحقوق
والواجبات المتبادلة بين سكان الدولة في الداخل من ابناء القوميات المختلفة التابعة
للواء الإسلام، ويعالج الموضوعات والقضايا ذات العلاقة به على اساس ما يقتضيه من
المعالجات والحلول.
ب. بعث روح الدعوة الإسلامية في المجتمع.
المجتمع الإسلامي مجتمع مسؤول تجاه الإسلام ويتعامل بإيجابية تجاه المجتمع البشري
من واقع الحرص على ايصال مشعل الهداية الالهية لكل انسان، ومن هنا فهو مكلّف بدعوة
المجتمعات غير الإسلامية الى الدخول في الإسلام والانطواء تحت لواءه، وهذه وظيفة
رسالية مقدسة لابد من تعبئة اقصى الطاقات من اجلها، ولابد من أن تنهض بها كافة الا
جهزة الثقافية والدبلوماسية والا علامية والسياسية ذات العلاقة بها من اروقة الدولة
والمجتمع.
ويسا عدنا على انجاز هذه المهمة ما يتحلى به الانسان المعاصر من استعداد
كافٍللتغيير باتجاه المعنويات والعزوف عن حياة ذات بعد واحد هو البعد المادي، وهو
استعداد ليس بوسع دين ان يتجاوب معه غير الإسلام، وفراغ ليس بوسع دين ان يملأه
غيره، والشاهد على ذلك الاقبال الملحوظ نحو الإسلام في العقود الاخيرة من داخل
اوربا، وتمايل عدد من القمم الفكرية الغربية نحوه.
ويسا عدنا على ذلك ايضاً القدرة الانتشارية الواسعة للإسلام المتجلية في شواهد
تاريخية كبيرة وقاطعة ابرزها الشاهد الاندونسي الذي يشهد بأن اكبر بلد إسلامي قد
دخل الإسلام من خلال عدد من الدعاة التجار المسلمين الذين احسنوا اداءهذه الوظيفة
فكانت نتيجة عملهم دخول الشعب الاندونيسي في الإسلام، نعم عدد من الدعاة التجار لا
العلماء، ولم يسجل التاريخ ان الإسلام وصل الى نقطة ثم انحسر عنها، وما حصل في
الاندلس لم يكن انحساراً للإسلام وانما استئصالاً دموياً للمسلمين.
إن الانسان الواثق من نفسه الثابت على مبدأه هو الوحيد القادر على تفهم مدى ايجابية
هذه الوظيفة وقدسيتها، والانسان الذي يخضع لمقولات الاخرين ويذعن امامها بإستلاب لا
يستطيع ان يدرك المغزى الحضاري لها.
وحينما لا يشعر المسلم بحرارة تجاه وظيفة الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين فهذا
يجسد مدى احتياجه الى اعادة تشكيل شخصيته من جديد طبقاً للمواصفات القياسية
المطلوبة للشخصية، ولو كان المسلم المعاصر يملك شخصية بهذه المواصفات لوجدناه يتمسك
بهذه الوظيفة لا بما هي وظيفة شرعية فقط، وانما بما هي اسلوب امثل لدحض الغزو
الفكري الغربي الذي يتعرض له العالم الإسلامي منذ قرن من الزمن ايضاً، فكما يعمل
الغرب على كسب الانصار والمؤيدين له من بين المسلمين، فلماذا لايعمل المسلمون على
كسب الانصار والمؤيدين لقضاياهم ودينهم من بين الغربيين؟ وكما يعمل الغرب باتجاه
تغريب المسلمين وفرض نمطه الحضاري عليهم فلماذا لا يعمل المسلمون باتجاه اسلمة
الغرب؟ بل لماذا لا يتعقلون هذا المعنى ويرونه ضرباً من الخيال؟
لقد حدّثنا التاريخ ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تناول معولاً في غزوة
الخندق وضرب به صخرة فتهشمت فقال: «لقد فتح الله عليّ في ضربني هذه كنوز كسرى
وقيصر»[68].
وهذا درس نبوي يفيد ان الشخصية السوية هي التي تحوّل حتى الخيال الى ثقة عارمة
بالنفس، بينما الشخصية السقيمة تتهم نفسها بالخيال في ابسط الممكنات.
ح. ضرورة مكافحة المعنى القومي المرفوض في حياة المجتمع الإسلامي.
