مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الحكومة في الإسلام

الفصل الثاني: الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي

الحكومة الإسلامية تجسيد لحكم الشعب
ثمة قضية مهمة نتناولها في هذا الفصل، وهي أن المجتمع الذي يحمل أفراده إيماناً بالله، ينبغي أن تكون الحكومة القائمة فيه حكومة دينية إسلامية، تطبق التعاليم الإسلامية، وتنفذ الشريعة والأحكام الإسلامية في حياة الناس. وينبغي أن يكون على رأس تلك الحكومة شخص يتمتع بصفتين بارزتين وأساسيتين هما:
أولاً: أن يكون الأعلم بالأحكام والشريعة والفقه الإسلامي.
ثانياً: أن يتمتع بملكة ضبط النفس والسيطرة عليها من الوقوع في المعاصي وهو ما اصطُلح عليه عرفاً بـ "العدالة".
والعدالة ملكة نفسية وخصلة روحية تمكّن الإنسان من صيانة نفسه من ارتكاب الذنوب واقتراف الآثام، بيد أنها لا تعني العصمة، فالخطأ يمكن أن يصدر من الناس العاديين، ولكنها تعني عدم التعمد في ارتكاب المعصية أو الإصرار على مقاربة الذنب.
هاتان السجيتان: من الضروري توفرهما في الشخص الذي يريد تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع الإسلامي. وقد صرح دستور دولتنا بذلك بشكل واضح في باب "ولاية الفقيه"[1].
فنظام ولاية الفقيه هو الطابع المميز لدستور الجمهورية الإسلامية والصفة الغالبة على الشكل العام لمجتمعنا، أي أن "ولاية الفقيه" تُلحظ بوضوح في كل شأن من الشؤون المهمة والأساسية لهذا المجتمع، وآثارها مشهودة في أعطاف المجتمع وحناياه، وسأتحدث هنا بشكل موجز عن هذا الأمر.
الموضوع الذي ينبغي الالتفات إليه جيداً هو أن ولاية الفقيه تعني حكومة ذلك الشخص المطّلع العالم بالدين، وسلطة العارف بشؤون الدين والذين يتمتع بالعدالة أيضاً وذلك وفقاً للشرائط والصفات التي وردت في الدستور بالنسبة لفقيه الثورة وقائدها الذي يدير شؤون المجتمع ويشرف عليها.
وأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى دليل نقلي (روائي) للبرهنة على "ولاية الفقيه"، على الرغم من أن الأدلة النقلية الروائية متوفرة في القرآن والحديث، وكلها تدلل على حكومة الفقهاء والعلماء الربانيين. بيد أننا لو لم يكن لدينا أي دليل نقلي على حكومة الخبراء بالدين في المجتمع الإسلامي، فإن العقل والأدلة المنطقية تشير إلى حقيقة أنه من أجل تطبيق الأحكام الإلهية، وتنفيذ القوانين الدينية في المجتمع ينبغي أن يتصدى لذلك أشخاص يمتلكون الأهلية، والكفاءة والصلاحية اللازمة، في هذا المضمار ممن لديهم إطلاع ومعرفة بالشؤون الدينية.
وإذا كان المتصدي لذلك ـ مثلاً ـ شخص لا يؤمن أساساً بحكومة الدين فإنه لا يكون جاداً في تنفيذ الأحكام الإلهية فيما بين الناس، ولربما لا يرضى بها أساساً.
أجل إن هذا يكفي للتدليل على هذه الحقيقة دون الحاجة إلى نقل ما ورد في الآيات والروايات، وخصوصاً إذا كان الطرف المخاطَب يحمل مثل هذا الاعتقاد بضرورة تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع، ويرى أن هذا من مستلزمات الإيمان بالله وبالإسلام، إذ من البديهي للمجتمع الذي تُدار إدارته للأحكام والقوانين الإسلامية، أن يحكمه ويديره امرؤ مطّلع وعارف بهذه الأحكام.
إن إشراف الولي الفقيه على جميع المراكز الأساسية والمرافق الحساسة في المجتمع الإسلامي، أمر ضروري، وقد استجاب دستورنا لهذه الضرورة ولبّاها ـ وكما سأوضح بعد قليل ـ فإن الولي الفقيه يمارس بالفعل إشرافه ـ كما ورد في دستور الجمهورية الإسلامية ـ على جميع المراكز الحيوية والحساسة في هذا المجتمع، وله حضور فاعل ومؤثر فيها، وهذا أمر ليس بحاجة إلى دليل وبرهان، بل العجيب هو ما قد يطرحه بعض الأشخاص مما يعدّونه دليلاً على رفض ولاية الفقيه ودحضها.
وطبعاً إذا كان ثمة مجتمع ليس لديه أدنى اهتمام بالقيم الإلهية والمعايير الدينية، فإنه يرضى أن يكون على رأسه امرؤ يفتقد إلى أي من الأخلاق الإنسانية، وأن يكون الحاكم فيه شخص محترف للفن ـ مثلاً ـ أو ثري ذو أموال طائلة، ليقوم بتسيير عجلة الأمور فيه.
أما المجتمع الملتزم بالقيم الإلهية، والقائم على اعتناق عقيدة التوحيد، والنبوة والشريعة الإلهية، فإنه لا يرى بداً من القبول بأن يكون على رأسه شخص عالم بالشريعة الإسلامية والتعاليم الإلهية، وتتجسد فيه الأخلاق الفاضلة، وتتجلى فيه الخصال الحميدة، ولا يقترف الذنوب ولا يرتكب المعاصي، ولا يقع عمداً في الخطأ والاشتباه، غير جائر ولا ظالم ولا طامع في شيء من الحطام لنفسه، بل يتحرق للآخرين ويفضل إقرار القيم الإلهية على القضايا الشخصية والأمور الذاتية والمصالح الفئوية.
تنفيذ رأي الشعب
ولهذا فإن هذا الأمر قد تمت معالجته في مجتمعنا وفي نظامنا الجمهوري الإسلامي، إذ أن على رأس السلطة التنفيذية في البلاد يقف رئيس الجمهورية الإسلامية، وقد تم انتخابه من خلال آراء الشعب وعيّن في منصبه عبر تنفيذ الإمام لرأي الشعب وإمضائه، أي أنه ـ في الحقيقة ـ معيّن، وبالتالي، من قبل الإمام.
فالشعب ينتخب شخصاً من بين الأشخاص اللائقين لرئاسة الجمهورية، ثم يقوم الإمام بتنفيذ رأي الشعب بتعيينه رئيساً، أي أنه إن لم يصادق الإمام على انتخابه لن يصبح رئيساً للجمهوريـة. فالإمـام ـ وهو الفقيه العادل وولي أمر المسلمين ـ يمسك زمام الأمور بشأن تعيين أعلى مسؤول تنفيذي في البلد.
وهكذا الأمر على صعيد السلطة التشريعية "المقنّنة"، حيث يعيّن الإمام ستة من الفقهاء في مجلس صيانة الدستور، وهذا يعني حضور الإمام ـ معنوياً ـ في مجال التشريع القانوني في البلاد، فبدون تسجيل الإمام حضوره في هذا المضمار لا تكون عملية التقنين قد تمت تحت نظر الولي الفقيه وإشراف.
وهكذا الأمر في مجال السلطة القضائية، حيث يسجل الإمام حضوره "المعنوي" من خلال تعيينه رئيس ديوان القضاء الأعلى، والمدعي العام في البلاد، وهذان المسؤولان تنتهي إليهما جميع الشؤون القضائية في البلاد، وهما ـ في الحقيقة ـ نائبا الإمام وممثلاه في هذا المجال، ومن خلالهما يتم تأمين إشراف الإمام على هذا الصعيد.
إذاً، فالولي الفقيه له حضور فعال ودور أساسي في المجتمع الإسلامي، سواء على صعيد السلطة التنفيذية أو السلطتين المقنّنة والقضائية. وطبعاً فإن صلاحيات الولي الفقيه لا تنحصر في هذا الإطار، وتتجاوز ذلك بكثير؛ ففي الجيش والقضايا العسكرية، وفي إعلان الحرب وبدئها، وفي ختامها وإعلان السلم، وفي تعبئة القوى وحشدها، وفي كل الشؤون التي تعدّ من القضايا الأساسية والمهمة في المجتمع الإسلامي، نرى للولي الفقيه سلطة ودوراً وحضوراً فاعلاً طبقاً للدستور، ووفقاً للمقاييس العقلية، التي يجب أن تجري الأمور بموجبها في المجتمع الذي يتوجب قيام الحكومة الإسلامية فيه.
تجسيد المدرسة الدينية
وخلاصة القول هي: إنه في المجتمع الذي يؤمن أفراده بالله ويعتقدون بالدين والشريعة الإسلامية، ينبغي أن يكون الحاكم وولي الأمر شخص يتجسد فيه الدين والمنهج (اللذان يؤمن بهما المجتمع) وتكون حكومته مستلهمة من ذلك المنهج والدين. وطبعاً فإن حكومته تختلف عن الأنماط السائدة من الحكومات في العالم المعاصر، فهي ليست حكومة ظلم وجور وتعسف، بل هي حكومة الأخلاق والدين والحكمة المعروفة والأخوّة، فالإمام وولي الأمر يكون أخاً لباقي أفراد المجتمع الإسلامي، تربطه بهم أواصر الأخوّة ووشائج المودة.
هذه الحكومة هي حكومة ولي الأمر وحكومة الدين في المجتمع الإسلامي، وينبغي أن تتجسد بوضوح في جميع المراكز الأساسية والمرافق المهمة في هذا المجتمع، وهذا ما يتجلى بوضوح في بلدنا الآن حسب دستور الجمهورية الإسلامية في إيران كما ذكرنا، سواء في السلطة القضائية أو السلطة "المقنّنة" والتنفيذية.
هذه بحوث تمهيدية أحببت الإشارة إليها كمقدمة للخوض في هذا الموضوع، متوخياً التأكيد من خلالها على أن المسائل الاجتماعية تستمد روحها في المجتمع الإسلامي من خلال الاعتقاد بأسس كالتوحيد والإيمان بالله ويوم القيامة ورقابة الله وتحت إشراف مَن يمثل دين الله.
ويحدونا الأمل في أن يتمكن مجتمعنا الإسلامي، من التحرك نحو أهداف الإسلام العليا، وتطبيق أحكام الفقه الإسلامي بشكل كامل في كل شؤون حياته وعلى جميع الصعد، وسيكون وجود الولي الفقيه ونظام ولاية الفقيه سنداً لنا، وظهيراً للانطلاق باتجاه بسط حاكمية الإسلام ـ يوماً بعد آخر ـ في جميع مجالات، حياتنا الجماعية والفردية، وهذا هو المستقبل الذي ينبغي انتظاره والسعي من أجله.
من أهم الأمور التي ينبغي لمسؤولي الجمهورية الإسلامية الاهتمام بها الالتزام بالتقوى في هذا العالم، عالم السياسة المعاصر، إذ ينبغي أن تتجه مسيرة التحرك في المجتمع الإسلامي نحو سيادة الأحكام الإلهية، أي أن على السلطات الثلاث (المقنّنة والقضائية والتنفيذية) استفراغ كل طاقاتها، وتركيز كل جهودها، واستخدام كل صلاحياتها القانونية، كي توجه المجتمع نحو الصيغة الإسلامية المتكاملة إن شاء الله.
إن الله ـ تبارك وتعالى ـ سوف يسألنا يوم الحساب، عن موقفنا من هذه الفرصة التاريخية وكيف استثمرنا هذه النعمة، نعمة قيام الجمهورية الإسلامية، فهي نعمة فريدة وفرصة استثنائية، وعلينا أن نهيئ جواباً لمثل ذلك اليوم[2].
هل الحكومة الإسلامية حكومة شعبية أيضاً؟
كثيراً ما يطرح هذا السؤال أولئك الذين يواجهون مواضيع من قبيل الحكومة في الإسلام وآراء الإسلام في باب الحكومة، وهو سؤال يخطر في أذهان جميع الذين واجهوا اسم "الجمهورية الإسلامية". وبما أن هناك الكثير من المأثورات الإسلامية في باب "الحكومة الإسلامية" وورد الكثير من أقوال أئمة الدين وتعابير فقهاء الإسلام بشأن الدور الكبير للناس في الحكومة الإسلاميـة، كذلــك هــذا الســؤال يُطرح بصيغة أخرى وهي: كيف يمكن أن تكون الحكومة الإلهية شعبية أيضاً؟ هل أن عبارة "الجمهوريـة الإسلامية" التي تجمع بين الحكومة الإسلامية والحكومة الشعبية بعبارة صحيحة أم فيها شيء من التسامح؟
في الواقع أن لقضية التناقض المدّعى وجوده بين الحكومة الإسلامية والحكومة الشعبية سوابق تاريخية. فطيلة التاريخ الماضي كانت معظم الحكومات التي قامت باسم الدين حكومات استبدادية، كما تدل على ذلك المعطيات التاريخية، بحيث أنه لم يكن للشعب والرأي العام فيها أي دور يُذكر.
فإذا تفحصنا في السنوات القليلة، في عهد صدر الإسلام التي كان للناس فيها دور جلي وشهدت أهمية واضحة للرأي العام، نجد أن الحكومات المسلمة التي تعاقبت على الحكم في العهود المختلفة كانت من النمط الاستبدادي الذي ذكرناه آنفاً. وهكذا كانت الحكومات المسيحية في القرون الوسطى، إذ لعب رجال الديانة المسيحية دوراً مشهوداً فيها، بيد أنها كانت من أشد الحكومات التاريخية استبداداً.
لقد كانت الحكومات الإلهية دائماً ذريعة وغطاءاً يتستر به الحكام لمجاهل الرأي العام وإهمال الشعب.
في عصر صدر الإسلام، وبعد انقضاء سنيّ حكومة النبي وما بعد النبي (ص)، والتي شهدت حضوراً فاعلاً للناس، تولى الحكم خلفاء بني أمية باسم خلافة النبي، أي أنهم تظاهروا بكونهم حكومة إسلامية، إلا أنهم أقاموا ـ في الحقيقة ـ أسوأ الحكومات وأشدها استبداداً وفرضوها على الأمة. وفي هذا الصدد يروي التاريخ أن عبد الملك بن مروان، أحد خلفاء بني أمية، كان معروفاً عنه قبل وصوله إلى الخلافة أنه من جملة أهل التقدّس والاستئناس بالقرآن، لكنه حين تسلم السلطة رأى أن أوضاع المجتمع الإسلامي آنذاك وصلت حداً لا يمكن معه ممارسة الحكم دون التوسل بالاستبداد والديكتاتورية، ولذلك خطب في الناس يوماً فقال: "لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه"!!
ماذا يعني ذلك سوى الحكم الديكتاتوري القائم ـ ولو في الظاهر ـ على أساس الدين، وأن الناس لا يستطيعون في ظل هذا الحكم حتى التواصي بالحق والأمر بالتقوى.
وهكذا كان حال الحكومات المسيحية في أوروبا وروما خلال القرون الوسطى. ولا شك أنكم سمعتم بمصير كبار العلماء ومشاهير المكتشفين والمخترعين، وكيف أنهم حينما طرحوا أفكاراً لا تروق للكنيسة ولا تشبه أفكارها، حكم عليهم بالإعدام. وفي هذا الإطار حكموا على "غاليو" بالموت. إنهم يحكمون بالإعدام حتى على مَن يطرحون أفكاراً علمية تخص الأفلاك والكواكب والأرض وبقية الظواهر الطبيعية، ويحرقون بعضهم الآخر بالنار ويعذبون بعضاً منهم بأشكال العذاب.
وهكذا وصل الوضع في بلدنا إبّان السنوات الأخيرة من العهد البائد، إذ أرادوا المضي قدماً في الحكم الاستبدادي، ومع إضفاء صيغة دينية عليه بالقوة والقهر والتزوير، وحاولوا إظهار الحاكم المستبد الذي صار بُعده عن الدين حديث الناس، في كل مكان، وعاد أمراً جلياً لكل ذي بصيرة؛ حاولوا إظهاره بمظهر تأييد الدين وحمايته، وأنه رأى في المنام العباس ابن أمير المؤمنين علي والإمام المهدي صاحب الزمان (عج)!!
وفي عهد آخر، كان ادعاء امتلاك شعاع السعادة الإلهية والاتصال بالأفكار الزرادشتية ذريعة أخرى بالنسبة للمستبدين. على أية حال فإن هذه الأحداث التاريخية أدت إلى ظهور نمط من الأفكار، بين صفوف الباحثين والعقلاء، يقوم على أساس الزعم بأن الحكومة الإلهية (أي الدينية) لا يمكنها أن تكون شعبية، أي أن الحكومة الدينية حكومة استبدادية بالضرورة، وبالتالي فإنه إذا قامت حكومة شعبية في مجتمع ما، فلا مجال فيه لحكم الدين، ونتيجة لذلك فإن الكثير من العلماء والمفكرين والمؤلفين طفقوا يرَون أن هناك اثنينية وافتراقاً بين الحكومة الدينية والحكومة الشعبية، ولا يمكن الجمع بينهما البتة، وهذه فكرة سقيمة وباطلة، وثمة كثير من الأدلة على سقمها وبطلانها.
الحكومات الدينية أنجح وسيلة لمشاركة الشعب فـي إدارة أموره
إن الحكومة الدينية الإلهية ـ بطبيعتها وفي حد ذاتها ـ ليست فقط لا تتناقض مع الحكومة الشعبية، وتدخّل الناس في الحكم، وإنما هي الوسيلة الأنجح والأسلوب الأفضل لتيسير مشاركة الشعب الفعالة في إدارة أموره وتدبير شؤونه. وهذه حقيقة قائمة على العديد من الأدلة سنتعرض لها فيما بعد إن شاء الله.
ولنرَ أولاً ما هو مستوى مشاركة الشعب في الحكم في ظل الحكومات الديمقراطية، ولنعرف ما هو مدى مساهمة الناس في إدارة دفة هذا النمط من الحكومات؟ لنعِ كم تنطبق التسمية التي تنتحلها هذه الحكومات لنفسها مع الحقيقة والواقع.
وبغض النظر عن الأقوال الشائعة على ألسنة المفكرين والمنظّرين السياسيين العالميين مؤخراً والتي تؤكد أن الديمقراطية الغربية ليست هي الديمقراطية الحقيقية لأن الناس يفتقدون فيها حق الانتخاب الحر، ويخضعون لتأثيرات وسائل الدعاية والإعلام وأساليب الخداع والتهريج، والتي تسد كل طرق الانتخاب الواعي والصائب بوجوه الناس... إذا تجاوزنا هذه الأقوال الصحيحة والسديدة، وفرضنا أن ما يجري في ظل الحكومات الديمقراطية، هو فسح المجال أمام الناس ليمارسوا حق الانتخاب الحر والواعي، فهل إن ما ينفَّذ عملياً هو انتخاب أكثرية الشعب، لمن تريد وما تريد؟ أم أكثرية المقترعين والمشاركين في الانتخابات تعني (نصف الشعب زائد شخص واحد) وهذا يعني أن النصف الآخر من الشعب ناقص شخص واحد ينبغي أن يبقى مستضعفاً على الدوام وألعوبة بيد النصف الآخر ـ لأن هذا النصف الآخر يفوق عدد النصف الأول بشخص واحد مثلاً ـ باعتباره يمثل الأكثرية، وحينذاك فإن رأي نصف الشعب ورغبته وطموحاته وأفكاره لا تساوي شروى نقير؟!
وعلى سبيل المثال، إذا كان ثمة شعب يبلغ عدد نفوسه عشرين مليوناً، فلو فرضنا أنه طُلب من العشرين مليوناً إبداء آرائهم والإدلاء بأصواتهم كلهم بشأن أمر معين، وطبعاً فإن استجابة جميع هؤلاء الناس للطلب الموجه إليهم ضرب من المحال، بيد أنه لو فرضنا جدلاً أن عشرة ملايين شخص وشخص واحد أبدَوا رأيهم بالإيجاب لصالح هذا الأمر، وأن العشرة ملايين الباقين إلا شخصاً صوتوا بالسلب ضد الأمر المذكور، فالنتيجة هي أن المجموعة الأخيرة التي تقل شخصاً واحداً عن المجموعة الأولى ستكون مضطرة للانصياع والطاعة نزولاً عند رغبة المجموعة الأولى.
هذا في الوقت الذي نعلم فيه أن المقترعين والمدلين بأصواتهم يشكلون ـ دائماً ـ النسبة الأقل من سكان أي بلد، أي أنه حينما نستثني الأطفال والعاجزين بشكل طبيعي عن الاشتراك في الاقتراع والتصويت، يبقى مثلاً أربعة عشر مليون شخص مؤهلين وقادرين على المشاركة في التصويت، وهنا فإننا نجد أن هؤلاء الأربعة عشر مليوناً هم أيضاً لا يشاركون بأجمعهم في التصويت والاقتراع.
ففي البلدان الغربية الديمقراطية، تدل الإحصاءات الرسمية أن عدد المشاركين في التصويت أقل دائماً من الأشخاص المؤهلين والقادرين على المشاركة بكثير.
أما في الجمهورية الإسلامية فإن الذي حصل كان أمراً آخر، لا نظير له في العالم، ويندر حصول ما يشابهه في أي مكان آخر، إذ أن الأغلبية الساحقة والأكثرية العظمى من المؤهلين والقادرين على الإدلاء بأصواتهم قد شاركوا في الاستفتاء العام على أصل قيام "الجمهورية الإسلامية" وفي انتخابات مجلس الخبراء ورئاسة الجمهورية وغيرها..
بيد أننا نجد أن عدد الذين يدلون بأصواتهم عادة يكون أقل بكثير من عدد الأشخاص المؤهلين للانتخاب، ولنفرض أن عدد سكان بلد ما عشرون مليوناً، وعدد الذين يحق لهم المشاركة في انتخابات رئاسة الجمهورية عشرة ملايين شخص، وفعلاً صوّت 5.5 مليون شخص من المواطنين لانتخاب "زيد" لرئاسة الجمهورية بينما انتخب 4.5 مليون شخص "عمراً" فالنتيجة هي أن الـ 5.5 مليون شخص يتحكمون في مصير الـ 20 مليون كلهم، ويسمون هذا ديمقراطية وحكم الشعب لنفسه.
بينما نحن نرى أن الأغلبية الساحقة من الشعب في مثل هذا المجتمع الذي يدار ـ في الظاهر ـ بموجب النظام الديمقراطي، إما أنهم لم يُدلوا بأصواتهم وإما أبدَوا معارضتهم.. هذا هو مستوى حضور الشعب ومشاركته في المجتمعات التي تدار وفق النظام الديمقراطي.
مشاركة الشعب فـي جميع شؤون المجتمع الإسلامي
أما في المجتمع الإسلامي، فإن مشاركة الشعب وإسهامه في جميع الشؤون فهي أوضح وأكثر مما نجده في غيره من المجتمعات. فالحاكم يُنتخب ـ في المجتمع الإسلامي ـ طبقاً لعقيدة الشعب ووفقاً لآرائه، وهذا ما نجده في عهد صدر الإسلام. فالحاكم الإسلامي ـ كالنبي (ص) مثلاً ـ يحظى بتأييد الشعب قاطبة، بغض النظر ـ طبعاً ـ عن المنافقين، وجميع أبناء المجتمع المؤمنين بالإسلام يؤيدون الرسول الأكرم (ص) ويؤمنون به.
وفي دستور جمهوريتنا الإسلامية أيضاً نجد أن القائد في المجتمع الإسلامي هو الشخص الذي يحظى بتأييد الأغلبية العظمى من الشعب، وبناءاً على ذلك فإن القائد حينما يكون حاكماً لمجتمع إسلامي، فإنه يمثل تجسيداً لرأي أكثرية الشعب وتحقيقاً لتطلعاتهم.
وعلى صعيد القوانين، نجد أنه حينما يقوم مجلس صيانة الدستور بمطابقة القوانين الصادرة عن مجلس الشورى الإسلامي مع الأحكام الفقهية الإسلامية ويجد تطابقاً فيما بينها، يقوم بالمصادقة عليها، وإن وجد فيها ما يخالف تلك الأحكام فإنه يرفضها. وفي الحقيقة أن هذا يمثل تجسيداً ومراعاة للإيمان القلبي للأغلبية الساحقة من الشعب في بلدنا.
وبالجملة، فإنه في المجتمع الإسلامي تتجسد إرادة الشعب وينفّذ رأيه على جميع الصعد، سواء على صعيد السلطة المقنّنة أو التنفيذية، أو في جميع شؤون السلطة والحكم وولاية الأمر، تتجسد أكثر بكثير مما يجري في ظل الحكومات الديمقراطية. مضافاً إلى ذلك، فإننا نرى أن الحاكمين والمسؤولين في المجتمع الإسلامي يتمتعون بإيمان الشعب وتأييده وحبه. فالشعب يكنّ لهم الود والحب والإيمان، ولهذا فإنه يراهم منه وإليه، ويؤمن بأنهم خدم له ومنفّذون لإرادته وممثلون لطموحاته وآماله.
واليوم فإنكم ترَون في مجتمعنا الذي أشرقت في حناياه بعض أشعة الحكومة الإسلامية، ورشحت فيه بعض رشحات النظام الإسلامي ولله الحمد، وتلاحظون مدى إسهام الشعب وحضوره المؤثر ودوره الفاعل في تأسيس الحكومة وتشكيلاتها وفي بلورة السلطة التشريعية (المقنّنة) وأهمية مشاركة الشعب في شتى المجالات ومختلف الميادين الاجتماعية.
على هذا الأساس، فإن القول بأن الحكومة الديمقراطية والشعبية لا يمكن أن تكون ـ بالضرورة ـ حكومة دينية، أو أن حكومة الدين لا يمكنها أن تكون حكومة شعبية، مغالطة وسفسطة ليس إلا. إذ أن بإمكان الحكومة الإسلامية ـ في الوقت نفسه الذي هي فيه حكومة إلهية ـ أن تكون حكومة شعبية أيضاً. وكنموذج على ذلك، ما كان في عهد صدر الإسلام، إبّان زمن النبي (ص) والخلفاء الذين تبعوه أول الأمر، والنموذج الثاني هو حكومة الجمهورية الإسلامية، وكلتاهما حكومة شعبية، وقائمة على عواطف الشعب ووفقاً لآرائه، وتأسست عبر انتخاب الشعب وتقودها العناصر الشعبية.
وفي هذه الحكومة وهذا النظام الإسلامي، نجد أنه على الرغم من وجود إطار إسلامي عام يحدد مسار حركة الشعب، بيد أن للشعب شتى ضروب حق التصرف، ومختلف أنماط الحريات والصلاحيات.
الأصول والأحكام فـي المجتمع الإسلامي
إن أهل الحل والعقد (التقنين) في المجتمع الإسلامي وعلى الرغم من التزامهم بالأصول والأحكام الأزلية واستمدادهم إياها من الشرع المقدس، وهي متناغمة ومنسجمة مع إيمان الشعب ومعتقداته، إلا أنهم أحرار أيضاً في التصرف داخل إطار تلك الأحكام والأصول الإسلامية، وإبداع متاح لمنتخبي الشعب في السلطة المقنّنة (التشريعية) وميسور للقائمين على تنفيذ القوانين تماماً.
ومن أجل أن يتضح مدى مشاركة الشعب وإسهامه في عمل الحكومة الإسلامية، يمكننا الاستدلال بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والروايات الواردة عن الأئمة، كعهد الإمام أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر (رض)، وأسلوب حكومة صدر الإسلام وتوصيات مسلمي العهد الأول لظهور الإسلام وتصرفاتهم بشأن كيفية معاملة الجماهير المسلمة وحتى غير المسلمة، ونستطيع التمسك بتلك الأدلة في هذا المجال.
من ذلك قوله تعالى {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعفون مشرق الأرض ومغربها} (الأعراف:137)، إذ صار أبناء الشعب المستضعفون في ظل حكومة فرعون وهامان الديكتاتورية حكاماً في الأرض إثر الثورة الموسوية، تلك الثورة ذات المنطلقات الإلهية، فأصبحوا يمسكون زمام أمور المجتمع وصارت الأرض تحت تصرفهم وتخضع لإرادتهم فاستطاعوا إقامة الحكومة الإلهية.
ويقول الله تعالى في آية أخرى {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص:5).
إذاً فالحكومة الإلهية وحكومة موسى وباقي الأنبياء، حكومة شعبية في عرف القرآن، فالناس هم الحاكمون فيها لأن إيمان الشعب ورغبته هي السائدة والحاكمة في المجتمع على شكل قوانين منفذة وأحكام مطبّقة[3].
تصرفات الأنظمة المدّعية للديمقراطية مخالفة لرأي شعوبه
لو نظرنا إلى قضية مدى انطباق تصرفات الأنظمة الديمقراطية مع رأي الشعوب وإرادتها من زاوية أخرى، هي الزاوية العملية والجانب التطبيقي، لوجدنا عدم انسجام ما تمارسه تلك الحكومات والأنظمة على الصعيد العالمي مع رغبات شعوبها وآرائها.
وكدليل على ذلك، ما تمارسه الدول الغربية الرأسمالية وحتى الشرقية الماركسية من الأعمال ضد الدول الأخرى مما لا ترضى به شعوب تلك الدول، وهي ليست أعمالاً مرحلية أو مؤقتة، بل هي سلسلة أعمال تعكس النهج الدائم والسلوك المستمر لهذه الأنظمة.
فلو سئل الشعب الأميركي هل هو راضٍ عما تقوم به حكومته من التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط فماذا سيكون الجواب؟
هل يرضى ملايين النساء والرجال الأميركان بأن تنهب حكومته ثروات بلدنا المعطاء الممنوحة له من الله، وهل يرغب هذا الشعب بأن تستولي حكومته ـ ظلماً ـ على الطاقات البشرية والاقتصادية، في البلدان الأخرى عبر قيامها بإرسال الأساطيل العسكرية العظمى في المحيط الهادي والمحيط الهندي والمحيط الأطلسي، من أجل تهديد دول تلك المناطق؟!
ولو سئل الشعب الأميركي هل هو مستعد لإنفاق مليارات الدولارات على أعمال وكالة المخابرات المركزية (C.I.A) من أجل الإطاحة بالحكومات الوطنية في الدول الأخرى، كـ نيكاراغوا والسلفادور، وغيرهما باستخدام الأموال والأسلحة الأميركية، فبماذا سيجيب؟
وإذا سئل الرأي العام الأميركي عن مدى موافقته على تسخير الأموال والأسلحة والخطط الأميركية وتوظيف الخبراء العسكريين والسياسيين الأميركيين في خدمة الكيان الصهيوني الغاصب، كي يهدد الشعب السوري والفلسطيني واللبناني ويعتدي عليه فهل سيرضى بذلك؟
لو أجري استطلاع للرأي العام في أميركا حول مدى قبوله بهذه الجرائم والانتهاكات فماذا سيكون جوابه؟
لا شك في أن الجواب واضح، فالشعب الأميركي أو أغلبيته الساحقة ستعترض على كل ذلك بشكل كامل، وهذا ما حصل في حرب فيتنام، إذ أدت ضغوط الرأي العام إلى اضطرار الحكومة الأميركية لسحب 500 ألف جندي أميركي من فيتنام، وترك النظام الفيتنامي العميل وجهاً لوجه مع الشعب الفيتنامي المناضل ضده...
لو سُئلَت الشعوب عن قبولها بممارسات حكوماتها وقرارات أنظمتها، فإنها ستعلن رفضها لها بالتأكيد. فالدول الاستكبارية الشرقية والغربية حينما تدخل البلدان الأخرى تحتل أراضيها، وتهدد حكوماتها وتقمع شعوبها، هل تقوم بهذه الممارسات العدوانية مؤقتاً، أم أنه النهج الدائم الذي تسير عليه الاستراتيجية التي تلتزمها؟
إن معنى كون هذه الدول دولاً كبرى هو قيامها بهذه الممارسات، وإذا لم تقم القوى الكبرى والمتسلطة بهذه الأعمال ولم تعتدِ على بقية البلدان وتحاول الهيمنة على الشعوب الأخرى، فلن يكون بإمكانها الاستمرار على قيد الحياة. فأميركا لا تكون أميركا إلا عبر التسلط والتوسع، ولا تكون قوة كبرى إلا من خلال التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وإذا لم تَعُد تتدخل في أمور الآخرين فإنها تفقد المكانة العالمية التي تمتلكها، فليس بوسعها ـ إذاً ـ عدم التدخل.
إن التدخل الأميركي والسوفياتي والبريطاني والفرنسي في شؤون الشعوب والدول الأخرى ودعمها للأنظمة غير الوطنية وقمعها للشعوب، نهج دائم وسلوك استراتيجي ترى أنه لا بد من القيام به. ولو سألتم شعوب تلك البلدان عن رأيها بسلوك حكوماتها لوجدتم أنها معارضة لنهجها وممارساتها العدوانية. فهل هذه هي الديمقراطية التي يتظاهرون بها؟!!
هل بوسع تلك الأنظمة التي تتصرف خلافاً لرغبات شعوبها وعلى الضد من طموحاتها، وتطلعاتها في الخطط الأصلية، والسياسات الأساسية لإدارة بلدانها، أن تدّعي أنها حكومات شعبية؟
حاكمية الشعب فـي الجمهورية الإسلامية
أما الحكومة الإسلامية فليست هكذا، فالشعب مؤيد لمسؤولي هذه الحكومة، لأن الناس يرَون قراراتهم وممارساتهم تستهدف رضى الله، وتتفق مع عقائدهم القلبية، هذا طبعاً إذا كان الحاكم في المجتمع الإسلامي حاكماً إسلامياً حقاً يحكم الناس باسم الإسلام. فالحاكم الإسلامي ينبغي له أن يتمتع ـ وفقاً للمعايير الإسلامية ـ بالتقوى والعدالة، ويتفق ما يقوم به مع الإسلام. والناس مؤمنون بالإسلام، ولذلك تلقى أعمال الجهاز الحكومي في النظام الإسلامي قبولاً عاماً من قبل الشعب، والجميع يطيعون قراراته برغبة ورضى.
حاولوا أن تنظروا في شتى مجالات المجتمع الإسلامي والجمهورية الإسلامية وتستطلعوا آراء الشعب ستجدون أن الناس يتحركون في الطليعة وفي المقدمة. وهم يتقدمون طواعية في إنجاز متطلبات الحرب ومختلف شؤون الدولة السياسة، وفي مواجهة القوى الكبرى وفي إزاء القضايا العالمية، يداً بيد مع المسؤولين والقيادة، وأحياناً يسبقونهم ويتقدمون عليهم. إن هذا يعني حاكمية الشعب وثباته في الميدان.