ومن الخطوات الضرورية التي لابد للدولة الإسلامية ان تخطوها على طريق انجاز وتجسيد
عالميتها مكافحة الشعور القومي والحيلولة دون تغلّبه على الشعور الإسلامي في
المجتمع، فالإسلام ليس ضد القومية بما هي تعبير طبيعي عن الذات، وانما هو ضد
القومية حينما تطغى وتريد ان تكون مثلاً أعلى وقيمة حاكمة في المجتمع، فالشعور
القومي كما هو الشعور الوطني تعبيران عن شعور الانسان بذاته وبنفسه، واذا اعتبرنا
الإسلام مضاداً لأصل الشعور الوطني والقومي فإنما نعتبره بذلك مضاداً لشعور الانسان
بذاته، وهذا امر لا يمكن نسبته الى الإسلام. والنسبة الصحيحة هي أن الإسلام جاء من
أجل الانسان - فرداً أو قومية - صيانة لوجوده من المفاسد والاخطار والمنزلقات،
ومقتضى ذلك ان يكون الإسلام حاكماً والانسان محكوماً، وكل تمرد وطغيان من الانسان
على حاكمية الإسلام المفترضة سماوياًعليه امر مرفوض من قبل الإسلام، فالحاكمية هي
الحد الفاصل بين ما هو مقبول وما هو مرفوض من القومية، فالقومية المقبولة هي التي
لا تطمع بالتحول الى قيمة حاكمة، والقومية المرفوضة هي التي تسعى بهذا الاتجاه
وترفض حاكمية الإسلام عليها، قال تعالى:«أفرأيت من اتخذ الهه هواه»[69] والاله بهذه
الآية المحور الحاكم في النفس والمجتمع، فإن كان الاله هو الله فالنفس تذعن له
والمجتمع يخضع له، وان كان هو الهوى فالنفس لاتريد الله ولا تقبل بحاكميته سواء
كانت هذه النفس فرداً أو أُمة، فحينما يرفض الفرد حاكمية الله عليه فلاجل حلول
حاكمية الهوى في نفسه، وحينما ترفض الأمة حاكمية الله عليها فلاجل حلول حاكمية
الهوى في نفسها وحاكمية الهوى في الامة تتجلى من خلال مظاهر عديدة من ابرزها
القومية، فجدلية الإسلام والقومية ليست جدلية وجود وانما هي جدلية حاكمية.
و حينما نتحدث عن دولة إسلامية وحاكمية الإسلام فلابد وأن نتحدث عن سبل مكافحة
البدائل التي تتحدى الإسلام في حاكميته، وفي مقدمتها القومية ولابد من بيان الحد
الفاصل بين شعور قومي مقبول وشعور قومي مرفوض من خلال مؤشرات وعلامات واقعية
وملموسة في كل من الحالتين، ثم بيان سبل معالجة ومكافحة الشعور المرفوض، بل سبل
تجفيفه والحيلولة دون ظهوره وسبل معالجة آثاره في الحياة بمجالاتها المختلفة،
كمحاولات التفسير القومي للسلوك الاجتماعي، والواقع التاريخي والحضاري ومحاولات
احياء الجاهليات السابقة على الإسلام وتركيز الانتساب اليها بدلاً عن الإسلام.
3. خطوات على الصعيد الثقافي
إذا اعتبرنا الثقافة مقولة محلية تجسد خصوصيات مجتمع معين فيما يتعاطاه من افكار
ومفاهيم ورسوم اجتماعية وعادات وقيم، فلابد للدولة الإسلامية ان تقسمها الى ثلاثة
اقسام، وتتعامل مع كل قسم منها بما يناسبه. القسم الاول: الثقافة المحلية المستفادة
من الإسلام بنحو يتيح لنا اطلاق تسمية الثقافة الإسلامية عليها، والقسم الثاني
الثقافة المحلية المستفادة بنحو من الانحاء من واقع جاهلي قديم أو حديث مخالف
للإسلام، والقسم الثالث الثقافة المحلية المحايدة التي لا تنتمي الى الإسلام ولا
الى مخالفيه.
القسم الاول هو الأفكار والمفاهيم والرسوم والعادات والتقاليد والقيم التي يجب على
الدولة الإسلامية اشاعتها وتبنيها كثقافة حاكمة، والقسم الثاني هو الأفكار
والمفاهيم والرسوم والعادات والتقاليد والقيم التي يجب على الدولة الإسلامية
مكافحتها بوصفها ثقافة معادية، والقسم الثالث هو الأفكار والمفاهيم والرسوم
والاعياد والعادات والتقاليد والقيم التي يباح للمجتمع فقط دون الدولة ممارستها
كثقافة من الدرجة الثانية، وذلك لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فالثقافة المحايدة
لا تكون بمرتبة مساوية للثقافة الإسلامية في مجتمع إسلامي، أما الدولة الإسلامية
فمن المفترض أن تكون دولة ايديولوجية لاتعمل ولاتطّبق ولاتروّج إلا الثقافة
الإسلامية المحضة ولا يباح لها ممارسة ثقافة محايدة، إلّا لأسباب خاصة وحالات
ثانوية.