النبـي وأميـر المؤمنين نموذجان للحاكم الإسلامي
لقد قال الله ـ عز وجل ـ لرسوله {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159).
هكذا ينبغي أن يكون الحاكم في المجتمع الإسلامي متواضعاً شعبياً، بحيث أن النبي (ص) حينما كان يجلس مع أصحابه في المسجد كان يأتي بعض العرب المسلمين حديثاً فيدخلون المسجد ويرَون المسلمين جالسين في حلقة جلسة تواضع لا يُعرف فيها مَن هو الرسول (ص) فيسألون: أيكم رسول الله؟
كان العرب يأتون ويتحدثون مع الرسول (ص) فيحدثهم ببساطة بكلمات مفهومة بعيدة عن التعقيد، لكن بعضهم كان يستعمل الخشونة والفظاظة في الكلام، ولو كان المخاطب غير رسول الله (ص) لغضب منهم ولم يطق ما يقولونه، لكن النبي (ص) كان واسع الصدر حكيماً أمام كل ذلك.
وكان يوسع دائرة دين الله ويمده بمستلزمات القوة بالاعتماد على حفنة من الناس، يضرب بهم أعداء الله ويقيم صرح حكومة شعبية بكل ما للكلمة من معنى، وفي مثل هذه الحكومة يشعر الناس بالحب والمودة نحو المسؤولين.
ويروي المؤرخون أن أبا سفيان حينما جاء لأخذ الأمان من الرسول (ص) ليلة فتح مكة رأى منظراً أصابه بالدهشة والذهول وأثر في نفسه تأثيراً كبيراً، وحطم غروره وعنجهيته بشدة، فقد شاهد الرسول يسبغ وضوءه والمسلمون يتنافسون على ما يقطر من ماء وضوئه فيبللون به أيديهم ويمسحون بها على وجوههم ورؤوسهم تبركاً به، وهذا يعكس المنزلة المعنوية لنموذج الحاكم الإسلامي.
أما أمير المؤمنين (ع) فهو الآخر نموذج كامل للحاكم الإسلامي الشعبي، فعلي بن أبي طالب (ع) هو ذلك الحاكم الوحيد الذي اجتمع على بيعته عامة الشعب، وأقبلوا عليه بقضهم وقضيضهم وطلبوا إليه بإلحاح وإصرار أن يكون حاكماً لهم.
يقول الإمام (ع) عن ذلك "فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُق عطفاي، مجتمعين حولي.." (نهج البلاغة، خ 3، د. الصالح).
كان علي (ع) أول مَن اجتمع لانتخابه ذلك العدد الغفير والجمهور الحاشد من المسلمين وطلبوا إليه النهوض بمسؤولية الحكم. لقد أبدى الناس كل ذلك الإصرار لأنهم كانوا يرَون أنه الأكثر لياقة وكفاءة لإدارة أمورهم. إنه كان ـ منذ البداية ـ يعيش في أوساط الناس، ويحمل العقائد الإلهية، ويتمتع بمناقبية السبق إلى الإسلام ويحمل الكثير الجم من الفضائل التي كان معاصروه يفتقدونها.
بمثل هذا الوضع وصل أمير المؤمنين (ع) إلى الحكم، ومنذ اللحظات الأولى لبدء هذه الحكومة الإلهية أعمالها، كانت كل الأقوال والوصايا وجميع القرارات والتعليمات، وكل التصرفات والممارسات لصالح عامة الناس ولتحقيق الخير للمسلمين.
ولا يمكن ـ طبعاً ـ الحديث عن أمير المؤمنين (ع) بيسر وسهولة، فعظمة هذا الإنسان تتجلى في جوانب عديدة من حياته بحيث يعجز العلماء والعباقرة والفنانون والمفكرون والشعراء والأدباء عن الحديث بشأنه والخوض في مناقبه وفضائله كما تستحقه من الوصف والثناء.
شيء من فضائل أميـر المؤمنين وحكومته
أمير المؤمنين (ع) هو ذلك الإنسان الذي أخفى محبوه فضائله وسترَوا مناقبه بعد شهادته ـ خوفاً من بطش أعدائه وفتك مناوئيه ـ وكتم خصومه الألدّاء فضائله ومناقبه حسداً له وحقداً عليه، وبالرغم من إخفاء هؤلاء وكتمان أولئك ملأت فضائله الخافقين وبلغت أسماع العالمين.
وعلى هذا الأساس لا يتيسر الحديث عن مزايا حكومة أمير المؤمنين (ع) وشخصيته، ولا يسعنا حتى الحديث عن جانب واحد من جوانب حكومته وهو الجانب الشعبي، لكننا سنلقي لمحة خاطفة على هذا الجانب من حياة هذا العبد الصالح والإنسان العظيم والإمام الكريم، كي تتضح لنا ـ أكثر فأكثر ـ حقيقة كون الحكومة الإسلامية حكومة شعبية.
فقد وصل أمير المؤمنين إلى الحكم عبر إرادته الشعب ورغبته بل إلحاحه الشديد (فضلاً عن تنصيبه خليفة لرسول الله (ص) من قبل الله تعالى في يوم الغدير طبعاً وأثناء فترة تولّيه المسؤولية كانت جميع أقواله وأفعاله تستهدف تحقيق الخير للناس.
وإنني أورد هنا بعض الجمل الواردة في "نهج البلاغة" وهي ليست سوى نماذج قليلة من بين مئات النماذج والأمثلة الموجودة في هذا الشأن. ونرى الإمام علياً (ع) يوصي ـ في جميع هذه الأقوال ـ بمراعاة حال الشعب. وهذا الجانب هو ـ كما ذكرنا آنفاً ـ أحد جوانب شعبية حكومة أمير المؤمنين، إذ كثيراً ما كان الإمام يؤكد ضرورة رعاية حال عامة الناس، ورفض الطبقات الممتازة في المجتمع الإسلامي، بل وإلغاء مثل هذه الطبقات.
يقول الإمام أمير المؤمنين بهذا الشأن في عهده لمالك الأشتر: "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية" (نهج البلاغة، الكتاب 53، د. الصالح).
ونحن نرى أن العالم يعاني اليوم من هذا الداء الوبيل، وتوجد في معظم البلدان طبقات ممتازة تتحكم في مصير الشعب وتمسك ـ في الحقيقة ـ بزمام أمور الناس، وتوجه السياسات المتبعة في خدمة مصالحها وتتخذ القرارات بما يتلاءم ورغباتها. ويندرج في هذا الإطار ما نراه في الدول التي انفرزت فيها طبقة الأغنياء وأصحاب المصانع وذوو الثروات الطائلة والخيالية، كما هو الحال في الدول الغربية وأميركا، حيث تُتخذ كل التدابير لصالحهم.
وفي تلك الدول، لا يُسنّ قانون ولا تُطرح فكرة ولا يُتّبع أسلوب إلا ويكون متفقاً ومصالح تلك الطبقات، وإذا بدا وكأن الناس يحصلون على خير ما من وراء تلك الأمور فإنهم إنما يقتاتون على فتات موائد الأغنياء والرأسماليين.
وفي بلدنا نفسه، كان الوضع في ظل النظام الشاهنشاهي البائد بهذا الشكل، فالأثرياء كانوا هم المقصودين، والمطلوب ودهم، والممسكين بزمام الأمور، وكان الناس يسمونهم "هزار فاميل" أي الألف عائلة الأثرى.
بينما نرى أن الطبقة الممتازة ـ ردحاً من الزمن إبّان تاريخ الإسلام ـ كانت عبارة عن الشعراء والعلماء، وشرائح اجتماعية متباينة، وكان يتوجب على عامة الناس أن تسمع لهم وتطيعهم، وتعمل وفق رغباتهم ولمصلحتهم، وهنا صار الناس وجهاً لوجه في مقابل الطبقة الممتازة.
من عهد أميـر المؤمنين لمالك الأشتر
في ذلك الحين، يحذر الإمام أمير المؤمنين (ع) مالك الأشتر من ترجيح رضى الخواص على رضى عامة الرعية، مؤكداً: "فإن سُخط العامة يجحف برضى الخاصة" (نهج البلاغة، الكتاب 53، د. الصالح).
ولذلك ففي أي بلد نرى أنه كلما ازدادت نقمة عامة الناس على النظام الحاكم قلّت فرص بقاء ذلك النظام في سدّة الحكم.
وقد جرّبنا ذلك في بلدنا، إذ كان شعبنا ساخطاً أشد السخط على النظام الحاكم، وكان الحكم الشاهنشاهي يسعى لخطب ود الطبقات الممتازة وكسب رضاها، فكان الأثرياء والتجار الكبار والمنتجون البارزون، وأصحاب الأراضي الواسعة، والكثير من حمَلة الأقلام المأجورين، والشعراء والفنانين العملاء للنظام، من المقتاتين على فتات موائده، كانوا راضين عن ذلك النظام. أما عامة الناس فلم يكونوا راضين عنه، ولذلك رأيتم ماذا حصل.
ويضيف الإمام (ع) في رسالته إلى الأشتر (رض): "وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامة" (المرجع نفسه).
أي حينما تكون عامة الشعب راضية عنك فإن لم ترضَ عنك الطبقات الممتازة في البلاد فدعها لا ترضى، وإذا رضي عنك أفراد الطبقات المتوسطة والوضيعة من المجتمع فليغضب ـ بعد ذلك ملاكو الأراضي الواسعة والمصانع الكبرى وذوو الثروات الطائلة، ودع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من جنس أرقى، من جنس الشرائح الاجتماعية الأخرى يغضبون على جهاز الحكم.
لاحظوا أي خط واضح يرسمه لنا أمير المؤمنين (ع) وهذا هو ذات الخط البيّن والمنهج القويم الذي تنتهجه الحكومة الإسلامية، إذ لا تفضل على رضى العامة رضى بعض الناس، والطبقات الممتازة والخواص، فالمهم أن تكون غالبية الشعب راضية عن جهاز الحكومة، فهم المستبسلون في ساحات الحرب، وهم المشاركون في صلوات الجمعة، والمساهمون مساهمة فعالة في إسناد خلفية جبهات القتال، وهم الحاضرون في شتى ميادين الثورة، كانوا هكذا وما يزالون، والحكومة متعهدة وملتزمة بإدارة أمور هؤلاء ورعايتهم.
وثمة أناس ساخطون حتماً على هذا الوضع، ولننظر مَن هم أفراد هذه الشريحة في الجمهورية الإسلامية، ومَن الغاضبون من قيام هذه الجمهورية، ومَن الذين لم يسعهم تحملها، فلم يلبثوا أن حزموا أمتعتهم وغادروا البلاد على عجل، فالذين تمكنوا من الرحيل، والذين لم يفلحوا بمغادرة البلد ظلوا فيه كارهين، يتمتمون بكلمات السخط والنقمة.
بينما نرى أن 22 مليون من القرويين وملايين آخرين من الشرائح الاجتماعية الأخرى كالعمال وأبناء الطبقة المتوسطة من سكان المدن وذوي الحرف والمهن الحرة والشرائح الثورية، كلهم راضون عن مسار الأمور، شاكرون لنعمة الله بأن منّ عليهم بزوال أسوأ الأنظمة في العالم عن الوجود، واستبداله بنظام إلهي وإسلامي، وبنظام يقف على قمته فقيه وإنسان ورع متّقٍ وعارف بالله وزاهد مفضال، كانوا وما يزالون يشكرون الله على ذلك، ويتحملون الصعاب والمعاناة والأزمات لأنهم يرتضون هذا النظام ويحبونه.
بيد أنه ثمة أشخاص مستعدون لكل شيء ما عدا حاكمية دين الله وحاكمية عباده وأوليائه، وما عدا حاكمية المؤمنين، وهم يمقتون مصطلح "حزب الله" ويبغضون ملامح أبناء حزب الله، ولا يطيقون رؤية وجوه الأشخاص الذين يحيَون بالدين وللدين، ويعملون في سبيل الدين، ويجاهدون في سبيل الله.
وهذه الشرذمة من الأشخاص نزحت من البلاد وصارت مشردة هنا وهناك في الدول الأوروبية وأميركا وطبعاً فإنهم ـ في الغالب ـ نادمون على ذلك.
نهج الحكومة الإسلامية نهج أميـر المؤمنين
بيد أن مبعث فخر النظام هو تمكنه من كسب رضى عامة الشعب، وهذا هو نهج الجمهورية الإسلامية، وهو النهج الذي علّمنا إياه أمير المؤمنين. يقول (ع): "وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة" (نهج البلاغة، الكتاب 53).
هذا هو الدرس الذي يعلّمنا إياه الإمام، وهذا هو معنى الحكومة الشعبية.
وفي رسالة أخرى، خاطب فيها محمد بن أبي بكر، يقول (ع): "فاخفض لهم جناحك، وألِن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة" (نهج البلاغة، الكتاب 27).
حقاً ما أروع هذه الدروس التي يعلّمنا إياها أمير المؤمنين، إنه يوصي الحاكم بأن يساوي بين الناس حتى في نظرات عينيه وهو يتكلم معهم، إنه يوصي بالمساواة ويؤكد على ذلك، ومن الواجب محو التمييز بين الناس، وينبغي أن يتعاون الشعب والمسؤولين على اقتلاع التمييز من جذوره، ولا يدعوه يضرب بجذوره ويتفشى بينهم، فالإمام يكافح التمييز ويأمر بمحوه حتى في اللحظة والنظرة فكيف بالأمر في احتياجات الناس فجهاز الدولة يجب أن يراعي المساواة والعدالة في توزيعه الإمكانات على الناس.
والناس مختلفون من حيث الملكية والثروة، فبعضهم يملك أموالاً أكثر مما لدى بعضهم الآخر، وقد اتضح في البحوث الاقتصادية في الإسلام أن المجتمع الإسلامي يتحمل هذه الظاهرة ما دام التمييز منعدماً، وما لم يكن ثمة ظلم واحتكار أو طغيان من بعض الناس على بعضهم الآخر، وما دامت الثروة متجمعة من خلال الكسب الحلال، وما لم تكن مكتسبة من الحرام والسرقة والغصب.
في هذه الحالة يمكن تحمل ظاهرة التباين في مستوى الملكية ومقدار الثروة، أما ما تقسمه الحكومة على الناس وما تعطيه الدولة الإسلامية للشعب فينبغي تقسيمه بالسوية والعدل، وعلى الجمهورية الإسلامية أن تسرع في انتهاج هذا الأسلوب.
وانتقل هنا إلى نقل بعض الصور الرائعة من شعبية أمير المؤمنين (ع) وعدالته وتفقده للرعية، نساءاً ورجالاً وأطفالاً، مما كان يجعلهم يجرؤون على الحديث بشكل طبيعي مع الإمام.
يوماً، كان الإمام علي (ع) يتجول في أزقة الكوفة ـ وأظن أن ذلك كان في أوائل دخوله هذه المدينة واتخاذها عاصمة لحكومته ـ فرأى امرأة تحمل قِربة على رأسها وتتمتم مع نفسها ببعض الكلمات. وحين انصت الإمام لها عرف أنها تشكو علي بن أبي طالب، فاقترب منها وطلب إليها أن تعطيه القِربة ليحملها نيابة عنها، فأعطته إياها ـ ولم تكن تعرفه ـ فحمل الإمام القِربة على عاتقه ومشى أمامها ليوصلها إلى منزلها..
انظر ـ عزيزي القارئ ـ كيف يحمل الرجل الأول والمسؤول الأعلى في الدولة وصاحب المنصب الأرفع في المجتمع الإسلامي ـ الذي كان حاكماً لدولة كبرى تضم العديد من البلدان الحالية ومنها إيران والعراق ومصر والشام والجزيرة العربية وغيرها ـ كيف يحمل قِربة امرأة عادية...
على أية حال، مشى الإمام (ع) مع المرأة حتى أوصلها إلى المنزل، فشكرته كثيراً، وأعربت عن سرورها لما قام به تجاهها، فسألها عن سبب انزعاجها وحزنها، ولِمَ كانت تشكو علي بن أبي طالب وتبدي تذمّرها منه؟ فأجابته أنها زوجة أحد جنوده، وكان زوجها قد استشهد مع الإمام في إحدى الحروب التي خاضها أيام خلافته، وأن أولاده ظلوا يتامى ليس لهم مَن يرعاهم، واضطرت هي أن تتحمل عناء المسؤولية وتولّت رعايتهم، وظلت تنحي باللائمة على علي بن أبي طالب وتبدي تذمّرها منه.
فطلب إليها أمير المؤمنين أن يساعدها أكثر فأخذ يلاعب الأطفال اليتامى الجائعين ويلاطفهم بينما أخذت هي تعدّ الطحين وتعجنه لتخبز، ولفرط ما لاطف الإمام الأطفال فإنهم لم يتوقفوا عن البكاء وذرف الدموع من الجوع فحسب، وإنما طفقوا يضحكون ويستبشرون.
وبعد أن صار الطحين عجيناً، طلب الإمام إلى المرأة أن تسمح له بأن يسجّر التنور، ويسعّر النار كي تخبز، وبعد أن تصاعدت ألسنة اللهب ولفحت وجه أمير المؤمنين أخذ يتمتم الإمام مع نفسه: زُق يا عليّ. ويقول ما معناه: هذه نار الدنيا وحسب، وإنما نار الآخرة أشد ضراوة ولهيباً.
ويبدو أن جارة تلك المرأة قد شاهدت الإمام ـ ربما من على سطح دارها أو أنها دخلت منزل المرأة فرأته على تلك الحالة ـ فصاحت بتلك المرأة وأنكرت عليها ما ترى، وقالت لها: ويحكِ أتعرفين مَن هذا الرجل؟! أجابت المرأة: لا، إنه إنسان شهم تطوع لمساعدتي وأخذ يسجّر التنور، فقالت لها: ويحكِ إنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). وما أن سمعت المرأة كلام جارتها حتى أجهشت بالبكاء وطفقت تذرف الدموع الغزار وتقول: عذراً يا أمير المؤمنين فإني لم أعرفك، وقد تجرأت عليك وقلت ما قلت، فأجابها الإمام (ع) بما معناه: أن الذي اعتذر منك، إذ كان عليّ أن أبادر لخدمتك قبل هذا الحين لكنني لم أفعل.
هذه حادثة تعكس لنا صورة مصغرة عن شعبية حكومة أمير المؤمنين.
حكومة الله وحكومة الشعب
حينما نقول إن الحكومة الإسلامية حكومة شعبية فليس معنى ذلك أنها غير حكومة الله، فمن المعروف أن جميع الأديان الإلهية كانت تدعو إلى حكومة الله، وكان كل الأنبياء وأوصياؤهم يدعون الناس إلى حكومة تكون فيها الحاكمية وحق التشريع لله. وهكذا الأمر في الإسلام، فليس هناك تعارض بين حكومة الشعب وحاكمية الله، فحكومة الشعب لا تعني هنا المعنى نفسه المقصود في الأنظمة الديمقراطية الغربية، وقد سبق أن تعرضت لذلك بإيجاز.
فحكومة الناس إنما تكون ضمن الضوابط والأوامر الإلهية التي أُمر الناس باتباعها، وتُرك لهم حق اتخاذ القرار في ضوئها ووفقاً لأطرها ولذلك يقول تبارك وتعالى {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (سورة القصص:5).
أي أن الحكومة هي حكومة المستضعفين، وهذا لا يتنافى مع كونها حكومة الله وفي إطار الأحكام الإلهية. ومن جانب آخر فإن شعبية الحكومة الإسلامية ذات معنيين:
أحدهما: إن للناس دوراً في إدارة الحكومة وتشكيلها وتعيين الحاكم، وربما في تعيين نوع النظام الحكومي والسياسي.
والثاني: إن الحكومة الإسلامية في خدمة الشعب، وإن ما هو مهم عند الحاكم الإسلامي هو مصالح عامة الناس لا منافع أشخاص أو فئة وطبقة معينة.
وفي الإسلام حكومة شعبية بكلا المعنيين، ولكن ما لم تقم الحكومة الشعبية بالمعنى الأول، وما لم يكن للناس دورٌ في الحكومة لا يمكن القول إن الحكومة الشعبية بالمعنى الثاني أي في خدمة الشعب.
مدعو الحكومة الشعبية
لا يمكن التصديق بادعاء كل واحدة من حكومات العالم المعاصرة كونها في خدمة الشعب، فالحكومات التي تزعم ذلك في العالم اليوم كثيرة، سواء الحكومات العميلة للشرق أو تلك المرتبطة بالغرب، ما دامت الشعوب محرومة فيها من القيام بأي دور في تعيين النظام الحاكم وإقامته، فالشعب لا يدري مَن هو الحاكم القادم بعد وفاة الحاكم السابق، وإذا كان يعلم به فإنه لا يعرف عنه شيئاً، ولا يرغب فيه ولا في حكومته، ولربما ـ بل وأغلب الظن ـ أنه غير راضٍ عن أعماله.
إنكم لو سألتم الشعب السوفيتي هل هو راضٍ باحتلال أفغانستان وإنفاق مليارات الدولارات من أجل دعم نظام حكم مفروض على الشعب، فماذا سيجيب؟ يقيناً أنه إما أن يكون غير عارف بحقيقة ما يجري (لأن هذه الحكومات تتعمد تجهيل الشعوب بحقائق الأمور) وإما أن يكون مطّلعاً على القضية وغير راضٍ عن ذلك ولا مستفيد منه.
وهكذا الأمر في الدول الغربية التي تدّعي حكوماتها أنها في خدمة الشعب، نرى أن الشعب لا يملك أي إرادة أو خيار في الأعمال والقرارات التي تتخذها الحكومات.
إنه لا يكفي الإدعاء بأن هذه الحكومات هي في خدمة الشعب ما لم يكن هناك ارتباط مباشر بينهما، ومن دون أن تكون مستندة إلى آراء الشعب... ومثل هذا الإدعاء إدعاء مرفوض، إنه الإدعاء الذي يزعمه كل مَن يتظاهرون يكون حكمهم حكماً شعبياً، إلا أنهم عاجزون عن إثبات ذلك بالأدلة والحقائق. والحكومات الاستبدادية المفروضة تدعي هي الأخرى دائماً أنها حكومات شعبية. بيد أنه ما لم يحصل التفاهم والتعاون بين الشعب والنظام الحاكم في ميادين النشاط الاجتماعي المختلفة، وما لم يقف الشعب إلى جانب مسؤولي ذلك النظام فإن ادعاءه بكونه نظاماً شعبياً ادعاء مرفوض وباطل.
الحكومة الإسلامية حكومة شعبية أيض
إن الحكومة الإسلامية حكومة شعبية حقاً بكل ما للكلمة من معنى، وفي عهد صدر الإسلام كانت حكومة النبي (ص) حكومة شعبية، وبقيت حكومة المجتمع الإسلامي فترة طويلة حكومة شعبية.
وفي عهد أمير المؤمنين (ع) كان للشعب دور فعال في ميدان الحكم. كانوا يبدون آراءهم ويتخذون القرارات، وكان لهم حق المشورة الذي أمر القرآن به النبي (ص) في قوله تعالى {وشاورهم في الأمر} (آل عمران:159).
فالناس حق في أن يشاوَروا، وعلى هذا الأساس فإذا ادعت حكومة ما أنها حكومة شعبية فينبغي أن تكون شعبية بالمعنى الأول أيضاً، أي أن للناس دوراً في الحكومة، أولاً على صعيد تعيين الحاكم فللشعب تأثير كبير في تعيين شخص الحاكم.
وطبعاً فإن الأمر في فترة من عمر الحكومات الدينية والحكومة الإسلامية يكون الحاكم معيّناً من قبل الله، وهذه قضية متفق عليها من قبل جميع المسلمين، وليس للناس آنذاك دور في تعيينه. ويحصر أهل السنّة هذه الفترة في عهد رسول الله (ص) بشكل خاص، أما الشيعة فيعتقدون بأن هذه الفترة تشمل عهد الإمامة أيضاً، فضلاً عن عهد النبوة.
ففي هذين العهدين يتم تعيين الحاكم في المجتمع الإسلامي من قبل الله، وليس للناس دور في اختياره، فسواء شاء الناس أم لم يشاؤوا، وعلموا أم لم يعلموا، يكون النبي والإمام وزعيم المسلمين الديني هو الحاكم والقائد في المجتمع. وطبعاً فإن الناس إذا عرفوا هذا الحاكم وقبلوه تتجسد له الحاكمية الحقيقية والحقوقية على صعيد الواقع أيضاً.
أما إذا لم يعرفه الناس أو لم يقبلوه فإنه يبقى الحاكم الحق للناس ولكنه مبعد عن منصب الحكومة، ولذلك فإننا نعتقد أنه خلال عهد الأئمة المعصومين (ع) على الرغم من عدم كونهم قد عُرفوا وقبلوا كحكام في المجتمع لكن كل شؤون الحاكم كانت تعود لهم، وهذا ما كان يجعلهم في حركة ونشاط دائبين.
ونحن نرى أن الأئمة الكرام (ع) حاولوا الإمساك بزمام الحكم والتصدي للنهوض بأمر الحكومة الذي هو حقهم الطبيعي، وذلك ما نراه من خلال الشواهد والقرائن القاطعة والأكيدة التي رُويت عنهم، ومن خلال مجريات حياتهم المباركة وخصوصاً فيما يتعلق بالإمام الصادق (ع).
الأصول والأحكام فـي المجتمع الإسلامي
أما بعد عهد الأئمة المعصومين، وحيث لا يوجد شخص معيّن قد نُصّب من قبل الله كحاكم للمجتمع، فإن المناط في تعيين الحاكم أمران هما:
1ـ حيازته صفات حددها الإسلام كالعلم والتقوى والاقتدار والإخلاص والمزايا الأخرى للحاكم، والتي سيأتي الحديث عنها في الفصول القادمة إن شاء الله.
2ـ قبول الناس به واجتماع كلمتهم عليه، فإن لم يعرف الناس ذلك الشخص الحائز على مواصفات الحاكم أو لم يقبلوه ـ على الرغم من توفره على الشروط اللازم توفرها في الحاكم ـ فإنه ليس حاكماً، وإذا كان ثمة شخصان حائزان على تلك المواصفات وقبل الناس أحدهما فإنه هو الحاكم.. إذاً فقبول الأمة ورضاها شرط من شروط الحاكمية.
وهذا الأمر نفسه وارد في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران حتى فيما يخص القائد، إذ ينص الدستور على كونه مجتهداً عادلاً، مديراً مدبّراً، ذا رأي وبصيرة، قد عرفه الناس، ووصل إلى مرتبة المرجع الذي يقلده الناس، ويظهرون الرغبة فيه والإقبال عليه. فإذا لم يعرف الناس مثل هذا الشخص فإن خبراء الأمة يبحثون عنه ويحاولون تشخيصه، فإذا شخّصوه وعرفوه بادروا إلى تعريف الأمة به.
وهنا ـ أيضاً ـ نجد أن الخبراء هم ممثلو الأمة ـ أولاً ـ وأن الناس أنفسهم، وبعد تعريف الخبراء للقائد، يظهرون قبولهم به ـ ثانياً ـ فيصبح إماماً لهم.
وهكذا فيما يخص رئيس الجمهورية، حيث تجري الانتخابات لاختياره من قبل الناس من بين الأشخاص الذين تتوفر فيهم الشروط اللازمة. وهكذا ترَون أهمية الدور الذي يلعبه الناس في تعيين الحاكم الإسلامي، وعلى صعيد المستويات العليا للحاكمية والولاية في المجتمع الإسلامي.
اعتماد الحكومة الإسلامية على إيمان الشعب
ويمكن القول إن للشعب دوراً في أصل تعيين النظام الإسلامي أيضاً، إذ ما لم يرد الشعب فإن الحكومة لا تقوم ولا تنعقد، وهذا ـ طبعاً ـ ليس شرطاً حقيقياً، أي أنه إذا رفض الناس النظام الإسلامي يسقط اعتباره ولا يفتقد الصفة الشرعية، بيد أنه بما أن النظام الإسلامي يستند إلى إيمان الشعب فإن للناس دورهم فيه أيضاً.
إذاً، فالحكومة الإسلامية حكومة شعبية بهذا المعنى أيضاً، وهو أن للشعب دوراً فعالاً في انتخاب الحاكم، وحينما ينتخب الناس حاكمهم فإنهم يقفون إلى جانبه ويسندونه.
وعلى العكس، فإنما الشعب إنما يتذمر من حاكم لا يكون له ـ أي للشعب ـ دور في انتخابه انظروا إلى الحكومات الملكية في أرجاء العالم فأين سترَون واحدة منها يحبها عامة الناس ويؤيدون الحاكم فيها أو يجعلون أنفسهم في خدمته ورهن إشارته ويثقون به؟
إن الناس محقون في عدم إيلائهم الثقة بمثل هذا الحاكم لأنه لم يكن لهم دور في تعيينه، وإنما يأتي الملك إلى الحكم إثر موت ملك آخر بالوراثة. وهكذا الأمر في الأنظمة غير الملكية التي يتم تعيين الحاكم إما بانقلاب عسكري وإما بالتزوير، وليس للشعب دور في ذلك.
أما حينما يكون للناس دور في إيصال هذا الحاكم أو ذاك إلى كرسي الحكم فإن الشعب ـ كما يعتبر الإمام ـ يصبح ولي نعمة الحاكم، لأنه هو الذي أوصله إلى هذا المنصب، ومكّنه من تسلم زمام المسؤولية وإذ ذاك فإنه يقف إلى جانبه، ولذلك نرى اليوم أن الجمهورية الإسلامية التي تنعم بنور حاكمية الإسلام ما لبث شعبها يسجل حضوره الفعال في جميع الميادين والصعد كلها.
وعلى سبيل المثال، تحتشد جموع غفيرة في مراسيم صلوات الجمعة في العاصمة ومراكز المدن تحت أشعة الشمس المحرقة وفي الجو الحار، وهكذا الحال تحتشد أعداد كبيرة من المقاتلين البسلاء على خطوط جبهات القتال ليؤدوا واجبهم المقدس، فيما يتوغل أشخاص آخرون في أعماق الصحارى والفيافي، أو ربوع القرى والأرياف ليؤدوا واجبهم في نطاق مشاريع مؤسسة جهاد البناء خدمة للناس، وهكذا الأمر في كل المجالات، في المصانع والقوات المسلحة وفي الجامعات وغيرها.. وفي كل مكان يحسون أنهم يسهمون فيه مساهمة فعالة في تقرير مصيرهم، نراهم يبادرون إلى العمل المخلص البنّاء، ويتحملون عبء المسؤولية ليهون على النظام تحمل النهوض به.
إن مغزى ذلك ناشئ من هذا الأمر ذاته، وهو أن الناس يشعرون أنهم قاموا بدور مهم في إيجاد الحكومة وتشكيلها وفي انتخاب الحكام والمسؤولين وفي رسم المسار الذي ينبغي أن يسلكوه.
حكومة عباد الله
الجميع يعتبرون أنفسهم مساهمين في هذه الحكومة، ربات البيوت، الشيوخ، الفتيان، وكل الشرائح تعتبر نفسها إلى جانب هذه الحكومة، حكومة عباد الله، حكومة المؤمنين، حكومة الصالحين. وهذه أهم نقطة قوة تتمتع بها هذه الحكومة، ولهذا السبب نرى أن بذور الدعايات المفرّقة لا ينبت لها ثمر في أوساط شعبنا.
إننا نرى أن الأعداء يترصدون الأحداث الجارية في بلدنا حتى الصغير منها، فيقيمون لها جلبة وضجيجاً واسعاً. وهناك عشرات الإذاعات والأبواق الدعائية الأجنبية المعادية، وعشرات الصحف والمجلات والنشرات المتنوعة الصادرة باللغات المختلفة، وهي تصدر يومياً وأسبوعياً، وتنشر في صفحاتها مئات الأخبار والتحليلات والمقالات المليئة بالأكاذيب والأراجيف عن الأوضاع في إيران، وعن الحرب والسلام، وشؤون الحكومة الاقتصادية، وعن قضايا الشعب والمسؤولين، ويتوهم القائمون عليها أنهم يستطيعون بهذا الأسلوب إضعاف نظام الجمهورية الإسلامية.
إنهم يفكرون دوماً في زرع بذور الاختلاف والتشرذم، ويحاولون خلق صراع بين مسؤولي الحكومة وإشاعة الانقسامات والتكتلات في صفوفهم وفي أفكارهم، وتمتلئ صفحات صحفهم بأخبار مفتراة عن وجود خلافات وقلاقل في إيران... كل ذلك من أجل التأثير على أذهان أبنا شعبنا لكنهم فشلوا في ذلك[4].
السمات العامة للحكومة الإسلامية
ذكرنا ـ فيما سبق ـ أن الحكومة الإسلامية شعبية بكل معنى الكلمة. وسنلقي هنا نظرة سريعة وشاملة على خلاصة المواضيع التي تطرقنا لها آنفاً، فالحكومة الإسلامية:
1ـ تعتمد على إيمان الناس وعقيدتهم.
2ـ تقوم برسم الخطط ووضع البرامج في خدمة مصالح الشعب.
3ـ خطوطها العامة تحظى برضى الأكثرية القاطعة وتأييدها.
4ـ مدراؤها ومسؤولوها ناهضون من بين صفوف الشعب وعامته، وليسوا من الطبقات العليا في المجتمع، ولذلك فإن أخلاقهم تشبه أخلاق عامة الناس الطيبة.
5ـ انتخابها واختيار أصل كونها حكومة إسلامية وتعيين أركانها تم وفقاً لرأي الناس، ويدخل في هذا النطاق حتى الولي الفقيه ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس التقنين.
6ـ يشارك الشعب في تنفيذ خططها وبرامجها مشاركة فعالة، ولا يكتفي بالتفرج عليها من بعيد، وهذا ما يتجلى في المناطق الواقعة خلف جبهات القتال، وعلى صعيد الإعمار وجهاد البناء، والتعبئة العامة وعلى كافة الصعد.
7ـ الشعب حاضر في جميع ميادينها المصيرية والحساسة، في التظاهرات والمسيرات، في الانتخابات، وفي كل مكان يرى النظام الحكومي ضرورة الحضور فيه نرى الشعب يسجل حضوره الفعال هناك.