وهنا نقاط اربع تستحق الاشارة:
أ. ان على الدولة الإسلامية أن تسخر اجهزتها الاعلامية والتعليمية والثقافية
والتربوية في مجال خدمة وترويج الثقافة الإسلامية وتعميقها في المجتمع، فالمناهج
الدراسية، والصحف، والاذاعة، والتلفزيون وسائر الاجهزة الرسمية ذات العلاقة لابد من
ان تأخذ على عاتقها بنحو مبرمج ومدروس ومتضامن مهمة تصفية الثقافة غير الإسلامية
وترويج الثقافة الإسلامية والحيلولة دون طغيان الثقافة المحايدة وتجاوزها الحد
المرسوم لها آنفاً.
ب. على الدولة الإسلامية أن تعمل على تزريق الروح العالمية في المجتمع الإسلامي
وتنقيته من النظرة المحلية المتعصبة والضيقة، وان تشجع روحية الاختلاط بين رعاياها
وسائر مسلمين العالم وتعمل على صهرهم في بوتقة واحدة بحيث يتعمق لديهم الشعور
بالامة الإسلامية الواحدة وان كانت الظروف الدولية لا تسمح لهم بالعيش على صعيد
سياسي وحقوقي واحد، وان تتجنب اطلاق وصف الاجانب على المسلمين من البلدان الاخرى،
وعليها أن تعتبر ترسيخ النظرة الايمانية الواسعة ومحاربة النظرة المحلية المادية
الضيقة ضرورة عقائدية لايمكن لدولة إسلامية أن تقوم بدونها.
ج. وفي سياق تعميق الروح العالمية في المجتمع والدولة، ينبغي تجنب طرح الرموز
الإسلامية بنحو يتبادر منه المعنى المحلي، والتركيز على الطرح العالمي الذي يبين
المكانة العالمية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه أعلى رمز في
التاريخ في مضمار التغيير والاصلاح، والمكانة العالمية لأميرالمؤمنين(عليه السلام)
بوصفه اعلى رمز في التاريخ في مضمار العدالة الانسانية، والمكانة العالمية للإمام
الحسين (عليه السلام) بوصفه أعلى رمز ثوري في التاريخ، وهكذا الامر بالنسبة لسائر
الائمة (عليهم السلام) حتى نبلغ الامام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) الذي سيكون
الخلاصة لهذه الرموز كلها.
و مانفعله بشأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يمكننا أن
نتواصل فيه حتى نطبقه على رموز المسيرة الإسلامية المعاصرة كالامام الخميني والشهيد
السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) والعلاّمة الطباطبائي بوصفهم رموزاً فكرية
وثورية عالمية النطاق والاستحقاق، ومشاريع لاصلاح المسيرة البشرية ككل.
إن الطرح العالمي لرموز الإسلام وقيادات المسلمين من خلال وسائل الإعلام ولوحات
الفنانين وكتابات الادباء وعبارات المثقفين وغير ذلك من قنوات النشر والتبليغ من
شأنه أن يكرّس ويعمق الروح العالمية في المجتمع الإسلامي، اضافة الى مايحققه من
خدمة فكرية واعلامية للإسلام والمسلمين في الخارج. ومما يتنافى مع هذا الطرح ان
تذكر هذه الرموز بإنتماء اتها المحلية كما لو كانت شخصيات وطنية على غرار حديث
الالمان عن فلاسفتهم وقادتهم ومفكريهم. فإن هذه الرموز ليست وليدة الخصائص المحلية
حتى تنسب اليها وانما هي وليدة الإسلام، ولذا فهي عالمية مضموناً وعنواناً.
د. ان منطق الإسلام هو منطق «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله»[70] منطق «لاتمنوا علىّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم
للايمان»[71]، المؤمن يذكر خدمات الإسلام له، ومنّة الله عليه، ولايفتخر بنفسه أمام
الإسلام. أو ينسب لنفسه فضلاً عليه.
وهذا المنطق يساعدنا على معالجة بعض الممارسات التقليدية المستوردة من انظمة الحكم
القومية، كالإفتخار بجاهليات ما قبل الإسلام والحديث بمنطق التفضل على الإسلام،
وكأن القومية الفلانية هي العامل في ظهور الحضارة الإسلامية وبالتالي فهي المتفضلة
على الإسلام، وليس للإسلام فضل على أحد.