8ـ والصفة الأخرى في قائمة السمات البارزة للحكومة الإسلامية، أن أعداءها هم أعداء الشعب أنفسهم.
فهؤلاء الذين يغتالون مسؤولي الحكومة، يقتلون أيضاً أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وهم أنفسهم الذين يفتكون بأبناء الله أيضاً حينما يجدون الفرصة المناسبة، وهذا ما اعترفوا هم به أيضاً لحسن الحظ، وشهد على ذلك كل الشرفاء وطالبي الحقيقة في العالم، وصار من المسلّم به أن أعداء الحكومة هم أعداء الشعب.
9ـ في ظل الحكومات الاستبدادية، تتجلى حالة التنافس والخصومة بين الشعب والحكومة، فما يريده تتنصل الحكومة من القيام به مهما أمكنها، وفي المقابل فإن القوانين والقرارات التي تصدرها الحكومة يتعمد الشعب مخالفتها والعمل ضدها كلما تمكن من ذلك.
وتتضح هذه الصورة أكثر فأكثر في البلدان الخاضعة لحكم الأنظمة الاستبدادية المفروضة عليها، كالنظام السابق في إيران، إذ ما لبث الشعب يتوخى الإضرار بمصالح الحكومة بأي شكل من الأشكال.
وإنني أتذكر أن بعض الأشخاص كانوا يتعمدون حتى مخالفة قوانين المرور والقيادة في تلك الأيام، انطلاقاً من رغبتهم في معارضة الحكومة الشاهنشاهية، فكانوا يتعمدون الدخول بعكس السير في الشارع المحددة فيه جهة التحرك، من أجل الإخلال في إجراءات النظام الحاكم، وكل القوانين التي يسنها النظام خلافاً لمصلحة الشعب كان الناس يحاولون تجاوزها ومخالفتها مهما أمكنهم، في سبيل الحيلولة دون تطبيق مثل تلك القوانين.
وفي المقابل، فإن الحكومة كانت تتبع النهج نفسه مع الشعب، فكل ما كان يطمح فيه الشعب تحاول الحكومة مخالفته والعمل وفق ما يرغب فيه هو ويشتهيه... وبالطبع فإن بعض الحكومات المفروضة على الشعوب تضطر ـ في بعض الأحيان ـ إلى الانصياع لبعض المطالب الشعبية تجنباً لنقمة الناس.
هذه مشكلة قائمة حتى في الدول ذات الحكومات غير المستبدة، إذ نرى أنه حتى في أكثر الدول تقدماً وتطوراً وبين أكثر الشعوب تحضراً ورقياً، لا يعتبر الناس القوانين والإجراءات الحكومية مقدسة وواجبة التطبيق، ولا يعدّون أنفسهم ملزمين بتنفيذها، وإذا كانت ثمة شعوب تعمل وفق تلك القوانين فإنما هو من باب الإضطرار، وإلا فإن ما قيل لهم إنكم مخيرون بين العمل بموجب هذه القوانين وعدم العمل بموجبها، فمن المؤكد أن كثيراً منهم لن يعملوا بموجبها.
بيد أن هذه المشكلة لا توجد في ظل الحكومة الإسلامية، ونقصد بها النموذج المتكامل من الحكومة الإسلامية، أما الحكومات التي هي ليست النموذج والقدوة الكاملة ولم تصل إلى مستوى الكمال فعليها جميعاً أن تتحرك نحو بلوغ هذا المستوى وتنحو هذا النحو، لبلوغ ذلك الكمال المتوخى.
أجل.. في ظل الحكومة الإسلامية، نرى أن القوانين والتعليمات والضوابط التي يضعها الجهاز الحاكم ـ الذي يمارس الحكم بجدارة وحق ـ تُعتبر طاعتها واجبة عليهم، وينبغي أن يراعيها الشعب، ويعمل وفقاً لها. وقد وجدنا أن بعض الأجلاّء يقسمون هذه القوانين إلى صنفين:
ـ قوانين ثابتة.
ـ وقوانين متغيرة.
موضحين أن الصنف الثاني ـ أي المتغيرة ـ في الشريعة الإسلامية هي تلك القوانين التي تضعها الحكومات الإسلامية للشعب.
وأنا لا أريد أن أقول بمثل ذلك، فلربما يقع في هذا الموضوع الكثير من الأخذ والرد والبحث، فالقول بأن القوانين الصادرة من الحكومة الإسلامية قوانين شرعية بالمعنى الذي نقصده في موضوعي الصلاة والزكاة كقانونين شرعيين، يحتاج إلى المزيد من البحث وفيه الكثير من النقاش، وإنما الشيء الذي أريد الاستدلال به هو: إذا كانت الحكومة القائمة حكومة الحق، وتمت إقامتها في مجتمع ما بموجب الشروط والمواصفات التي يراها الإسلام، فالقوانين والضوابط التي تضعها مثل هذه الحكومة، إذا لم تكن واجبة التطبيق على الناس فإن ذلك يعني انتفاء السبب ونقض الغرض الذي وُضعت من أجله، وتصبح بمثابة أمر لا جدوى منه.
القوانين فـي ظل الحكومة الإسلامية
من الواجب أن تضع الحكومة القوانين في البلد وتتخذ الضوابط اللازمة وتعمل بموجبها ليتسنى لها إدارة المجتمع والبلد. وإذا تقرر أن لا يكون الناس ملزمين ـ من الناحية الشرعية ـ في العمل بموجب تلك القوانين، وإذا لم يكن من الواجب أن يسمعوا لها ويطيعوا، وأن يترقبوا ما تريده منهم الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية ليطيعوه فالنتيجة هي أن إقامة تلك الحكومة عمل لا جدوى فيه و{كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً} (النحل:92).
ومثل تلك الحكومة التي لا يصغي أحد لما تقوله، ولا يأتمر أحد بما تأمره به، وقوانينها غير واجبة الإتّباع، لا بد أن تزول وتحل محلها حكومة ظالمة وسلطة ليست على الحق.
متى تتمكن الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية من إدارة المجتمع بشكل كامل؟ الجواب: حينما تضع القوانين بكل دقة وحذر، وفي إطار الشرع المقدس في الإسلام، وتنفذها عملياً، ويطيعها الناس ـ في المقابل ـ ويسلّموا لها تسليماً كاملاً بحيث يسمعون لها ويطيعون، وينفذون ما تطلبه منهم.
وهنا ترشدنا إحدى خطب أمير المؤمنين علي (ع) الواردة في "نهج البلاغة" في هذا الشأن، حيث يقول فيها: "أيها الناس!إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق: فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. أما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم" (نهج البلاغة، خ 34، د. الصالح).
إذاً، فللحاكم حق على الناس، وفي المقابل فإن الناس لهم حق على الحاكم، فليست القضية أن للحكومة حقاً في أعناق الناس وما عليهم سوى أداؤه ولا حق لهم في عنق الدولة، والعكس أيضاً ليس صحيحاً، فليس الحق للناس فقط على الدولة، وليس للحكومة حق على الناس.. كلا، بل لكل من الطرفين حق على الطرف الآخر، وينبغي لكل منهما أن يعرف ما هو حقه فيؤديه. وهنا نلاحظ أن أمير المؤمنين يوضح أولاً حق الناس على الحاكم ـ وسنبحث الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً حينما نتطرق إلى موضوع "مواصفات الحاكم الإسلامي".
لقد تضمن كلام أمير المؤمنين حول حق الناس على الحاكم أربع عبارات مهمة وحساسة للغاية، وإذا استطعنا نحن في حكومة الجمهورية الإسلامية أن نقوم بهذه الأعمال الأربعة، فإننا نشكر الله على توفيقه لنا للقيام بذلك، ونرضى عن عملنا ـ وسأتحدث بالتفصيل عن ذلك فيما بعد خلال الكلام عن خصائص الحاكم الإسلامي، وواجباته ووظائفه.
وحينما يتحدث (عليه السلام) عن حقه على الناس نراه يطلب منهم أن ينصحوه... يقول لهم إن كان فيّ عيب أو نقص. إن علي بن أبي طالب لا يريد مدحاً ولا ثناءً ولا مجاملة، وإنما يطلب من شعبه طرح العيوب كما هي. ثم يطلب منهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وهذه إشارة ضمنية للقوانين والضوابط.
وجوب إطاعة الحكومة الإسلامية
ومن المؤكد أنه لا يمكن القول هنا إن وجوب طاعة أمير المؤمنين تنبع من عصمة الإمام، لأنه لو كان الأمر كذلك فإن عصمة الإمامة لم تكن منحصرة في زمن أمير المؤمنين وإنما جاء من بعده أحد عشر إماماً معصوماً آخرون؛ فعلي بن أبي طالب كان يتحدث باعتبار كونه حاكماً إسلامياً وليس بناءاً على كونه إماماً معصوماً تجب على كل المسلمين إطاعته سواء شاؤوا أم أبَوا، وسواء كان على رأس الحكومة أم لم يكن، وإنما كان يتحدث بصفته حاكماً إسلامياً... هذه إحدى خصائص الحاكم الإسلامي بشكل عام، فهو حينما يطلب إلى الناس القيام بأمر ما فعلى الناس أن يلبّوا طلبه.
هذه أيضاً إحدى خصائص الحكومة الإسلامية.. وبالطبع فنحن حينما نقول الحكومة الإسلامية فإن مقصودنا، بالنسبة لنظامنا الحالي، تلك المجموعة التي تتولى إدارة الشعب ويكون على رأسها الولي الفقيه، وهو المرشد والموجّه والآمر النهائي.
في تشكيلات هذه الحكومة، يوجد مجلس يسنّ القوانين، ومن واجبه أن يسنّ للناس القوانين المُصلِحَة لشؤونهم في إطار التشريع الإسلامي.
ومن ضمن أجهزة الحكم، السلطة التنفيذية والوزارة، ومهمتها تنفيذ السياسات وتطبيق القوانين التي يسنّها المجلس وتقديم مسوَّدات المشاريع والقوانين واللوائح إلى المجلس لإعانته على القيام بسنّ القوانين المناسبة، وللسلطة التنفيذية حيّز عمل واسع ومجال شامل. فكل المسؤولين في جميع المؤسسات التنفيذية يدخلون ضمن نطاق السلطة التنفيذية.
وإلى جانب السلطة المقنّنة والسلطة التنفيذية، نجد أن السلطة القضائية تؤدي واجباتها، والجميع يقومون بوظائفهم تحت ظل الولي الفقيه وإشرافه على مجموع تشكيلات الحكومة وأجهزتها.
ووجوب طاعة هذا الجهاز والتشكيلات على الناس أمر أوضحه الإمام أمير المؤمنين في كلامه الآنف الذكر، وهو أمر تختص به الحكومة الإسلامية ولا يملك الآخرون مثل هذه الخصوصية. فالناس حينما يثقون بمسؤولي الحكومة الإسلامية ويطمئنون إليهم فسوف يرَون ما يسنّونه لهم من قوانين وما يتخذونه من قرارات إنما يندرج في نطاق تحقيق مصلحة الشعب.
وطبعاً فإن الحكومة الإسلامية ومجلس الشورى الإسلامي لا يستطيعان الإدعاء بأن كل ما يصدرانه من قوانين وقرارات هي طبقاً للمصلحة مائة بالمائة أبداً، فهذا الأمر لا يتيسر إلا للمعصومين، ولا يتوقع إلا منهم، بيد أن حكومة الجمهورية الإسلامية ومجلس الشورى الإسلامي وجهاز الحكومة العام يستطيعون أن يدّعوا أن ما يقدمونه منشأه الرغبة في عمل الخير وتحقيق مصلحة الشعب.
فهم ينهمكون في دراسة الأمور ومناقشة المشاريع والتفكير المعمّق فيها، وإجراء المشاورات الكافية ليكون فيما يختارونه تحقيق خير الناس وصلاحهم، وبعد ذلك يحولونه إليهم، وحينذاك يتوجب عليهم بموجبه.
وثمة نقطة أود الإشارة إليها في هذا المضمار:
إن على الناس أن يعلموا أن القانون الحكومي الذي تصدره مؤسسات الجمهورية الإسلامية فيما لو كان مخالفاً لميولهم أو مخالفاً حتى لمصالح بعضهم الشخصية، إنما نُظّم لمصلحة عامة المسلمين، والقاعدة هي أنه لا يصح أن يقيّم كل شخص القانون بمقدار ما يحققه من مصلحته الذاتية. فحينما تقول الحكومة: لا تُبنوا المساكن في المنطقة الكذائية ولا تحولوا الأراضي البور إلى مجمعات سكنية، فمن الطبيعي أن مَن لا يملك بيتاً يبدو له هذا الأمر مخالفاً لمصلحته الشخصية، ولذلك فمن الممكن أن لا يبالي بذلك ويمضي قدماً في بناء منزل له.
وحينما تقول الحكومة: لا تقوموا بربط منازلكم بشبكة الكهرباء أو الماء دون إذن وترخيص من حكومة الجمهورية الإسلامية، يبدو الأمر لمن لا يوجد له فيه ماء أو كهرباء وكأنه يتناقض ومصلحته الشخصية.
السمات العامة للحكومة الإسلامية
بيد أنه لو أُمعِن النظر في ملابسات هذا المنع القانوني ـ آنف الذكر ـ وأسبابه ونوقش بشكل شامل لاتضح أنه مطابق لمصلحة عامة الناس في أنحاء هذا البلد. فإذا بادر بعض الأشخاص لبناء المجمعات السكنية ذات العشرات والمئات والآلاف وعشرات الآلاف من الوحدات السكنية دون إذن من الدولة وخارج نطاق سياسة الإسكان التي وضعتها الحكومة، فكيف يمكن معالجة قضية هجرة القرويين إلى المدن والحد منها؟
كيف يمكن عقد الأمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية ـ والتي لا تتيسر إلا من خلال إعمار القرى والأرياف والاهتمام بها ـ إن صُبّ الاهتمام على التجمعات السكنية في المدن؟
إن حكومة الجمهورية الإسلامية تدرس هذه القضية من شتى جوانبها ثم تضع الخطط الكفيلة بإعادة القرويين المهاجرين من المدن إلى قراهم الأصلية إن أمكن ذلك. إننا اليوم مهتمون بتوسيع نطاق الخدمات القروية مهما استطعنا ذلك، من أجل أن لا يشعر سكان القرى بنقص في هذا الجانب.
فما لم تكن لدينا قرى عامرة مزدهرة، وما دام القرويون تأخذ بألبابهم زخارف المدن الكبيرة وبهارجها ومظاهرها البراقة الجذابة فيتقاطرون عليها ـ مثلما كان عليه الوضع إبّان أيام الحكم الشاهنشاهي البائد نتيجة لتشجيعه القرويين على ذلك ـ كيف يمكن أن نعقد الأمل على أن نتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي، بعد عشر سنين، في مجال زراعة الحنطة والمحاصيل الزراعية المهمة وتوفير المواد الغذائية وكيف يمكننا توفير قوت الشعب دون أن نحتاج إلى الآخرين؟
إن عمليات البناء الاعتباطية وغير المدروسة وتجاهل القوانين والضوابط الحكومية، من شأنها أن تؤدي إلى مشكلات سلبية حيث تتطلب توفير الماء والكهرباء اللازمة لهذه المنازل، وحكومة الجمهورية الإسلامية تنظر نظرة شاملة إلى ما يتوفر من الإمكانات وفي ضوء ذلك تسمح بإنشاء التجمعات السكنية.
وحينما يجري بناء المنازل دون إذن حكومة الجمهورية الإسلامية، سواء في ضواحي طهران أو غيرها من المدن الكبرى فإن معنى ذلك أن مقدار توليد الطاقة الكهربائية لا يؤخذ بنظر الاعتبار، وبالتالي يُحرم سكان تلك المنازل من نعمة الكهرباء، مما يعني حصول تمايز كبير في المجتمع. أما لو أُعطوا من الطاقة الكهربائية فالنتيجة المترتبة على ذلك إلحاق أضرار كبيرة بمحطات انتاج الطاقة الكهربائية لا سمح الله.
هكذا ـ إذاً ـ تؤخذ بنظر الاعتبار جميع دقائق الأمور في القوانين الحكومية، طبقاً للمصالح العامة للمسلمين في البلد. فإن حصل تمرد على هذه القوانين أو تجاهل لها فإن حكومة الجمهورية الإسلامية ستواجه صعوبات بالغة في إدارة البلد، ولا تستطيع القيام بما يريده منها الله وما يتوقعه الناس. لذلك فعلى الشعب أن يهتم بتطبيق القانون الحكومي في جميع المجالات التي يشملها حيّز القانون.
الشعب والضرائب
إن شعبنا يدفع الضرائب المترتبة عليه اليوم برغبة وطواعية، مثلما يدفع الخمس والزكاة وبقية المبالغ الشرعية بكل رغبة ورضى. لقد كان الناس يأتون بالمبالغ الشرعية فيعطونها للحوزة العلمية وعلماء الدين بالرغم من الرقابة الصارمة الشديدة والنظرات الحادة المخيفة من قبل جلاوزة النظام الشاهنشاهي المقبور، وبهذا الشكل كانوا يدعمون الحوزات العلمية ويمدونها بوسائل النضال والجهاد ضد الطاغوت. وها هم اليوم يدعمون الحكومة بدفع الضرائب بذلك الإيمان نفسه، وينصاعون لما تطلبه منهم الدولة.
شعبنا مطيع لحكومته تمام
فحينما تقول الحكومة: لا تبادروا رأساً إلى استخدام الماء والكهرباء دون أخذ إذن رسمي، يمتنعون عن ذلك. وعندما تريد منهم الامتناع عن بعض الأمور لكونها تمر في ضائقة بالنسبة لها، يمتنعون عنها.
وأتذكر أنني ـ وقبل عامين ـ طلبت إلى الشعب من منصة صلاة الجمعة أن يقلّل من استعمال الماء، بسبب حصول شحّة فيه ذلك العام، ولن أنسى كيف أن الناس الساكنين في المناطق الجنوبية ـ وهي منطقة سكنى الشرائح الفقيرة والمتوسطة ـ كتبوا لنا رسائل يقولون فيها أنهم مستعدون لتناول الماء بالقطارة إن أمرتم بذلك... وهذه هي مشاعر شعبنا وأحاسيسه.
ولقد جرّبنا شعبنا مراراً خلال فترة الحرب مع النظام الحاكم في العراق، إذ ظل أبناء الشعب يصبرون ويصابرون ويتحملون الصعاب والمشاق وما زالوا مستعدين لتحملها، وهم مترقبون بماذا تأمرهم الحكومة كي يبادروا لتنفيذ ما تريد، وماذا يأمرهم الإمام كي يقوموا به، وهم يرَون أن الإمام يدعم المسؤولين ومجلس الشورى الإسلامي، وقد أكد ذلك مراراً.
هكذا ينبغي أن تكون شرائح المجتمع مطيعة للقوانين والضوابط حتى لو كان بعضهم تتضرر بعض مصالحه الشخصية أحياناً، ولا يجعلوا الحكومة تنشغل ببعض الأمور الهامشية، فنحن نخوض صراعاً ضد أكبر القوى السلطوية في العالم.
ثبات الشعب فـي ساحة المواجهة
نحن نواجه الآن أميركا ونكافح ضدها في عالمي السياسة والاقتصاد، ونصارع القوى الكبرى وعملاءها الخبثاء في المنطقة وعلى حدودنا، فيجب أن لا نصرف اهتمامنا إلى أمور هامشية وقضايا جانبية. وأؤكد هنا مراراً أن شعبنا أبدى استعداده الكامل لتنفيذ ما يراد منه، وقد شاهدنا ذلك عملياً إبّان أيام الحرب.
فبمجرد أن تعلن الحاجة للمتطوعين، أو للمساعدات والتبرعات الشعبية نرى الآلاف من المتطوعين يتقاطرون على مراكز التعبئة وتتجمع المساعدات والتبرعات اللازمة لدعم جبهات القتال أو لإعمار القرى والأرياف... كل ما أردناه من الشعب كنا نحصل على أفضل مما نريده وأكثر.
وهنا أوصي كلاً من الشعب والمسؤولين بوصية: فأوصي المسؤولين والوزراء وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي بأن يعرفوا قدر هذه الثقة التي أولاهم الشعب إياها وقيمتها، فليكن ما يضعونه من القوانين وما يصدرونه من القرارات بعيداً عن كل ما يجانب الحق ويخالف المروءة، واحذروا دسائس المتقدسين وذوي الأمراض والانحرافات الأخلاقية، وعليكم مراعاة التقوى في كل ما تقررونه.
أما الناس فعليهم أن يراعوا الحيطة والحذر والدقة في انتخاب المسؤولين بما يقولونه، فإن ذلك من تقوى الله[5].
ضرورة الاهتمام بتوضيح صفات الحاكم الإسلامي
من بين أهم المواضيع التي تندرج في إطار بحث الحكومة الإسلامية معرفة سمات الحاكم الإسلامي، فهي قضية جد مهمة بالعبر والدروس، وإذا اتضحت للمجتمع المسلم سمات الحاكم الإسلامي وخصائصه التي أوضحها الله في القرآن الكريم وأراد أن تتجسد فيه، فإن احتمالات وقوع الانحراف في المجتمعات الإسلامية سوف تقلّ بل تكاد تنعدم أحياناً.
وكما نشاهد في التاريخ فإن أحد عوامل انحراف المجتمعات، الحكام المنحرفون، الذين حكموا الشعوب باسم الله لكنهم لم يكونوا يحملون أياً من الخصائص التي ذكرها الإسلام للحاكم، ولم يحملوا وجه شبه بينهم وبين الحكام الذين أرادهم الإسلام سواء من حيث الصفات والخصائص أو من حيث الأعمال والتصرفات والسلوكيات.
فمعرفة الحاكم الإسلامي ـ إذاً ـ قضية يجدر بحثها بشكل مفصل، خاصة وأننا أقمنا اليوم ـ وبعد مضي قرون من الزمن ـ حكومة باسم الإسلام وعلى أساس أحكام الإسلام، ومن الضروري جداً أن نوضح للناس ملامح شخصية الحاكم الإسلامي ومميزاته، من خلال ما نفهمه من القرآن والسنّة النبوية في هذا المضمار.
اهتمام القرآن بإيضاح خصائص الحاكم الإسلامي
إننا نعلم أن القرآن الكريم لم يتناول القضايا الإسلامية المهمة بمثل التفصيل الذي تناوله به المدرسون وبحثه الكتّاب والخطباء، بل ينبغي فهم الإشارات القرآنية بتأمل وتدبّر، واستخراج الفكرة القرآنية واستنباطها من خلال مجموع الآيات والتعابير المبثوثة فيه هنا وهناك.
ونستطيع أن نعي أهمية قضية الحكومة والحاكم الإسلامي من خلال العديد من الآيات القرآنية، ومن جملتها الآيات التي تتحدث عن تأثير الحكام والزعماء في هداية الناس وضلالتهم. واليوم تُجرى البحوث في مضمار تأثير الأنظمة الحاكمة في العالم على صعيد تعيين مصائر الشعوب ورسم مساراتها، وتُعدّ الدراسات العلمية في هذا الشأن.
والقرآن الكريم يتحدث عن هذا الأمر بأروع بيان وأفضل أسلوب فهو حينما يذكر قضية فرعون يقول {يَقدُم قومَه يوم القيامة فأوردَهم النار وبئس الوِردُ المورود} (هود:98).
هذا أفضل تصوير يرسمه القرآن الكريم في هذا الشأن، ففرعون الحاكم الفاسد يورط شعبه في الضلال والهلاك والبلوى. وبالجملة فإن جميع المفاسد والمساوئ والانحرافات التي يورط فيها الحاكم شعبه تؤدي بهم إلى جهنم يوم القيامة، وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى {ألم ترَ إلى الذين بدَّلوا نعمت الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار. جهنم يَصلَونها وبئس القرار} (إبراهيم:28 ـ 29).
هذا إذاً هو دور الحاكم في حياة شعبه، فحينما يسيء الجهاز الحكومي التصرف، ولا يشكر نعم الله، ولا يستثمر ما لديه وما لدى الناس من نِعم الله وعطاياه ومواهبه وألطافه الوفيرة استثماراً جيداً، فإن هذا الجهاز يجر شعبه إلى وادي الهلاك والبوار.
وليس بوسع الحاكم الجائر والنظام الخائن والحكومة التي لا تفكر بتوجيه الشعب ورعاية أموره أن يقولوا: إننا اقترفنا ذنباً ونحن تائبون منه. فالذنب الذي ارتكبوه ذهبت ضحية له كرامة الشعب، وأزهقت أرواح أبنائه. ولهذا فإن على كل الحكام والقادة والزعماء والرؤساء الذين يفرضون سيطرتهم ويتولَّون الحكم بين أية مجموعة من الناس، قلّت أم كثرت، أنت أن ينتبهوا إلى هذه الآيات الموقظة المنبّهة وهذه السياط الإلهية اللاهبة التي تخص الحاكم الجائر.
بيد أن هناك آيات تخص قادة الإيمان والزعماء ذوي التقوى والصلاح إذ يقول الله تبارك وتعالى وهو يصنف هذا النمط من الزعماء {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} (الأنبياء:73).
وبالطبع فإن كلمة الإمام لم ترد في القرآن بمعنى الحاكم في كل الحالات، فالإمام يعني الموجّه والمرشد والهادي الذي يوجه الناس باتجاه معيّن، وبهذا المعنى عبّر القرآن عن التوراة قائلاً {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة} (الأحقاف:12).
بيد أنه التعبير نفسه قد استعمل في القرآن الكريم لوصف الحكام والممسكين بأيديهم أزمّة أمور المجتمع ومقاليد السلطة فيه، وقد وردت بشأنه إشارات وتعاليم قرآنية سامية ومهمة جداً.
والحقيقة أن هؤلاء الأئمة ينقسمون إلى صنفين في القرآن هما:
ـ أئمة الهدى.
ـ وأئمة الكفر.
ويأمر القرآن الكريم بقتال أئمة الكفر حيث يقول {... فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم} (التوبة:12).
فمَن هم أئمة الهدى؟ ومَن هم أئمة الكفر؟
مَن هو الإمام الذي يدعو إلى الحق؟
ومَن هو الإمام الذي يجر شعبه إلى النار؟
يقول القرآن الكريم {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} (القصص:41).
ويعني بذلك فرعون وهامان ونمرود، فما هي مواصفات هؤلاء الأئمة؟ وما هي سمات الحاكم الإسلامي وملامح شخصيته؟
إن هذا الموضوع يُعتبر من أهم الموضوعات التي يجب التعرض لها والتعرف عليها من وجهة معتقداتنا الاجتماعية ومعارفنا الإسلامية. وسنتعرف في هذا الفصل إن شاء الله على الحاكم الإسلامي من حيث الخصائص الموجودة التي ينبغي له أن يجتنبها ويتنزه عنها.
ففي الواقع أن الأمر لا ينتهي عند حدود أن هناك صفات إيجابية من الضروري أن تتجسد لدى الحاكم، وإنما ثمة صفات سلبية ينبغي للحاكم الإسلامي أن يحذرها ويبتعد عنها.
كما سنبحث في وظائف الحاكم الإسلامي الذي تتوفر لديه الصفات الإيجابية، وواجباته تجاه الشعب والدين ونحو المستقبل، وحيال المظلومين والمستضعفين.
العلاقة بين الضلال وعدم معرفة الحكام
لو ألقينا نظرة على النصف الثاني من القرن الحالي لرأينا أن منشأ ضلال هذا المجتمع هو عدم معرفة الشخصيات الصالحة من المنحرفة، وعدم التمييز بين الصحيح والسقيم، وهذا ما رآه كثيرون من أبناء شعبنا.
ففي أواخر العهد الملكي (القاجاري) بدأت تُطرح شخصية جديدة للناس، وسعى المستعمرون إلى إكساب هذه الشخصية مكانة مرموقة بين الناس، وهي شخصية رضا خان. فكان هذا الشخص يتظاهر باحترام الدين ويشارك في مواكب العزاء والهيئات الحسينية ويلطخ رأسه بالطين من أجل أن يضفي على شخصيته المظهر اللائق ويدّعي الصلاح.
ولكن هذا الشخص الخبيث نفسه اتضح جيداً كفره ونفاقه وخيانته بعد مضي سنين عديدة، فأزيح جانباً وحل محله شخص آخر كان يتظاهر أول الأمر ـ أيضاً ـ بتأييد الدين وعلمائه، وانخدع الناس بظواهر الأمور، ولم يتبصّروا في أعماقها ولم يعرفوا حقائقها حتى استطاع توطيد أركان حكمه، وتمتين أسس سلطته إلى الحد الذي كلَّفنا اقتلاع تلك الأسس واجتثاث جذور شجرته الخبيثة كل تلك التضحيات الجسام.
ولولا هذه النهضة الكبرى والثورة الإسلامية العظمى، ولولا قيادة هذا القائد الرباني نجل الحسين بن علي (ع) ووارث الأنبياء وإمام الأمة الإمام الخميني، ولولا تلك السمات الربانية المتجسدة في شخصيته الإسلامية والقرآنية، لولا كل ذلك لما أمكن اقتلاع هذه الشجرة ومحوها.
وقد مررنا بالتجربة نفسها بعد انتصار الثورة الإسلامية أيضاً. فلم تكن ملامح تلك الشخصية التي يريد الإسلام أن تحكم الناس واضحة لدى أبناء الشعب جيداً، ولذلك استطاع بعض الأشخاص التسلط على أمور الشعب، كـ بني صدر مثلاً، عبر الأحابيل الذكية، ومن خلال الكذب والرياء والنفاق، وفيما بعد طُوي بساط رئاستهم بفضل الله وطُردوا بعيداً بعد أن قُلعوا كما الطحالب الضارة، على أيدي هذا البحر البشري المتلاطم الأمواج. بيد أن وجودهم المؤقت قد ترك ضرره الفادح الذي ما زال شعبنا يعاني منه، وطبيعي أن لكل حادثة مُرّة آثار وأضرار ولكنها ينبغي أن تكون لنا تجربة نافعة وملأى بالعِبر.
علينا أن نعلم أنه إذا وضعنا الملاك والمقياس الصحيح والواقعي ووضّحنا لكل الناس ذلك الملاك والمقياس، بحيث استطاعوا أن يفهموه ويجعلوه وسيلة للتجربة ومناطاً للاختبار، فإن أي نظام حكومي يأتي إلى سدة الحكم تحت أي غطاء وادعاء وتؤدي ممارسته للحكم إلى تغيير أوضاع المجتمع وأجهزة الدولة ومسيرتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نحو الإسلام، حينذاك يمكن التعبير عنها بأنها الحكومة المرضية المقبولة عند الإسلام، حتى لو لم يكن ذلك محسوساً بوضوح على المدى القريب. بيد أن المرء لو تأمل قليلاً لوجد أن الإطار العام لحركة مسيرة المجتمع يتجه باتجاه الدين والقرآن... أجل، مثل هذه الحكومة هي الحكومة التي يطمح لتحقيقها الإسلام ويسعى إليها. أما إذا لم تتجسد هذه الصفة في تلك الحكمة فهي حكومة لا يرتضيها الإسلام مهما كانت ادعاءاتها.
الحقيقة غيـر المثبتة فـي تاريخ القرنين الأول والثاني
قبل فترة كنت أطالع صور الإسلام وأتأمل مجريات القرن الأول الهجري، فوجدت أن هناك حقيقة عجيبة في تاريخ تلك الفترة كان يجب تثبيتها في مكانها والإفصاح بها، فإذا استثنينا العقود الأولى من القرن الأول الهجري،نرى أنه ما بعد منتصف القرن الأول طفق المجتمع الإسلامي يتحول إلى مجتمع مليء بالفساد. فالفساد الذي صار يشاهَد في أواخر القرن المذكور فساد عجيب محيِّر للّب.
لقد تحولت مكة والمدينة ـ المدينتان اللتان كانتا محبط الوحي الإلهي، ومركز حكومة رسول الله ـ إلى مركزين من مراكز الفساد، وصارتا وكراً للمغنّين والمنحرفات الفاسدات الشهيرات، وللشعراء البذيئين الذين كانوا بين مروّج للفساد ومادح لحكام الظلم والجور آنذاك. اجتمع هؤلاء الخبثاء المنحرفون في هاتين المدينتين في أواخر القرن الهجري الأول وعلى مدى القرن الثاني تقريباً.
ويعفّ اللسان ويخجل القلم عن ذكر القصص المذكورة عن تلك الفترة ويكفي القول بأن أسوأ الأعمال وأقذر الأفعال كانت تجري في حرم الله وفي المدينة المنورة.
وحينما يتأمل الإنسان يرى أن الحكومة القائمة آنذاك كانت تدّعي الالتزام بالدين وتمنع معاقرة الخمور وتُجري الحد على مَن يشرب الخمر ويتظاهر بالعربدة والسكر. وبالرغم من كل هذه المظاهر كانت الأوضاع في عهد عبد الملك وأبيه مروان، وفي عهد أبناء عبد الملك، تنبئ أن مكة والمدينة ـ وهما رمز الدين والعقائد الروحية في العالم ـ قد تحولتا إلى مدينتين فاسدتين لا أثر فيهما لشيء يعكس الجانب المعنوي.
ومن هنا يعرف المرء أن كل ما كانت تقوله تلك الحكومة كذب وتزوير، وحينما يتدبر الإنسان في أعمال أولئك الحكام يرى أموراً أخرى كلها تدل على كذب ما يدعون، وبالطبع فإن عامة الناس لا يعلمون ولا يرَون، والخواص هم الذين يعون حقائق الأمور، أما العامة فهم لا يرَون إلا حركة المجتمع الكلية.
وفي ضوء كل ذلك، يستطيع المرء أن يفهم كم كان يعاني الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) وهو يعيش في مدينة النبي (ص)، وعلامَ كان يقول بحرقة وألم: "أوَلا حرّ يدع هذه اللمازة لأهلها".
ولهذا فحينما رأى الإمام الحسين (ع) تلك الأوضاع وأحس بخطورتها نهض وثار ثورته الكبرى التي لا نظير لروعتها أبداً على مدى التاريخ[6].