وحينما نستنكر هذا النمط من التفكير لا نريد أن ننكر ادوار وخدمات هذه القومية أو
تلك، وأنما نريد أن نقول: أن الدولة الإسلامية مكلفة بتثقيف رعاياها ثقافة إسلامية،
ولا مانع من ذكر حقائق وطنية وقومية معينة في المجالات الاكاديمية وحتى غير
الاكاديمية المتناسبة معها، بشرط أن لا يكون هناك تكرار وتأكيد واشاعة واسعة تأخذ
معنى التثقيف بالاتجاه القومي، أو تفتح باباً من هذا القبيل في الحياة الثقافية
للمجتمع الإسلامي.
وقد علّمنا الإسلام على استقباح الافتخار حتى بما هو امر واقع، إلّا اذا توقفت قضية
الإسلام ونصرته على ذلك، وافتخارات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت
(عليهم السلام) كلها من هذا القبيل وليس فيها معنى التفضل على الإسلام. بل هي مفعمة
بذكر فضل الإسلام في ايجاد كل ذلك.
واسوأ حالة تظهر حينما تنسب انجازات الإسلام وافتخاراته في قالب قومية معينة كما لو
كانت انجازات لها وليست للإسلام، فهذه اسوأ مصادرة ونسبة من نوعها.
______________________
[1] سورة الحج / 46.
[2] سورة طه / 124.
[3] سورة الانبياء / 107.
[4] المدرسة القرآنية/145.
[5] المصدر نفسه/146.
[6] المصدر نفسه /148.
[7] المصدر نفسه /157.
[8] المصدر نفسه /158.
[9] المصدر نفسه /164.
[10] المصدر نفسه /165.
[11] المصدر نفسه /166.
[12] المصدر نفسه /169.
[13] المصدر نفسه /176.
[14] المصدر نفسه /184.
[15] المصدر نفسه /185.
[16] المصدر نفسه /ص228 - 229.
[17] التربية والنظام الاجتماعي/ ص15.
[18] نظام الإسلام/ ص20.
[19] المصدر نفسه / ص21.
[20] الإسلام والقومية / ص65.
[21] العالم في القرن العشرين / ص34.
[22] الإسلام والعقل / ص210.
[23] الانسان العقائدي/ ص183.
[24] نظام الحكم في الإسلام/ ص57.
[25] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين/ ص228.
[26] الإسلام والقومية/ ص78.
[27] تكوين العقل الحديث/ ج2/ ص411.
[28] الاصوليات المعاصرة / ص64.
[29] التربية والنظام الاجتماعي/ ص138.
[30] الفكر القومي/ص 23.
[31] المصدر نفسه/ ص204.
[32] المصدر نفسه /ص204.
[33] الآفات الاجتماعية وعلاجها/ ص215.
[34] فلسفة الحضارة/ ص43.
[35] الإسلام والقومية /ص24.
[36] المصدر نفسه/ ص22.
[37] المصدر السابق/ ص23.
[38] العالم في القرن العشرين /ص208.
[39] المصدر نفسه/ص129.
[40] المذاهب الكبرى في التاريخ/ص294 نقلاً عن كتاب دراسة التاريخ لتوينبي ج7
ص55.
[41] الإسلام والقومية/ص78.
[42] تكوين الدولة /ص522.
[43] ردود وحدود/ ص139.
[44] المصدر السابق/ص140.
[45] الحركة الإسلامية قضايا وأهداف/ص48.
[46] المصدر نفسه/ ص49.
[47] المصدر نفسه/ ص53.
[48] الفكر القومي/ص91.
[49] المصدر السابق/238.
[50] فلسفة اقبال / 109.
[51] اعمدة النكبة / ص62.
[52] المجتمع الإسلامي المعاصر/ص115.
[53] المصدر نفسه.
[54] المنهاج الثقافى المركزى لحزب البعث في العراق/ج2/ص16
[55] المصدر نفسه/ص36.
[56] ساعات بين الكتب/ص98.
[57] الإسلام والدعوات الهدامة/ ص158.
[58] المصدر نفسه/ ص159.
[59] سورة الاحزاب / 4.
[60] سورة الانبياء/ 107.
[61] سورة المائدة/ 66.
[62] سورة الاعراف / 96.
[63] سورة الجن/ 16.
[64] سورة العنكبوت/ 45.
[65] سورة الحج/ 28.
[66] سورة الانبياء / 107.
[67] سورة الاحزاب / 4.
[68] الكافي / ج 8 / ص 216.
[69] سورة الجاثية/ 23.
[70] سورة الاعراف / 43.
[71] سورة الحجرات/ 17.
السابق