شخصية الأنبياء (ع)
يتميز الأنبياء بكونهم من الوجوه النيّرة في المجتمع، وهم ذوو شخصيات محبوبة نقية وبارزة. ويمكن أن يُطرح هنا سؤال مفاده: لماذا نتحدث عن الأنبياء في نطاق كلامنا على الحاكم الإسلامي؟ هل كان الأنبياء حكاماً إسلاميين؟
الجواب: بلى، إن جميع الأنبياء كانوا قد بُعثوا لكي يديروا شؤون المجتمعات التي يعيشون فيها، ولربما كان المجتمع الذي بُعِث فيه كل منهم محدداً ببلد واحد أو مدينة واحدة، أو حتى قرية واحدة. وأحياناً يكون مدى عملهم ونطاق رسالتهم غير محدود أو مؤطر بمكان معيّن بل يشمل العالم بأسره، وهكذا كان حال كبار الأنبياء.
بيد أنه ليس هناك فرق بين جميع الأنبياء، من حيث اتصافهم بصفة معيّنة، وهي أنهم جميعاً قد بُعثوا لإسقاط حكم الطاغوت حيثما كان، وعلى مدى جميع الأزمنة والعصور، وإقامة نظام الحكم الإلهي. ولذلك قال الله (تبارك وتعالى) في القرآن {وما أرسلنا من رسول إلا ليُطاع بـإذن الله} (النساء:64).
ولذلك فحينما كان أحد الأنبياء يدخل مجتمعاً ما، يطلب من أفراده أن لا يطيعوا الطواغيت المتسلطين {ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} (الشعراء:151 ـ 152).
أي لا تطيعوا الملك أو الحاكم الذي يحكم المجتمع المبعوث فيه ذلك النبي. فقد كان شعار جميع الأنبياء طوال التاريخ ـ كما ذكره التاريخ ـ هو {فاتقوا الله وأطيعونِ} (الشعراء:108).
وقد ورد هذا القول على لسان نوح ولوط وصالح وشعيب وموسى وبقية الأنبياء المذكورين في سورة الشعراء، حيث تتكرر هذه الآية عدة مرات، ولهذا فإن النبي بمجرد دخوله المجتمع وبدء دعوته فإن أول الذين يشعرون بالخطر هم الطواغيت، وعلى هذا الأساس يبدأون تصديهم للأنبياء وعنادهم لدعوتهم، وسقيهم كأس الشهادة، أو إلقائهم في غياهب السجن ونفيهم وإبعادهم. وهناك العديد من الأمثلة على هذه القضية في آيات القرآن الكريم.
وثمة حالات توِّج فيه جهاد الأنبياء وتضحياتهم بالنصر وإقامة الحكومة، فكان بعضهم يتولى شخصياً إدارة تلك الحكومة ويكون على رأسها كما فعل الرسول الأكرم (ص) وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام)، أو أن يعيّن النبي شخصاً آخر ليتصدى لإدارة شؤون الحكم والدولة، وهو ما ذكره القرآن أيضاً في قوله تبارك وتعالى {إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} (البقرة:246).
إذاً، فجميع الأنبياء بُعثوا ليكونوا حكاماً ومسؤولين في المجتمع الإسلامي، والسمات التي ذُكرت بالنسبة للنبي هي في الحقيقة سمات للحاكم الإلهي اللائق ـ فيما عدا النبوة والوحي ومستلزماتها طبعاً ـ ولنستعرض الآن سمات هذا الحاكم وملامحه.
سمات الحاكم الإسلامي
تستطيع أن تتصور ملامح شخصية الأنبياء وسماتهم عبر استطلاع آيات القرآن وأحاديث المعصومين (عليهم السلام)، وحينما تتجسد في أذهان الناس تلك الملامح فبإمكانهم حينذاك أن يتصوروا بسهولة سمات شخصية الحاكم الإسلامي.
ومن الضروري أن أؤكد هنا أن ما سأذكره منها ليس إلا عدد قليل من تلك السمات، إذ يمكن أن نذكر 5 أو 6 أضعاف هذه السمات التي تضمنها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة و"نهج البلاغة". بيد أن المهم هو أن هذه الخصائص بمجموعها تشكل سمات الشخصية الإسلامية.
وبعد أن ننتهي من إيرادها فإننا سنتطرق في فصل لاحق ـ إن شاء الله ـ إلى صفات الطاغوت ومصاديقه، إذ ما لم يُعرف الحاكم الطاغوتي فإن الناس قد يقعون في الخلط، وذلك نظير أهمية معرفة الله ومعرفة الشيطان في المقابل.
إن ملامح شخصية النبي ملامح نيّرة تطرّق إليها القرآن الكريم في العديد من آياته، وقد استنبطتها من هذه الآيات، وهذه الملامح هي:
أولاً: إن الله ـ تعالى ـ قد منّ عليهم بالعلم والمعرفة، والحكمة والتزكية الأخلاقية.
وهذه النعم من أهم مواهب الله للمرء، ويوضح القرآن تمتّع الأنبياء بهذه السمات في العديد من الآيات.
فمنها قوله ـ سبحانه ـ وهو يتحدث عن يوسف (ع) {آتيناه حكماً وعلماً} (يوسف:22).
ومنها قوله ـ تبارك وتعالى ـ بشأن لوط (ع) {ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً} (الأنبياء:74).
وهذا العلم اللازم لإدارة المجتمع، علم التوحيد وعلم الدين. فالنبي حينما يدير المجتمع فإنما يقوم بذلك بالاعتماد على فكر وتخطيط إلهيين.
والعلم الذي وُهب للنبي هو ـ بالدرجة الأولى ـ هذا العلم الإلهي، أي معرفة الإنسان ومعرفة الله، ومعرفة واجب عبودية الله، وتشخيص وظائف الإنسان من أجل إدارة المجتمع وإقامة مجتمع رباني والوصول إلى الكمال.
كل هذه الأمور مستلزمات ضرورية لإدارة المجتمع وإقامة مجتمع إلهي، ومن أجل بلوغ الكمال المرجو، والتمكن من إقامة الجنة على وجه هذه الأرض، أي إقامة المجتمع الإسلامي، وبالتالي إيجاد العبد الكامل لله.
وقد تعلم النبي كل هذه الأمور والعلوم والمعارف من الله دون أن يدرسها عند أحد أو يتأثر بأي شخص آخر، ولهذا فحينما يكون معلن الثورة النبوية وقائدها هو الحاكم في المجتمع الإسلامي ومنبع العلم ومصدر المعرفة، فمن الطبيعي أن ينهل الناس في ذلك المجتمع من نمير العلم والمعرفة الفياضة.
الفرق بين العلم والحكمة
إن جهل القادة يؤدي إلى شيوع الجهل في أوساط الناس، وإن تمتّع القادة بالعلم والمعرفة والحكمة من شأنه نشر العلم بين أبناء الشعب. ولذلك يقول الله تبارك وتعالى {ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} (البقرة:129).
فهو يزكي الناس متى ما كان زكياً. ويعلّم الناس متى ما كان عليماً. ويفيض الحكمة على الناس متى ما كان حكيماً.
والعلم يختلف عن الحكمة، فهي أرقى من العلم وأسمى. فالعلم عبارة عن معرفة الأحكام واكتساب المعارف الإلهية. أما الحكمة فهي حالة البصيرة التي تحصل لدى المرء في ظل العبودية لله والحكمة هي النظرة الثاقبة العميقة والرؤية النافذة الدقيقة التي يستطيع مَن يمتلكها أن يدرك الحقائق المعنوية لهذا العالم.
أما الذين يرَون الحياة محصورة ومحدودة في نطاق هذه الدنيا، والذين يعتبرون الحصول على المال وجمعه أسمى القيم، و الذين يسعَون بلهفة للحصول على السلطة والقوة، والذين يظنون أن اللذات الدنيوية أفضل من كل لذة ويجهلون حقيقة اللذات المعنوية... هؤلاء محرومون من الحكمة.
فالحكمة هي ذلك الأمر الذي يجعل الإنسان يرى الحقائق ويدركها بعين البصيرة النافذة، التي ترى الحقائق كما هي، وتعلّم المرء، وتعطي لحياته معناها الأصيل، ولموته مفهومه الصحيح.
لقد أفيضت على شعبنا اليوم رشحة من رشحات الحكمة فصار يدرك الحقيقة ويعي معنى الموت، فطفق يبدي كل هذا التفاني والاستبسال في الجهاد في سبيل الله. والإيثار أحد مظاهر الحكمة المتجسدة لدى شعبنا، والتضحية إحدى ملامح الحكمة لدى مقاتلينا الأبطال في الجبهات... هذه هي الحكمة.
وكما أسلفنا فإن أولى صفات الأنبياء أن كل واحد منهم عالم حكيم، طاهر زكي، تنعدم فيه الخصال السيئة والغرور والأنانية وحب الذات، ولا يريد لنفسه شيئاً، ولا يحسد إنساناً، ولا يطبع الأهواء والشهوات، ولا يحمل نظرة ضيقة، أو يحتقر أمراً، ولا ينجذب بقدرات الأقوياء أو يولع بهم.
هذه هي الخصلة الأولى التي تصيغ للنبي مثل هذه الشخصية القوية وغير المهزوزة، وهي تجمع تلك السمات الثلاثة مع بعضهم بعضاً؛ العلم والحكمة والتزكية الأخلاقية. وينبغي الكتابة في هذا الشأن كثيراً ويجب الحديث عنها طويلاً.
ثانياً: الأنبياء ليسوا من ذوي الأطماع والأهواء
والخصوصية الأخرى التي تضمنتها آيات القرآن ووصفت بها الأنبياء هي أنهم لم يريدوا لأنفسهم أي أجر في مقابل الجهود التي يبذلونها والمشاق التي يتحملونها {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} (الشورى:23).
إن النبي لا يريد أجراً إزاء الجهود التي يبذلها، لا أجراً مادياً ولا معنوياً من قبيل المدح والإطراء، وإذا نُسبت كل الجهود التي بذلها النبي إلى شخص آخر ولم تعتبر من مفاخر أعماله فإنه لا ينزعج من ذلك أو يتذمر.
يقول الله تبارك وتعالى {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتّبعوا المرسلين * اتّبعوا مَن لا يسألكم أجراً وهم مهتدون} (يس:20 ـ 21).
ويقول تقدست أسماؤه في سورة الشعراء {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجرِيَ إلا على رب العالمين} (الشعر:109).
وتتكرر هذه الآية مراراً على لسان هود ونوح وصالح وشعيب وموسى وبقية الأنبياء (عليهم السلام). إنه أمر مهم، فالشيء الذي يُضعف الهمم، والذي يصيب عزيمة الإنسان بالتردد من طي الطرق المحفوفة بالأخطار، هو أن يشعر أن مصالحه معرضة للخطر، والشيء الذي يؤدي إلى أن يساوم المرء ولا يعرب عن رأيه ومعتقداته بشكل صريح في مقابل الفئات التي تختلف معه في الفكر والعقيدة، ويمتنع عن التحدث بصراحة عن آرائه، بل يكتم عقائده ويتفادى إظهار الحق والتصريح به وإيصاله إلى مسامع الناس، تحت غطاء مراعاة المصلحة وتفادي الضرر، وما يجعله يمتنع عن توعية الناس وتنوير أذهانهم، إنما هو ذلك الشيء نفسه الذي لم يرده أي من الأنبياء ولم يسعَوا للحصول عليه.
النموذج الكامل للحاكم الإسلامي
هل بين زعماء دول العالم اليوم زعيم مستعد للبوح بالحقائق الموجودة في العالم وفي بلده، والتصريح بها للناس؟ لو كانوا أحراراً وخلَوا من الأغراض والأطماع لصرّحوا واعترفوا بها. إن جميع الذين واجهوا الشعوب بالنفاق والرياء ولم يفتحوا قلوبهم للناس، إنما كان يدفعهم لذلك مرض الحرص على الأبّهة والهيبة والسمعة الزائفة، بينما لم يُبتلَ الأنبياء بهذا المرض، ولم يريدوا من الناس أجراً لا نقدياً ولا معنوياً من قبيل الأبّهة والاحترام والهيبة. وهذا نموذج كامل للحاكم الإسلامي.
وحينما نقول "الحاكم الإسلامي" فإننا لا نقصد الحكام الحاليين في البلدان المسلمة ـ وسنتحدث فيما بعد عن هذا الموضوع ـ لكن ما نريد قوله الآن هو: هل إن الحاكم الإسلامي شخص واحد أم عبارة عن جميع المسؤولين في جهاز الحكومة وبناءاً على ذلك فعليهم أن يتحلَّوا بهذه الصفات المذكورة للحاكم الإسلامي؟
في الحقيقة، إن جميع الذين يمارسون الحكم ويمسكون بزمام الأمور ـ بنحو من الأنحاء ـ في المجتمع الإسلامي عليهم أن يقتربوا ما استطاعوا إلى التحلي بهذه الصفة {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجرِيَ إلا على رب العالمين}، وأن لا يطلبوا أجراً ومكافأة إلا من الله، فهم لا يتوقعون الحصول على أي أجر مقابل القيام بواجباتهم وتكاليفهم، وهذه هي الحقيقة، إذ حين يوفق المرء لإنجاز واجبه وأداء وظيفته فإن هذا بحد ذاته أكبر أجر وأثمن هدية يمنّ بها الله عليه.
هذه إحدى أعظم سمات الأنبياء وخصوصياتهم، فهم لا يلهثون وراء الأطماع ولا يتبّعون الأهواء، ولا يريدون جزاءاً ولا شكوراً، لا أولئك الذين غادروا الدنيا واستشهدوا قبل إقامة الحكومة الإلهية والإسلامية، ولا أولئك الذين تمكنوا من إقامة مثل تلك الحكومة كرسول الله محمد (ص). فحتى رسول الله الذي تمكن من إقامة الحكومة الإسلامية فإنه طوال عشر سنوات لم يَذُق طعم الراحة يوماً واحداً، وإنما كان منهكاً في خوض الحروب والغزوات والمعارك، مقتحماً لهوات الصراع والمواجهة ضد الأعداء متحملاً شتى صنوف العناء والمشقة.
ثالثاً: التلاحم بين الأنبياء والمحرومين
وهذه هي السمة الثالثة التي تتجلى في حياة الأنبياء، وهي على جانب كبير من الأهمية، وتتمثل في أن الأنبياء مارسوا عملهم في أوساط المحرومين، وكانت تربطهم وشائج الود وأواصر الحب مع هذه الشريحة التي كانت تشكل الأغلبية الكبرى والأكثرية العظمى طوال التاريخ.
فلم يُبدِ الأنبياء أي تعاطف أو ميل للمستكبرين بل كانوا متلاحمين مع المستضعفين، ولأمير المؤمنين خطبة شهيرة في "نهج البلاغة" تسمى "القاصعة"، وهي خطبة مهمة وزاخرة بالمعاني السامية والمفاهيم العجيبة كلها تنصب على ذم التكبر، وهو يشكل أحد أهم المحاور التي تتحدث عنها الخطبة، وأنقل هنا بعض ما ورد فيها.
يقول الإمام (ع): "فلو رخَّص الله في الكبر لأحد من عباده لرخَّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه ـ سبحانه ـ كره إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين" (نهج البلاغة، خ 192، الصالح).
ولهذا كان المؤمنون يلتفون حول النبي، والمقصود هنا بالمستضعفين إما المؤمنون وإما الأنبياء أنفسهم، فكلاهما كانا مستضعفين، ولذا نرى أن بعض أقوام الأنبياء كانوا يُشْكِلون على النبي قائلين {قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون} (الشعراء:111).
وقالوا أيضاً {وما نراك اتّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} (هود:27).
وحينما يقطن الحاكم بين أوساط الناس فإنه يشعر بآلامهم، وعندما تكون الوشائج والأواصر قوية بين طبقات المجتمع المحرومة وجمهور الشعب ـ من جهة ـ والحاكم في المجتمع الإسلامي ـ من جهة أخرى ـ فإنهم يسمعونه كلامهم ويوصلون له مطاليبهم، فمن الطبيعي أن مثل هذا الحاكم يشعر بمعاناتهم، وحينما يكون ذا نية حسنة تتاح له إمكانية مساعدة الناس ومعالجة مشكلاتهم.
بينما نجد أن سائر طواغيت العالم لم يكونوا يدركون آلام الناس، أو يشعرون بمعاناتهم ولا يشاركونهم في سغبهم وكربهم، ولم تكن المشكلات والنواقص والهموم التي يعاني منها الناس تعني شيئاً لديهم.
وحتى في الدول التي تدار ـ حسب الظاهر ـ بالأسلوب الاشتراكي، يتوجب على الناس أن يأخذوا كل شيء من الدولة، والناس متشابهون ـ إلى حد ما ـ في معاناتهم وهمومهم، أما الطبقة الحاكمة فلا تعلم شيئاً عن أحوالهم.
بيد أن الأمر ليس هكذا في المجتمع الإسلامي وفي ظل الحكومة الإسلامية. فلو ذهبتم إلى منزل الإمام ـ ذلك الإمام الذي يفديه الناس بأموالهم وأنفسهم ـ فسوف ترَون أنه يعيش فيه معيشة الناس البسطاء ومتوسطي الحال، سواء من حيث المأكل أو الملبس أو الفرش، ويعاني مثلما يعاني باقي الناس، فإذا كان بعض الناس يعاني من قلة الوقود المنزلي ـ النفط ـ فهو الآخر يعاني من قلّته، وإذا كان بعضهم تنقصه بعض الأدوات والأجهزة المنزلية فإن بيت الإمام تنقصه بعض الأجهزة أيضاً، وإذا كانت شحّة بعض المواد تنعكس على بعض الناس فإنها تنعكس عليه هو الآخر... إنه يتساوى مع الناس في كل ما يعانونه.
أميـر المؤمنين علي (ع) القدوة والنموذج
وبالطبع فإن النموذج الأعلى والقدوة الأسمى والأبرز في هذا الشأن، حياة أمير المؤمنين (ع) الذي قال في "نهج البلاغة": "أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش" (الرسالة 45).
وقال (ع) قبل ذلك: "وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد" (المرجع نفسه).
لقد كان (ع) نموذجاً ورمزاً لمسيرة بدأها الأنبياء في وسط الناس وكانوا مَثَلها الأعلى، ولذلك فإن على الحاكم الإسلامي أن يشعر بمعاناة الناس ويستمع إلى كلامهم ويصغي لأقوالهم، ويشخّص العقد المستعصية عليهم كي يبادر إلى حلها.
وفي هذه الخطبة ذاتها، يقول أمير المؤمنين (ع): "ولكن الله ـ سبحانه ـ جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضَعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى" (المرجع نفسه).
كم في هذا العالم من المتنكرين الذين لا يمتلكون في بواطنهم أي نمط من الإرادة الإنسانية؟! إنهم أناس ضعفاء في الحقيقة، لأنهم أمام غريزة السيطرة وحب التسلط فيهم، وأمام ميول الفساد والشهوة، وضعاف إزاء مخالب القوى العالمية الكبرى؛ أما في مقابل شعوبهم وفي مقابل المستضعفين والمظلومين فإنهم مستأسدون متوحشون مقتدرون.
أما الأنبياء فإنهم على العكس من ذلك فهم متواضعون للمستضعفين، بيد أنهم أشداء شامخون إزاء أعداء الله.
ونعود لحياة أمير المؤمنين، ونستمع إلى قنبر خادم أمير المؤمنين وهو يقول للإمام: إنك قد كبرت وصرت شيخاً وليس من المناسب ـ وأنت في هذا السن ـ أن تكسر رغيف الخبز بركبتك وتضع قطعة من الخبز اليابس في فيك، دعني آتيك برغيف خبز الحنطة اللين لتستطيع أن تمضغه. فقال له الإمام: لا يا قنبر.
وأضاف قنبر: فذهبت وصنعت رغيفاً من خبز الحنطة ومرّغته في السمن قليلاً، وقدّمته بحضرته علّه يأكل منه شيئاً، وحين علم بذلك أبدى تذمره وانزعاجه وعاتبني قائلاً: لِمَ فعلت ذلك يا قنبر؟.
ثم أنه بادر إلى كيس الطعام فختمه ـ وكان فيه شيء من الإدام وطحين الشعير المخلوط بقشوره (النخالة) ـ لئلا أخلط معه شيئاً آخر، فقلت مع نفسي: لماذا أُصر على إعداد طعام شهي لأمير المؤمنين كل هذا الإصرار فأثير سخطه وأكون مأثوماً بذلك. ومنذ ذلك الحين لم أقدم على هذا العمل لأنني رأيت الإمام يكرهه ويثير غضبه.
هكذا كان وضع حياة أمير المؤمنين (ع)، وكانت هذه صفة بارزة وخصيصة مهمة في حياته، كان متواضعاً للناس غاية التواضع، خافضاً لهم جناحه، يكنّ لهم كل الاحترام، ولم يحدث أن أبدى تجاهلاً لهم، ولسوف نرى عكس ذلك حينما نتطرق إلى ملامح حياة الحاكم الطاغوتي والإمام الباطل، إذ أنه يبدي تمام التجاهل للناس، وهناك العديد من نماذج هذا النمط من الحكام في العالم المعاصر.
الحكام الجائرون مشكلة الشعوب
إن الشعوب عرضة ـ الآن ـ لتلاعب الحكام الجائرين وأهوائهم وميولهم في شتى أنحاء العالم، والشيء غير المهم بالنسبة لهم، مصالح الشعوب، والشيء الذي لا يهمهم سواه ولا يعنيهم غيره هو مصالحهم الذاتية.
إنه يعاملون الناس بالتكبر وباللامبالاة ولا يُعنَون إلا بمصالحهم الشخصية. ولو أريدَ إجراء استفتاء عام في العالم فكم سيكون عدد الأشخاص الذين سيعربون عن رضاهم من بين 4 أو 5 مليارات إنسان ـ لبقاء أمثال كارتر وريغن ومَن لف لفهما على رأس السلطة والحكم؟!
كم شخصاً سيؤيدون سيطرة هذا النمط من الحكام الناهبين مثيري الفتن ومؤججي نيران الحروب من الظَلمة المعتدين على حقوق الشعوب؟
إن الشعوب لا يمكن أن تؤيد هؤلاء الحكام لأنهم ليسوا في خدمتها، وحينما تجد الشعوب أن هناك مَن يقوم بخدمتها ويتحرق من أجلها ويذرف الدموع في سبيلها فإنها تحبه بكل وجودها وتعطيه أزمّة قلوبها وتعشقه من أعماقها.
الإمام الخمينـي نموذج للحاكم المحبوب
ومن أبرز نماذج هذا النمط من الحكام في بلدنا ـ على سبيل المثال ـ الإمام الخميني، ولا أدري هل هناك نموذج آخر يناظر الإمام في التاريخ المعاصر أم لا، وعلى أية حال فإن الشعب عاشق للإمام، والإمام عاشق للشعب.
وأتذكر أن مدينة بهبهان قد تعرضت لقصف قوات النظام الحاكم في العراق إبّان الحرب الإيرانية ـ العراقية، ومساء ذلك اليوم كنا في خدمة الإمام ومكثنا برهة ننتظر قدومه من غرفته، وحينما حضر سماحته كان أول ما تحدث عنه هو تلك الحادثة المأسوية، وكانت المرارة واضحة على أسلوب الإمام وامتزجت كلمات الأسى والحزن واللوعة بحديث الإمام وكأنه هو الذي أصيب في تلك الحادثة... بل إن الإمام لم يبكِ حتى لوفاة ولده الأكبر ولكنه أجهش بالبكاء مراراً من أجل مصاب أبناء الشعب.
ويخطر ببالي أنني كنت مرة في زيارة لمدينة تبريز فاستوقفتني امرأة من أهاليها، وقالت لي: إن ولدي كان أسيراً بيد النظام الحاكم في بغداد، وقد سمعت مؤخراً أنه قد استشهد على أيدي جلاوزة هذا النظام فجئت لأقول لك: قل للإمام أن لا يحزن على أبنائنا ولا يتألم، بل نحن قلقون على سلامة الإمام، ونفكر به وندعو الله بأن يحفظه ويرعاه.
وقد زرت سماحة الإمام بعد عودتي من تبريز، فكان مما ذكرته بحضرته هو ما أوصتني به تلك المرأة، وما أن سمع الإمام ما قالته المرأة حتى بدت عليه إمارات التأثر، وبدا ذلك واضحاً على محيّا الإمام، وتغيرت ملامحه واغرورقت عيناه بالدموع. وحقاً أن رؤية مشهد الإمام، وهو بتلك الحالة، تصيب المرء بالتأثر والحزن، وحقاً كم هو عطوف ورؤوف قلب الإمام، وكم يتحرق ويرقّ لأوضاع الناس وأحوالهم.
وفي المقابل، نرى الناس تملأ قلوبها محبة وتعاطفاً ومودة للإمام، بل ويعشقونه بكل وجودهم وأحاسيسهم، وهذا العشق لا يقتصر على أبناء الشعب الإيراني بل يشمل كل الشعوب التي عرفت الإمام ولو بدرجة متواضعة، فهم يشعرون بأواصر الود ووشائج الحب تربطهم به، لأنهم يدركون أنه وَقَف نفسَه لخدمة الإنسانية وحفظ مصالحها، وهو يقف في صف المستضعفين في صراعهم ضد المستكبرين... وهذه هي سمات الحاكم الإسلامي.
ممّ يعاني العالم المعاصر؟
إن الشعوب تعاني ـ اليوم ـ من مصائب، ولديها مشكلات جمّة، ويعود جزء من هذه المعاناة والمشكلات إلى الحكام والمتسلطين على رقابها، بل يمكن القول: إن القسم الأكبر والأهم من معاناة الشعوب مرتبط بحكامها الجائرين الفاسدين.
الحاكم الإسلامي منزّه عن سلبيات الحكام الجائرين
ما الذي يحمل هؤلاء الحكام الجائرين الفاسدين على توجيه الضغوط نحو شعوبهم وملء حياتها بالمرارة والمعاناة وإشاعة الفساد والظلم فيما بينها؟ وما هو الدافع وما السمة التي تجعلهم يجرّعون الشعوب مرارة الخيبة والإحباط والفساد والفوضى؟
لو تأملنا في تلك الأسباب لوجدنا أنها تكمن في عدة أمور:
أولها: الجهل والغباء، فهم في الغالب أشخاص جهَلَة أغبياء، ليس لهم نصيب من المعرفة ولم يتسنّ لهم إدراك دقائق كيان الإنسان.
ثانيها: الانحطاط الخُلقي، وهو يتجسد في غرق هؤلاء الحكام الفاسدين في التلوث الخُلُقي والغرور والشهوة، والابتلاء بالحسد والبخل، وضيق النظرة وحدة الطبع والفظاظة والتكبر، وهم غارقون في شتى أنماط التلوث والانحطاط الخُلقي.
ثالثها: الاستكبار والاستبداد، فهؤلاء الحكام مبتلَون بالاستعلاء والتفرد بالرأي واللامبالاة بالناس وعدم الاهتمام بمصالحهم، والجهل بأحوالهم،وتوجيه الإهانة إليهم وجرح كرامتهم وعدم إقامة أي وزن لهم، وحصر الاهتمام بمصالحهم الشخصية البحتة، والسعي وراء الماديات وما شابه ذلك.
وبالجملة، فإن هؤلاء الحكام يوصفون بأربعة أو خمسة مجاميع من الصفات السيئة، ولأن الحكومات الجائرة قائمة في شتى أنحاء العالم فإن الشعوب ما لبثت تعاني من المصائب والويلات والآلام على يد حكامها الظَلَمة الغاشمين.
أما الحاكم الإسلامي فليست فيه أي من هذه الصفات، فالذي يرأس الحكومة في المجتمع الإسلامي شخص لائق تنعدم فيه كل هذه الصفات السيئة التي أسلفنا ذكرها.
فالأنبياء ليسوا مستكبرين... إنهم حمَلَة العِلم والحكمة والتزكية الخُلُقية وهم في خدمة المستضعفين، ومن بين ظهرانيهم، ولا يريدون أجراً لأنفسهم. نأمل أن نتمكن من جعلهم قدوة لنا، وينبغي أن تتخذهم الشعوب نموذجاً وقدوة لها جميعاً[7].
الأنبياء هم الأحق بالحكم
لما كان الحاكم الحق هو الشخص الذي اختاره الله ليحكم الناس فإن الأنبياء قاطبة كانوا يتوفرون على اللياقة اللازمة والكفاءة المطلوبة لممارسة الحكم بين عباد الله. ولو كانت دعوات الأنبياء إلى دين الحق والتوحيد قد آتت أكلها وحققت نتائجها المرجوّة في المجتمعات التي بُعثوا فيها لكان الأنبياء هم الحكام في تلك المجتمعات، ولذلك فإن الأنبياء الذين حالفهم النجاح والتوفيق في إقامة المجتمعات المبنية على الأسس والأصول الإسلامية والدينية صاروا هم الحكام في تلك المجتمعات.
وعلى هذا الأساس، فإن الإمام الصادق (ع) قال في خطبته القصيرة التي ألقاها في حشود حجاج بيت الله الحرام في منى إبّان العهد الأموي: "أيها الناس! إن رسول الله كان هو الإمام".
فلقد كانت الفكرة الشائعة في أذهان الناس ـ في ذلك الحين ـ عن الإمامة والحكومة نابعة من مشاهداتهم لحياة خلفاء الجو، فكانوا يخالون أن الحاكم بين الناس ينبغي له أن يكون شخصاً من نمط هشام بن عبد الملك، بيد أن الإمام الصادق (ع) قد رفض هذا التصور ومحاه، موضحاً أن الحاكم بنظر الإسلام وبموجب معايير الإسلام هو رسول الله (ص).
الأنبياء نموذج الحاكم الإسلامي
إن ما شاع في أذهان عامة الناس في العصر الحالي ـ من تصور عن الحاكم، هو أنه شخص تتوفر فيه صفات معينة ليس من بينها الأخلاق والقيم المعنوية. لقد آمن الناس بسهولة ـ بأن حاكم المجتمع له أن يكون عاقلاً، مدبّراً، كفوءاً، لكن القليلين من الناس يدركون ويؤمنون بأن الحاكم ينبغي له أن يكون امرءاً زاهداً عافت نفسه الدنيا، وشخص ورع كيّس مقاوم لأهوائه النفسية.
هذا هو التصور الخاطئ الشائع في عقول أكثرية الناس في عالمنا المعاصر، وهو مسبّب لوجود حكام ظَلَمة من عباد الأهواء كانوا يمسكون بأيديهم مقاليد أمور الناس طيلة العهود المنصرمة من التاريخ.
ولقد جاء القرآن الكريم فمزّق كل أنسجة هذا التصور الخاطئ، وأعطى الناس صورة راقية رائعة للحكام، من خلال تقديمه نموذج الأنبياء للشعوب. فللحاكم والوالي عدة خصال ومميزات في الرؤية القرآنية تختلف اختلافاً جوهرياً عما تسالمت عليه الثقافات المادية، وعما فهمه ذوو النظرة الضيقة واعتقده الناس الخاضعون للسيطرة الثقافية، والرازحون تحت الهيمنة السياسية طوال التاريخ الماضي.
كنا قد أسلفنا القول إن الصفات التي يتمتع بها الحاكم الإسلامي يمكن أن تتبلور جيداً من خلال الملامح العامة الوارد ذكرها في القرآن الكريم بشأن الأنبياء. كما أشرنا إلى نماذج من تلك الصفات والخصال والمتمثلة في شخصية الأنبياء، وأوضحنا أن كل واحد من الأنبياء هو نموذج للحاكم الإسلامي، إذ يتوفر فيه العلم والحكمة، وتتجسد لديه الأخلاق الإنسانية النبيلة، وتتمثل في شخصيته التزكية وتهذيب النفس.
كما أن من أبرز صفاتهم كونهم "شعبيون" ومن بين جماهير الشعب وعامة الناس، وهم يدركون منطق الناس ويشعرون بمعاناتهم ويتحرقون من أجلهم. وسبق أن قلنا إن الأنبياء ما كانوا يريدون أجراً في مقابل خدماتهم، بل إنهم جميعاً رفعوا شعاراً واحداً هو {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين}، إنهم لا يريدون ملء جيوبهم من أموال الناس وليسوا مولعين بحب مال الدنيا وزخرفها، ولا متلهفين لرياشها وقناطيرها المقنطرة ورفاهيتها، وهذه صفة أخرى من الضروري أن يتحلى بها الحاكم الإسلامي بالإضافة إلى جملة من الخصائص الأخرى، ومنها قوة الإرادة وشدة العزيمة "أولي قوة في عزائمهم"، كما قال أمير المؤمنين (ع). ولذلك فإنهم حلّوا أصعب المشكلات وعالجوا أعسر الأمور، واجتازوا أخطر الطرق والمسالك، فلم ييأسوا ولم يُصِبهم التردد ولا اعترتهم الاستكانة ولا الخنوع.
إذاً، فجدير بهذا المخلوق أن يكون على رأس أجهزة الحكم في المجتمع الإسلامي ليقوم بإدارة البلاد.
_______________________
[1] من خطبة ألقاها سماحة القائد في صلاة الجمعة (طهران) في 1403 هـ (2/9/1983)
[2] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بطهران في 1403 هـ (15/4/1983).
[3] تقول المادة الخامسة من الدستور: "زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير...".
وتقول المادة التاسعة بعد المائة: الشروط اللازم توفرها في القائد، وصفاته هي:
1ـ الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه.
2ـ العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية.
3ـ الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة".
فالدستور يصرح أن القائد ينبغي أن يكون "مديراً" و"مدبّراً". وهاتان الصفتان بعد صفتي "الفقاهة" و"العدالة". إذ لا بد للفقيه العادل ـ إن أراد أن يقوم بإدارة المجتمع ـ دون الوقوع في المطبّات والمنعطفات الحادة، فعليه أن يكون خبيراً بشؤون العالم والناس، وينبغي أن تتوفر فيه صفة "الحكمة" و"الحنكة" السياسية. وبالرغم من أن الصفتين الأساسيتين هما "الفقاهة" و"العدالة"، إلا أن هذه الصفات الثانوية لها أهميتها بالدرجة الثانية بعدهما.
[4] من خطبة ألقاها سماحته في صلاة الجمعة (طهران) في 1403 (20/5/1983).
[5] من خطبة ألقاها سماحته في صلاة الجمعة (طهران) في 1403 (17/6/1983).
[6] من خطبة ألقاها سماحة القائد في صلاة الجمعة (طهران) في 1403 هـ (1983)
[7] من خطبة ألقاها سماحة القائد في صلاة الجمعة (طهران) في 1403 هـ (28/10/1983).

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية