الفصل الثالث: الحكومة الطاغوتية والحاكم الطاغوتي
أهمية تشخيص الجوانب السلبية فـي شخصية الحاكم
بعد أن استعرضنا ـ في الفصل السابق ـ ملامح الحاكم الإسلامي وسماته، فمن الضروري أن
نقوم باستعراض ملامح الحاكم غير الإسلامي، إذ ليس كافياً أن نتعرف على الخصال
الإيجابية في شخصية الحاكم بل ينبغي لنا تناول الجوانب السلبية، فما دام المسلمون
لا يعرفون هذه الجوانب ويشخصونها، لا يمكنهم التعرف ـ ببصيرة ووعي ـ على مَن يليق
بتولي أمور الحكومة، ويسلّمون له ويطيعون، ويكونون رهن إشارته وطوع إرادته.
لقد أدى الخداع والاحتيال اللذان امتلأت بهما عهود حكومات الظالمين الطويلة في
التاريخ الإسلامي ـ من خلال تستّرهم باسم الإسلام ـ إلى عدم تمكن الناس من تشخيص
النقاط السلبية لدى الحاكم.
فمن الضروري بمكان أن نعرف ملامح شخصية الحاكم الطاغوتي أيضاً لكي نعي أن مَن يكون
على رأس الحكومة ويمسك زمام الحكم في المجتمع الإسلامي يجب أن يكون نزيهاً من صفات
الحاكم الطاغوتي، وتحضرني هنا رواية عن الإمام الصادق (ع) تقول: "إن بني أمية
أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا لهم تعليم الكفر حتى إذا حملوهم عليه لم
يعرفوا".
أي أنهم سمحوا للناس بتعلّم صفات الإيمان وعلائمه فأطلقوا لهم حرية التحدث عن العدل
ـ مثلاً ـ إلا أنهم لم يسمحوا لهم بشرح معنى الظلم وعلائمه، إذ ـ والحالة هذه ـ لو
عرف الناس ما هو الظلم ومَن هو الظالم لأدركوا أن الحاكم الذي تسلّط عليهم متذرعاً
بكونه "خليفة"، شخص ظالم، ويكتسب الناس الوعي والبصيرة. وبناءاً على ذلك فينبغي
البحث في موضوع صفات الحاكم الطاغوتي.
الصفات الرئيسة للحاكم الطاغوتي
سنتناول هنا ـ بشكل سريع ـ الصفات الرئيسة للطاغوت، من خلال الصورة التي عرضها
القرآن الكريم عنه. فضلاً عن ذلك فإن القرآن تحدث عن أشخاص معيّنين باعتبارهم
"طواغيت" يمكن جعلهم مقياساً لغيرهم من الطواغيت كفرعون وهامان ونمرود وقارون.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار ملامح شخصية كل واحد من هؤلاء الطواغيت والخصائص التي
ذكرها له القرآن والروايات التي تحدثت عنه، أمكننا التعرف جيداً على ماهية الطاغوت
وصفاته.
الصفة الأولـى: الاستكبار
وهي أولى الصفات التي وردت في القرآن بالنسبة للحاكم الطاغوتي، تتمثل هذه الخصوصية
في التكبر على الناس، والابتعاد عنهم، واعتبار الحاكم لنفسه أنه أرقى من الآخرين
وأفضل. يقول القرآن عن فرعون {إنه كان عالياً من المسرفين} (الدخان:31).
ويقول تبارك وتعالى {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً} (القصص:4).
وهذه الصفة تقابل ما أوردناه سلفاً من قول لأمير المؤمنين (ع) وهو يصف الأنبياء
(عليهم السلام): "ضعفة في أعين الناس".
إذاً، ففي الوقت الذي نرى فيه أن الحاكم الإسلامي يبرز من بين أوساط الناس، وينفرز
من بين صفوفهم تلقائياً، ويتعاطى مسائلهم، ويعالج أمورهم طوعاً، يسمع ما يقولونه،
ويسعى فيما يريدونه، ويبذل الجهود لتحقيق ما يصبون إليه، نرى أن الحاكم الطاغوتي
ميّال إلى الابتعاد عن الناس، والتميّز عنهم، واختصاص نفسه بحقوق خاصة، واستثناء
نفسه من شمول القوانين الموضوعة للناس قاطبة، واعتبار نفسه من نمط أسمى وجنس أرقى.
ومن المؤكد أن هذه الصفة أوضح وأبرز من صفة الكفر بالله، إذ كان هناك الكثير من
الحكام الطواغيت في العالم ـ وما زالوا ـ يتشدقون بذكر اسم الله ـ تعالى ـ بيد أنهم
لا يذكرونه إلا ليخدعوا ـ بذلك ـ الناس ويحتالون عليهم، وهناك الآن كثير منهم ما
فتئوا يتنطّعون بذكر الله ويتسترون به، ويحاولون تلبيس الحقيقة وطمسها ـ من خلال
ذلك ـ على الناس.
بينما الأمر ليس هكذا بالنسبة للأنبياء وأوصيائهم والحكام الإسلاميين الواقعيين.
فالحكام الطواغيت يتشدقون باسم الله ما داموا بحاجة إلى ذلك، وعندما لا يجدون بدّاً
من التظاهر بعبادة الله فإنهم لا يترددون في التظاهر بها، بيد أنهم يخلعون عنهم هذا
الرداء بمجرد أن يرَوا أنفسهم غير محتاجين له، وبمجرد أن يشعروا بأن الناس لا تتوقع
منهم ذلك، أو حينما يجدون أن قيامهم ببعض الأعمال وارتكابهم بعض الممارسات سيبقى طي
الكتمان ولن يطّلع عليه الناس. فحينذاك يقترفون كل ما يمكنهم اقترافه، مهما كانت
طبيعة العمل الذي يقومون به.
وحقاً، إن التاريخ مليء بالدروس العجيبة والعظات البليغة، فحينما يتأمل المرء في
حياة بني أمية وبني العباس، يرى هذا الأمر بوضوح. فعلى الرغم من تشدّقهم وتظاهرهم
بعبادة الله وتطبيق الإسلام، وعلى الرغم من اعتقاد الناس أنهم "حصون الإسلام" إلا
أنهم كانوا غارقين في الفساد والفحشاء، موغلين في الظلم والإسراف، وهذا ما يتنافى
كلياً مع ادعاء عبادة الله والتظاهر بطاعته.
وبالطبع لا بد من القول هنا: إن الأمويين والعباسيين كانوا بحاجة إلى استغفال الناس
وإخفاء هذه الحقائق عنهم. وحينما اعتاد الناس تدريجياً على شيوع الفساد في أجهزة
الحكومات الأموية والعباسية، وصاروا مهيئين لرؤية مظاهر هذا الفساد بشكل علني في
تلك الحكومات، طفق الأمويون والعباسيون يجاهرون بانحرافاتهم، ولم يعد ثمة ادعاء
بعبادة الله أو طاعته، وبدأت أعمال الخصومة والعداء للناس وتجاهل مشاعرهم تظهر
شيئاً فشيئاً. وهذه صفة مهمة من صفات الحاكم الطاغوتي وهي تجاهل آراء الشعب
وطموحاته وعدم المبالاة بمطالبه.
وإذا اعتبرنا هذه القضية إحدى المعايير والقيم المهمة ونقطة بارزة في هذا المضمار،
فيمكننا بعدئذ التساؤل: إذاً كيف يكون الدفاع عن الشعب حقاً؟ وما هي حقيقته؟ وكيف
يتم الاعتناء بمطالب الشعب يا ترى؟ فهذا مجرد ادعاء لا غير، ويمكن أن يدّعيه
الكثيرون. وسأتناول ذلك في ما سيأتي من البحث، وأطرح مقارنة بين صفات الحاكم
الإسلامي والحاكم الطاغوتي بالقياس لأوضاعنا الحالية، وإذ ذاك يمكن أن يتجلى بوضوح
كيف يمكن الاطمئنان إلى صدق ادعاء المتشدّقين بالدفاع عن الشعب.
والقرآن الكريم تحدث عن هذه الصفة لدى الطواغيت بالعديد من التعابير، منها: العلو
والاستكبار، والطغيان، وغيرها.. وكلها تتناول عدم اهتمام الحكام الطاغوتيين بالشعب.
الصفة الثانية: الولع بالدنيا والشغف بزخارفه
في حديثنا عن الحاكم الإلهي، ذكرنا أنه لا يريد أجراً من الناس ولم يكُ يعير حياته
الشخصية أهمية فائقة، أما الحاكم الطاغوتي فهو على الضد من ذلك تماماً، إنه يريد كل
شيء ويتوق لحيازة كل شيء كالثروة والراحة والنعيم والرفاهية والحياة. وهذا الفهم
المفرط لا تحدّه حدود وهو في تفاقم مطّرد. ومن مظاهر هذا الطمع المتفاقم: الإسراف.
فهذا النمط من الحكام يرى أن كل ما في الدنيا يعود له ومن ممتلكاته، وإن كل الخيرات
تحت تصرفه واختياره. وحينما يتأمل المرء في حياة هؤلاء الحكام وما يحيطها من بطر
وتفريط وتبذير على مر التاريخ يتضح له أنهم يخالون كل ما في الأرض من خيرات وبركات
ونعم وآلاء يعود لهم ومن حقهم التمتع بأرقى تلك الخيرات وأوفرها وأفضلها.
وبالدرجة الثانية من بعدهم، يرى هؤلاء الحكام أن ما يزيد عن حاجتهم ويفضل من فتات
موائدهم إنما يعود إلى حواشيهم وبطانتهم، وكلما ازداد عميلهم قرباً منهم زادت حصته
من تلك الخيرات، وبالعكس كلما ازداد المرء بعداً عنهم فإنه لا يستحق أي نصيب منها.
وعلى العكس من ذلك، ما نشاهده في تعليمات أمير المؤمنين (ع) وإرشاداته في "نهج
البلاغة"، فقد نمى إلى سمعه أن والياً له قد دُعي إلى وليمة ضخمة وجلس إلى مائدة
كان قد اجتمع فيها رهط من الأغنياء، ولم يكُ من المدعوين فقير واحد، فثارت ثائرة
أمير المؤمنين (ع) واشتد غضبه، واعتبر ذلك عيباً كبيراً في شخصية الوالي، فوجّه
إليه كتاباً يوبّخه فيه ويعاتبه.
إن الولع بالمنصب والشغف بكرسي السلطة يعدّ عيباً كبيراً من عيوب الحاكم الإسلامي
من وجهة نظر أمير المؤمنين (ع) ولقد نصحه عبد الله بن عباس بأنه ما دام قد وصل إلى
الخلافة وتسلّم الحكومة فليهب المناسب والولايات لفلان وفلان كي يكفّوا عن معارضتهم
له ويأمن شرهم، فأجابه الإمام عليّ (ع) بأنهم لو لم يكونوا طامعين في السلطة مولعين
بالمنصب لكنت أنا المبادر إلى ذلك، إلا أنني لا أستطيع أن أعيّن مثل هؤلاء الأشخاص
في المناصب العليا أو أسلّمهم مقاليد أمور الناس، ما داموا شغوفين بالحكم والمنصب
إلى هذا الحد.
إن الحرص على الحكومة والولع بالسلطة والجاه يعدّ إحدى الصفات السلبية بالنسبة
للحاكم الإسلامي في رأي أمير المؤمنين (ع). وكل ما ينطوي على الانشغال بالدنيا
والحرص عليها يعتبر عيباً كبيراً بالنسبة للحاكم الإسلامي، وكل ما يدل على السعي
لتحصيل مرضاة الله والكدح في سبيله ومن أجل الشعب وكل أمر ينطوي على تحقيق مصالح
الناس ومنافعهم يُعتبر صفة إيجابية وقيمة سامية لدى الحاكم الإسلامي.
ولذلك كانت حياة أمير المؤمنين (ع) ملأى بالصعاب طافحة بالمشاق والمعاناة. وقد روي
أن العلاء بن زياد الحارثي شكا للإمام أمير المؤمنين أخاه عاصم بن زياد قائلاً: إنه
لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فقال (ع): عليّ به، فلما جاء عاصم قال له (ع): "أما
رحمت أهلك وولدك!؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها!؟ أنت أهون على
الله من ذلك".
قال: أيا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. فقال (ع): "ويحك إني
لست كانت. إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا
يتبيغ بالفقير فقره"[1].
إذاً، فالمخالطة مع الناس والعيش في أوساطهم والتخلي حتى عن الرغبات والمتطلبات
الاعتيادية التي تغلب على حياة الأشخاص العاديين والأمور التي ينجذبون إلها، كلها
تُعدّ من أهم الخصائص التي ينبغي للحاكم الإسلامي أن يتمتع بها.
وثمة نقطة أود التوقف عندها قليلاً وأمر عليها مرور الكرام: وهي أن نرى مَن المقصود
بالحاكم الإسلامي في مجتمعنا المعاصر والذي ينبغي له أن يتحلى بهذه الصفات، هل هذه
الصفات يختص بها الولي الفقيه والمسؤولون الحكوميون رفيعو المستوى من أمثال رئيس
الجمهورية والوزراء؟ أم أنها خطوط عريضة وملامح عامة تشمل جمعاً لأكبر عدد ممن مر
ذكرهم آنفاً، يجب أن تتجسد عندهم في أي مقام ومنصب كانوا وحيثما وُجدوا، وينبغي لهم
السعي الجاد للاقتراب من الحالة النموذجية للحاكم الإسلامي والتي ورد ذكرها في
القرآن الكريم والسنّة الشريفة؟!
هذا بحث يتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة لجميع المسؤولين في حكومة الجمهورية الإسلامية،
ونحن إنما نتناول هذه الأمور من أجل أن نطبقها في حياتنا المعاصرة لنبني المجتمع
الإسلامي والجمهورية الإسلامية وفقاً لهذه النماذج المقتبسة من القرآن الكريم
والحديث الشريف، ولنكن على حذر من أن تؤثر علينا الأفكار الطاغوتية الموروثة من
الماضي، فعلى الرغم من أننا ندعو ـ في الظاهر ـ إلى المعايير الإسلامية ونتحرك
نحوها، لنحذر من أن تكون في دواخلنا حركة غير محسوسة نحو المعايير الجاهلية
والطاغوتية[2].
إن الخصائص التي ذُكرت، بالنسبة للحاكم في المجتمع الإسلامي، لا تخص القائد والإمام
في ذلك المجتمع فحسب، وإنما هي تشمل جميع مَن لهم علاقة ـ بنحو من الأنحاء ـ بأعمال
الحكومة في المجتمع الإسلامي. فكل واحد منهم ينبغي له أن يقترب من تلك الصفات إلى
حد ما، كلٌ على شاكلته، وهي نقطة أساسية ومهمة أود التريث عندها بعض الشيء.
ففي عهد صدر الإسلام، كانت السلطات المقنّنة والتنفيذية والقضائية تجتمع كلها في يد
النبي، وهو الإمام المنصوب من قبل الله.
أما اليوم، فقد توزعت هذه المناصب والسلطات على عدد من الأشخاص، فضلاً عن أن الوضع
قد آل إلى شكل صار معه لكل من السلطات الثلاث عدد كبير ـ يعدّ بآلاف الأشخاص بل
وعشرات الآلاف منهم ـ من المسؤولين يمارس كل واحد منهم أعمال الحكومة بنحو من
الأنحاء. لكل واحد من هؤلاء شرائط وخصائص معينة، ولكن الذي نتحدث عنه يشملهم
جميعاً.
وبالنسبة لشخص القائد وإمام الأمة الذي تتصل به كل واحدة، من السلطات الثلاث بشكل
معيّن وتسير أعمالها تحت رقابته وإشرافه، هناك شروط صعبة وحساسة للغاية وأكثر دقة
وصرامة، ينبغي أن تتوفر فيه. أما بالنسبة للباقين الذين يتولَّون أمور الحكومة فإن
هذه الشروط والصفات يجب أن تشملهم كلهم.
أي أن مسؤولي السلطة التنفيذية بدءاً من رئيس الوزراء والوزراء ومعاونيهم إلى حكام
المحافظات والمدراء العامين، هؤلاء يجب أن تتمثل فيهم هذه الصفات والخصائص.
وهكذا الحال بالنسبة للمسؤولين عن أمر القضاء على مستوى البلاد عليهم أن يجسدوا هذه
الأمور ويتحلَّوا بهذه الخصائص الإيجابية، ويجتنبوا عدداً من الصفات السلبية.
ولربما لا يمكننا الإدعاء بأن العدالة ـ بمفهومها الاصطلاحي الفقهي ـ ضرورية لجميع
مسؤولي حكومة الجمهورية الإسلامية والنظام الإسلامي قاطبة، ولكننا نستطيع الإدعاء
بأن على الذين يتولَّون القيام بالوظائف الإدارية في الحكومة، أن يكونوا أناساً
ملتزمين بالأحكام الإسلامية، وغير منفلتين عن إطارها، وأن يكونوا مخلصين ومشفقـين
علــى النــاس، حريصــين علــى مصــالح الشعــب وخصوصــاً المستضعفين والمحرومين،
ولم يعدّوا جيوبهم كي يملؤوها في مقابل ما يقومون به، كي يصيروا مصداقاً لهذه الآية
التي تكررت كثيراً على ألسنة الأنبياء {قل لا أسألكم عليه أجراً}.
وإذا كان الأنبياء لا يريدون أي أجر من الناس ـ في مقابل دعوتهم ـ باعتبار أنهم
القدوة والنموذج الذي يقتدي به الناس، فإننا لا نقول: إن على موظفي الدوائر
والمؤسسـات الحكوميــة أن لا يتقاضَوا أجوراً ورواتب على أعمالهم، بل نقول: يجب أن
يحصلوا على هذه الرواتب لأن قسماً من إيرادات بيت المال مخصّص لمسؤولي الحكومة، بيد
أننا نقول: إنه لا ينبغي أن يفكر هؤلاء باستغلال مناصبهم كي يمارسوا الإثراء والكسب
غير المشروع.
إن أداء الوظائف في نطاق الأعمال الحكومية خدمة وإنجاز واجب وتكليف، وهذا الأمر
ينبغي أن يقترن بالنية السليمة والقصد الحسن، مما يؤدي إلى القيام بنحو أحسن وأسلوب
أفضل، وسيكون نفعه للناس أكثر وأوسع.
ينبغي ذلك لجميع مسؤولي الحكومة في النظام الإسلامي والحكومة الإسلامية نفسها، وإذا
كانت ثمة شروط وصفات للحكومة الإسلامية فإن هذا الجهاز يتمتع بالشروط والصفات
نفسها، وإذا كان لتيسير أمور المسلمين وتدبيرها أجر عند الله، فإن جميع الذين
يشكّلون كيان هذا الجهاز لهم هذا الأجر نفسه.
فالقرآن الكريم حينما يذكر فرعون في آياته يقرن بذكره جماعته وأنصاره ويذمهم فيقول
{فاستكبر هو وجنوده}.
وحينما يأتي على ذكر حاله يوم القيامة يذكر جماعته فيقول {ويوم القيامة أَدخِلوا آل
فرعون أشد العذاب}.
إنه لا يقول: أدخِلوا فرعون في العذاب الشديد لوحده، بل يذكره ضمن صحبه ورفاقه. "آل
فرعون" تعبير يمثل جهاز فرعون وحكومته، تلك الحكومة السيئة، الحكومة الاستكبارية
التي كل مسؤوليها مصداق للمستكبرين.
أما الحكومة الإلهية فكل مسؤوليها ينبغي أن يمثلوا ـ في المجموع ـ الحكومة
الربانية. وأرى من اللازم هنا توجيه الخطاب إلى جميع موظفي الأجهزة الإدارية في
الجمهورية الإسلامية سواء السلطة التنفيذية أو المقنّنة أو القضائية وتوصية كل
الذين يندرجون ـ بنحو من الأنحاء ـ في نطاق الجهاز الإداري للدولة، فأقول: إننا ـ
باعتبارنا مسؤولين عن شؤون المجتمع الإسلامي ـ ينبغي لنا أن نحاول الاقتراب من
النماذج المثالية للحكومة في الإسلام. وعلينا أن نشغل تفكيرنا بأمور الناس، وأن
نعتبر أنفسنا خدماً للشعب ومستخدمين عند الناس، وهكذا نحن الآن. ويجب أن نعتبر أنه
من واجبنا السعي المضاعف لمعالجة أمور الناس. إن هناك اليوم الكثير من الأعباء
والوظائف التي تنتظر مَن ينهض بها، ونرى أن هناك شحّة في الطاقات الإنسانية الصالحة
والمخلصة، ولهذا ظلت هذه المهام معطلــة. وهنــاك
الكثير من النواقص وجوانب الخلل العائدة للنقص في القوى الإنسانية ومستوى الخبرات
التي نتمتع بها ومدى إخلاصها في العمل.
علينا أن نشعر بالمسؤولية عن إبداء الحرص والتحرق في تيسير أمور الناس ومعالجتها.
وحقاً إن مَن يجلس خلف مكتبه في مؤسسة أو دائرة حكومية ما، ينبغي له أن يُلقن نفسه
دائماً أن وجوده هنا يستهدف تيسير أمور الناس، وأنه لم يجتمع هنا مع غيره مع
الموظفين من أجل التهرب والتخلص من عبء المسؤولية وإلقائه على عاتق هذا وذاك، بل
أننا اجتمعنا من أجل أداء الخدمة، وإذا تجاوزنا الدرب الذي رسمه لنا الأنبياء ولم
نترسم خطاهم فلن تكون مصداقاً للحكومة الإسلامية.
لقد كتب أمير المؤمنين (ع) رسالة توبيخ ولوم لأحد ولاته واسمه عثمان بن حنيف
الأنصاري لاشتراكه في وليمة غاب عنها الفقراء ولم يجتمع على موائدها إلا الأغنياء
ولم يُدعَ لها سوى الأثرياء. يقول (ع) في تلك الرسالة: "بلغني أنك دُعيت إلى مأدبة
قومٍ عائلهم مجفو وغنيهم مدعو".
وهذا بحد ذاته يُعتبر جريمة وذنباً في نظر أمير المؤمنين (ع)، وهو أن يبتعد أحد
خَدَمة الشعب في موقف من مواقفه عن الناس المستضعفين، ويقترب من مجلس الأغنياء
ويحضر في جمعهم وهم أقلية في المجتمع. ومثل هذا العضو في الحكومة، الذي يتبع كهذا
النهج ولا يفكر سوى بالحصول على لذته وتحقيق راحته أكثر من لذة الناس وراحتهم يرتكب
جريمة وإثماً.
وبالجملة، فإن ما نذكره من المواصفات والشروط التي ينبغي للحاكم الإسلامي أن تتوفر
فيه، تشمل كل مستويات مسؤولي الحكومة وكل ما في الأمر أنه كلما ازداد مستوى
المسؤولين علواً وكلما اقترب من رأس هرم النظام الحاكم ورئاسته تصبح تلك الشروط
أعمق وأدق وأكثر أهمية وحسماً. فالشروط التي نرى من الضروري توفرها لدى القائد
وإمام الأمة لا نرى أنها لازمة ـ بالمستوى نفسه ـ لأي شخص آخر غيره، ولا نتوقع أن
تتجسد عند شخص سواه.
وهكذا الحال بالنسبة للمسؤولين من الدرجة الأولى ثم الأدنى فالأدنى من درجات
المسؤولين، فالجميع ملزمون أن يحاولوا تقريب أنفسهم للاقتداء بالنماذج الإسلامية
العليا.
وليعلم الأخوة المسؤولون والموظفون والمتولون لأداء الوظائف في إدارة أمور البلاد
أن تقوى الله بالنسبة لهم تعني أن يعرفوا ما هي وظائفهم، وأن يؤدوا تلك الوظائف
بدقة وفي سبيل الله ومن أجل مصلحة الشعب[3].
ثالثاً: الاستبداد
من أهم الصفات التي تلاحظ عند الحاكم الطاغوتي هي الاستبداد، وهي صفة أشار إليها
القرآن الكريم في نطاق حديثه عن فرعون. والاستبداد إحدى أوضح الصفات المشهودة في
الحاكم الطاغوتي. ومعنى الاستبداد هو أن يعتمد الشخص المتصدي لإدارة المجتمع على
رأيه فقط ولا يعبأ برأي غيره البتة، وهو لا يعتني البتة، وهو لا يعتني برأي باقي
الناس وخصوصاً أولئك الأشخاص الذين يمسك زمام أمورهم بيديه، فلا تأثير لهم في
قراراته، وليس مهماً عنده ماذا يقول الناس وماذا يريدون، بل المهم ما يقوله وما
يريده هو.
إن الاستبداد عيب، حتى في إدارة بيت واحد، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمجتمع وبلد
كامل. من الطبيعي أن الشخص الذي يريد الاعتماد على رأيه فقط والاستناد إلى رغبته
وأحاسيسه وعواطفه وأهوائه النفسية، في إدارة شعب ما فسيقع في الخطأ والغفلة
والمطبات والانحراف والزيغ في إدارة شؤون الناس، وستضيع حينذاك مصلحة الشعب.
إن أفراد هذا الشعب الذين خُلقوا ليطووا طريق الكمال ويسعَوا لبلوغ التكامل والصلاح
والأخلاق السامية، واجتناب القبائح والعيوب والمساوئ، سوف لا يتسنى لهم بلوغ ذلك،
ويصطدمون بعقبات كأعداء في هذا المجتمع الذي تديره أيدي المستبدين والدكتاتوريين،
وهذا أفظع ما يمكن أن يُبتلى به الإنسان.
وطيلة التاريخ الماضي، إذا تأملتم في جذور الانحراف والشقاء في حياة البشرية ستجدون
أن أحد العوامل الأساس، بل وأحياناً العامل الأصلي والوحيد لشقاء الناس هو: استبداد
حكامهم وتفردهم بآرائهم، وما زال الأمر هكذا في العصر الراهن.
فهناك الكثير من المجتمعات المعاصرة الواقعة في قبضة شرذمة من الظَلَمة الجائرين
والحكام المستبدين، وهي تئن من أوضاعها المليئة بالبؤس والشقاء والحرمان والضعف
والبعد عن السبيل القويم والهدف الإنساني. هذه هي ثمرة الاستبداد، فهو منشأ شقاء
البشر وإيقاف قافلة تكامل الإنسانية.
إن الشخص المستبد لا يكمن عيبه في أنه لا يطلب المشورة من الآخرين، فالمشورة لا
تستطيع حل المشكلات المستعصية للمجتمع الذي يعاني من سيطرة الأفراد المستبدين.
فهؤلاء أناس لا يهتمون إلا برغباتهم وميولهم ولا يعبأون سوى بأهوائهم وإرادتهم،
وهذه الأمور تُعتبر ـ بالنسبة لهم ـ حجة كافية لا حاجة معها لاستشارة الآخرين، فهم
لا يمنحون أحداً فرصة لإبداء وجهة نظره والإدلاء برأيه، ولو فرضنا أن امرءاً قد
تجرأ وخاطر بالإعراب عن وجهة نظر تخالف رأيهم، فإنهم يرفضون ما يقوله رفضاً باتاً
فوجود المستشارين حول الشخص المستبد لا يحل المشكلة، وإنما يحوّلها من نمط إلى آخر.
والآن لننظر ما هو رأي الإسلام ونظريته بخصوص إدارة شؤون الناس ومكافحة الاستبداد،
وما الذي اكتسبه المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي من رؤى الإسلام والقرآن وجعلاه
مناراً لهم ومنهجاً ينتهجانه؟ وقبل ذلك أشير بشكل عابر إلى ما اتخذه العالم من
إجراءات لمواجهة مشكلة الاستبداد وحلهــا.
فالاستبداد مرض عضال وقديم، وعلاجه شُخّص منذ القدم أيضاً، وهو "القانون". وقد قيل
إنه إذا أريدَ اجتثاث جذور الاستبداد من المجتمع فينبغي أن يسود فيه القانون،
فالقانون يعني الطريقة والمنهج الذي تحدّد بموجبه حركة المجتمع. وحيثما يكون هناك
قانون مطبّق فلن تكون الميول والأهواء والعداوات والصداقات والنظرات الخاطئة والرؤى
السخيفة ذات أثر فعال.
إن المستبد يُحدّ استبداده ـ في الحقيقة ـ من خلال القانون، ولذلك وجدنا أنه حينما
أرادوا قديماً ـ في بلدنا ـ مواجهة الحكومات الاستبدادية، كانت الخطوة الأولى أنهم
طرحوا فكرة "المشروطة" ـ وهي عبارة عن حكومة القانون ـ وبالطبع فإن المستبدين
قاوموا لفترة مطالب الناس ورغبتهم في العمل بموجب "المشروطة" وظلوا يرفضون الالتزام
بها، بيد أن ضغط الرأي العام وفي الطليعة منهم العلماء الكبار ومراجع التقليد
والعلماء الواعون، كل ذلك أدى إلى تحطيم العقبات وإزالة الموانع من طريق تطبيق
"المشروطة"، فتم إقرارها والعمل بموجبها على صعيد التقنين في البلاد.
القانون هو العلاج الأولـي للاستبداد
إن القانون يعتبر العلاج الأولي لمعالجة الاستبداد، بيد أن هذا العلاج الذي يخطر في
أذهان المصلحين في المراحل الأولى لمواجهة الاستبداد ليس كافياً، والدليل على ذلك
هو أن المراحل الأولى لمواجهة الاستبداد ليس كافياً، والدليل على ذلك هو أن الحاكم
المستبد حينما يريد أن يعمل وفقاً لرغباته ومشتهياته لا يبالي بوجود قانون أو عدمه،
بل يقدم على انتهاك القانون ونقضه. الدكتاتور يسحق القانون ويتجاهله، ولا يحترم
أصوله ومواده، ولا يعبأ بما يصادق عليه النواب وما يصدرونه من قوانين.
وبالطبع فإن بعض الحكام المستبدين في العالم المعاصر يتظاهرون أحياناً بتأييد
القانون، ولكنهم ينقضونه، وحينما يزداد طغيانهم ويتجاوز كل الحدود فإنهم يتجاهرون
بخرق القانون بشكل سافر.
وكنموذج على ذلك، ما شاهدناه في بلدنا إبّان عهد السقوط الأخلاقي والتدهور السياسي
والاقتصادي في ظل النظام المقبور السابق. فقد كان رؤوس النظام الحاكم يتظاهـرون ـ
بـادئ ذي بـدء ـ باحترام القانون، لكنهم لم يعودوا يعبأون بالقانون أدنى اهتمام في
أواخر عهدهم المشؤوم، بل إنهم خرقوا حتى نصوص الدستور الرسمي للبلاد في عهد
"المشروطة" وخصوصاً متمِّمة، حيث تجاهلوه ولم يعيروه أدنى اهتمام البتة.
هذا الأمر يمكن ملاحظته الآن في الكثير من الدول المعاصرة. ففي هذه البلدان ـ
وحيثما لا يكون للناس دور مؤثر وحضور جدّي والمستكبرون هم المسيطرون على مقاليد
الأمور ـ يوجد في الظاهر قانون في البلد ولكن مَن الذي يضع القانون موضع التنفيذ،
ومَن الذي يهتم به؟
إن أصحاب القوة وذوي الاقتدار لا يعبأون بالقانون مطلقاً، وهنا يلزم أن يكون ثمة
علاج آخر بالإضافة إلى القانون، ولهذا فقد فكر المصلحون والمفكرون والمطلعون على
القضايا الاجتماعية في الحصول على هذا العلاج طيلة العهود المنصرمة، فوجدوا أن ثمة
أمرين يجب توفرهما للحيلولة دون انتهاك القانون وخرقه وهما:
أولاً: الرقابة الشعبية وحق إشراف الشعب وممثليه على سير الأمور.
ثانياً: وجود الجهاز القضائي المستقل القوي والقادر على منع أي مخالفة للقانون، دون
أي تهاون مع كل مخالف للقانون أياً كان، وتقديمه لينال جزاءه العادل، والحرص على
حسن تنفيذ القانون.
وهذا ما أقره الإسلام وأكد ضرورته، فورد التأكيد على تطبيق القانون، وكذلك التأكيد
على الحزم والصلابة والقوة من أجل تنفيذ القانون.
قال تبارك وتعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا
تتّبع الهوى} (ص:26).
والمقصود هنا تطبيق القانون الذي يضمن نشر العدل وسيادة الحق بموجبه، فالحق لا يعني
شيئاً بدون القانون، ولا يمكن تطبيقه لأنه إذا لم يتجسد في إطار مجموعة وإطار
قانوني لا يمكن تشخيصه بتاتاً. وبخلاف ذلك يستطيع كل امرئٍ أن ينسب ما يريده وما
يقوم به ـ حسب رأيه هو ـ إلى الحق.
وحول قضية الإشراف الشعبي ورقابة عامة الناس فإنها إحدى الوظائف التي وضعها الإسلام
على عاتق الشعب. وفي الحديث المروي عن المعصوم (ع): "واجب النصيحة لأئمة المسلمين".
وقد كان هذا الأمر منتشراً بين الناس في عهد صدر الإسلام ويلقى الدعم والتأييد ولا
يُجابَه بالعنف والقمع. ففي زمن الخليفة الثاني قال الخليفة للناس عند تسلّمه
السلطة: "إن انحرفت فقوّموني"، فقال له عربي من الناس وامتشق سيفه من غمده قائلاً:
"نقوّمك حتى ولو بحد هذا السيف" أي كان يحق للمسلم أن يخاطب ولاة الأمر حتى بهذا
المستوى من الصراحة.
وبالطبع فإن النصيحة لا تعني مطلق التذكير، وإنما هي التذكير والتنبيه المنطلق من
حب الخير للمخاطَب، وليس التنبيه المنبعث من البغض والكراهية. إنه التذكير الذي
يكون من النمط الإسلامي الذي يستهدف البحث عن السبيل القويم للاهتداء إليه وتوجيه
المخاطَب نحوه.
اهتمام الإسلام باستقلال السلطة القضائية
أما بالنسبة للعامل الآخر، وهو عامل السلطة القضائية، فإننا نجد أن الإسلام قد أولى
عناية فائقة واهتماماً كبيراً باستقلال السلطة القضائية وقوتها، ويمكن أن نجد ذلك
واضحاً في عصر صدر الإسلام، من خلال الاهتمام الاستثنائي الذي أبداه الإسلام بأمر
القضاء والقاضي المستقل.
إن عمل القاضي أكثر الأعمال حساسية ولذلك ينبغي للقاضي أن يكون مستقلاً عن كل
الفئويات والتحزبات واللعب السياسية والاتجاهات السياسية المختلفة، لئلا يكون لها
تأثير في رأيه وحكمه.
ينبغي للقاضي أن لا يخضع لتأثير التهديدات والضغوط، وإذا ابتُليت السلطة القضائية
بالخلل والضعف والنقص فذلك يعني تفشي الفساد وبدء الانهيار في المجتمع، مما يؤدي
إلى القضاء على المجتمع قضاءاً مبرماً. إن الناس يجب أن يطمئنوا بوجود جهاز يستطيع
أن يأخذ لهم حقهم ويشعر بمعاناتهم ويمكنه الحيلولة دون مخالفة القانون وانتهاكه،
وهذا الجهاز هو السلطة القضائية، ولهذا نرى كل هذا الاحترام للقاضي في الإسلام.
يوماً كان أمير المؤمنين (ع) يمشي في أحد الشوارع، فشاهد شخصاً يهودياً يرتدي درعاً
كان قد فقده الإمام قبل فترة من الزمن، فجاء أمير المؤمنين (ع) لليهودي وقال له:
هذا الدرع درعي، فأنكر اليهودي ذلك وتحاكما إلى القاضي، فلما بدأت جلسة المحكمة قال
الإمام: أيها القاضي، هذا الدرع درعي وقد فقدته قبل مدة ووجدته الآن عند هذا
اليهودي. فوجّه القاضي سؤاله لليهودي، فأنكر ذلك، فقال القاضي لأمير المؤمنين: هل
لديك شاهد؟ فأجاب (ع): لا، فقال القاضي للإمام: بما أنك لا تملك شاهداً فإننا لا
نستطيع أن نحكم بكون الدرع لك. فسكت الإمام علي (ع) ولم يعقّب على حكم القاضي. وهنا
حمل اليهودي الدرع وخرج من المحكمة، وأمير المؤمنين مطرق إذ أُخذ درعه من قبل شخص
يهودي بحكم قاضٍ مسلم، بيد أنه لم يعترض على ذلك، وبعد برهة من الزمن، بينما كان
أمير المؤمنين يهتم بالذهاب من المحكمة جاءه اليهودي وقال: إنني أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن دينكم دين الحق، وأنك ـ يا علي ـ امرؤ صادق.
وأضاف اليهودي: إن حكومة يجرؤ قاضيها على إصدار حكمه ضد مصلحة أمير المؤمنين وخليفة
المسلمين ولا يستطيع الأخير أن يجبر مواطناً غير مسلم على إعطائه درعه لفقدانه
الشاهد والدليل، هذه الحكومة لهي حكومة العدل ودينها دين الحق، وقد آمنت بذلك، وهذا
درعك فخذه... وهكذا قدّم الدرع لأمير المؤمنين (ع) وأعلن إسلامه.
هذه صورة من صور استقلال السلطة القضائية في الإسلام، وسوف أتعرض لهذا الموضوع فيما
بعد عند الحديث عن موضوع السلطة القضائية والجهاز القضائي إن شاء الله. كما سأتحدث
عن السلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية في إيران وما يجب أن تكون عليه والحركة
التي ينبغي لها أن تشهدها، وهذا الموضوع يعتبر من أهم المباحث الاجتماعية في
الإسلام.
التقوى هي الوسيلة الفعالة لمكافحة الاستبداد
لكنني أريد أن أقول هنا: إنه حتى مع وجود السلطة القضائية المستقلة والإشراف
والرقابة الشعبية بكل أبعادها، فلا يمكن القضاء على جذور الاستبداد في المجتمع.
فالمستبدون المتربعون على عرش السلطنة والحكومة المطلقة لن يعبأوا حتى بالرقابة
الشعبية ولا بالسلطة القضائية ولا يهتمون بهما.
فهم يقومون بإضعاف السلطة القضائية ويعملون ما بوسعهم من أجل احتوائها والسيطرة
عليها، ويحاولون ـ قدر المستطاع ـ أن يقللوا من الرقابة الشعبية ويبطلوا مفعولها من
خلال اللجوء إلى الدعاية والإعلام المضلل.
وبالطبع فإن الاستبداد يصبح محدوداً بعض الشيء بواسطة القانون والرقابة العامة
والسلطة القضائية، بيد أن جذوره لا تُجتث نهائياً بهذه الوسائل وحدها ـ والشيء الذي
يمكنه اقتلاع جذور الاستبداد إنما هو شيء آخر لا يوجد إلا في الإسلام والحكومة
الإسلامية وفي خصائص الحاكم الإسلامي، ولم تستطع بقية المدارس والمذاهب أن توفره
ولا تستطيع توفيره في المستقبل أيضاً، ألا وهو: التقوى، والعدالة، والعبودية
الحقيقية لله.
ولذلك فمن وجهة نظر الإسلام، ينبغي للحاكم أن يكون امرؤاً من أهل التقوى والورع،
وممن عافت نفسه الدنيا، وأن يكون شخصاً زاهداً عادلاً يجتنب الذنوب ويحذر اقتراف
المعاصي وارتكاب السيئات، ولا ينزع إلى مخالفة القانون الإلهي، بل يفضّله على آرائه
الذاتية ونظراته الشخصية، ويحرص على التعرف على حكم الله وقانونه كي يعمل بموجبه
ليس إلا.
الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يضمن حكومة القانون بشكل حقيقي في المجتمع بكل معنى
الكلمة ـ بالإضافة إلى القانون والإشراف والرقابة الشعبية العامة والسلطة القضائية
المستقلة ـ هو تقوى الإمام وقائد المجتمع، ولذلك فإننا نرى أن هذه القضية حظيت
باهتمام كبير في دستور الجمهورية الإسلامية، فحددت للقائد وظائف وحقوق كثيرة.
فحينما تتجسد في الإنسان التقوى والعدالة فإنهما العنانان اللذان يكبحان جماع النفس
الإنسانية ويجعلان المرء يخطو في المسار الصحيح، ولذلك فإن أهم مسألة تُطرح بالنسبة
للحاكم الإسلامي، هي عبارة عن التقوى والعدالة والعبودية والتوجه إلى الله.
وبناءاً على ذلك، ففي مقابل الاستبداد الذي يتصف به الحاكم الطاغوتي نرى أن في
المجتمع الإسلامي حاكماً ورعاً يتقي ـ بشدة ـ الوقوع تحت تأثير الأهواء والعواطف
النفسية والميول القلبية والنزعات الذاتية، ويرغب ويحرص تماماً على تطبيق القانون
الإلهي.
ولذلك نرى أن الحاكم الإسلامي يولي أهمية فائقة للسلطة القضائية وللقضاء المستقل
الحر القوي، ويبدي اهتماماً بالغاً بالحضور الشعبي في ميادين الأحداث ويحرص على
تدخل أبناء الشعب في تقرير مصيرهم وإسهامهم الفعال في اتخاذ القرار، وفي رسم مستقبل
البلاد، فالحاكم المتقي العادل الذي يكون على رأس هرم السلطة ويتولى تدبير أمور
المجتمع يسير بهذا المجتمع نحو العدالة.
أما الحاكم المستبد الذي يتسلّم المسؤولية، ويمسك زمام أمور المجتمع، فإنه يحوّل
أفراد ذلك المجتمع إلى أناس مستبدين وينشر فكرة الاستبداد وجراثيمه في نفوس الناس
من قمة رأسهم إلى أخمص قدميهم، ويجعلهم غير مبالين بآراء الآخرين، عبّاداً للذات
والأهواء والميول النفسية.
بينما نرى الحاكم المتقي العادل يسوق أفراد المجتمع نحو التحلي بالتقوى وإقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشيع التقوى في أعطاف
المجتمع وأرجائه، وهذا هو تأثير تقوى القادة والزعماء والمسؤولين والحكام في حياة
مجتمعاتهم وشعوبهم[4].
الوقاية من الاستبداد خيـر من علاجه
ثمة نقطة أود الإشارة إليها هنا وهي: إن الوقاية من حصول الاستبداد قبل وقوعه خير
من علاجه بعد الابتلاء به. ولقد جرّبنا ذلك في مجتمعنا المعاصر بالذات، فبعد انتصار
الثورة الإسلامية في إيران توالت على الحكم حكومات كانت تنوي بلوغ مرحلة
الدكتاتورية وتبغي تحقيق الاستبداد، وحتى لو لم تكن لديها مثل هذه النية ـ على سبيل
الفرض ـ فإن نمط سلوكها وأساليبها كانت تؤدي إلى إيصالها إلى قيام حكم دكتاتوري،
ولا أريد هنا الخوض في خلفيات هذه القضية وملابساتها، بيد أنه من الضروري أن أشير
هنا إلى أن طبيعة تركيبة دستور دولتنا صُمّمت بحيث تجعل بروز مثل هذا المرض العضال
ـ الاستبداد ـ في الحكومة الإسلامية أمراً في غاية الصعوبة، ومن جملة الأمور
المستبعدة الحصول.
وهذا الدستور صِيْغ بشكل يجنِّب بلدنا الابتلاء بتلك الأمراض ـ في المجتمع الإسلامي
ـ نظاماً من القيم والمعايير المعنوية السامية، وهو نظام "ولاية الفقيه" الذي يُعدّ
ـ في حقيقته ـ نظاماً للقيم المعنوية.
ففي هذا النظام، نجد أن القائد الذي يرتبط الناس به ارتباطاً قلبياً ويعطونه زمام
أفئدتهم ويتّبعونه في أمور دينهم ودنياهم ويأخذون منه أحكام الشريعة الإلهية إنما
هو إنسان طاهر جليل المنزلة رفيع الشأن يمكن الاعتماد عليه والثقة به، وأهم ما
يتميز به هو صفة التقوى ومزية الزهد.
ولذلك فإن هذا المجتمع لا يمكن أن يُبتلى بسهولة بالأمراض الاجتماعية، ولو أنه
ابتُلي بها فإن معالجتها لن تكون صعبة أو عسيرة، بل يمكن أن تُعالج بيسر وسهولة.
بيد أنه مع ذلك ينبغي لشعبنا أن يكون حذراً لئلا تقع بعض المشكلات التي وقع نظيرها
في السنتين الأولى والثانية بعد انتصار الثورة، إبّان الفترة التي لم يكن فيها خط
الإمام قد ترسخ بعد في الدولة.
فقد رأينا ـ حينذاك ـ أن الأشخاص الذين نزلوا إلى ميدان الأحداث رافعين عقيدتهم
بشعارات الديمقراطية والتحرر والانعتاق وطالما تظاهروا في السابق بمثل هذه الأمور،
هؤلاء أخذوا يسيرون تدريجياً نحو الدكتاتورية والاستبداد والتفرد، بل إنهم مضَوا
بعيداً في هذا الشأن إلى درجة أنهـم طفقـوا يضيقون ذرعاً بممارسة الولي الفقيه ـ
المعبّر عن تطلعات الشعب وآماله ـ لصلاحياته ويعدّونه "تدخلاً في شؤون الدولة"!
وطبعاً فإن الشعب والنظام الإسلامي لم يُطِق وجود مثل هذه السياسات وتصدي هكذا
أشخاص لشؤون الدولة، وعلى هذا الشعب أن يحذر وقوع مثل تلك المشكلات الآن أيضاً،
وعليه أن يتحمل إحدى أهم مسؤولياته الاجتماعية وأكبرها وهي: المشاركة الفعالة في
انتخابات مجلس الشورى الإسلامي.
وهنا أود أن أقول: صحيح أن الاستبداد صار في العهود القريبة من العهد الذي نحن فيه
الآن أمراً منبوذاً مقيتاً، ولذلك طُرحت فكرة "المشروطة" (الحكم الملكي المقيَّد
بالدستور والقانون) وغيّرت الحركات والنهضات الاجتماعية البنية العامة للمجتمعات
والبلدان وقرّبتها من نظام التقنين والإشراف العام للشعب على الدولة، ولذلك فإن
النمط القديم للاستبداد قد اختفى ولم يعد ثمة مَن يقبل به ويرضاه.
أقول: صحيح أن ذلك لم يَعد مقبولاً، بيد أن الاستبداد لم ينمحِ من هذا العالم
تماماً في تلك العهود، ولم يختفِ الآن أيضاً، بل ما زال موجوداً بنمطه الجديد في
العالم المعاصر. وعلينا أن ندرس هنا كيف تطورت مسيرة الاستبداد والدكتاتورية مع مضي
الزمن.
فنحن نعلم أنه على الرغم من وجود مجلس للشورى وانتخابات وقانون إبّان العهد الملكي
المنقرض، بيد أنه لم تكن هناك أية مقدرة لدى الشعب على ممارسة دوره في مراقبة
الدولة وأجهزتها بل كانت الطبقة الممتازة والمنتفعة العميلة للقوى الأجنبية هي التي
تدير البلاد وفقاً لأهوائها وميولها ورغباتها.
وهكذا هو الوضع الآن في كثير من بلدان العالم، على الرغم من أن شكل الاستبداد يختلف
بعض الشيء في الدول الغربية المتقدمة عن غيرها، وبشكل عام فإن العالم المعاصر يشهد
نمطاً جديداً من الاستبداد على المستوى الدولي. ففي هذا الاستبداد الذي يسود خصوصاً
لدى القوى الكبرى، حتى لو كانت الدولة تعير الرأي العام فيها شيئاً من الاهتمام
والعناية الظاهريين، فإنها غير مستعدة لاحترام الرأي العام على الصعيد الدولي، ولا
تعيره أدنى اهتمام، بل تفعل ما تريده وتهواه طبقاً لرغباتها ومصالحها وأهوائها
وتؤثره على مصالح شعوب العالم الأخرى، ونحن نرى أن هذا الاستبداد المبتلية به دول
العالم الآن أسوأ من الاستبداد الذي كانت مبتلية به بواسطة الأباطرة المستبدين
والحكام الدكتاتوريين وأكثر خطراً وأصعب علاجاً.
إن الناظر لأوضاع العالم المعاصر يرى ماذا تصنع القوى العظمى المستكبرة بالشعوب
الضعيفة والدول الصغيرة في ما يسمى بالعالم الثالث.
فأميركا التي تدّعي أن نظامها قائم على أساس الديمقراطية والحرية، ما لبثت تمارس
استبداداً واسع النطاق ضد شعوب العالم، ونجد أنها أينما استطاعت لذلك سبيلاً سخّرت
قدراتها المادية وقواها العسكرية ونفوذها السياسي من أجل توسيع نطاق سيطرتها
واستبدادها.
وأينما اعتبرت أن لها مصالح معينة بادرت لدسّ أنفها هناك، وسارعت للقيام بأي عمل
يضمن لها مصالحها، بأسلوب تعسفي وتصرف ديكتاتوري، دون مراعاة لرغبات الشعوب
وتطلعاتها، ودون الأخذ بنظر الاعتبار حقوق الأمم ومصالحها.
هذا من ـ وجهة نظرنا ـ أسوأ وأقبح أشكال الديكتاتورية في العالم، ولا يوجد في
التاريخ الماضي مثل هذا النوع من الديكتاتورية بهذه الشدة وهذا العنف والاستعداد
الذي تبديه القوى الكبرى في العالم الآن.
وهكذا هي جميع القوى العالمية الكبرى والمتسلطة، وكل واحدة منها تمتلك إمكانات
وقدرات تستخدمها أينما افترضت أن لها مصالح تقتضي منها المبادرة إلى تسجيل حضورها
في تلك المنطقة، فإذا تمكنت من تسجيل حضورها الفوري هناك دون صدام أو اشتباك فعلت
ذلك، وإلا فإنها تُقدِم على خوض المواجهة والصدام والاشتباك مع مناوئيها، والتدخل
في الأمور ـ بشكل تعسفي وبالقوة الغاشمة.
إن الشعوب المستضعفة توجّه أسئلتها المتتابعة اليوم إلى القوى الكبرى وتتساءل: بأي
حق تمارسون الاستبداد والديكتاتورية على الصعيد العالمي؟! وهذا هو سؤالنا ـ أيضاً ـ
نطرحه على عدونا الأول أميركا... نحن نتساءل: بأي حق تسوّغون لأنفسكم أيها
المسؤولون الأميركيون التدخل في مناطق لا تعود لكم ولا تخصكم، وتخلقون المتاعب
للدول الأخرى في مناطق تتمركز فيها منافعها وتوجد مصالحها؟
ماذا تفعل أميركا في الخليج الفارسي؟!
وماذا تبغي في بحر عمان؟!
وعمَّ تبحث أميركا على طول حدود البلدان الإسلامية؟!
إن هذا ليس إلا استبداد على المستوى الدولي.
إننا نرى من واجبنا النضال ضد هذا الاستبداد ومكافحة هذا المنطق الأهوج مثلما كان
من واجبنا النضال ضد ديكتاتورية الشاه، ونحن واثقون من أن الديكتاتورية الأميركية
العصرية! لا تختلف عن ديكتاتورية الشاه الرجعية، وستُفنى في مواجهة القوى الشعبية
المقاومة والصلبة.
واليوم فإن متنوري العالم والسياسيين الوطنيين الأذكياء والشخصيات التي تحمل همّ
شعوبها وتفكر في قضاياها، يطالعون الكتب والصحف بدقة، بحثاً عن أمير مستبد أو سلطان
ديكتاتور في هذه الزاوية من العالم أو تلك، وحين يعثرون عليه ما يلبثون أن يكتبوا
ضده المقالات، وهكذا الأمر بالنسبة للمنظمات الدولية فهي تبحث هنا وهناك عن علائم
وبوادر للاستبداد فإن لم تجدها تفترض وجودها كي تلاحقها بعلامات الاستفهام.
وإنني أتساءل: لماذا لا تسألون أميركا عن كل هذا الاستبداد الذي تمارسه بشكل واسع
وشامل على الصعيد العالمي؟ إنها تمخر عباب مياه الخليج الفارسي وتبعث ببوارجها
الحربية وأساطيلها الحربية لتدخل في هذه المنطقة عنوة ثم تعلن بشكل تعسفي أن الحرم
الجوي والبحري لهذه الأساطيل يشمل منطقة واسعة تحيط بها جواً وبحراً ولا يحق لأحد
الاقتراب منها، شأنها شأن لص غاصب وقرصان معتد يتسلل إلى المجال البحري والمناطق
الحيوية المتعلقة بالدول الأخرى، فإن دخولها يعدّ ـ من أساسه ـ غير قانوني،
ومناقضاً للحق، ومخالفاً لآمال الشعوب وتطلعاتها، ومع كل ذلك فإنها تحدد لنفسها
حرماً آمناً لا يستطيع الآخرون الاقتراب منه جواً وبحراً، وهدفها من ذلك تهديد
الثورات والشعوب والحركات التقدمية والمعادية للاستكبار، وإرهابها.
إنها تضع لنفسها حدوداً وهمية آمنة في هذه المنطقة ولكنها لا تعطي للشعوب حقها في
حراسة نفسها وحماية ثغورها ومراقبة ما حواليها. ومن الجدير بي أن لا أوجه الخطاب
هنا إلى المسؤولين الأميركيين، فليس بيننا وبينهم كلام وخطاب، وإنما نحن نخوض
كفاحاً مريراً وصراعاً شديداً ضد الاستبداد الأميركي.
اليوم لم يعد يوم سيطرة السياسات الأجنبية
إننا لا نعترف بوجود أي مصالح لأميركا خارج إطار حدودها، وما تعدّها هي مصالح لها
إنما هي مصالح غير مشروعة، وإننا مصممون ـ وبمقدار ما يخصنا ويمسنا ـ وعاقدو العزم
على المواجهة والصراع ضد تلك المصالح غير المشروعة المدعاة من قبل أميركا بأي شكل
وأسلوب ممكن، وكلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ونحن لا نوجه خطابنا إلى أولئك المستبدين ـ الأميركيين ـ إلا أننا نخاطب رؤساء دول
هذه المنطقة ونقول لهم: لماذا لا تراعى أحوال الشعوب؟
ولماذا لا تراعى المصالح الوطنية للدول بينما تراعى مصالح عدوة الشعوب أميركا؟
هذا هو الذي نقوله دائماً لجيراننا في الخليج الفارسي.
إن الاستبداد الدولي الذي تورطت فيه القوى الكبرى اليوم هو أخطر أنواع الاستبداد،
وإنني أقول للشعب الأميركي: لا تفرحوا لأن رؤساءكم مؤيدون للديمقراطية ـ هذا إذا
افترضنا أنه أمر حقيقي ـ ولكنهم في الوقت نفسه يمارسون أسوأ أنماط الاستبداد
والديكتاتورية خارج حدود بلدهم، ولكم اليوم أن تسألوا الشعب اللبناني هل هو راضٍ أن
يأتي الأميركيون الغاصبون ويسلّطوا عليهم أقلية صغيرة؟
إننا نقول: إن الخليج الفارسي عائد للشعب الإيراني، هو أكبر هذه الشعوب من حيث عدد
النفوس المحيطة بحوض الخليج الفارسي، ومن حق هذا الشعب أن يوجّه خطابه إلى الذين
يفتحون الطريق أمام قراصنة البحر الذين جاؤوا من أقاصي الكرة الأرضية، والذين
يسمحون لهؤلاء الأوباش بالتمركز في هذه المنطقة الحيوية، والشعب الإيراني يسأل
هؤلاء ويقول: علامَ تسمحون لهم بذلك؟ ولِمَ لا تقاومون؟ ولماذا تقابلونهم بالبسمات
والضحكات؟
من المؤكد أن الشعوب لن ترضى بذلك وسوف تسأل رؤساءها هذه الأسئلة، فاليوم لم يعد
يوم سيطرة السياسات الأجنبية.
لم يعد بالإمكان إقناع الشعوب بالقعود متفرجة وهي ترى اللصوص والأوباش والقراصنة
يأتون من أقاصي العالم لينهبوا ثروات الشعوب ثم يعطوا لعملائهم ومأجوريهم بعض فتات
موائدهم ويحاولوا خداع الشعوب بالأساليب الرخيصة.
لماذا لا يعبأ الأميركيون لأقوال الشعب اللبناني ومطالبه؟
ماذا تصنع أميركا في البحر الأبيض المتوسط؟
لماذا تهدّد الشعوب؟
سلوا شعب لبنان عن نوع الحكومة التي يريدها، ثم سلوا المسؤولين الأميركيين: لماذا
يقومون بتسليط فئة صغيرة على شعب هذا البلد كي يكونوا مضطرين ـ من أجل حمايتها ـ
إلى إرسال قطعات عسكرية من مشاة القوة البحرية أو أرتال من الدبابات؟
لو لم تكونوا مستبدين ولو لم تريدوا فرض إرادتكم على الشعوب فماذا تفعلون في لبنان؟
دعوا الشعب اللبناني يقرر مصيره بنفسه.
بيد أنني أقول: إني القوى الشيطانية الكبرى لن تنفعها النصيحة ولا الموعظة أو
المرونة، والسبيل الوحيد لمواجهتها ووضعها في مكانها المناسب هو العزم الراسخ
والتصميم القاطع، المقرونَين بالكفاح والنضال. فمن دون أن ترى هذه القوى ردود فعل
شديدة من الشعوب لن تقلع عن مواصلة نهب مصالحها. والشعب اللبناني قد شخّص طريقه
وعرف السبيل الصحيح، وعلى الشعوب الأخرى أنّى واجهت التهديدات الأميركية أن تهتدي
إلى السبيل الأفضل لمواجهة تلك التهديدات، مثلما سلك الشعب الأفغاني المظلوم
لمواجهة القوة المعتدية الغاشمة التي احتلت بلده احتلالاً عسكرياً.
والحمد لله أن الشعب الإيراني كان سبّاقاً في طي هذا الطريق، ويقيناً أن النصر من
نصيب الشعوب، والغلبة النهائية ستكون من نصيب دعاة الحق وأنصاره[5].
رابعاً: الاستئثـــار
وهي الصفة الرابعة من صفات الحاكم الطاغوتي، بعد الاستكبار والولع بالدنيا
والاستبداد. يقول أمير المؤمنين (ع): "مَن مَلَك استأثر".
الاستئثار يعني الحرص على تملك الأشياء الجيدة وحيازتها للنفس، وللسعي للحصول على
النعم المادية الممتازة، والامتيازات المعنوية والمسؤوليات الاجتماعية، الملفتة
للأنظار والمسيلة للعاب.
وقد تكررت هذه الكلمة في العديد من المواطن من كلام أمير المؤمنين (ع)، وسأحاول أن
أشير إليها في ثنايا البحث كلما استلزم ذلك، كي يدرك القارئ الدور الأساس الذي
يلعبه الاستئثار في بلورة ملامح شخصية الحاكم الطاغوتي.
وعلى العموم فإذا أردنا أن نشرح الاستئثار ونوضح معانيه ينبغي لنا القول إنه
المصطلح المضاد للإيثار.
يقول القرآن الكريم {ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر:9).
أي أن المرء الذي يتحلى بالإيثار يفضّل الآخرين على نفسه، فحينما يكون المرء بحاجة
ماسة إلى طعام أو لباس أو نعمة أخرى من النعم الإلهية أو خير من الخيرات والبركات
الموجودة في المجتمع فإنه يتنحى جانباً ويصرف النظر عن الحصول عليها سواءً كان ذلك
الشخص الآخر أكثر استحقاقاً من الشخص المؤثر أو لم يكن، فالإسلام يسعى لجذبنا نحو
الإيثار وترغيبنا فيه.
والإيثار أسمى من الإنفاق وأرقى من التصدق، فالإنفاق إنما يتم مما زاد عن حاجة
المرء، أما الإيثار فإنه يعني أن يتنازل المرء عن لقمته أو لقمة أقاربه وذويه
ويطعمها للآخرين، للمحرومين وللمستحقين، بالرغم من حاجته وحاجة ذويه لها. أما
الاستئثار فهو المعنى المضاد تماماً لهذا المعنى، أي أخذ لقمة الآخرين وازدرادها
بعد حرمانهم منها.
ولهذا المفهوم دور مهم في الحكومة الإسلامية وعلينا أن نوضح بعض ملامح هذه القضية
من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية.
ولنرَ أولاً إلى مَن تعود النعم الإلهية الموجودة في الدنيا من وجهة نظر القرآن
الكريم، وفي هذا المضمار نجد أن الرؤية القرآنية لهذه القضية تتلخص في أن هذه النعم
تعود للناس وتخص الجميع، ولكن المسألة هي كيفية تقسيم هذه النعم وهو ما سوف نبحثه
فيما بعد إن شاء الله. بيد أننا نقول إن هذه النعم لا تنحصر عائداتها بشخص معين أو
طبقة خاصة أو بسكان منطقة معينة من المناطق الجغرافية وغير مخصصة لها، بل إن كل شيء
هو ملك لكل الناس، وهذا ما نراه مبثوثاً في ثنايا آي الذكر الحكيم {خلق لكم ما في
الأرض جميعاً} (البقرة:29).
أي: أيها الناس! إن كل ما هو موجود على الأرض قد سخّره الله لكم، وجعله في خدمتكم،
والخطاب هنا موجه للناس كافة وليس موجهاً لأشخاص معينين.
وفي الكثير من آيات القرآن يقول تبارك وتعالى {سخّر لكم}..
ماذا سخّر لنا؟ إنه سخّر للبشر كلهم كل ما تصل إليه أيديهم، وفي سورة النحل ـ
خصوصاً ـ ذكر الباري (عز وجل) في عدة آيات نعماً إلهية من قبيل:
{والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون
وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم
لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} (النحل:5
ـ 8).
{وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون} (النحل:12).
{وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون} (النحل:13).
{وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى
الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (النحل:14).
في هذه الآيات المباركة نرى أن الخطاب لم يكُ موجهاً إلى المؤمنين أو إلى شريحة
خاصة أو فئة معينة من الناس أو إلى سكان منطقة معينة، بل يصرّح القرآن أنها ملك
للبشر كلهم... هذا هو أساس النظرية الإسلامية في تأمين العدالة الاجتماعية وحينما
يريد الإسلام من مجتمعه أن يقر العدالة ويقيم صرحها وهي من أسمى مُثُل الإسلام فإنه
ينطلق من هذه النقطة ومن هذا المفهوم، مفهوم أن كل شيء ملك لكل الناس أي أنه ليس
لأي امرئ في أي نقطة من أنحاء العالم ـ عالماً أم جاهلاً ومؤمناً كان أم غير مؤمن ـ
أن يتصور أن النعم الإلهية تعود لشخص معيّن أو مجموعة خاصة وإنما للناس جميعاً،
والإيمان هو الآخر متاح للناس كلهم، والله تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان،
والتقوى ـ وهي الأخرى من النعم الإلهية المعنوية الكبرى ـ تخص جميع الناس، والباري
تبارك وتعالى يدعو الناس كافة للتمسك بالتقوى والتحلي بها.
والعلم ـ وهو الآخر إحدى النعم الإلهية الثمينة جداً ومفتاح لكثير من النعم الأخرى
ـ يخص الناس كلهم، والإسلام يدعو الناس كلهم، في الآيات والروايات، إلى طلب العلم
وتحصيله والانتفاع به، وتعلّم القراءة والكتابة، وإلى كسب المعرفة وبلوغ منزلة
العلماء والوصول إلى أسمى المراحل العلمية. وهذه الدعوة المفتوحة للجميع تعني أن
الطريق مفتوح كي يسلكه كل الناس ومتاح طيّه لآحاد البشر.
والمسؤوليات الاجتماعية تعتبر ـ هي الأخرى ـ من أكبر النعم الإلهية، إذ أن
الإمكانات التي يحصل عليها الإنسان بواسطة تقلده المسؤولية تتيح له خدمة الناس
وتأمين السعادة والسلامة والرفاه لهم.
وهكذا الأمر بالنسبة لباقي النعم الإلهية، فنحن لا نجد ـ البتة ـ نعمة إلهية، مادية
كانت أو معنوية ـ أنزلها الله تبارك وتعالى لتكون لفئة معينة. بيد أن ثمة استثناءً
بالنسبة لبعض النعم، كالنبوة مثلاً، جعلها الله مخصصة لأشخاص معينين، وهذه أيضاً لو
أمعنا النظر فيها لوصلنا إلى هذه النتيجة وهي: إن هذا التخصيص مقصور على بعض القيم
المعنوية وليس بعض الأشخاص وكل ما في الأمر أن تلك القيم لا تجتمع إلا في أفراد
معينين مما يتطلب الخوض في موضوع مفصّل طويل في باب النبوة ليس هذا محله.
وعموماً نعود إلى القول: إن النعم العامة في العالم تخص جميع أفراد البشرية وليست
مقتصرة على فئة خاصة، وهذه هي النتيجة الحتمية المترتبة على قيام المجتمع الإسلامي،
وهي تتجسد في أن أي تحرك وأية مبادرة يمكن أن يسفر عنها جر إحدى النعم الإلهية إلى
حالة تنحصر معها في يد شخص أو فئة، تعد حركة خطيرة ومبادرة مضرة وغير إسلامية. أي
أن أصل حركة وطبيعة المجتمع (الإسلامي طبعاً) تقتضي أن تكون النعم الإلهية ملكاً
للجميع.
وثمة نقطة أود الإشارة إليها هنا بالإجمال والمرور عليها مرور الكرام دون الخوض في
الاستدلال عليها استدلالاً معمّقاً وهي:
إن هذا القول لا يعني تساوي جميع الناس في كل المواهب والإمكانات الذاتية، فمن
اليقين أن القابليات مختلفة والاستعدادات والكفاءات متباينة لدى أفراد المجتمع، ومن
الطبيعي أن حصول الأشخاص على تلك النعم وتمكنهم من حيازتها مرتبطان بعدة عوامل
يختلف الناس في مدى تمثلها فيهم، وهذا لا يعني تساوي ثروة كل أفراد البشر، أو تمتّع
كل الناس بمستوى مماثل من العلم والمعرفة، بل يعني ذلك أن المعرفة والثروة والرفاه
المادي والامتيازات الاجتماعية المختلفة ـ المادية والمعنوية ـ غير محظورة على بعض
الناس ومتاحة للبعض الآخر، بل هي متاحة لهم جميعاً.
والعلم هو الآخر هكذا، فالمجال مفتوح أمام الناس كي ينطلقوا في طلب العلم، ويسلكوا
سبله، ليصلوا إلى الأهداف العلمية، ويبلغوا الدرجات العليا منه، وليس ثمة مانع
يعيقهم عن ذلك في المجتمع الإسلامي، وسنتطرق فيما بعد إلى ذلك أكثر إن شاء الله ـ
عند الخوض في تفاصيل الموضوع، كي يتضح أي انقلاب عظيم أحدثه الإسلام في هذا
المضمار.
وفي المقابل، فإن المذاهب والمدارس الأخرى التي سبقت ظهور الإسلام أو التي جاءت
بعده، وحتى المعاصرة منها لنا هذا اليوم، تحدد مَدَيات معينة ومساحات محددة ـ سواء
في مجال النعم المادية أو المعنوية ـ وتعتبرها وفقاً على فئة معينة وشريحة خاصة
يُحظر دخولها على غيرها.
وثمة أمر ينبغي الإشارة إليه وهو أن هناك صفة غريزية لدى الإنسان تجعله يشعر
بالتفوّق والتفرّد على الآخرين، وقلما يوجد امرؤ لا يشعر في قرارة نفسه أن لا
الأفضلية والأرجحية على مَن سواه بل يمكن القول إنه يكاد لا يوجد امرؤ لا يرغب أن
يفضّل الآخرين ويرجّح عليهم.
وبالطبع فإن الإسلام يدأب على تربية الإنسان على عكس ذلك ويحاول أن يعالج هذه الصفة
الأنانية والنزعة الاستئثارية والنظرة الاستعلائية "الأبيقورية" في كل واحد من
أفراد البشر، بالأساليب الأخلاقية وكذلك بالشريعة والقوانين الإسلامية، ويحاول
الحؤول دون تخطي الإنسان الحدود التي رسمها الله له، والحدود اللازمة لتسهيل
التعايش بين الناس وإتاحة السعادة والرفاهية لهم.
وعلى أية حال، فإنه ثمة شعور غريزي لدى أفراد البشر بالاستئثار والأنانية ومحاولة
تجاوز حدود الآخرين، وما لم يخضع الناس للتربية الإلهية الإسلامية ويتحلَّوا
بالأخلاق الإنسانية فإن هذا المرض يستفحل في نفوسهم، ويتحول المجتمع إلى بيئة خطيرة
يسودها الصراع والتناحر بين أفراده والتنازع فيما بينهم للاستئثار بالمصالح والنعم
ويشيع فيها التنافس والتعارض المستمر.
ولكن صفة الاستئثار ليست على مستوى واحد من الخطورة لدى جميع الناس، فلدى الناس
العاديين لا يتجاوز أثرها عن إصابة الفرد المتجسد فيه هذا الأمر بالقلق والاضطراب
والحزن الدائم والهم الملازم، بيد أن آثارها تزداد سوءاً كلما تصاعد المرء في سلّم
المسؤولية الاجتماعية، وكلما ازدادت لديه القدرة والإمكانية على تخطي حدود الآخرين
واختراق حرمهم، وتمكن من الانقضاض على حقوقهم، إذ تكون ـ حينئذ ـ مقترنة بازدياد
مستوى الفساد الاجتماعي.
إلا أنه كلما ازدادت هذه القدرة لدى الإنسان ـ عموماً ـ فإن خطر الاستئثار يزداد
لديه، حتى إذا بلغ رأس هرم السلطة في المجتمع وصار حاكماً عليه ومالكاً لأمره
ومتصدياً للمسؤولية فيه وتركزت كل الصلاحيات والقدرات الموجودة في المجتمع بيده،
ازداد خطر الاستئثار لديه.
فانتم لا تستطيعون مقارنة شخص عادي مستأثر بحاكم مستأثر، فالأول لا يملك من القدرة
والنفوذ ما يمكّنه من نشر الفساد في المجتمع، أما الحاكم المستأثر الذي يريد أن
يحصر كل الطيبات والنعم والخيرات والبركات المادية لديه ويستحوذ عليها مستأثراً بها
لنفسه فإنه ـ وبسبب امتلاكه القدرات والإمكانات ـ يستطيع أن يقوم بما يشاء ويرغب
ولذلك فإن خطورة صفة الاستئثار لديه تكون أكثر بكثير جداً من الشخص العادي. ولذلك
فقد قلنا إن الاستئثار والأنانية لدى المسؤولين والحكام يُعدّ من أكبر الأخطار
المحدقة بالمجتمع، فهنا ثمة أمران يُعدّان مصدر الخطورة وهما:
أولاً: حينما تتجلى عند الحاكم صفة الأنانية والاستئثار ويصبح طامعاً في الاستحواذ
على كل شيء فإنه لن يترك شيئاً للناس شانه شأن مَن يجلس إلى مائدة مليئة بالنعم
طافحة بالبركات ويريد أن ينفرد بالتمتع بها حتى الاكتفاء بل التخمة، فإنه لن يعطي
شيئاً منها للآخرين إلا ما يراه عديم الفائدة من فتات المائدة، وهو إنما يعطي ما
يعطيه ـ وفقاً لما يراه هو ويريده ـ وطبقاً لما يرتئيه.
وهكذا الأمر بالنسبة للنعم الموجودة على وجه الأرض تصبح نُزهةً للحكام المقتدرين
المتسلطين، مما يؤدي إلى الوضع المرير العسير الذي كان سائداً منذ ظهور الحكومة في
هذا المجتمع، ومن هذا المنفذ أيضاً فإن كل القيم تُداس وتُنتهك. وفي هذا اليوم
كذلك، نرى أن مناطق واسعة من العالم ما لبثت تئن من هذا التقسيم غير العادل، وترزح
تحت وطأة هذا التوزيع المجحف والوضع الشاذ. فاستئثار المتسلطين الغاشمين لن يسفر
عنه سوى حرمان مَن عداهم من كل شيء.
وثانياً: إن الأخلاق والخصال التي يتّصف بها الحكام تسري ـ كما نعلم ـ إلى الناس
العاديين وتروّج فيما بينهم وتنعكس على سلوكياتهم وأنماط معيشتهم وتصرفاتهم، فحينما
يكون الحاكم مستأثراً شرهاً يريد أن يستحوذ على كل شيء له فإن المجتمع يتحول ـ
بجملته ـ إلى جهنم ملتهبة تستعر فيه نيران الأهواء والشهوات والأطماع والأنانيات،
ويغيب عنه الصلح والصفاء، وما أبلغ قول القائل: "إن الناس على دين ملوكهم".
ومن هنا فإنه لو أراد أحد أن يوجّه إصبع الاتهام ـ في بحثه عن جذور المظالم
والانحرافات الأخلاقية السائدة في العالم ـ فجدير به أن يوجّهه إلى المتسلطين
والمهيمنين على السياسات العالمية، ويصدر إدانته ضدهم.
تأثيـر صفات الحكام على المجتمعات
لقد أدت السياسات الاستعمارية واستئثار القوى التسلطية الكبرى التي تستهدف
الاستحواذ على كل النعم والسيطرة على جميع الخيرات والمصالح في العالم، أدت إلى
انعكاس ذلك على صفات الناس وسلوكياتهم، وانطباعها بهذا النمط من الاستئثار
والاستحواذ، ولم يعد باستطاعة الناس أن يعيشوا مجسّدين الأخلاق الإنسانية في مجتمع
يحكمه مثل هذا النمط من المسؤولين والحكام المتسلطين الذين لا يهمهم سوى التفرد
والاستئثار بكل شيء، ويوشك الناس أن يفقدوا القدرة على الاستقامة في جادة الخير.
وهذا ما نجده في ثنايا التاريخ أيضاً، فقد أشار أحد المؤرخين إلى نقطة جديرة
بالاهتمام وهي عبارة عن ظاهرة حصلت في عهد بني أمية... يقول المؤرخ: "كان الوليد بن
عبد الملك مولعاً ببناء العمارات والقصور، وخلال السنوات العشر التي شغل فيها منصب
الرئاسة ـ 10 أعوام أو 11 عاماً ـ كان الحديث الرائج بين كل شخصين يلتقيان في مسجد
أو سوق، يدور حول شراء الأراضي وبناء العمارات، وطفق الناس يهتمون بالبناء والإنشاء
والعمارة، ولهذا انعكست على أخلاق الناس وسلوكياتهم وتوجيهاتهم كل قضية كان الخليفة
يهتم بها ويركز عليها.
وبعد أن مات الوليد وتولى الحكم بعده أخوه سليمان بن عبد الملك لاحظ الناس أن
سليمان مهتم بالألبسة والأردية كثيراً، ومولع بالحلل القشيبة والأثواب الفاخرة،
فكان الناس عندما يلتقون يلمس كل منهم ثوب الآخر ويسأله: ما نوع هذا القماش الذي
صُنع منه رداؤك؟ وأين صُنع؟ ومن أين اشترتيه؟ إن في مكان كذا وكذا أقمشة جديدة
وثياباً جميلة، وإن "الموضة" الجديدة الآن هي كذا وكذا، فهل تنتخب هذه "الموضة" أم
تلك؟ وهكذا...
وحينما وصل الدور إلى عمر بن عبد العزيز وتسلّم زمام الحكم، لوحظ أنه امرؤ متعبّد
متنسّك، فكان الاتجاه السائد إبّان تلك السنتين اللتين حكم فيهما هو أنه عندما
يلتقي الناس بعضهم بعضاً يسأل أحدهم الآخر: كم قرأت من القرآن؟ ما الذي عملته ليلة
أمس من الأذكار والأوراد والعبادات والطاعات؟ هل أقمت صلاة الليل؟ هل تصلي النوافل؟
وهكذا...".
فنلاحظ من خلال هذا النص التاريخي مدى تأثير الأخلاق والخصال والأساليب التي تتجسد
لدى الحكام وانعكاساتها على الناس، وفضلاً عن ذلك فقد لاحظنا هنا في بلدنا كيف كان
تأثير الحكام والمسؤولين السابقين ـ من خلال اصطباغ سلوكهم بمجموعة من الشهوات
وأنماط من الفساد والأنانيات والأطماع ـ على سلوك عامة الناس.
وطيلة خمسين عاماً تجسدت في الزمرة الحاكمة ـ إبّان عهد الشاه ـ كل صور الفساد
وأشكال الانحراف التي لوحظت في تاريخ خلفاء بني أمية وبني العباس، وانعكست جميعها
على حياة الناس وسلوكياتها. فلم يكن الناس طيلة تلك السنوات الطويلة يفكرون بشيء
اسمه المعنويات والمثُل؛ أي أن السلطات الحاكمة لم تكن تسمح للناس بالتفكير في ذلك،
ولو لم تحصل هذه النهضة الثورية العظيمة التي بدّلت كل أسس الحياة وغيرت جميع معالم
الوضع السائد سابقاً ـ وعلى رأسها الأخلاق والأفكار التي كانت سائدة بين الناس ـ
لما كان معروفاً إلى ما كان يؤول وضعنا وكيف كان سيصبح الآن؟
وهكذا عرفنا الآن أن من جملة مساوئ الاستئثار والأنانية والنرجسية والحرص على
الاستحواذ على النعم الدنيوية في شخصية الحاكم، هو أن هذه الحالة تسري ـ تدريجياً ـ
إلى أوصال المجتمع وأفراد الأمة، وتحوّل هذا المجتمع إلى وسط وبيئة مليئة بالصراع
والنزاع والتجاذب والتزاحم على كسب الماديات والتسابق في بلوغ المآرب المادية، وهذه
تعدّ من أعظم البلايا والرزايا التي يُبتلى بها مجتمع ما.
الإسلام يوصي المسؤولين بمواساة الناس
ولذلك نرى أن الإسلام لا يوصي المسؤولين ـ على الدوام ـ بعدم الاستئثار بالنعم
المادية، وحسب، وإنما يؤكد عليهم ضرورة أن يجعلوا مستوى معيشتهم حتى تحت المستوى
العادي والمتعارف لحياة الناس العاديين مهما تمكنوا من ذلك. وهذا أحد أعظم الأحكام
وأسمى الوصايا الإسلامية في باب الحكم وموضوع السلطة.
أي أن على المسؤولين أن لا ينظروا إلى الطبقات المرفهة في المجتمع ويقولوا: ما دام
أبناء المجتمع مرفهين فمن حقنا نحن أيضاً أن نحيا بالمستوى المعيشي نفسه المرفّه
الذي يتمتعون به، بل ينبغي للمسؤولين والمتصدين في المجتمع الإسلامي أن يجعلوا
مستوى معيشتهم أقل حتى من مستوى الشرائح المتوسطة في المجتمع، وعليهم ـ على الأقل ـ
أن لا يكونوا بمستوى الأشخاص المرفهين والمنعمين، وفي هذه الحالة سيبقى المجتمع
الإسلامي مصاناً من الابتلاء بالاستئثار[6].
من طرق مكافحة الاستئثار
عرفنا أن صفة الاستئثار صفة غريزية في نفس الإنسان، وأشرنا إلى أن الإسلام يربي
المرء على قمع هذه الصفة ويحثه على التخلص منها. وهنا ينبغي لنا أن نستعرض كيفية
مكافحتها وطرق استئصالها.
وفي الحقيقة أن بعض حالات الاستئثار لا يمكن معالجتها بالموعظة والتربية فقط، وإنما
تكون معالجتها عبر مواد قانونية محددة. وهنا نرى أن الكثير من الحدود والضوابط
والقوانين الإسلامية في المجال المالي أو الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وُضعت من
أجل أن تمنع الإنسان من تجاوز حدوده وتخطي حقوقه.
بيد أنه فيما يخص الحاكم ـ وهو امرؤ يمارس أمر الحكومة على جمع من الناس ويتمتع بحق
التصرف بصلاحيات وإمكانات كثيرة من بينها الأموال والأسلحة والقوى ونفاذ الكلمة،
ويُعنى بأمر السياسة ـ نجد أن الإسلام يؤكد أهمية مكافحة هذه الصفة لديه أكثر من
غيره، ولا يكتفي بمجرد إعطائه الموعظة وإهدائه النصيحة.
ومغزى ذلك وسببه هو أن التجربة البشرية برهنت ـ طوال التاريخ وعلى مر الزمن ـ أنه
أينما تمتعت قوة ما بحرية كاملة في ممارسة الحكومة على جمع من الناس فإنها تُبتلى
بالانحراف وتمارس الظلم في مجال تقسيم الثروات والنعم المادية وحتى المعنوية بين
الناس، بحيث أننا لو استعرضنا أحوال جميع الحكومات عبر التاريخ لرأينا أنه فيما عدا
حكومات الأنبياء وأوصيائهم وأولياء الله، لا توجد ثمة حكومة غير مبتلاة بهذه الصفة،
صفة الاستئثار والأنانية والاستحواذ على النعم المادية والنعم الموجودة في المجتمع
حتى المعنوية منها.
وبالطبع فإن هناك نعماً معنوية لا تلقى اهتماماً من طلاب الدنيا كنعمة التقوى
والإيمان، فهؤلاء لا يبدون أي اهتمام بها، ولو أنهم كرسوا لها اهتمامهم واستطاعوا
امتلاك التقوى والإيمان مثلاً فإنهم يُحرمون من لذاتهم وشهواتهم ونعمهم المادية
التي يريدون الاستئثار بها، ولذلك نجدهم لا يعيرون لها أدنى اهتمام.
بيد أن العلم من جملة هذه النعم المعنوية، ونرى أنه في الطبقات الاجتماعية لبعض
المجتمعات التاريخية ـ ومن جملتها المجتمع الإيراني القديم وبعض المجتمعات الأخرى ـ
كانت تقصر حق كسب العلم والدراسة وهو حق موهوب للبشر من الله وحق الوصول إلى طبقة
العلماء، بشريحة معينة وتحرم غيرها منه.
كسب العلم فـي العهد الساساني
لم يكن من حق عوام الناس الاشتغال بكسب العلم والدراسة بل كان ذلك مقصوراً على فئة
محدودة. وهنا يروي المؤرخون قصة ذلك الإسكافي المعروفة، وينقلها الفردوسي ـ الشاعر
الإيراني الكبير ـ حيث أنه قال: "إنني مستعد لأن أرسل أبنائي إلى ساحة الحرب وأعدّ
لهم المال اللازم الذي يحتاجه النظام الحاكم وأضعه تحت تصرفهم شرط أن تسمحوا لأحد
أولادي أن يدرس ويتعلّم. واجتمع "الموبدان" ـ وهم أعضاء الطبقة الحاكمة والمسؤولون
الكبار في الدولة ـ وتشاوروا فيما بينهم وخلصوا إلى هذا النتيجة: أن ليس من المصلحة
السماح لابن السكافي من عوام الناس بالدراسة والتعلم. إذ أنه إذا أتيح له ذلك
وتعلّم القراءة والكتابة فإنه ـ في قابل الأيام ـ سوف يجلس في صف واحد وبمستوى
مماثل لأبناء الأمراء و"الموبدان" ويصبح عارفاً للقراءة والكتابة شأنه شأنهم".
هكذا إذاً كان تعلّم القراءة والكتابة ـ وهو نعمة من النعمة في المجتمع ـ مختصاً
بطبقة معينة، وبالطبع فإن هذه الطبقة كان امتيازها الوحيد هو قربها من حاكم المجتمع
أو كونها من أعضاء عائلته أو أقربائه، ولذلك فإن المجتمعات التي تسودها مثل هذه
الحالات من الاستئثار تشيع فيها آفات كثيرة.
وإذا تصفحنا التاريخ نجد أن هؤلاء الإيرانيين أنفسهم ـ الذين يملكون طاقات وقابليات
عظيمة ما أكثر ما برزت بعد ظهور الإسلام وتجسدت في بروزهم على مختلف الصعد وفي شتى
مجالات العلم والمعرفة حتى امتلأت بعلمائهم مراكز العلم والجامعات الإسلامية
الكبرى، ووجدنا أن أكثر التآليف التي دّوّنت في معظم العلوم والفنون (كالفقه
والحديث والتفسير والفلسفة والرياضيات والنجوم) وبقية العلوم والمعارف التي كانت
منتشرة بين المسلمين، كانت من لدن العلماء الإيرانيين ـ هؤلاء الإيرانيون أنفسهم
كانوا متأخرين جداً، في عهد ما قبل الإسلام وإبّان زمن الساسانيين، عن بقية الشعوب
والأقوام المتحضرة، من حيث العلوم والمعارف المتداولة عصرئذ.
فقد كان الهنود والصينيون والمصريون وبقية الشعوب أكثر تطوراً من حيث العلوم
والحضارة آنذاك، مقارنة بالإيرانيين، على الرغم من كون الإيرانيين كانوا متقدمين من
حيث القوة السياسية والعسكرية، لماذا؟ لأن قابليات الشعب كانت تُقمع، ولأن العلم
كان حكراً على فئة معينة من الناس، وهذه بدورها كانت تسعى في طلب علوم ومعارف ينتفع
منها الأكاسرة والأمراء والزعماء و"الدهاقنة" ـ كبار الملاكين في المجتمع.
على سبيل المثال، راجت آنذاك العلوم التي تخص الإعمار والإنشاء لأنها كانت تفيد في
بناء القصور الفخمة لهم، كما شاعت ـ في ذلك الحين ـ العلوم المرتبطة بالحروب
والقتال كصناعة السيوف والحراب والنبال وفنون القتال، ومن جهة أخرى انتشرت صناعة
أنواع الآلات الموسيقية وأدوات اللهو واللعب فيما بين الإيرانيين وكذلك مستلزمات
الترف والبذخ التي يحرص على حيازتها المترفون والأغنياء، أما المعارف التي تنفع
الشعوب وتمدها بمستلزمات التطور والتقدم العلمي فلم تكن موجودة بين صفوف أمتنا في
العهد الساساني.
إن ما ذكرناه ليس سوى نموذج ـ وحسب ـ من نماذج الاستئثار. وثمة نماذج أخرى وأمثلة
كثيرة من هذا القبيل كانت سائدة في شتى أرجاء العالم، وما ذكرناه لا يتعدى كونه
تمييزاً واستئثاراً بنعمة العلم والدراسة والمعرفة، وهناك أنواع أخرى من التمييز
والتبعيض كان يمارسها السلاطين والأمراء والأباطرة والحكام في مجالات ونعم أخرى،
يستأثرون فيها بأكبر قدر من الثروة والمصادر الطبيعية العائدة للمجتمع، وهذا باب
واسع ومبحث كبير إن أردنا الخوض فيه وجدنا التاريخ طافحاً فيه بالقصص والعبر
المبكية أحياناً، والتي تجعل المرء يتساءل: ترى كيف كانت تقسَّم الثروات العامة بين
العوائل الحاكمة والمتسلطة على المجتمع وعلى حواشيها من المتملقين والمصفّقين لها؟
وكيف كانت مستأثرة بكل الأشياء الطيبة والنافعة، فالمزرعة الجيدة والأراضي الخصبة
والحقول المعطاءة والتجارة الرابحة والمحاصيل والثمار والمنتوجات الطيبة والفاخرة
والجواهر الثمينة والخدم والعبيد الجيدون والجواري الحسان، وكل شيء جيد في المجتمع
ملك لعدد قليل وطبقة معينة وفئة خاصة مهيمنة على مقاليد الأمور. وهؤلاء لا يفكرون
بأمور المجتمع ولا يهمهم أمره، وكل ما يخصهم هو أن ينهبوا المزيد من ثروات المجتمع
ويملأوا بها جيوبهم وموائدهم.
زمام الحكم ومقاليد الحكومة من ممتلكات الشعب
تُرى بأية قدرة ينهب هؤلاء الحكام والمتسلطون على المجتمع تلك الثروات والخيرات
والنعم الإلهية ويستأثرون بها ويملأون بها جيوبهم؟ إن وسيلتهم للاستحواذ على مقدرات
الشعب هي الحكومة والقوى المسخّرة لها والتي تعود ـ أساساً ـ للشعب نفسه طبعاً.
وهذا يعني أنه حينما يكون الجهاز الحاكم في مجتمع ما مستأثراً بخيرات المجتمع
وثرواته فإن ضررين يصيبان المجتمع:
أحدهما: إن الثروات المادية والمعنوية الموجودة في المجتمع والتي يجب أن يُتاح
للجميع التمتع بها كل حسب قابليته واستعداده على قدم المساواة، هذه الثروات لا تقسم
بشكل عادل، بل يذهب معظمها إلى جيوب الحكام وحواشيهم.
وثانيهما: إن أعظم قدرة تعود للشعب ـ وهي قدرة الحكومة ـ والتي ينبغي لها أن تُجعل
في خدمة الشعب، ليس فقط لا تسخّر في سبيل تطور المجتمع وتقدمه وتفتح استعداداته
واستثمار طاقاته، وليس فقط لا تجعل في خدمة دفع عجلة تطويره إلى الأمام وتحقيق
الظفر والسمو والرفعة له في الميادين المادية والمعنوية، بل إنها تسخّر نفسها
كوسيلة لقمع المجتمع وقهره، وهذه من أهم ملامح الحكام الطواغيت عل مر التاريخ.
وبالطبع، فإننا حينما نقول: على مر التاريخ لا نقصد بذلك مرحلة ما قبل الإسلام ولا
نقصد أيضاً الحكام غير المسلمين، بل يشمل هذا حتى الحكام المسلمين. فيوم انحرف مسار
الحكومة في الإسلام عن خط القرآن الكريم والخلافة الحقيقية للنبي (ص) وتحول إلى خط
السلطنة رأينا أسوأ أنماط الاستئثار مشهودة في حياة خلفاء بني أمية وبني العباس.
فنرى الخليفة ـ مثلاً ـ يشتري جارية جميلة بمائة ألف درهم، ثم يشتري لها أفخر
الملابس وأفضل الزينة بمائة ألف درهم أخرى.
ويخطر في بالي الآن ما ذكره أحد المؤرخين من أن هارون الرشيد أنفق في مراسم عقد
زفافه على زبيدة خمسين مليون درهم ـ طبعاً بما كان لها من قيمة في ذلك الحين ـ
وهكذا كانت تُهدر مبالغ خيالية طائلة من ثروات المجتمع وقتذاك.
وفي هذه الأحوال، لنرَ كيف كانت أوضاع الناس عصرئذ، وكيف كان يعيش الناس المخلصون
والأئمة الهداة والشيعة المحرومون، الذين كانوا يقفون في مواجهة الحكومات المتسلطة.
فقد كان شبان بني هاشم يقطنون في الصحاري والفلوات والجبال والمغاور والمدن القاضية
وهم يعانون الفقر والجوع والحرمان.
وحينما ينظر المرء إلى هذا الأمر يعي أن حالة الاستئثار لم تكن تميز الحكام غير
المسلمين بل تشمل الحكام المسلمين أيضاً، فمنذ أن انحرف هؤلاء عن جادة الإسلام
وسبيل القرآن الكريم وابتعدوا عن دينهم وقعوا في هذا الفخ نفسه.
هذا الأمر ـ إذاً ـ لا يعني أن الإسلام يرضى بذلك، فللإسلام وجهة نظره الخاصة بهذا
النمط من الحكام يمكن تلخيصها بالتالي:
أولاً: ليس للحكام حق أكبر من حقوق سائر الناس، ففي الرواية الواردة عن أمير
المؤمنين (ع) أنه قال ما مؤداه: ليس لأحد في بيت مال المسلمين امتياز على الآخرين،
فإن الله أوجب تقسيم أموال المسلمين فيما بينهم وأوضح كيفية ذلك، وإن ما في بيت مال
المسلمين مال الله وهو لعباد الله، وانتم عباد الله المسلمين.
والأموال العامة وبيت مال المسلمين يعني تلك الثروات والأموال الموجودة تحت تصرف
الحاكم وهي عائدة للمسلمين كافة، وسأتحدث فيما بعد بالتفصيل عن طريقة أمير المؤمنين
في توزيع محتويات بيت المال بالرغم من كونها تكاد تكون معروفة لدى الغالبية من
القراء، بيد أنني أود أن أعرضها في مقام المقارنة بينها وبين غيرها، كي تتوضح معالم
المثل الأعلى للحكومة في الإسلام، ويعرف الجميع كيف كان يعيش القدوة العليا في هذه
الحكومة وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وحقاً أنه من الضروري والمهم لدينا اليوم نحن الذين نتلهف للسير على خطى أمير
المؤمنين ـ أو ندّعي ذلك ـ ووفقاً لأحكام الإسلام الحقيقية أن نستعرض ذلك ـ مرة
أخرى ـ وليطّلع الناس على ذلك ويهتموا به... هذا أولاً.
ثانياً: إن السعي لتجنب الاستئثار والنزوع إلى المساواة والعدالة ليس الأمر المقتصر
على الحاكم نفسه فحسب ـ من وجهة نظر الإسلام ـ أي أن الحكومة ليست شخصاً واحداً،
بالرغم من أن ولي أمر المسلمين والحاكم والمتولي للأمر هو شخص واحد يقف على رأس هرم
الحكومة، بيد أن مجموع الجهاز الحاكم بأكمله مكلف بمراعاة ذلك، تماماً مثلما أن شخص
الحاكم مكلف بمراعاته ومطلوب منه أن يكون ملتزماً بالمساواة مع أفراد الشعب،
ومبتعداً عن الاستئثار.
فرئيس إحدى الدوائر أو المؤسسات الحكومية هو الآخر ينبغي له أن يشعر بأن ما يوجد
تحت تصرفه من بيت مال المسلمين عائد لجميع الناس، وإذا سُمِح له بالتصرف فيها فإنه
مأذون بذلك ما دام تصرفه يصب في خدمة الشعب، وما عدا خدمة الشعب فليس مسموحاً له
بالاستفادة لأي غاية أخرى. كما عليه أن يشعر أن تلك الأموال أو الإمكانات الخدماتية
العائدة للمسلمين إنما تخصهم جميعاً دون أي فرق بين قريب منه أو بعيد عنه، وبين
مسؤول حكومي ـ حتى لو كان بمستوى الحاكم الأعلى للبلد ـ أو شخص من عوام الناس،
فالشرائح والفئات الاجتماعية كلها ـ دون النظر إلى مستوياتها في سلم المسؤولية وعدم
كونها ذات مسؤولية تُذكر ـ ينبغي أن ينعدم الاستئثار بينها جميعاً.
ثالثاً: إن هذا الأمر لا يخص علاقة الحاكم بالمسلمين وحسب، وإنما يشمل ـ وهو من
معاجز الإسلام ـ حتى علاقة الحاكم الإسلامي مع غير المسلمين من أفراد الشعب الذين
يعيشون في حماية البلد الإسلامي وحرمه، فينبغي أن يكن مستوى معيشة الحاكم مساوياً
لمستواهم أو حتى أقل منه.
إن الحاكم ـ من وجهة نظر الإسلام ـ يتساوى مع غيره من حيث الحقوق والأحكام والحدود،
فالجهاز القضائي في الإسلام يستدعي حتى أمير المؤمنين ويحاكمه مثل أي فرد آخر،
ويطلب منه الدليل والبيّنة على ما يقول ولا يقبل حتى أقوال أمير المؤمنين دون بيّنة
شرعية، وعندما لا تكون لدى أمير المؤمنين بيّنة شرعية ولكنه يدّعي أن غريمه ـ وهو
شخص يهودي ـ قد استولى على درعه وها هو يمسك الدرع بيده، فإن أمير المؤمنين يطالَب
ـ طبقاً للموازين الشرعية ـ بالبيّنة على كون هذا الدرع عائداً له، وينبغي له أن
يأتي بشاهد، وعندما لا يكون لديه شاهد ما، يُصدر قاضي المحكمة الإسلامية ـ وهو قاضٍ
معيّن من قبل أمير المؤمنين نفسه ـ حكمه لصالح اليهودي، فيخرج اليهودي من المحكمة
والدرع بيده وأمير المؤمنين يلاحق الدرع بنظراته، ويرى نفسه عاجزاً عن الاستدلال
على ملكيته له.
وفي الوقت نفسه، نجد أن أمير المؤمنين لم يكن ساخطاً من ذلك الحكم بل إنه يتقبله
بكل رحابة صدر. فقوام العدل في المجتمع الإسلامي يقتضي مثل ذلك الحكم الحازم
والحاسم ونظير تلك المساواة أمام القانون بين الحاكم والمحكومين.
وإنني أحتفظ في ذاكرتي بالعديد من صور التاريخ الإسلامي التي لو أخذناها بعين
الاعتبار ولو طبقناها على حياتنا المعاصرة في الجمهورية الإسلامية بين المسؤولين
وأفراد الشعب فإنها تُعدّ من مفاخر الإسلام العليا.
من طرق مكافحة الاستئثار
أرى من المناسب هنا أن أورد نموذجاً أو اثنين من هذه الصور الرائعة وأنقلها من
الوثائق التاريخية، لأنها تُعدّ ـ من وجهة نظري ـ حوادث خالدة ومهمة إحداها تخص
واقعة حصلت أثناء معارك اندلعت بين جند الإسلام وجند الإمبراطورية الرومية في الجزء
الغربي من المناطق الإسلامية، حيث تمكن جند الإسلام من السيطرة على بعض مدن الروم
في منطقة بلاد الشام المعاصرة، واستطاعوا تحريرها من سيطرة الروم.
وقد عيّن قادة الفتوحات الإسلامية حاكماً ـ من بين أمراء الجيش الإسلامي ـ لكل
مدينة حرروها كي يقوم بإدارة تلك المدينة. أنقلها هنا للقارئ العزيز موضوعاً ورد في
كتاب "الخراج" لأبي يوسف حيث يقول: حينما رأى الشاميون من أهل الذمة ـ أي سكان
الشام المسيحيون القاطنون تحت حماية المسلمين ـ كيف كان المسلمون أوفياء بالعهود
التي قطعوها على أنفسهم، ولمسوا حُسن معاملتهم لهم، فإنهم ـ وهم تحت ظل المسلمين ـ
صاروا أعداءً وخصوماً للروم، أي لأولئك الذين كانوا يحكمونهم حتى الأمس القريب،
وأخذوا يتوددون للمسلمين حتى صاروا لهم عيوناً على أعدائهم المخفيين والمختبئين هنا
وهناك مع ارتباطهم بالخارج، أجل أخذ السكان المسيحيون يخبرون المسلمين بهؤلاء
الأشخاص ويسلّمونهم للسلطات الإسلامية المختصة.
وبعد مضي مدة من الزمن، صار أهالي كل مدينة حررها المسلمون يتربصون الدوائر بتحركات
عساكر الروم ويقدمون التقارير المفضلة والمعلومات الدقيقة بشأن الحملات المزمع
شنّها على تلك المدن من قبل الروم. وقد تجمعت الأخبار لدى قائد الجيش الإسلامي
الفاتح وهو أبو عبيدة الجراح بأن الروم ينوون حشد جيش ضخم ليتوجهوا لحرب المسلمين
واستعادة مدن بلاد الشام منهم. وهنا نرى كيف أثّرت المعاملة الطيبة والعدالة التي
أبداها المسلمون، في نفوس السكان غير المسلمين.
وهكذا قرر أبو عبيدة إصدار تعليمات إلى جميع أهالي تلك المدن وهم من المسيحيين وأهل
الذمة ومن الناس المغلوب على أمرهم، والتي يحكمها حكام مسلمون فأمر جميع أولئك
الحكام بإعادة الخراج الذي أخذوه من سكانها إليهم، مؤكداً عليهم أن يقولوا للسكان:
إننا نعيد لكم أموالكم التي أعطيتموها لنا لأننا عرفنا أن الروم قد جهّزوا جيشاً
جرّاراً لمحاربتنا، وإنكم عندما أعطيتمونا تلك الضرائب والخراج اشترطتم علينا
الدفاع عنكم، ونحن اليوم عاجزون عن الدفاع عنكم، ولأن خراجكم كان مشروطاً بهذا
الدفاع فإننا نعيده إليكم ونغادر مدنكم ونواصل قتالنا ضد الروم فإن انتصرنا عليهم
عدنا أخذناها منكم بالشرط نفسه المذكور سلفاً.
وحينما أخبر الحكام المسلمون السكان المسيحيين بهذا الأمر وأعادوا إليهم أموالهم
كان جواب المسيحيين هو الدعاء لعساكر المسلمين بالنصرة والغلبة ومن ثم العودة لحكم
تلك المدن من جديد، وأكد المسيحيون أنه لو كان الروم هم الذين أخذوا هذه الأموال
لما أعادوا لنا منها شيئاً بل ولأخذوا منا أموالاً أخرى غيرها.
مكافحة الاستئثار
إن الإسلام يأمر الحاكم الإسلامي خصوصاً وجهاز الحكومة الإسلامية عموماً، بأن
يعتبروا القدرة والسلطة التي يملكونها عائدة للشعب والأموال الموضوعة تحت تصرفهم
أموال الشعب، لأنها من أموال بيت المال العائدة للناس، والإسلام يتوخى أن يستعمل
الحاكم الإسلامي القدرة والسلطة الموجودة لديه كوسيلة لحفظ أموال الشعب وليس لحفظ
أمواله هو أو لجمع المال له، لأن هذا الأمر يعدّ خيانة كبرى.
فالمسؤول الحكومي لا يحق له استخدام المكانة التي حصل عليها عبر تصديه للمسؤولية من
أجل حيازة مال، ولا يحق له التصرف بالأموال الموضوعة تحت تصرفه بحيث تعود عليه
بالمنفعة الشخصية، فالأموال الحكومية هي أموال الشعب كله، ولذلك فإن الأشخاص
الورعين المراعين لجانب الاحتياط في أعمالهم يأبَون حتى استخدام الأقلام الموضوعة
تحت تصرفهم في المؤسسات أو الدوائر الحكومية، في المراسلات الشخصية.
فإن أرادوا كتابة وصل استلام أو رسالة أو ملاحظة لا تخص العمل الرسمي الحكومي فإنهم
لا يستخدمون القلم العائد للدولة، وهكذا الأمر إذا احتاجوا إلى واسطة نقل لغرض
الذهاب إلى عمل خاص بهم فإنهم لا يستخدمون السيارة الحكومية الموضوعية تحت تصرفهم.
وبشكل عام، هؤلاء لا يستخدمون الإمكانات الموضوعة تحت تصرفهم من قبل الدولة
لمصالحهم لأنها عائدة لجميع أفراد الشعب، وينحصر استخدامها في الأعمال الموضوعة من
أجلها تحت تصرف المسؤولين بحيث يُعدّ استخدامها حقاً من حقوقهم، وهذا من الواجبات
والوظائف.
وإذا شئنا أن لا يحصل الاستئثار ويسود في المجتمع فينبغي لنا مراعاة جانب الحذر
والاحتياط الذي نَدبَنا إليه الإسلام بدقة.
ولسنا بحاجة إلى الاستشهاد بالتاريخ في مجال الحديث عن استئثار الحكام، ففي العالم
المعاصر يوجد العديد من المتسلطين على مقدرات الشعوب في شتى أنحاء المعمورة، وهم
يستخدمون السلطة التي استولَوا عليها، من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، وهذا هو شأن
الحكومات التي لا يهمها سوى تحقيق مصالح شعوبها وهي قليلة العدد.
إن الثروات الوطنية العظيمة واقعة الآن تحت تصرف الحكام المتسلطين في معظم دول
العالم وهؤلاء لا يفكرون بتاتاً بمصالح الشعوب. ودونكم الثروات النفطية العائدة
للمسلمين فانظروا أي مفتاح خزانة مليئة بالكنوز يملكه المسلمون، بحيث أن أي شيء آخر
لا يمكنه أن يشغل مكانه ولا يمكن أن تضاهيه أية ثروة أخرى من حيث الأهمية والقيمة،
في العالم الصناعي المعاصر.
بأية يد وقع مفتاح هذه الثروة الثمينة والكنز العظيم اللامتناهي؟! هاكم انظروا كيف
تُعقد الصفقات النفطية في العالم وما هي السياسات المسيطرة على العقود النفطية في
العالم؟
إن النفط أحد أبرز المصاديق على الثروات العامة للشعوب وينبغي لها أن تُصرف على
الشعوب وتُنفق لتحقيق مصالحها. بيد أننا نرى اليوم أن ما يجري في الدول النفطية
والدول المنتجة للنفط هو الغفلة وعدم الاعتناء بالثروات العامة واللامبالاة بأمر
إقرار العدالة وعدم استخدام القدرة والسلطة من قبل الحاكم في خدمة المجتمع، وقد بلغ
الأمر حداً في هذه الأمور صارت معه هذه الثروات العائدة للشعب تُصرف في أمور لا
تستفيد منها الشعوب بتاتاً.
ففي تلك البلدان يقطن أناس لا يتمتعون بأقل قدر من الإمكانات الحياتية، وفي بلدنا
نحن بالذات لم تكن الثروة النفطية تُنفق فيما يحقق مصالح الشعب إبّان عهد النظام
المتجبّر السابق طيلة سنوات طويلة. إذ ظهرت إلى الوجود حفنة من الأثرياء والمتمولين
الكبار وحسب، واستفادت شرذمة أخرى من المنتفعين من تلك المعاملات والصفقات والعقود
التجارية المربحة، وظلت تعتاش على فتات موائدهم، إلا أن تلك الثروة لم تُستخدم في
الإعمار والتطوير العام والتنمية الشاملة وانعاش المجتمع.
ونحن نأمل أن تتمكن الجمهورية الإسلامية في إيران ـ وبدعم الشعب نفسه، ومن خلال حسن
التدبير والسياسة الحكيمة ـ من استخدام هذه الثروة الوطنية العظيمة في سبيل تحقيق
أهم مصالح هذا الشعب، وهذه هي ـ وليست غيرها ـ الصفة الغالبة الآن على سياسة نظام
الجمهورية الإسلامية والاتجاه العام السائد على توجهاته، بينما لا يعمل بذلك في
العالم كله مطلقاً.
وملخص البحث هو أن الحاكم الطاغوتي هو ذلك الحاكم الذي يسخّر سلطته (أي سلطة
الحكومة) والثروات والإمكانات الموجودة تحت تصرفه، لمنفعته ومصلحته الشخصية،
ويجعلها في خدمته هو. ولو حصل أن وصل إلى الآخرين شيء ـ ولو طفيف ـ من تلك الثروات
والإمكانات فإنه لا يتعدى كونه من فتات موائده وهذا هو الآخر يكون هدفه تحقيق
مصلحته هو ومصالح أقاربه وذويه وأصدقائه وحماته، ولا ينتفع عامة أفراد الشعب بشيء
من هذه السلطة والثروة والنعمة بتاتاً، بل إنه يسلب حتى ما هو حق لهم، وهذه من أبرز
صفات الحاكم الطاغوتي.
علي (ع) أنموذج الحاكم الإسلامي
ونجد على العكس من ذلك صفات الحاكم الإسلامي، فالقدوة والنموذج الكامل والبارز
للحاكم الإسلامي هو أمير المؤمنين (ع)، الذي حيّرت حياته القالين والمحبين، وأذهلت
سيرته الأعداء والأصدقاء على مر التاريخ ـ وسأتحدث فيما بعد عن بعض كلمات وخطب أمير
المؤمنين في هذا المضمار ـ وخلاصة الأمر أنه ينبغي لنا القول: إنه كان (عليه
السلام) نموذجاً كاملاً ورمزاً تاماً للحاكم الإسلامي.
وإننا لا نقول إن على جميع موظفي ومسؤولي الحكومة في الإسلام أن تكون أعمالهم
وتصرفاتهم شبيهة بأعمال أمير المؤمنين وتصرفاته، بكل حذافيرها، ودون أدنى اختلاف،
لأنهم لا يقدرون على ذلك. بل إن أمير المؤمنين (ع) نفسه قال لعثمان بن حُنيف
الأنصاري في رسالة وجهها إليه: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمرَيه، ومن
طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"
(نهج البلاغة، الرسالة 45، د. صبحي الصالح).
أجل، إن النفس والرغبات والشهوات والغرائز البشرية لا تدع الإنسان يقنع بالوصول إلى
مستوى معيّن، وعلى المرء أن يجاهد نفسه وأن يكافح هذه الشهوات والرغبات، وأمير
المؤمنين (ع) أعظم قدوة وأسمى نموذج والأفضل مثال وأروع مقتدى للتقوى الإلهية،
وينبغي أن يقتفي خطاه الحكام والمسؤولون والمتصدون، وقد وُفّقنا ـ بفضل الله ـ أن
نرى بأم أعيننا حياة إمام الأمة (رض) فليس بمقدورنا أن نرى أمير المؤمنين في
مجتمعنا ونشاهده بأعيننا، بيد أننا رأينا ابنه وتلميذه والسائر على خطاه سماحة
الإمام (طاب ثراه).
إمام الأمة قدوة لأبناء الشعب
الإمام الخميني (رض) هو الزعيم المقتدى الذي تتّبع خطاه وتسير على منهجه وتعشقه
اليوم الشعوب المسلمة، وهي توّاقة دوماً لسماع توجيهاته والتعرف على أحواله وخصاله،
والشعب الإيراني الكبير كله آذان صاغية لتعاليمه وتوجيهاته، وكل ما في إيران من
الإمكانات مسخّر تحت تصرفه، لكن حياته الخاصة تمثل ـ حقاً ـ حياة الإنسان الورع
الزاهد القانع اللامبالي بالدنيا. لقد شاهدنا بأم أعيننا هذه القدوة والأمثولة،
ويمكننا الاطمئنان بأن من الممكن أن يعيش المرء حياة بسيطة في الوقت نفسه الذي
يتمتع فيه بنعم الحياة بالمستوى المتوسط لأكثرية أبناء الشعب بل وأقلّ من المتوسط.
ويمكن أن يحيا قائد عظيم وولي للأمر في مجتمع ثوري وعظيم وثري مثل مجتمع بلدنا،
يحيا حياة إنسان تُذكِّر معيشته بمعيشة مشاهير الزهاد المعروفين.
إنه يحيا حياة سامية فذّة تسودها القناعة وتخلو من التمتع بالإمكانات، بل نجد أنه
يشعر بالحاجة لوسائل الحياة العادية شأن بقية الناس الآخرين، ونجده بحاجة إلى حصته
ـ المخصَّصة له وفق نظام البطاقات الغذائية ـ مثل ما حددته الدولة لأي مواطن آخر،
كماً ونوعاً. وهذا الأمر يُعدّ بالنسبة لسكان العالم وبالنسبة لمسؤولي البلدان
الإسلامية وللشعوب التي تظن استحالة ذلك، يُعدّ حجة ودليلاً ونموذجاً وأمثولة، وهذا
هو دائماً شأن العلماء والصلحاء من عباد الله، فهم حجج الله على سائر البشر[7].
فنحن إذاً لدينا نوعان من المعايير التي يمكن من خلالها تبيان ملامح الحاكم
الطاغوتي والحاكم الإسلامي.
الأول: المعايير التي يوضحها لنا القرآن والحديث الشريف و"نهج البلاغة".
والثاني: المعايير التي يوضحها لنا سلوك الشخصيات المعروفة والبارزة والمتطابق مع
المعايير الحقة، كما اتضح ذلك من خلال أعمالها وتصرفاتها.
أمثال تلك الشخصيات موجودة في طيات التاريخ، مثل شخصية أمير المؤمنين (ع) والشخصيات
الإسلامية الكبرى. وكذلك الشخصيات التي شهدها تاريخنا المعاصر وهي قليلة ونادرة
وتضم ثلة من الأفذاذ الذين ذابوا تماماً في الإسلام فكراً وعملاً، وجسّدوه للناس،
فأصبحوا على علم ودراية به، وعلى رأس هذه الشخصيات الفذّة شخصية إمام الأمة الفذّ
الذي يُعدّ مَعلَماً بارزاً وبيّناً ومعياراً من المعايير الخالدة في تاريخنا.
الاستئثار فـي تسنّم المناصب والمسؤوليات
ثمة نمط آخر للاستئثار يختلف عن بقية أنماطه المتجسدة في الحرص على الاستئثار
بالمال والثروة والملذات والخيرات والنعم، وهو عبارة عن الاستئثار بالمناصب
والمسؤوليات الاجتماعية، وهو لا يقلّ خطراً عن الأنماط الأخرى من الاستئثار.
فالحاكم الطاغوتي يرغب في امتلاك مفاتيح جميع الأنشطة والأعمال التي تجري في
المجتمع بما هي من صلاحيات الحكومة، وهو لا يثق بالآخرين ولا يفسح لهم المجال ويوصد
بوجههم كل الأبواب، مستولياً على جميع القوى والإمكانات والمناصب والمسؤوليات،
مستأثراً بها لنفسه، ولربما أعطى بعضها لأصدقائه وحاشيته وذويه وبطانته، وبالجملة
لكل مَن يرى أن وجوده في رأس السلطات، يعني بالتالي وجوده هو، وأنهم ليسوا سوى
سواعد له وأذرعاً مسلّطة على تلك السلطات.
أما إذا أراد امرؤ أن يشاركه المسؤولية ولم يكُ مثله وعلى شاكلته ـ حتى لو توفرت
فيه كل القابليات والاستعدادات وانطبقت مواصفاته على كل المعايير والمقاييس
المطلوبة ـ فإنه لا يصلح من وجهة نظره لتسنّم المسؤولية الاجتماعية.
إن هذا الأمر بلاء اجتماعي كبير، كان موجوداً طيلة التاريخ الماضي، وما يزال شائعاً
اليوم كذلك في الكثير من الحكومات الطاغوتية المعاصرة ويُعدّ من أبرز معايبها
ونوافعها وطبعاً فإن ضغط الرأي العام في بعض المجتمعات التي تدار من خلال الأساليب
الحكومية الحديثة ـ ومع تطور الفكر البشر ـ لم يعد يسمح لهذا الوضع بالاستمرار
بالشكل نفسه الذي كان سائداً من قبل وبالوضوح الصارخ السابق.
بيد أن النزعة التسلطية والاستئثارية في الحكم ما لبثت هي الصبغة السائدة في ظل
جميع الحكومات الطاغوتية في العهود الماضية، وما زالت هي الصفة المميزة لغالبية
الحكومات الطاغوتية المعاصرة. ونجد أن النموذج البارز لهذه النزعة في الحكومات
الوراثية، فعندما يصل شخص ما إلى منصب معيّن ثم يُتوفى بعد مدة نجد أن ابنه أو أخاه
يحل محله ويصبح بديلاً له، هذا الأسلوب الوراثي مناقض للمعايير.
وطبعاً فإن الوراثة حينما تنسجم مع القيم والمثُل ليست عيباً، فالقرآن الكريم يقول
{وورث سليمان داود} أي أن سليمان صار وارثاً لملك داود وحكومته، بيد أن سليمان كان
وارثاً لنبوة داود أيضاً، بالمعيار نفسه الذي وصل فيه داود إلى الحكومة وصل سليمان
إليها أيضاً.
وهكذا الأمر أيضاً بالنسبة لعقيدتنا ـ نحن الشيعة ـ في مجال الإمامة والوراثة
المعنوية للنبي (ص) فهي وراثة أيضاً ولكنها ليست هنا عاملاً مصيرياً. فقد كان لدى
الأئمة أبناء كثيرون، أما الابن الذي بإمكانه أن يرث الإمامة من أبيه فهو ذلك الذي
تتوافر فيه كل الخصال المعنوية والصفات السامية العليا من قبيل العلم والتقوى
والعصمة، والأخيرة تتوفر في الإمام قبل الإمامة طبعاً. والوراثة المرفوضة إنما هي
تلك التي تكون مجردة عن المعايير والمقاييس متعارضة معها.
والمؤسف هو أن هناك مجتمعات بشرية كبرى ما زالت حتى الآن تشهد ممارسة الحكم
الوراثي، خلافاً للمعايير والمقاييس الصحيحة. فالحاكم في مثل هذه المجتمعات هو ابن
الحاكم السابق أو أخوه أو الشخص المعيّن من قِبَله، سواء أراده الناس أم لم يريدوه،
وسواء توافرت فيه المعايير والقيم اللازمة أم لا، وهذا من أجلى مصاديق الاستئثار
والتفرد بالسلطة.
وليس هذا فحسب، ففي العالم المتحضر المعاصر نشهد ـ كما قلت ـ وجود أنماط مختلفة من
الاستئثار بالسلطة والمنصب والمسؤولية، حتى صارت هناك عصابات مسيطرة وعوائل حاكمة،
واقتصرت المناصب على ذوي الحكام وأقاربهم.
هذه العصابات تمتد أصابع كل واحد من أفرادها إلى منصب مهم فيصبح ذلك قاعدة ومنطلقاً
لكي تمتد أصابع بقية أفراد العصابة وتسيطر على تلك المؤسسة الاجتماعية، سواء توافرت
فيهم القابليات والمعايير اللازمة والكفاءة المطلوبة أم لم تتوافر، وهذا وضع مرفوض
من وجهة نظر الإسلام ولا يمكن القبول بوجوده في المجتمع والحكومة الإسلامية بأي نحو
من الأنحاء.
فالإسلام له رؤية معاكسة لهذه الرؤية تماماً ومناقضة لهذا المنطق بالكامل، فالمناصب
والمسؤوليات لا تُعتبر من وجهة نظر الإسلام قاعدة للتسلط ومجالاً للتلذذ وإنما هي
مواقع لأداء التكليف والمسؤولية، وهذه الفكرة تناقض تماماً الأفكار السائدة في
الثقافات الطاغوتية.
إن تسنّم المسؤولية الاجتماعية في الإسلام لا يعني التمتع بالامتيازات المالية أو
الحصول على منزلة اجتماعية دون التوفر على المعايير والكفاءات اللازمة ولا يعني
اشغال منصب وموقع يتسنى من خلال النهوض بمسؤولية كبيرة.
ولكما كانت تلك المسؤولية أكبر ـ أو حسب المنطق الطاغوتي كلما كان ذلك المنصب أعلى
ـ فإنه يتطلب النهوض بعبء أكبر وبذل جهود أكثر ويستلزم صبراً وحلماً أوسع من وجهة
نظر الإسلام، ولذلك فإن الإسلام يرى أن مَن يتقبل مسؤولية ما عليه أن يعتبرها
تكليفاً ووظيفة وواجباً أداؤه بالشكل الأفضل، وعليه أن يعدّها التزاماً وتعهداّ نحو
الله والإسلام والمجتمع يترتب عليه الوفاء به وهو يشغل هذا الموقع الاجتماعي.
المعاييـر الإسلامية فـي مجال المسؤوليات الاجتماعية
لقد أوضح هذا الأمر أمير المؤمنين (ع) في جملة خاطب بها تلميذه المقرب إليه إبن
عباس، قال عبد الله بن عباس: "دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو
يخصف نعله، فقال لي:
ما قيمة هذه النعل؟
فقلت له: لا قيمة لها.
فقال (ع): والله لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً" (نهج
البلاغة، الخطبة 33، د. صبحي الصالح).
هكذا إذاً كان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين يصلح حذاءه بيده، وهو صاحب المنصب
الأرفع في دولة مترامية الأطراف، وأي حذاء؟! حذاء مقطّع الأوصال لا قيمة له، هذا
أولاً، وثانياً لننظر ما هي قيمة الحكومة في نظر أمير المؤمنين (ع) فهي لا تساوي
إلا صفراً، وهذا مقرون بقوله: "إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".
هذا إذاً هو المقياس الإسلامي في باب الحكومة وهذه هي الرؤية الإسلامية للمناصب
والمسؤوليات الاجتماعية، وذلك ما ينبغي أن يتوضح لكل أفراد مجتمعنا، ولحسن الحظ
فإنهم طفقوا يدركون جيداً، بعكس بعض الناس في أنحاء أخرى من العالم. من المفهوم لدى
شعبنا أن المناصب والمسؤوليات لا تملك أية قيمة ولا تنطوي على أية فائدة مادية
لأصحابها. فشعبنا يرى بأم عينه أن الواقع المشهود هو هكذا، ففي الجمهورية الإسلامية
اليوم أضحى هذا الأمر حقيقة واضحة لا غبار عليها.
هذا طبعاً على الرغم من أننا في بداية الطريق، وقد خرجنا للتوّ من مستنقع ثقافة
طاغوتية حيث مرت سنوات طويلة بل قرون متتالية شهدنا فيها ـ جيلاً بعد جيل ـ أجواءاً
ملؤها الاستئثار بالمسؤوليات الاجتماعية، حتى صارت تلك المسؤوليات مجالاً للهيمنة
ومنطلقاً للتسلط على المقدرات.
إن تغيير هذا الوضع إلى وضع إسلامي عمل صعب ويستلزم وقتاً طويلاً ومع ذلك، وبفضل
الله وببركة وجود الإمام وتوجيهاته ـ وهي توجيهات مقترنة بالعمل ولم تكن مجرد أقوال
وتوصيات لا تتجاوز اللسان بل تجسدت تماماً في أعماله ـ تمكن مجتمعنا من بلوغ
المستوى الذي يريده الإسلام منه إلى مدى كبير.
واليوم فإن مسؤولي الجمهورية الإسلامية لا يحصلون على الموارد المالية الضخمة
فمسؤولو حكومة الجمهورية الإسلامية ـ وهم الأمناء من قبل الشعب على مفاتيح ثروات
هذا الشعب ويملكون أوسع الصلاحيات ـ لا يتمتعون سوى بالمستوى الاعتيادي من
الإمكانات بل وبأقل ما يمكن، فبعضهم يعيش حياة أقل من مستوى الشريحة المتوسطة
الدخل، وهذا ما يطول شرحه ولا يتسع له المجال الآن.
وعلى أية حال، فإن الأمر الأول في موضوع الاستئثار في باب المنصب الاجتماعي من وجهة
نظر الإسلام هو: إن المنصب يعتبر موقعاً مكرساً للنضال والكفاح وليس قاعدة للإمساك
بالسلطة والهيمنة على الحكم، أو منصة للقفز في المراتب العليا والإمساك بالمزيد من
السلطات. وهذا فرق مهم بين رؤية الإسلام وما عداه من المناهج.
والأمر الثاني، هو أن الإسلام يركز ويهتم أكثر من أي مدرسة أخرى بأمر أساس في باب
تقلّد المسؤولية، وهو المعايير والمقاييس. وفي أي شخص توافرت هذه المعايير فإنه
يُعتبر صاحب الأولوية ـ من وجهة نظر الإسلام ـ من أي عنصر ومن أي قبيلة أو جيل أو
عائلة كان، ومهما كان انتماؤه الطبقي أو الفئوي.
وهنا أذكر قول الباري عز وجل {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني
جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة:124).
ففي هذه الآية المباركة نرى أنه حينما يعيَّن إبراهيم من قبل الباري ـ عز وجل ـ في
منصب الإمامة وقيادة المجتمع فإنه يسأل الله سبحانه عن امتداد هذه الإمامة في ذريته
وعائلته أيضاً فيجيبه الله سبحانه: لا، ولا يقول: نعم، ويخبره: إن المعيار والمقياس
هو ليس مجرد كون الشخص من ذريتك يجعله أهلاً للإمامة ولا العكس أيضاً، والقضية ليست
في أن من يصل إلى منزلة الإمامة هو من أبناء إبراهيم أو ليس منهم وإنما هي أن من
يبلغ هذه المكانة (الإمامة) ويتسلّم الأمر الإلهي ينبغي له أن لا يكون ظالماً
جائراً، إذاً فالملاك والمعيار هو المهم وليس النسب أو الانتساب.
المعجزة الإسلامية قد وقعت
وفي آية أخرى من آي الذكر الحكيم نقرأ في قضية طالوت وجالوت إنه عندما يعيّن نبي
بني إسرائيل لقومه ملكاً اسمه طالوت فإنهم يعترضون عليه قائلين {ولم يؤتَ سَعةً من
المال}.
أي أنه ليس ثرياً، مما يعني أن المعترضين على تعيينه كانوا هم الأثرياء والأغنياء
من بني إسرائيل، وفي جوابه عليهم قال لهم نبيهم {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة
في العلم والجسم} (البقرة:247).
فالحديث هنا إذاً ـ لا يدور على المال أو الانتماء والانتساب والمعيار والمناط ليس
القرابة والنسب والسوابق بل {إن الله اصطفاه عليكم} واصطفاء الله له كان وفقاً
للمعايير الإلهية. فليست لله قرابة مع أي أحد فحتى أولئك الذين يصطفيهم الله لو
انحرفوا عن المعايير وابتعدوا عن المقاييس فإنهم سينتهون إلى المصير نفسه الذي حل
ببني إسرائيل.
لقد فضّل الله بني إسرائيل ـ يوماً ما ـ على العالمين كافة، وكان مردّ تفضيلهم على
مَن سواهم أن الأمم الأخرى لم تكن تتمتع بعمل الرسالة التي يحملها بنو إسرائيل. بيد
أن بني إسرائيل أنفسهم، وصلت بهم الأمور إلى وضع جعل الآخرين يأتون ويدمرونهم
ويجرعونهم غصص الاستعباد والذل والشقاء، فعبّر القرآن عن ذلك بالقول {وضُربت عليهم
الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} (البقرة:61).
بناءاً على ذلك، فمن وجهة نظر الإسلام وفي النظر القرآني والإلهي نجد المناصب
والمسؤوليات الاجتماعية والمنازل المعنوية ـ التي من ضمنها الحكومة ـ تتبع المعايير
والملاكات، أي أن ثمة معاييرً ومقاييسً يعيّن الله بموجبها الأشخاص في مراتب ومنازل
معيّنة، وبالطبع فإن هناك حالات يكون فيها توفر تلك المعايير محرَزاً ومفروغاً منه،
في أشخاص محددين وهؤلاء الأشخاص يعيّنهم الله بالاسم والملامح والصفات كالأنبياء
وأوصيائهم، وثمة حالات لم يحدد الله فيها أسماء هؤلاء الأشخاص مع كونهم يتمتعون
بالمعايير المعينة والمواصفات المطلوبة، وإنما يعرّف الشخص المصطفى من قبل الله
بالصفات والشمائل، وتوضح خصائصهم للناس الأفكار الدينية والإسلامية، فيتّبع الناس
أولئك الأشخاص ويستدلون عليهم عبر الصفات المذكورة لهم. وهذا هو وضع الحاكم في
الإسلام، وبالطبع فإننا رأينا تحقق معجزة الإسلام هذه عياناً.
فمن المعروف أن الثقافة الإيرانية والمجتمع الإيراني ـ كانا لسنين متمادية وفترات
طويلة ـ منغمسين باستئثار الأجهزة الحاكمة، وملوثين بترسبات وآثار هذا الاستئثار،
فكل ما يعود للشعب كان تحت تصرف حفنة من الأشخاص المستغلين الطفيليين. وفي الواقع
أن مال الشعب لم يكن منه شيء في يد الشعب، واليوم حيث وقعت في أيدينا وثائق الفضائح
والانحرافات والفساد الشائع في العهد السابق علمنا جيداً ماذا عمل أولئك بأموال
الشعب، وأي أشخاص عديمي الكفاءة كانوا يسيطرون على مقاليد الأمور ويشغلون المناصب
العليا بإسناد وتأييد من رؤوس السلطة الشاهنشاهية ومسؤوليها. وهؤلاء ـ هم الآخرون ـ
أنفسهم كانوا الأكثر فقداناً للياقة والأشد انحطاطاً وحقارة وإضراراً بمصالح
المجتمع.
وما أكثر النفقات المضرة وما أشد الإسراف الذي عانى منه بيت المال العائد للشعب
إبّان حكم أولئك المنحرفين. فعلى سبيل المثال، شاهدت في إحدى الوثائق التي اطّلعت
عليها أن مبلغ 50 مليون تومان (الدولار = 7 تومانات) قد أنفق على "ترميم" زينة قصر
واحد من قصور الشاه هو قصر "نياوران"، أي أنهم ضجروا من ألوان جدرانه وستائره وما
إلى ذلك، فقرروا التخلص من ستائره وإجراء تعديل على ألوان جدرانه فأنفقوا هذا
المبلغ الباهظ آنذاك... هذه ليست سوى قطرة من بحر طبعاً من إسراف تلك الطغمة
وتبذيراتها.
لقد كانت البلاد كلها تحت تصرفهم، وقد اعتاد شعبنا رؤية تبذيراتهم، وبالطبع فإن
بعضاً من الحقائق كان خافياً على بعض الناس في ذلك الحين، ولكن كثيراً منها كان
ملموساً ومعروفاً من قبل كثير من أبناء الشعب، فكانوا يشاهدون تلك الحقائق بأم
أعينهم ولكنهم اعتادوا رؤيتها وحينما اندلعت نيران الثورة وانهار النظام الملكي
وتهاوى، جاءت إلى سدة الحكم حكومة شعبية، وتأسست حكومة إسلامية ذات نهج إسلامي
وغايات إسلامية، وحل النظام الجمهوري، لا بل والجمهوري الإسلامي محل النظام الملكي،
فوقعت المعجزة الإسلامية على حين غرّة.
الملاكات والكفاءات الواجب توفرها فـي النواب
وعلى الرغم من أن شعبنا وثقافتنا وعاداتنا وتاريخنا، كانت مشحونة تماماً بهذا النمط
من الأعمال القبيحة والظواهر السيئة، إلا أن أبناء الشعب قد بلغوا اليوم مستوى
ممتازاً من الوعي والرشد، بحيث صرنا نشهد الآن ما هي تركيبة الحكومة ومجلس الشورى
الإسلامي والسلطات المسؤولة في الدولة، ونشهد كذلك صور تدخل الشعب وإسهامه في شؤون
البلاد، وكيفية سير أعمال السلطة القضائية وأعمال الإشراف والرقابة التي تمارسها
هذه السلطات المسؤولة على بعضها بعضاً، بحيث لا تستطيع أي من هذه الأجهزة العسكرية
والسلطات الثلاث في الدولة أن تعمل لوحدها كيفما شاءت أو تتمتع بالاستقلالية
المطلقة ـ المضرّة طبعاً ـ ووفقاً لما تشاء وتهوى، بل إن لكل واحدة منها إشرافاً
ورقابة على الأخرى بنحو من الأنحاء.
إضافة إلى ذلك، لاحظوا تركيبة مجلس الشورى الإسلامي والحكومة والمسؤولين الذين جاءت
بهم إلى سدة حكم الجمهورية الإسلامية، لاحظوا أن الأمر الذي كان ملاكاً ومعياراً
لمجيء هؤلاء إلى المسؤولية والشيء الذي فتح الطريق أمامهم لبلوغ المناصب الحساسة
والعليا هو المقاييس والمعايير وحسب.
لا نقول إنه لم يحصل أي اشتباه في تشخيص توافر المعايير في هذا أو ذاك، إن كان قد
حصل ذلك فهو أمر ليس مستغرباً من حيث أنه محتمل الوقوع، فعندما تكون ثمة معايير
وملاكات موجودة في نظام ما فمن الممكن حصول الاشتباه في حالة أو اثنتين أو عشر
حالات، فيُظن توافر الملاكات في امرئ لا توجد فيه، ولكن هذا ليس هو المهم، وإنما
المهم هو أن الاتجاه العام للمجتمع يسير نحو مجيء الأشخاص إلى سدة الحكم طبقاً
للمعايير والمقاييس، وأن لا تناط المسؤوليات على أساس القرابات والمحسوبيات
والصداقات والفئويات وهذه هي المعجزة الكبرى التي حققتها ثورتنا.
وبالطبع، ففي بداية انتصار الثورة، لم تكن المفاهيم الإسلامية قد تعمقت في النفوس
بعد ولم تكُ قيمة الإيمان بالثورة والتقوى الثورية قد تجسدت بجلاء واندرجت في عداد
القيم والمقاييس المتخذة في التقييم، وإنما كانت ما تزال المعايير السابقة ـ
المبنية على المظاهر الخداعة والألقاب المشهورة والأسماء المعروفة ـ هي المسيطرة
على الأذهان، ولذلك تمكن بعض الأشخاص من استغلال الفرصة استغلالاً سيئاً، واستطاعوا
الاندساس في المناصب والمسؤوليات والمؤسسات التنفيذية المختلفة، فشكلوا في الحقيقة
الطابور الخامس المندس في ثنايا هذا النظام.
بيد أنه كلما مضت فترة من الزمن أخذت تُضمَن سلامة النظام وصفاؤه من هذه النفايات،
وطفق الطابور الخامس ينكشف ويهرب أفراده أو يُطردون ويحل بدلاً منهم الأشخاص
المخلصون، وهذه من مستلزمات سلامة النظام، وينبغي أن تكون هذه الخصلة وهذا الاتجاه
هما السائدان في نظام الجمهورية الإسلامية على الدوام.
فالشيء الذي يمكنه صيانة المجتمع والبلد وحفظهما هو الاهتمام بهذا الاتجاه والتركيز
على هذا الموضوع، والأمر الذي يمكنه الحيلولة دون إطلاق العنان للأهواء النفسية هو
الدقة في هذه القضية، قضية إناطة المسؤوليات الاجتماعية بعهدة الأشخاص الذين تتوفر
فيهم المعايير والكفاءات بكل معنى الكلمة.
وأود هنا أن أشير إشارة عابرة إلى إحدى أهم الجوانب في حياة الإمام الخميني، وسأمر
على ذكرها مرور الكرام، فقد كان سماحته يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون الانتساب إليه ذا
أثر تسنّم المسؤوليات والوصول إلى المناصب الاجتماعية الرسمية، على الرغم من أن
المحيطين به والمنتسبين إليه يتوفر فيما بينهم الكثير من الأشخاص الكفوئين المؤهلين
لاشغال تلك المسؤوليات ولكن ـ وفي الوقت نفسه ـ لم يحصل أي من المرتبطين بالإمام
عائلياً أو عملياً ـ من خلال العمل في مكتبه مثلاً ـ على إذن من الإمام للتصدي
لاشغال المناصب والمسؤوليات والتقدم للترشيح لها، وكان ذلك عملاً رمزياً من قبل
سماحة الإمام. فقد أراد الإمام عبر ذلك أن يعلّمنا بأن الارتباط أو الانتساب إلى
الشخصية الأولى في النظام وإلى قائد الشعب المحبوب الذي يترقب الناس أي إشارة منه
كي يسارعوا لتنفيذها، لا يُعدّ كافياً في حد ذاته أن يجعل مَن يتمتع به مستوجباً
لاختيار الآخرين له كي يشغل منصباً معيناً أو يتسلم مسؤولية ما. وهذا ـ من وجهة
نظرنا ـ أحد المصاديق الأساسية للتقوى على الصعيد الاجتماعي. وثمة نماذج كثيرة على
هذا الأمر في حياة الإمام لا يتسع المجال لذكرها(1).
خامساً: التكبر والاستعلاء
قال الله تعالى {.. كذلك يُضل الله مَن هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله
بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب
متكبر جبار} (المؤمن:37 ـ 38).
ثمة صفة توجد لدى جميع الحكام الطواغيت على مر التاريخ، وفي تاريخنا المعاصر، وهي
التكبر والاستعلاء والاستكبار. وفي الواقع أن كل هؤلاء مبتلون بهذا المرض، مرض
الغرور والغطرسة وتفضيل الذات على الآخرين. وهذه الصفة ذاتها هي التي جعلت الحكام
الطواغيت يمتنعون عـن سمـاع ما يقوله أبناء الشعب، وهذا ما قرأناه في صفحات التاريخ
ولاحظنا كيف أن الطواغيت صمّوا آذانهم عن استماع أقوال الأنبياء فلم تنفذ كلماتهم
إلى مسامع أولئك الحكام.
الغرور والغطرسة فـي الحاكم الطاغوتي
إن الغرور الذي يظهر في سلوك الحاكم الطاغوتي إثر تفضيله ذاته على غيره واعتقاده
بتضخمها، يؤدي إلى تحوّل هذا الحاكم إلى حيوان وحشي مفترس، رويداً رويداً، فلا كلمة
حق تنفذ إلى شغاف قلبه، ولا آهة حرّى تبحث عن الرحمة والشفقة، تجد مكاناً لها في
فؤاده المتحجر، فيخفق لها ولو قليلاً، ولا يتأمل ـ ولو للحظة ـ في الوضع الذي أوجده
لنفسه ولمجتمعه، يتبعها تفكير في تغييره وتبديله إلى وضع أحسن، بل إن حجاباً عجيباً
وستاراً كثيفاً يلف قلبه جرّاء الغرور والتكبر، ويشكل حاجزاً سميكاً بينه وبين
الناس ويحول دون سماع أقوالهم الحقة.
وثمة نقطة ظريفة في القرآن الكريم وردت في قصة سليمان (ع)، وهي أنه قد علم أن هناك
بلداً تحكمه امرأة اسمها "بلقيس"، سكانه كفار، وقد قرر سليمان استدعاء هذه المرأة
للمثول بين يديه، استعمل الصرامة والحزم في الموقف تجاه حاكمة ذلك البلد. ولم تكُ
غاية سليمان هي أن يحقق فتحاً عسكرياً، بل كان يستهدف إدخال الإيمان بالله في قلب
تلك الحاكمة الطاغوتية غير المؤمنة، ولذلك فإن أحد الأساليب التي اتّبعها في ذلك
كسر غرور الحكم والسلطة في قلب تلك الحاكمة.
وكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل، مجيء "آصف بن برخيا" بعرض بلقيس بطريق إعجازية
تخرج عن قدرة الإنسان العادي.
ثم أن بلقيس لما أُحضرت أُدخلت إلى قاعة أرضيتها من الزجاج والبلّور، فظنت ـ وهي
تدخل بلاط سليمان ـ البلّور ماءاً ورفعت رداءها عن ساقيها كي تعبر الماء، فلما وطأت
قدمها أرضية الصالة علمت أنها ليست ماءاً وإنما هي من الزجاج الشفّاف، فأدركت قدرة
سليمان الإلهية وعرفت حقارتها وغفلتها وانكسر غرورها.
يقول القرآن الكريم {قيل لها ادخلي الصرح فلمّا رأته حسبته لُجّة وكشفت عن ساقيها
قال إنه صرح ممرَّد من قوارير قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمات لله رب
العالمين} (النم: 44).
فما دام هذا الغرور مسيطراً على قلوب الحكام ومستولياً على قلوب الطواغيت فليس من
الممكن أن يدخلها الإيمان بالله. فهذا فرعون ـ هو الآخر ـ قال في اللحظات الأخيرة
من عمره {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} (يونس:90).
وقد صدق فيما قاله لأنه كان إيماناً منطلقاً من الإحساس بالمسكنة والخضوع والعجز،
فهو إذ ذاك لم يكن يريد أن يخدع أحداً، وعلى الرغم من ذلك فمثل هذا الإيمان في
النفس الأخير، وبعد كل تلك الجرائم والموبقات والكبائر التي ارتكبها طيلة حكم، لم
يكن كافياً لإنقاذه ونجاته.
التكبر حجاب يحول دون فهم الأمور
إن الغرور الذي تطفح به قلوب الحكام المستبدين والمتغطرسين من شأنه أن يشكل حائلاً
يمنعهم عن سماع صيحات الشعوب واستغاثاتها، وهذا ما نراه قائماً في الوقت الحاضر، إذ
أي إنسان يحمل في صدره قلباً إنسانياً نابضاً، يمكنه أن يتغافل عن الوضع المخزي
لأصحاب المليارات في هذا العصر، ومردّ هذا الوضع يعود إلى أصحاب السلطة والمتسلطين
على المقدرات والقوى العالمية المستكبرة.
هذا الوضع يدركه جيداً أي امرئ عاقل، لكن أصحاب القدرة والهيمنة لا يدركون ذلك ولا
يفهمونه، طبعاً ليس من الناحية العلمية والفكرية بل من الناحية الإنسانية والقلبية.
إنهم لا يدركون أن سبب شقاء الشعوب ـ الكبرى والصغرى ـ وتعاستها ومغزى معاناتها هم
أنفسهم، والسياسات التي يطبقونها هم وعملاؤهم المأجورون.
إن الحجاب الذي يحول بينهم وبين فهم هذه الحقيقة هو التكبر نفسه، ونحن نرى أن
الغرور أحد أهم ملامح الحاكم الطاغوتي وصفاته الملازمة له؛ فالحاكم الإلهي عديم
الغرور، وهذا النمط من الحكام يصفهم أمير المؤمنين فيقول: "ووضعوا أجنحتهم للمؤمنين
وكانوا أقواماً مستضعفين".
ويخاطب الله ـ عز وجل ـ نبيّه (ص) في القرآن فيقول {واخفض جناحك لمن اتّبعك من
المؤمنين} (الشعراء:215).
ألا يعلم النبي (ص) أن المؤمنين يجهلون كثيراً من الأمور ويعرفها هو حق المعرفة؟ هل
الرسول لا يعرف منزلة علمه وتقواه؟ كل ما نعرفه وجميع ما نعتقده بشأن النبي ومنزلته
فإن النبي يعرفه ومطّلع عليه أكثر منا وأدق، وهو واقف على ما يملكه من المواهب
الإلهية ومحيط بالمنح الربانية له، ويعلم حقاً أنها لا توجد عند كثير من الناس ـ إذ
لم نقل إنها غير متوفرة عند الناس أجمعين ـ ومع كل ذلك يقول له الباري سبحانه
وتعالى {واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين} (الشعراء:215).
وهكذا هو الحاكم الإسلامي الذي يشع في قلبه نور الإيمان بالله. وقد علّمنا إمام
الأمة هذا الأمر بشكل عملي، فهو يقول لنا: "لئن تعتبروني خادماً وتسمّوني بذلك أحب
إليّ من أن تعدّوني قائداً لكم وتخاطبوني بذلك". وهو يجسد ذلك عملياً في سلوكه مع
الناس.
وهذه الحالة من التواضع الإلهي الذي يُلحظ على سيماء الأنبياء والحكام الإسلاميين
القليلين على مر التاريخ تعتبر أحد مفاتيح إنقاذ الناس ونجاة الشعوب. ولو تمكن
الحكام الحاليون في العالم ـ على اختلاف أديانهم وأفكارهم ومناهجهم ـ من التمتع
بهذه الميزة لوحدها فإن كل المصائب ستزول وكل المشكلات ستُحل. إنهم لو جعلوا أنفسهم
أناساً متواضعين، ولم يظنوا أنهم أكبر من باقي الناس وأسمى منهم فستُحل المعضلات،
ولو اعتبروا أنفسهم بمستوى بقية أفراد الشعوب لما اعتقدوا أن لهم حقاً أكبر من حق
غيرهم، ولو اعتبروا أنفسهم بمستوى سائر الناس لما انتظروا من الناس التملّق لهم
وطربوا لسماع ثنائهم وإطرائهم، ولو اعتبروا أنفسهم نظراء لباقي الناس لسمعوا قولهم
وانصتوا لكلامهم ولم يضيقوا ذرعاً بانتقاداتهم.
إنهم لو سمعوا اعتراضات الناس وانتقاداتهم فستُحل الكثير من المشكلات ولو أعطَوا
للناس حقوقهم واعتبروهم أولياء نعمتهم وأُولوا حق عليهم، ولم يعتبروا أنفسهم هم
أولياء نعمة الناس وذوي الحق على الناس، فإن الكثير من أنماط الفساد سوف تتلاشى
وتنعدم. وربما أثر ذلك في بعض ذوي القلوب المحتوية على شيء من العدل والانصاف، بحيث
أنهم لو نظروا بهذه الرؤية إلى أنفسهم لارْعوَوا عن غيّهم وسلّموا إلى غيرهم أمانة
الحكومة وذهبوا هم إلى حال سبيلهم.
إننا نرى في بعض البلدان الثرية أنه على الرغم من أن أموال تلك البلدان وثرواتها
ليست ملكاً للحكام المتسلطين عليها ولا للأجانب المتنفذين في أجهزتها ولا للفاتحين
المتحكمين بمقدراتها، وإنما هي ملك للشعوب، وعلى سبيل التسامح في القول ربما قيل
إنهم شركاء للشعب في هذه الثروات، ولكن على الرغم من ذلك نجد أن هذه الثروات مسخّرة
للحكام ليس من أجل أن ينفقوها على الشعب ولا لكي ينقذوا تلك البلدان من التبعية
والارتباط والعوز، ولا بهدف إنقاذ المجتمع وتحسين أوضاع المستضعفين وإصلاح الأمور،
بل بهدف ملء أرصدة الحكام الشخصية في المصارف الأجنبية الكبرى في العالم، ولا همّ
لهم سوى تكديس الثروات الطائلة والأموال الضخمة.
رأي الإسلام بشأن الحكومة
إن ثمة سؤالاً تطرحه الشعوب وتنطق به القلوب وتهتف به الضمائر الحرة في العالم
وتلاحق به كل الحكام الغاشمين والطواغيت المتسلطين، لكنه لا يلقى له جواباً يذكر،
وهو: كيف يحق لكم أن تعتبروا أموال الناس أموالاً شخصية لكم؟ ولماذا تسخّرون
الحكومة كوسيلة من أجل تحقيق السعادة والرخاء لكم وحدكم؟
إن ممارسة الحكومة حق يعود للناس وتفويضه للأشخاص لا يُتاح إلا من خلال منحهم هذا
الحق لهذا أو ذاك، والغرض من تفويضهم هذا الحق العائد لهم لحاكم ما، هو أن يستخدمه
كوسيلة في خدمتهم، وهذا هو رأي الإسلام.
ولقد رأينا النموذج الأعلى لهذا الأمر متجسداً في حياة الرسول الأكرم (ص)، وعرفنا
كيف كان تواضعه في قيامه وقعوده، وفي مأكله ومركبه، وفي معاشرته لسائر الناس وفي
جميع الخصائص والصفات الأخلاقية السامية التي كان يتمتع بها، وهذا كله إنما مردّه
إلى هذه الحقيقة.
إن النبي الأعظم (ص) يريد أن يعلّم هذا الدرس للأجيال على مر التاريخ كي يعلم مسلمو
العالم ما هو نمط الحكومة التي يسعَون لإقامتها، ولكي يدرك أتباع الرسول ما هو
واجبهم الملقى على عاتقهم.
وأود هنا أن أنقل عبارات قالها أمير المؤمنين في إحدى خطبه الفريدة، وهي تنطوي على
إيضاح حق الوالي وحق الرعية، جاء فيها: "وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس،
أن يُظن بهم حب الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني
أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست ـ بحمد الله ـ كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك
لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو حق به من العظمة والكبرياء.
وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تُثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي
إلى الله سبحانه وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لا بد من
إمضائها.
فلا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل
البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس
إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل
بهما أثقل عليه.
فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل... فإنما أنا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب
غيره".
هذه هي حكومة الإسلام، وهذه هي مشاعر الحاكم في الإسلام، ولذلك أصبحنا نرى منذ
انتصار الثورة الإسلامية في إيران حتى الآن أن مسؤولي الدولة كانوا ـ وما يزالون ـ
على أهبة الاستعداد لاستماع أقوال الناس وإعطاء أهمية وقيمة كبيرة للشعب والاعتناء
برأيه. ويوماً بعد آخر يزداد اهتمام مسؤولي الدولة بهذا الشأن.
وإن رأينا أن بعضاً من المسؤولين لا يعيرون اهتماماً ولا يلقون بالاً لآراء الناس
وطموحاتهم فإن البلد قد تضرر نتيجة لذلك. وللأسف فإن شرذمة من الأفراد وصلت إلى بعض
درجات سلّم المسؤولية في أجهزة الدولة بعد انتصار الثورة، بعد أن دسّوا أنفسهم في
صفوف الثوار وتحت غطاء ثوري، بيد أنهم لم يكونوا يملكون أي إيمان حقيقي بالشعب ولا
يحملون أي اعتقاد برؤى الناس وفهمهم ووعيهم، وفي الحقيقة أنهم لم يؤمنوا بالحديث
النبوي الشريف: "يد الله مع الجماعة".
فأينما كان الحشد البشري المسلم والتجمع البشري المؤمن فإن يد الله ترعاهم وتحيطهم،
فهناك بالذات يمكن فهم القضايا الحقة أفضل من أي مكان آخر، وهناك أيضاً توجد أفضل
الإمكانات وأروع الطاقات وأسمى القدرات، وهذا ينطبق بالطبع على الحشد البشري العامر
بالإيمان الملفع بالتقوى، فأكثرية الناس إذ ذاك هي التي تحمل خيرة الأفكار وأكثر
الرؤى سداداً، وللأسف إن كانت حفنة من المسؤولين ـ في أعقاب انتصار الثورة ـ يرَون
أن لديهم أرقى العقول المفكرة في هذا العالم وكتاباتهم أفضل ما كتب على وجه
المعمورة لسنين طويلة بل لقرون متمادية.
وقد دفعوا طبعاً ضريبة تلك النظرة الاستعلائية والرؤية الفوقية وعاد مكرهم إلى
نحورهم بعد هنيهة من الزمن، إلا أنه من المؤسف أن البلاد وقد تضررت مصالحها إبّان
الفترة التي كانت فيها هذه الأفكار مستولية على عقل مسؤول من مسؤولي الدولة، وبحمد
الله فقد ولّى هارباً مدحوراً واقتلع من أجهزة الدولة وأُلقيَ جانباً ـ من قبل
الشعب ـ كما يقتلع الضرس الفاسد ويُرمى بعيداً[8].
التكبر أصل كل أنماط الفساد
ينبغي لنا القول ـ فيما يخص صفة التكبر والاستعلاء التي تحدث عنها القرآن مراراً
وشخص وجودها في الحكام الطاغوتيين ـ أنه لو استطاع الحكام الطواغيت أن يبعدوا عنهم
هذه الصفة الرذيلة لَتسنّى وسهل عليهم التخلص من باقي الرذائل والقبائح والمساوئ
الأخلاقية المتجسدة فيهم؛ وقد أسلفنا القول فيما مضى إن القرآن الكريم يرى أن الحل
الأنجح لهذا المرض العضال هو كسر الغرور والغطرسة واجتثاث جذور التكبر والغطرسة
والإعجاب بالنفس.
وثمة نقطتان أود هنا التطرق إليهما، وهما:
الأولى: على الرغم من أن صفة الاختيال والتبختر والغطرسة تعد أكثر خطراً عندما
تتجسد لدى الزعماء والمسؤولين والممسكين بمقاليد الأمور، إلا أنها حتى لدى الناس
العاديين ممـن ليسـوا مــن ذوي المناسب الاجتماعية ولا من أصحاب السلطات الحكومية
تعتبر ذات آثار سلبية من شأنها أن تخلق للمجتمع العديد من المشكلات والمعضلات.
الثانية: لنرَ ما هي بوادر هذه الصفة الرديئة وعلائمها في الحاكم الطاغوتي، فلطالما
رفع بعض الحكام عقيرتهم وتلفّحوا بمسوح التواضع وتأييد الشعب، وكثيراً ما تظاهر
بعضهم بالترابية والبساطة في العيش، إلا أن صفة الغرور والاستعلاء متجسدة فيهم بشكل
عميق وراسخ.
وللتوسع أكثر في هاتين النقطتين أقول:
فيما يخص النقطة الأولى، نرى أن الأخطار التي تنطوي عليها هذه الصفة الرذيلة
(التكبر) عديدة، والسلبيات التي يمكن أن تتمخض عنها جمّة وكثيرة، سواء تجسدت في
سلوك الحكام الزعماء والقادة أم لدى عامة أفراد الشعب، وبالجملة إنها أمّ المفاسد
وأصلها.
فالذي يحمل الناس على عدم مراعاة الأخلاق الإنسانية فيما بينهم هو تكبرهم.
ولولا وجود الغرور والأنانية لتيسر الإنفاق والتضحية من أجل الآخرين.
ولولا وجود الإعجاب بالنفس وحب الذات وتفضيلها على الآخرين لقل الحرص والطمع.
ولولا إحساس المرء بأحقيته على أخيه الإنسان وأرجحيته في مجال التنعم بالنعم
الإلهية، ولولا رسوخ هذا الإحساس والشعور في فؤاد الإنسان وضميره لما شهدنا حالات
التنازع وأنماط التناحر وصور التنافس وأساليب التشويه والتسقيط الشائعة بين الناس
ضد بعضهم بعضاً.
وبالجملة، لو لم يرَ المرء نفسه أحق وأفضل من بقية أفراد المجتمع، لما كان للمعارك
والمناوشات وجود.
وفي الحقيقة أن المرء حينما يتشبّه ـ في ميدان حياته المادية ـ بالحيوانات المفترسة
وحينما يتصرف تصرف الذئب الكاسر الذي يرغب في التمتع بمفرده والتنعم بما لذ وطاب
لوحده حتى لو أدى ذلك إلى هلاك الآخرين وفنائهم، فإن الأمر يؤدي ـ حينذاك ـ إلى
وقوع حالات التناحر والتنازع، وظهور الانقسامات والتنافر والتعرض وجميع الصفات التي
تعكس الجانب السلبي الرديء من الإنسان والتي تحكي رذالة بعض الأفراد في المجتمع
وحقارتهم. ولو أمكن تطهير الإنسان من هذه الرذيلة ـ وهي غير قابلة للمحو التام
طبعاً ـ فإن الكثير من مشكلات الحياة البشرية ستُحل وتختفي، ولذلك نقرأ في القرآن
الكريم الآية الكريمة {ومَن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9).
الشح الإنساني هنا صفة رذيلة تعني البخل والحرص، وهي إحدى مظاهر أنانية الشخص، وفي
كثير من المواطن التي يطرح فيها القرآن الكريم صفة التكبر يجد المرء أن هذه الصفة
تمنع الإنسان حتى عن بلوغ الإيمان يقول الباري عز وجل {سأصرف عن آياتي الذين
يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يرَوا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يرَوا سبيل الرشد
لا يتخذوه سبيلاً وإن يرَوا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً} (الأعراف:146).
ومن الطبيعي أن الرشاد والهداية لا يمكن تحقيقها في المجتمع إلا عبر التعايش
والتآلف بين أفراد البشر، وإلا من خلال علاقة الأخوّة بين الناس.
التكبر هو سبب تنكّب سبيل الرشاد
ولذلك فإن الشخص الذي يرى نفسه أسمى وأعلى من الآخرين وأفضل من عامة الناس، إذا
أراد أن يحيا في المجتمع حياة مقرونة بالرشاد والهداية فإنه مضطر لصرف النظر عن
غروره وتكبره، ولأنه لا يستطيع ذلك فإنه يرفض سلوك جاد الصواب، ويسلك سبيل الرشاد.
وبناءاً على ذلك فإن تاريخ الأنبياء طافح بمكافحة طواغيت عصرهم ومناوأتهم، لأنهم ـ
كما يقول الباري عز وجل {واستغشَوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً} (نوح:7).
وهو ما نقرأه في قصة نوح (ع) الذي قال لله عز وجل {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم
جعلوا أصابعهم في آذانهم...} (نوح:7).
وهذا الأمر تكرر مع جميع الأنبياء والمرسلين، وآخرهم نبينا محمد (ص) الذي يقول الله
سبحانه عن دعوته (ص) للمنافقين كي يؤمنوا {وإذا قيل لهم تعالَوا يستغفر لكم رسول
الله لوَّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون} (المنافقون:5).
لماذا لا يعتني المنافقون بهذه البشرى التي تقدّم لهم، بشرى استغفار رسول الله لهم؟
ولماذا لا يعبأون بهذه الابتسامة من النبي الذي وجهوا له كل تلك الإساءات ومع ذلك
فتح لهم ذراعيه كي يؤمنوا ويستغفر لهم الله فرفضوه؟
إنه التكبر والإعجاب بالنفس وحب الذات، يمنعهم من اللجوء إلى كنف الإسلام والتمتع
بعطف رسوله الكريم وهدايته، لأنهم يرَون أنفسهم أسمى منه وأرقى... هذه هي الرؤية
القرآنية للتكبر والغرور.
وطبعاً فإن هناك كثيراً من الآيات والروايات الواردة في باب ذم الغرور والتكبر
ويمكن الحديث عنها وحولها طويلاً، ولا يتسع لها المقام، إذ لست أطرح هنا بحثاً
أخلاقياً، وإنما هدفي من هذه الدراسة شيء آخر، بيد أنني أود أن أُثبّت هنا حقيقة
أخرى هي أن علينا أن لا نظن أننا في غنى عن أن نُنصَح بالتزام التواضع، وإنما في
الحقيقة أن المجتمع إذا لم يَسُد فيه التواضع والمحبة بين الأفراد تجاه بعضهم بعضاً
فرأى كل واحد منهم نفسه أرقى وأعلى من الآخرين، وأهمل الناس هذه الموهبة الإلهية
واللطف الإلهي فإن الكثير من مشكلاتهم لا يمكن أن تُحل، وسوف تترسخ أنماط التفرقة
والتنافر والتشرذم وتسود حالات العداء والبغضاء والشحناء ومعظمها منشؤها التكبر
والغطرسة.
فلا يطنّن أحد أن كل كره يكنّه شخص تجاه آخر ـ أو أشخاص آخرين ـ مبني على أدلة
فكرية ومستند إلى أسباب حقيقية وموضوعية فمغزى الكثير من الخلافات والنزاعات،
والبغضاء والشحناء، والعناد والتشرذم، يعود إلى التكبر وإهمال الآخرين وتحقيرهم بل
واعتبارهم من غير البشر، وتفضيل الذات عليهم والإعجاب بالنفس وإعطائها الأولوية على
غيرها، وقد شهدنا كل هذه الحالات منذ بدء انتصار الثورة الإسلامية وحتى اليوم،
وذقنا مرارة ذلك ـ طويلاً ـ لدى بعض الأشخاص من خلال بعض مواقفهم السيئة.
واعتقد أن مشكلة الفئات المعادية للثورة، هذه المشكلة التي شهدها مجتمعنا الإسلامي
الثوري إبّان انتصار الثورة الإسلامية، كانت مشكلة أخلاقية لا فكرية أو عملية وليست
مشكلة مبدئية وأصولية. إن العامل الأساس الذي ساعد على استفحال مشكلة الفئات
المعادية للثورة، وفسح المجال للأيدي الأجنبية الخبيثة كان هو العامل الأخلاقي،
وأهم ما يتمثل فيه هو صفة الغرور والتكبر والإحساس باستحقاق حصة أكبر من الآخرين
والظن بعدم استحقاق الآخرين لأي حق، وهذا ما ابتُليَ به معظم الذين وقفوا بوجه عجلة
الثورة وقاوموها.
لقد كانت هناك شرذمة من الأشخاص الذين اقتصر نشاطهم قبل انتصار الثورة الإسلامية
على ميدان النضال السياسي، وحتى في هذا الميدان لم يكن خطر نضالهم ضد الشاه كبيراً
ولم يكن كفاحهم كفاح المستميت، ولم يكن نضالهم قوياً ومبدئياً وشعبياً، بل مارسوا
عملاً سياسياً هامشياً لا خطر من ورائه وذلك في إطار ما يسمى بفئة "المثقفين
المتنورين" حسب الاصطلاح السائد في صفوف مجتمعنا، وهم من فئة "المثقفين" بالمعنى
الاصطلاحي الذي ننتقده أحياناً، وليس المقصود به الجامعيين والخريجين بالاصطلاح
الحديث، وليس المقصود بكونهم من المثقفين أنهم كانوا من الشريحة المثقفة الواعية
ذات الرصيد الجيد من المعلومات الاجتماعية والسياسية.
وبالطبع فإن الشريحة المثقفة الواعية ـ الملتزمة ـ هي الأولى باستحقاق صفة
"المثقفين" ونحن نكنّ لهم كل الاحترام والتقدير، والمقصود من بعض العبارات النقدية
التي صدرت مراراً من ألسنة مسؤولي الجمهورية الإسلامية لتنتقد "فئة المتنورين" هو
النقد الموجة إلى حفنة محدودة من الأشخاص التي أخذت لنفسها ـ إبّان عهد النضال
الشعبي ـ صفة "المتنورين" فانسلخوا من ميادين الجهاد والنضال الشعبي المرير ولم
يختلطوا بصفوف الناس بتاتاً، فلا الناس يفهمون ما يقولونه ولا هم يفهمون ما يقوله
الناس.
وكانت تنطلق منهم إشارة أو عبارة أو كلمة كناية في قصيدة شعرية أو قطعة نثرية تُشم
منها رائحة معارضة مؤسسات النظام، أي أن معارضتهم لأجهزة النظام كانت تنطلق إشارة
عليها بشكل عابر من قلمهم أو لسانهم، ولم يكن من العسير على النظام فهم ذلك بل كان
يدركه جيداً لكنه يرى أنه لا يشكل خطراً عليه ولا يوجه ضرراً إليه، ولا يعبّئ الشعب
ضده، ولذلك فلم تكن أجهزة النظام تبدي حساسية تذكر تجاه هذه الأمور، بل تحملها وتمر
عليها مرور الكرام، وغالباً ما كانوا يداهنون النظام في الأمور الحساسة، وبعد
انتصار الثورة الإسلامية كانت هذه الفئة تظن أنها بمنزلة "الولي" أو "القيّم" على
الثورة، بل وكان أفرادها يصرّحون بذلك على ألسنتهم وفي كتاباتهم ومواقفهم.
وقبل انتصار الثورة وإبّان اصطباغ الشوارع والساحات العامة بدماء الشهداء من أبناء
الشعب، كان أعظم إنجاز يقومون به آنذاك هو أن يتجمعوا في زاوية ما ويعقدوا لهم ندوة
وجلسة أو أمسية شعرية يلقي فيها بعض أفرادهم كلماتهم وخطاباتهم ثم ينفضّوا ويعودوا
إلى قواعدهم سالمين، ولم يُصَب أنف أحدهم بالرعاف، ولو مرة خلال "كفاحهم" ضد الشاه!
وعندما أيقنوا أن الثورة ليست في خطهم ولا تسير في نهجهم وأن صفوف الثوار تلفظهم
وأن قادة الثورة أشخاص يعرف الناس أخلاقهم وإيمانهم وتضحياتهم وأن الدين هو العمود
الفقري للثورة وأن الحافز الديني والإيمان هما عمادها، انسحبوا فجأة ونأَوا بعيداً
عن مجريات الثورة وانتحَوا جانباً في بروجهم العاجية، بل إن معظمهم انخرط في سلك
أعداء الثورة.
مصداق الاعتناء بالناس: حبهم والتودد لهم
أما الذين لم يجرأوا على ذلك ولم يتجاسروا على تحدي الرأي العام والتيار الشعبي
الجارف فإنهم ـ وخشية من ذهاب آخر قطرة من ماء وجوههم بين القلة القليلة من الناس
الذين يعرفونهم ـ لم يتجاهروا بإبداء آرائهم، بل امتنعوا عن دعم الجمهورية
الإسلامية ودعم مسيرة الشعب والثورة، ولم يخطوا ولو خطوة واحدة في خدمة الشعب.
وهؤلاء يشكلون جبهة عريضة وواسعة، ولبعضهم دوافع سياسية فيما لبعضهم الآخر دوافع
ثقافية، وبعضهم كان منتمياً إلى فئات وتنظيمات سياسية، وعلى أية حال فإن هذا التيار
وقف في مواجهة إرادة الشعب وعلى الضد من مسيرة الثورة والجمهورية الإسلامية، ولكن
حافزهم الأكبر ودافعهم الأقوى إنما هو التكبر والاختيال والغرور، ولم يكونوا
يعتبرون الناس من البشر.
وهؤلاء لم يكونوا يعيرون اهتماماً ويظهرون احتراماً لقيادة الجمهورية الإسلامية
ومسؤوليها الذين يملكون مكانة خاصة في قلوب الناس ويحظَون بثقة الشعب ويتمتعون
بتأييده واحترامه، ويكنّ لهم الشعب كل إجلال وإكبار.
وطالما رفضوا أن يكون لعلماء الدين أي دور يذكر في الثورة أو الجمهورية الإسلامية
ولم يكونوا على استعداد لتقبل ذلك إطلاقاً، وكانوا يخالون أن كل تلك التضحيات
والقرابين التي بُذلت أيام الجهاد الثوري إنما كان الهدف منها أن يصل حفنة من
الأشخاص من ذوي الألقاب الرنانة والعناوين الفخمة ويحكموا الناس ويتسلموا مقاليد
الأمور، وهذا ما كان يشغل أذهان قيادات الفئات المعادية للثورة.
ولذلك رأينا منذ أوائل أيام انتصار الثورة الإسلامية في إيران وإلى الفترة التي
انتهت فيها عائلة أعداء الثورة وفتنة محاربيها الداخليين من المنافقين
و"الليبراليين" والقوميين والمغرمين بالغرب والشرق، بفضل جهود الشعب وجهاده في
ساحات الكفاح والنضال، واستقرت ـ ولله الحمد ـ أوضاع البلاد وترسخت أقدام حزب الله
في أجهزة الدولة وقامت الحكومة السائرة في خطى الإمام، رأينا أن معظم الذين كانوا
يقاومون الجمهورية الإسلامية ويعارضونها ذوو الادعاءات الفارغة والانتفاخ الظاهري،
الذين يعدّون أنفسهم أعلى من كل الآخرين وينظرون لأنفسهم نظرة أسمى من نظرتهم إلى
سائر الناس وهم ـ طبعاً ـ لا يكفّون عن رفع عقيرتهم بالتحدث عن الناس والتظاهر
بالدفاع عن الشعب والدعوة إلى الديمقراطية والحرية، ولكن الشيء الوحيد الذي لم
يكونوا يفكرون به هو آراء الشعب وطموحاته وتجمعاته الجماهيرية.
ومن الأدلة على ذلك استنكافهم عن المشاركة في صلاة الجمعة لا بل وعدم مبالاتهم بها
وعدم الانخراط في تظاهرات الشعب وعدم المشاركة في جبهات الدفاع المقدس التي يحتشد
في خنادقها أبناء الشعب.
حسناً، من اللازم أن يكون لاحترام الشعب والاعتناء به مصداق معيّن، والمصداق الأتم
لذلك هو حب هذا الشعب والتودد إليه على جميع الصعد.
لقد وجدنا أن الإمام الخميني ـ ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع لهيب الثورة وحتى
انتصارها ـ كان في جبهة الشعب، وإلى جانب الشعب، وفي أوساط الشعب وفي خدمته، ويضم
صوته دائماً إلى صوت الشعب، وبقي هكذا دأبه حتى بعد انتصار الثورة، وظل ذلك مبدأ
للنظام وأساساً من أسس الحكومة، فصار أصل كل موقف وقرار ومنطلق كل شيء في الثورة
يستند إلى عامة الشعب وجماهير الأمة.
إن بروز هذه الصفة، صفة التكبر لدى الحكام، من شأنه أن ينعكس سلبياً على الناس،
وهذا ما له تأثيرات كثيرة على الناس، فكل واحد منهم حينما يرى نفسه أرقى من الآخرين
وأفضل منهم فإن النتيجة هي أن الانسجام سوف يكون مفقوداً فيما بينهم، وتنعدم الرأفة
والشفقة ووحدة القلوب، وتنتفي وحدة المجتمع وتماسكه. فكل شخص عندما يرى أن الآخرين
يتمتعون بالترف والبذخ يشعر أنه مخدوع مستغفل مظلوم، وأن حقه قد سُلب منه وأعطي
للآخرين، فصار مغبوناً يحس بالإجحاف.
وإن هذه الحالة تؤدي إلى افتقاد حالة الصفاء والتماسك والمحبة والاحترام المتبادل
والإيمان العام الذي ينبغي أن يسود بين أفراد المجتمع، كما أنها سوف تجعل المجتمع
يفقد الأجواء المنفتحة الحرة، وتحل بدلاً منها ألسنة المتحدثين، سوف تشيع في
المجتمع نماذج من أشباه الملوك والمعجبين بذواتهم المولعين بحب أنفسهم، وهذه الحالة
هي إحدى أكبر المصائب وأخطر البلايا التي يصاب بها المجتمع.
كل الامتيازات لا قيمة لها مقارنة بالتقوى
ولهذا نرى أن الإسلام سعى لإلغاء جميع الامتيازات خلا الامتيازات المعنوية كالتقوى
والعبودية لله، فهذه الامتيازات لا تحمل على الكبر والغرور بأي حال من الأحوال؛
فالشخص المتقي والعبد لله عندما يدرك أنه يمتلك امتيازاً بسبب تمتعه بهذه الخصلة
فإنه لا يصاب بالعجب ولا يُبتلى بالغرور، لأنه لو أدى إلى العجب والغرور فإنه مناقض
للتقوى، وبمجرد إصابته بهما فإنه يخرج عن إطارها، مما يُفقده هذا الامتياز
تلقائياً.
أجل، إن كل الامتيازات لا تساوي شيئاً يذكر ولا قيمة لها في مقابل التقوى، فلا
امتياز النسب ولا امتياز المال ولا امتياز القوة ولا امتياز الجمال، بل ولا حتى
امتياز حيازة العلوم غير المفيدة، كلها ليست ذات جدوى ولا أهمية لها؛ أما العلم
المفيد فبلى، فهو يُعدّ في خدمة الناس، ولذلك يعتبر امتيازاً حقيقياً، أما العلوم
غير النافعة فهي ليست امتيازاً قط.
من هذا المنطلق فإن الإسلام يسعى لحث الناس نحو تجسيد هذه الحالة من العبودية لله،
عبر الانعتاق من أغلال النفس والتحرر من أهوائها ونبذ الأنا والتخلص من عبادة الذات
والأنانية، والاعتقاد بأن أفضل حالات المرء وأقربها إلى الله هي أثناء أدائه الصلاة
لله.
فالمرء وهو ساجد يُعدّ في أسمى حالات الخضوع والخشوع لله والبعد عن حبائل النفس
وأهوائها، والترفع عن عبادة الذات والأنا، فهو واضع جبهته على الأرض ممرّغ لناصيته
بها في مقابل عظمة الخالق العظيم عز وجل.
وإذا كانت انعكاسات التكبر بين الناس هي هذه ـ وهي بلا شك آثار سلبية وتنطوي على
مشكلات فادحة ـ فإنها تتعاظم أكثر عند شيوع التكبر لدى مسؤولي البلدان والممسكين
بمقاليد أمورها، فلا يقتصر الأمر حينذاك على ضياع الأخلاق وانتهاك المثُل بل يؤدي
ذلك ـ أيضاً ـ إلى انعدام العدالة في المجتمع.
فتكبر المسؤولين من شأنه أن يخلق التفرقة والتمييز، فالشخص الذي يعتبر نفسه حاكماً
ومسؤولاً في المجتمع الإسلامي إذا اعتبر نفسه أرقى وأسمى من باقي الناس وأن له حقاً
أكبر من حقوق الناس، وإذا كانت نظرته إلى الناس نظرة احتقار واستصغار فإن النتيجة
هي أنه سيعتقد ـ من الناحية الفلسفية والمنطقية والمبدئية ـ أن له حقوقاً أكثر
وأوفر من غيره، فحينما يستولي على شيء من ممتلكات الناس وينهبه وينفق على مشتهياته
يشعر أن ذلك من حقه، ولا يحس أنه قد ظلم الناس، وعندما يصرف الأموال على مَن هم في
خدمته يشعر أنه قد وضع الشيء في محله، ويرى نفسه أسمى من ذلك وأعلى.
وهكذا نلاحظ أن هناك بلداناً غنية ذات ثروات عظيمة وذخائر كبرى ولكن شعوبها تعاني
من فقر شديد، لأن تلك الثروات موضوعة تحت تصرف شرذمة قليلة من الأشخاص، أما عامة
الناس فإنهم يعانون الأمرّين ومحرومون من أبسط الإمكانيات، فلماذا يحصل ذلك؟ لماذا
ينفق حكام تلك البلدان وزعماؤها الثروات والأموال ويصرونها على مشتهياتهم مع أنهم
ليسوا المالكين الحقيقيين لها؟
إننا نرى اليوم أن الذخائر الموجودة تحت سطح الأرض والثروات الضخمة والمواهب
الإلهية السخية في الدول الغنية بالنفط تُصرف على حماية عروش حكامها وتيجانهم
وهؤلاء الحكام ينفقون معظم ثروات بلدانهم على حماية حكمهم وإبقاء هيمنتهم وتسليط
أعداء الشعوب على مقدرات تلك البلدان، ويطلقون أيدي القوى الكبرى لتتلاعب كما تشاء
ـ بثروات دولهم، وفي المقابل يستوردون من تلك القوى البضائع والسع، وفقاً لما يخططه
خبراء تلك القوى وطبقاً لتوجيهاتهم، في سبيل إدامة حكمهم وإطالة فترة تسلطهم غير
المشروع، بينما يعاني سكان تلك الدول من الجوع.
ودونكم الجزيرة العربية فانظروا سكانها القاطنين في أرجائها ومناطقها الملتهبة
والنائية، وما الإمكانات المتوفرة لهم وأية معاناة يتجرعونها بينما يملك بلدهم كل
تلك الثروات الضخمة التي تُعدّ من الثروات الفريدة من نوعها في العالم.
وهكذا هي الأوضاع في معظم أنحاء العالم، فالثروات ألعوبة في أيدي الحكام والمسؤولين
المتسلطين على مقدرات الشعوب، وهم يتمتعون بها مثلما يشاؤون وكما يشتهون، لماذا؟
لأنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق وأنهم أولى من الناس وأرقى منهم وأجدر بها، وهذا
هو التكبر بعينه وهو الاستعلاء ذاته.
وعندما يتجسد الاستعلاء والتكبر في حاكم بلد ما فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي حصول
التمييز والتفرقة في ذلك البلد. إذ يتحول هذا الحاكم المتكبر إلى محور ومركز
لاستقطاب المتملقين وكل مَن يؤيده ويصفق له ويسبح بحمده ويحقق رغباته ومشتهياته
ويستحسن انحرافاته ويخضع لإرادته فسيكون مرفّهاً متمتعاً على حساب الناس.
أما مَن لا يسخّر نفسه في خدمته ـ حتى لو لم يعارضه ويخالفه ـ وكل مَن لم يثن عليه
ويمدحه فإن نصيبه هو الحرمان.
مثل هذا التمايز والتبعيض يحصل في المجتمعات بهذه الكيفية وهو ما نشهده في غالبية
دول العالم، فإنكم لا تجدون في أيٍّ من دول العالم أن مسؤوليها يعدّون أنفسهم
بمستوى الناس. بيد أن هذا الأمر أخذ يتجسد في الجمهورية الإسلامية بفضل الله، حتى
وجدنا زعيم هذا الشعب وإمام هذه الأمة ـ الذي يفدي له الناس كل ما لديهم ويضحّون من
أجله بالغالي والنفيس انطلاقاً من ثقتهم به ومحبتهم له ـ يبقى في انتظار حلول موعد
حصته المقررة من المواد الغذائية بالكوبون (أي بطاقات التموين) شأنه في ذلك شأن
بقية أفراد الشعب.
كما أنه عندما يحتاج إلى بعض الأدوات المنزلية يلزم نفسه بانتظار دوره ليحصل عليها
باستحقاقه مثلما يحصل على حاجته أي مواطن آخر، بل ويحصل على حاجته بالنوع نفسه
والمقدار الذي تخصصه الدولة للأشخاص العاديين. هذا ما تحقق في بلدنا بحمد الله بفضل
القرآن الكريم والإسلام والحكومة الإسلامية وهو غير موجود في بقية أنحاء العالم.
وبحمد الله أن مثل هذا الوضع قد قام في بلدنا، وهذه أشعة من نور صدر الإسلام برقت
في سماء بلدنا ونحن لا نريد أن ندّعي ـ طبعاً ـ أن وضع بلدنا صار مماثلاً لما كان
عليه الوضع في عصر صدر الإسلام، ومثل ما كانت عليه حكومة أمير المؤمنين (ع) أو أننا
بلغنا المستوى الذي بلغوه، بل إن أمير المؤمنين (ع) نفسه قال في رسالة وجهها إلى
عثمان بن حنيف: "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن
إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك
ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد" (نهج البلاغة، الرسالة 45، د. صبحي
الصالح).
وسنسعى لتحقيق ما أراده منا أمير المؤمنين ونقرب أنفسنا منه ـ شاء الله ـ بيد أننا
نقول: إن الجميع يرَون أن مسؤولي بلدنا لم يعودوا متمتعين بالامتيازات المادية على
بقية أفراد الشعب، وطفقوا لا يرَون لأنفسهم حقوقاً أكبر من حقوق باقي الناس ولا
يعتبرون أنفسهم أفضل من بقية المواطنين، ولا يستولون على الثروات العامة العائدة
للشعب ولا يستحوذون على أموال البلاد دون أصحابها الحقيقيين.
إن كبار المسؤولين في البلاد ـ كرئيس الوزراء والوزراء وأمثالهم ـ طفقوا يعيشون
حياة اعتيادية متوسطة المستوى، وإننا نرغب ونسعى لأن تكون حياتنا هكذا ونأمل أن
ننجح في ذلك... ولكن مثل هذا الأمر ليس له وجود في بقية أنحاء العالم.
إننا لم نرَ أن هذه الحالة من الورع والحذر في إنفاق أموال الشعب سائدة إلى هذا
الحد لدى مسؤولي باقي البلدان وحكوماتها وزعمائها الذين يملكون مفاتيح خزائن
الثروات العامة في تلك الدول وهذا هو أحد آثار التكبر.
وثمة بلدان يتجسد فيها هذا التكبر لدى مسؤوليها بشكل يبدو وكأنه يعيد إلى الأذهان
ما ترويه الأساطير والخرافات عن حياة بعض الزعماء نظير ما كان عليه وضع حكومة
النظام الشاهنشاهي البائد في إيران، ولا زالت الكثير من دول العالم تُحكم بالأسلوب
نفسه الذي شاهدناه في بلدنا إبّان عهد حكم الشاه، وتتحمل شعوب تلك البلدان ذلك
ظانّة أنه من حق زعمائها، وهذا ظن خاطئ وأمر خطير وينبغي لكل الذين يحكمون الشعوب
بهذه الطريقة أن يعلموا أنهم يمثلون الحكومات الطاغوتية، وأن أعظم ضرر يترتب على
شيوع التكبر هو محو العدالة وزوالها.
وكما ذكرت سالفاً فإن أكبر ضرر يترتب على وجود الحاكم الطاغوتي هو توجيه ضربة
للعدالة في الصميم، إذ يصبح هذا الحاكم محوراً وقطباً يلتف حوله الانتهازيون
والنفعيون فيقعون نهباً واستحواذاً على النعم والثروات الموجودة لهم ولمن لف لفهم
وتزلّف لهم، ومصداق الحاكم الطاغوتي وبطانته ما ورد في قوله تعالى {إن فرعون علا في
الأرض وجعل أهلها شيعاً} (القصص:4).
إنه مزّق صفوف الشعب وجعله فئات وشراذم، وأفقده وحدته وانسجامه، ورفع بعضه فوق بعض،
وفضّل طائفة على الأخرى، وأغدق الثروات على شرذمة من الملتفين حوله والمصفقين له،
فيما طفق "يستضعف طائفة منهم" فأذاقهم غصص الفقر ومرارة الحرمان، وهذه أهم سمة من
سمات ومعالم حكومة الحاكم الطاغوتي.
إن الواجب يحتّم على الشعب والمسؤولين بدرجة سواء، أن يراعوا التواضع ويجسدوا
البساطة، ويضعوا أجنحتهم لبعضهم بعضاً، وهذا من أعظم الواجبات وهو أحد مصاديق
التقوى.
فلنعقد العزم على أن لا نتكبر على الآخرين، ولنعيد النظر في القيم والمقاييس التي
وضعناها لأنفسنا. فثمة مَن يعتبر العلم مقياساً له فيقول: إنني الأعلم، ولذلك فإن
منزلتي أعلى وأسمى من غيري، وعلى الناس أن يحترموني. وثمة مَن يرى أن النسب هو
مقياسه فيقول: إنني ابن فلان ومن عشيرة كذا وأملك هذه المزايا النَّسَبية، إذاً فمن
واجب الناس أن يحترموني!! وثمة مَن يرى أن المنصب هو المقياس والقيمة العليا فيقول:
إنني أشغل الوظيفة الفلانية وأمتلك المنصب الكذائي وأقوم بأداء المسؤولية
الاجتماعية الفلانية، فعلى الناس كافة أن يحترموني!!
وثمة مَن يظن أن تضحيته التي قدّمها أو جهاده الذي أداه يُعدّ امتيازاً له فيقول:
لقد قمت في التاريخ الفلاني بالعمل الكذائي، أو أنفقت كذا مبلغ وقمت بكذا مبادرة،
فعلى الناس أن يحترموني!! ويقول: لأن من عائلتي الشخص الفلاني ـ الذي كان فدائياً
مستبسلاً مضحياً شهيداً أو عليلاً ـ فمن واجب الناس أن يحترموني!!
هذه الامتيازات أو المقاييس الفردية التي يفترضها الإنسان لنفسه بعضها لا يُعدّ من
القيم والمثُل أبداً، بل بعضها ضد المثُل والمقاييس، نظير الأعمال غير النافعة
للناس والعلوم غير المجدية لهم، أو التي تُستعمل أحياناً بشكل ينافي مصالحهم، وهذه
الأمور ـ وفضلاً عن أنها ليست من القيم والمقاييس ـ تُعدّ مضادة للقيم والمثُل،
وبعضها إن كانت من القيم الرفيعة فإنها لا تُعدّ أثمن وأرفع من قيمة التواضع للناس،
وخصوصاً بالنسبة للمسؤولين التنفيذيين في البلاد وأولئك الممسكين بزمام أمور
المجتمع.
إذ أن من أهم الخصائص التي ينبغي لهم التحلي بها هي تلك التي أشرت إليها سابقاً
والتي تتجسد في الحاكم الإسلامي وفي الأنبياء، وعلى رأسها التواضع والتنازل أمام
خلق الله وفي مقابل الشعب والخضوع لجماهير الأمة وضَعَفة الناس الذين لا يُحسب لهم
حساب في نظر المستكبرين، والأفضل أن يعتبر المسؤولون هؤلاء الأشخاص أفضل منهم وأسمى
شأناً، وهذا من واجب جميع المسؤولين في الدولة، سواء كانوا في المستويات العليا من
المسؤولية أم كانوا في المراتب الدنيا من الوظائف الرسمية في البلد. وإذا اهتم كبار
المسؤولين الحكوميين باكتساب هذه الخصلة الحميدة والتمسك بها فإنه من المتوقع
والمأمول أن تشيع أيضاً بين صفوف الناس[9].
من انعكاسات التكبر وآثاره
من المشكلات الاجتماعية التي يؤدي إلى ظهورها في المجتمع تكبر المسؤولين ما نراه من
هؤلاء المسؤولين المتكبرين يتصدَّون بعنف لكل ما يقف بوجه أنانياتهم ونزعاتهم ولكل
مَن يقاوم استكبارهم ولو أدنى مقاومة أي أنه إذا أريد من القانون أن يحدّ من
استكبار الحاكم المتكبر ويقلل من مسعاه المتواصل للتحليق إلى قمة رغباته الأنانية
فإن هذا القانون سيُنتهك من قبل مثل هذا الحاكم.
وإذا كان حضور حشود الشعب وثباتها في الميدان يشكل عائقاً يحول دون تحقيق المطامع
والغايات الأنانية والاستبدادية للحكام المتكبرين والمستكبرين فإنهم لن يترددوا في
منع الشعب من تسجيل حضوره الفعال ولن يتأخروا في إخلاء الميدان منهم بيد من حديد.
وإذا كانت القيم والمثُل والمفاهيم السامية تشكل عقبة بوجه الحاكم المتكبر وتعيقه
عن بلوغ غاياته المنحرفة فإنه سرعان ما يبادر إلى نفض هذه القيم وانتهاكها.
إنه البلاء المبرم والطامة الكبرى والمشكلة الخطيرة، التي لا يمكن التغاضي عنها أو
الاكتفاء بالتفرج عليها دون إبداء أي رد فعل إزاءها، ولذلك فإننا ـ ومن هذا المنطلق
ولهذه الأسباب بالذات ـ نركز البحث حولها.
إننا إذا لم نتحدث عن تكبر الحكام ولم نشخّصه ولم نعرّفه للآخرين، وإذا لم نَحُل
دونه وابتُلي به مجتمعنا ـ لا سمح الله ـ في المستقبل بحيث تُسيطر على مقاليد أمور
البلاد حفنة من الحكام المتكبرين والمستكبرين، فليس باستطاعة أي شيء الحيلولة دونه
بشكل اعتيادي وطبيعي، ولن يكون بالإمكان إيقاف هذا الداء المستفحل، داء الإعجاب
بالذات والغرور والغطرسة، أو التصدي للمفاسد الناتجة عنه، لأنه حيثما وُجد
الاستكبار فإنه يدمّر كيان القانون والقيم ومصالح المجتمع، ويمنع الناس من تسجيل
دور فعال لهم، أو إبداء تدخل في الحكم أو نصيحة للحاكم، وهنا يتحول التكبر إلى نمط
أشد هو الطغيان.
الطغيان ذروة التكبر
لقد سمعنا الكثير عن أحوال الطواغيت والطغاة على مر التاريخ، والقرآن الكريم مليء
بشرح ووصف أساليب الطغاة وأحوالهم، وكان طغيانهم يتجسد عبر هذا المفهوم وهو "التمرد
على القيم والمثُل، ومكافحة الهدى ومناوأة الفضائل". لقد كانوا ينتهكون القيم
الأصيلة ويبغون محوها تماماً وذلك بدافع من نزعة الاستعلاء والأنانية وحب الذات.
وهنا أود أن أشير إلى نقطة مهمة وهي أن حالة الاستكبار والطغيان تظهر لدى الإنسان
متى رأى نفسه مستغنياً وفير النعمة، فحينذاك تقوى وتشتد لديه هذه النزعة، فيقول
الله تبارك وتعالى {إن الإنسان ليَطغى. أن رآه استغنى} (العلق:8).
ماذا يعني ذلك؟!
إنه يعني أن المرء متى رأى نفسه مقتدراً مستوعباً للكثير من النعم الدنيوية مالكاً
لها، مستغنياً عن الناس غير محتاج لمساعداتهم المادية والمعنوية، يستولي عليه
الطغيان والتجبر. إن هذا الشعور ليس إلا شعور زائف كاذب، لماذا؟ لأنه ليس هناك أي
إنسان يتجسد لديه معنى كلمة "الاستغناء" و"انعدام الحاجة للآخرين".
كل الناس محتاجون لبعضهم بعضاً، والناس فقراء، فقراء للطف الله وفقراء لمساعدة
الطبيعة، ومحتاجون للمساعدة والتعاون مع الآخرين.
بيد أن ثمة أشخاص يشعرون أنهم مستغنون عن الناس على الرغم من هذا الفقر وهذه
الحاجة. وإننا لم نجد مثل هذا الشعور المزيف متجسداً لدى بعض الحكام في العصور
الماضية من التاريخ فحسب، بل ونجده الآن موجوداً في تاريخنا المعاصر على الصعيد
العالمي.
وقد شاهدنا ذلك بأم أعيننا في تاريخنا المعاصر، وفي هذا البلد بالذات. فثمة أشخاص
ترى الفقر المعنوي والنقص والاحتياج للآخرين يعلو هاماتهم إلا أنهم يشعرون
بالاقتدار والعتوّ وهو اقتدار زائف يتبعه شعور زائف آخر بالاستغناء وانعدام الحاجة.
لقد رأينا بأم أعيننا أولئك الأشخاص الذين تسلّموا المواقع وصار يشار إليهم بالبنان
من خلال دعم الناس وتأييدهم، وبمجرد أن شعروا أنهم أصبحوا مستغنين عن دعم الشعب
وتأييده أداروا ظهورهم للناس ولم يعيروا اهتماماً لمقدسات الناس وعقائدهم وقيمهم
السامية ولذلك سحب الناس دعمهم لهم وأداروا لهم ظهورهم، فظهر زيف ذلك الاقتدار
والزهو الذي كانوا يتباهَون به، وبان لهم زيف التصورات الوهمية التي كانوا يحملونها
عن أنفسهم، وذهب كل ذلك أدراج الرياح، فعرفوا أنه لم يكن إلا سراب لا أكثر.
لمن تعرض هذه الحالة من الاستغناء أكثر من غيره؟
إنها تعرض لأولئك الذين يسيطرون على مفاتيح الاقتدار وزمام السلطة. فالشخص الذي
يسعى ليل نهار من أجل توفير لقمة العيش له ولأطفاله ويقضي كل وقته في الكدح والتعب
هنا وهناك، من أجل أن يقيم أوَدْ عياله لا يمكن أن يشعر بالاستغناء. والشخص الذي
يرى أنه لا مناص له من التبسم للناس لكسب رضاهم ولا بد له من إلقاء التحية عليهم
والقيام لهم والتواضع أمامهم لا يمكن أن يشعر بحالة الاستغناء.
أما مَن يرى أن الإمكانات المادية متوفرة لديه، وأن خزائن الثروة الوطنية تحت
تصرفه، وأن ثمار أعمال الناس وأتعابهم ومساعيهم وانتاجهم في متناول يده فمن الطبيعي
أن تعرض له هذه الحالة قبل سواه، وأن يشعر بالاستغناء وعدم الحاجة للآخرين. طبعاً
فيما عدا أولئك الأشخاص الذين يحملون إيماناً يصونهم من الانزلاق والانحراف
والخطيئة.
تكبّر المسؤولين يكدّر صفو المجتمع
وبناءاً على هذا، فإن الاستغناء المؤدي إلى التكبر والطغيان وسحق كل القيم
الإنسانية يتجسد ـ بدرجة كبيرة في الحكام والمسؤولين غالباً... هذا من ناحية. ومن
ناحية أخرى، فإن ظهور هذه الصفة على سلوك الحكام والمسؤولين يؤدي إلى التأثير على
الوضع العام للمجتمع ويهدد سلامته. فالمودة والانسجام والمحبة الموجودة بين أفراد
المجتمع كلها تزول وتنتفي بشكل طبيعي من جراء تكبر المسؤولين وذوي المناسب، وهذا ما
يوضحه أمير المؤمنين (ع) في الخطبة القاصعة، وهي من أهم خطبه الغرّاء، وسأتطرق
مفصلاً لمضامين هذه الخطبة في المحل المناسب وأشير إلى مرضين من الأمراض الأساسية
في المجتمعات الثورية الناشئة والحديثة الولادة، وأحد هذين المرضين مرض "التكبر"،
والثاني مرض "التشتت والتفرقة"، وهذين المرضين تحدث عنهما أمير المؤمنين في خطبته
الآنفة الذكر، يقول (عليه السلام): "ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم
كَدَرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم" (نهج البلاغة، الخطبة 192،
د. صبحي الصالح).
إن طبيعة المجتمع الأصلية طبيعة صافية، وكل الأمراض والانحرافات والفساد في الوسط
الاجتماعي مصدرها أصحاب التدبير الخاطئ والنيّات الشيطانية والمفاسد الذاتية من
جرّاء تكبرهم.
وعلى هذا الأساس فعندما يأتي إلى السلطة حاكم متكبر يعتبر نفسه أسمى وأرقى من باقي
الناس فيرى أن له حقاً أكبر من حقهم، ويغدق على نفسه وحاشيته أنواع الخيرات، وهذا
هو المرض الذي ابتُلي به معظم المسؤولين المستكبرين المعجبين بذواتهم في شتى بلدان
العالم، وعندما يصبح الوضع هكذا ينتشر الفساد على الصعيد العام فيشمل أخلاق المجتمع
ويهدد سلامة الذوق العام للمجتمع ويؤثر في نظام ذلك المجتمع كله، وعلينا أن ننظر
إلى المسألة من هذه الزاوية كي تُصان الأجيال القادمة في المجتمع الإسلامي من
الابتلاء بهذا المرض.
وإن لم نتطرق إلى الأمراض والانحرافات التي يمكن أن يُبتلى بها الحكام والمسؤولون
وإذا لم نُبد حساسية منها ونحذّر الناس منها ونزودهم بالوعي واليقظة على هذا الصعيد
فليس مستبعداً أبداً أن يزحف إلينا هذا النمط من الفساد فنُبتلى نحن أيضاً بهذا
المرض.
أسلوب علاج التكبر ومواجهة الحكام المتكبرين
لكل مرض وآفة علاج معيّن، ولا يمكن أن نفترض وجود حكام متكبرين في مجتمع ما دون أن
يوجد حل وعلاج لهم، والعلاج الأساسي هو رقابة الشعب واهتمامه ووعيه. فإذا كان الناس
واعين يقظين وشاهدوا علائم الكبر والغرور والأنانية بادية على الحكام ينبرون
للاعتراض على ذلك بنيّة الخير، وإذا شعروا أن الحاكم غير مهتم بمعالجة هذا المرض
فإنهم يعترضون عليه، وإذ ذاك يمكن معالجة هذا المرض.
ونعود إلى خطبة أمير المؤمنين (ع) المار ذكرها سلفاً، حيث يخاطب الناس قائلاً: "ألا
فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسَبِهم، وترفّعوا فوق
نسَبِهم، وألقَوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع بهم..." (نهج البلاغة،
الخطبة 192، د. صبحي الصالح).
فعدم الطاعة هو العلاج الأخير والدواء الوحيد المتبقي، ولكن قبل أن نصل إلى هذا
العلاج هناك أمور علاجية أخرى، فعلى المسؤولين والحكام أنفسهم أن يحذروا الوقوع في
الكبر ويجتنبوه.
وعندما دخل أمير المؤمنين (ع) مدينة الأنبار بينما كان متوجهاً إلى الشام لَقِيَه
دهاقين المدينة فترجلوا له واشتدوا بين يديه فقال (ع): "ما هذا الذي صنعتموه؟".
قالوا: خُلُق منا نعظّم به أمراءنا.
فقال (ع): "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم! وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم،
وتشقَون به في آخرتكم. وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من
النار" (نهج البلاغة، الحكمة 37، صبحي الصالح).
إذاً، فهو عندما يرى الناس يتواضعون له بهذا الشكل فإنه لا يشعر بالفائدة من خضوعهم
وتصاغرهم له، ويعتبر ثمرة ذلك ليست سوى الذلة والصَّغار للناس، وبالتالي فإنهم
يفقدون جوهر الإنسانية الذي يُعدّ غاية سعيه وجهوده، ولذلك فإنه لا يرى في ما يضر
الناس فائدة له.
ولما ورد الكوفة (ع) قادماً من صفين خرج إليه حرب بن شرحبيل الشبّامي، وكان من وجوه
قومه، وأقبل يمشي وهو (ع) راكب فرسه فقال أمير المؤمنين: "ارجع، فإن مشيَ مثلك مع
مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن" (نهج البلاغة، الحكمة 322، د. الصالح).
ضرورة محافظة المسؤولين الإسلاميين على أنفسهم
وبالطبع فلا يجب أن يلتبس الأمر هنا على بعض المسؤولين الحاليين في الجمهورية
الإسلامية فيتخذوا هذا الكلام ذريعة للتخلي حتى عن هذا القدر القليل من الحماية
المتوفرة لهم بحجة أن الإسلام لم يسمح بذلك وبحجة أننا قد انتقدنا التكبر.
كلا.. فعندما يكون المسؤولون أشخاصاً تنسجم طباعهم وأخلاقهم مع طباع الناس وأخلاقهم
وتتماثل تطلعاتهم وغاياتهم مع تطلعات الجماهير وغاياتهم فإنهم حينذاك يعدّون من
أبناء هذا الشعب ومن طلائعه الناهضة من بين صفوف الشعب، يفهمون كلام الشعب والشعب
يفهم كلامهم، ولا يخصون أنفسهم بامتيازات وأمور متميزة ينفردون بها عن سائر الناس،
بيد أنهم مهدَّدون بأخطار مصدرها أعداء الثورة في الداخل والخارج، ومنشؤها خصوم
نظام الجمهورية الإسلامية.
إن إجراءات الحماية المعمول بها حالياً ـ بالمستوى الموجود والمقبول ـ تعتبر أموراً
طبيعية ولا بد منها، ولذلك فمن الضروري الإبقاء عليها. وفي أوائل السنوات التي
أعقبت انتصار الثورة الإسلامية، اعتبر الإمام الخميني (قدس سره) أن من واجب
المسؤولين حماية أنفسهم، ولا شك أن الأمر هكذا الآن أيضاً، وأن على المسؤولين الذين
يعملون في خدمة الناس ويبذلون الجهود المتواصلة ليل نهار حماية أنفسهم، ولا ينبغي
تقليل إجراءات الحماية من خلال التذرع بحجة واهية هي أنهم لا يريدون الوقوع في شراك
التكبر، وخصوصاً إذا كانت تلك الإجراءات معقولة ومقبولة ومنطقية. ومن المؤكد أنه
ليس من حقهم التهرب من هذا الواجب فإن الشعب نفسه هو الذي يطلب إليهم ذلك ويصر
عليهم بتوفير الحماية اللازمة لأنفسهم في مواجهة مؤامرات أذناب الشرق وعملاء الغرب.
بيد أن علينا الحذر من الانجرار رويداً رويداً إلى وضع يتحول فيه هؤلاء الأشخاص
الذين بدأوا عملهم وهم يتمتعون بالأخلاق الإنسانية والسجايا الشعبية والانشداد
للناس، إلى أناس يحملون ـ بمرور السنوات ـ مشاعر الانفصال عن الناس والتعالي عليهم
والرجحان والتفوق والتميز عنهم.
واعتماداً على يقظة الشعب ووعيه والإرشادات والتوجيهات القيمة التي وجهها لنا
الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) منذ أوائل الثورة الإسلامية وبدء إرهاصاتها
قولاً وعملاً، فإن مثل هذا الأمر مستبعد حصوله في المستقبل[10].
جذور الاستكبار
وكما أن للاستكبار جذوراً وأسباباً ودوافع لدى الحكام المستكبرين فإن له جذوراً
وأسباباً تتجسد في ذلة الأشخاص القاطنين في تلك المجتمعات المحكومة من قبل هذا
النمط من الحكام، فمن أجل أن يضمن الحكام الطواغيت والمستكبرون طاعة الناس لهم لا
يرَون بداً من أن يجتثوا كل جذور الاستقلال من صميم نفوس أولئك الناس وفي الواقع لا
يرَون بداً من سحق شخصياتهم.
وهذا ما عرفناه عن فرعون ـ وهو أحد الطواغيت المشهورين في التاريخ ـ وتحدث عنه
القرآن الكريم قائلاً {فاستخف قومَه فأطاعوه} (الزخرف:54).
لقد استخف بشعبه من أجل أن يضمن طاعتهم العمياء المطلقة له، والاستخفاف بالناس يعني
أن لا يقيم لهم وزناً ولا يعبأ بشخصياتهم، ويسحق كل ما من شأنه أن يعطي لهم منزلة
ووزناً في كيانهم الذاتي.
إن هذا البحث بحث نفسي واجتماعي جدير بالتأمل والتعمق والتدبر، وجدير بنا ـ نحن
الذين نريد أن نحيي تجربة النظام الإسلامي في ظل نظام شعبي مستند إلى إرادة الشعب
ووعيه ومبادرته ودعمه، بعد أن مرت قرون طويلة على هذه التجربة ـ وجدير أن نهتم بهذه
الأمور ونوليهـا الاهتمـام الذي تستحقه، إذ أننا بحاجة إلى تشجيع الناس وحثهم على
تسجيل حضورهم الفعال في الميادين كافة، وتتبع حاجتنا لذلك من أن النظام الإسلامي
نظام شعبي.
إذا أردنا أن نخوض تجربة نظام إسلامي في هذا البلد وأن نبرز أمام أنظار المتطلعين
لنا والمترقبين لأمورنا في شتى أنحاء العالم ـ سواء كانوا من الأعداء أو الأصدقاء ـ
نموذجاً مجسداً وعملياً، فلا مناص لنا من توفير هذا الركن الأساسي لنظام الحكم في
الإسلام، أي الاعتماد على الشعب.
إذاً، فالنظام الإسلامي نظام شعبي، وللناس دور مؤثر وحقيقي في النظام الإسلامي مما
لا يمكن لأي شيء آخر أن يحل محله. ففي هذا النظام ينبغي أن يسجل الناس حضورهم
ومشاركتهم الفعالة فيه، ينبغي لهم أن يختاروا وأن يبادروا وعليهم أن يدعموا الأجهزة
التنفيذية والإدارية في المجتمع، ولا بد أن يقوموا بتوجييها.
في هذا النظام ينبغي لنا التعرف بدقة على العوامل التي تجعل الناس يفرغون من جوهر
شخصياتهم الإنسانية ويفقدونه وتطرأ عليهم حالة الاستخفاف، ولا أريد الخوض في هذا
الموضوع أكثر من هذا وأترك ذلك للباحثين المختصين، بيد أنني أود الإشارة هنا إلى
نقطة مهمة وهي أن الناس يمكن أن يبتلوا بذلك في عدة حالات فعندها لا يمكنهم أن
يتخذوا القرار ويمتلكوا زمام المبادرة.
أولها: قلة الوعي وانخفاض مستوى المعرفة، فما لم يمكِّن الحكام شعوبهم من الإطلاع
على الحقائق ومجريات الأمور، وإذا ما بلغت الدعاية والتضليل والإفساد مستوى بحيث
صارت تحول بين الناس وإدراك الحقائق، أو أنها خلقت للناس صعوبات ومشكلات جعلتهم
يفقدون أي رغبة في تتبع القضايا واستكناه الأمور، فحينذاك تحدث حالة الاستخفاف تلك.
دور الشعب فـي استكشاف الحقائق
ومع الأسف تنعدم في عالم الماديات "المتطور" إمكانية اطلاع الناس على الحقائق
ومعرفتهم بالأمور، سواء في بلدان العالم التي تدار ـ في الظاهر ـ بالنمط الديمقراطي
الغربي أو في الدول التي تتبع المنهج الاشتراكي في الحكم ويسيّر فيها الشعب وفقاً
لأسلوب الحاكمية المطلقة للحكومة. إن الدور الذي يفترض أن تلعبه الشعوب عبر معرفة
مجريات الأمور واكتشاف الحقائق والمبادرة إلى إحداث التغيير المطلوب في الواقع
المعاش، هذا الدور غير متاح لأي من الشعوب أن تقوم به في ظل معظم الأنظمة القائمة
في العالم المعاصر.
لقد تطرقت في أوائل البحث إلى موضوع كون النظام الإسلامي والحكومة الإسلامية نظاماً
وحكومة شعبيين، بينما نجد الواقع العالمي الآن يكبّل الشعوب بالمعضلات والمشكلات
والانشغالات والأمور المادية الجذابة والمساعي والتحركات المفروضة عليهم بحيث تشكل
بمجموعها عائقاً يمنعهم من نيل المعارف واكتساب الوعي والبصيرة، وبالتالي فإنهم ما
لبثوا يجهلون القضايا السياسية العالمية، بعكس وضع مجتمع ثوري كمجتمعنا الذي نجد كل
أفراده مطلعين على القضايا والأمور القائمة في بلدهم وفي العالم وهم تواقون لمتابعة
وفهم الحقائق بينما لا نجد ذلك في مجتمعات أخرى.
وفضلاً عن ذلك، فإننا نجد حتى الفتيان والأولاد الأحداث يعلمون الكثير من الأمور
ومطلعين على كثير من الحقائق وواقفين وواعين لمؤامرات الاستكبار ونهجه في العالم،
وعارفين بنقاط ضعف السياسات العالمية، فيتساوى في ذلك ربات البيوت في المنازل
والرجال في محالّ أعمالهم، بل وحتى الأميين منهم يجدهم المرء مطلعين على القضايا
بالمستوى المطلوب.
أسمع أحياناً عبر المذياع لقاءاً مع أحد القرويين القاطنين في المناطق القاصية
والأرياف البعيدة، فأجد أن فلاحاً يتعامل مع الأرض والزرع ويمارس مهنة شاقة
كالزراعة، ولا يتمتع بحياة مرفهة ـ مادياً ـ للغاية، مطلع على القضايا العالمية
البارزة والتي تتمتع بالدرجة الأولى من الأهمية.
وعلى سبيل المثال، فإن بعض شعوب العالم ما زالت تجهل حقيقة القضية الفلسطينية بدقة.
فليس ممكناً لهذه الشعوب أن تكون عارفة بحقيقة هذه القضية، قضية اغتصاب فلسطين من
أهلها، ومع ذلك تبقى مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكناً ولا تتخذ حيالها موقفاً
إيجابياً، ولا تشعر بالتعاطف مع شعب مشرد، فلقد طفقنا نشهد شعوراً سلبياً تجاهه في
بلدان مختلفة، ذلك لأن الشعوب القاطنة فيها لا تعي ماذا حصل في فلسطين، وهي لا تدري
ماذا يجب أن يكون موقفها تجاه الحكومات الأوروبية والأنظمة القائمة في الدول
"المتقدمة".
إن بعض الشعوب ـ وعلى الرغم من أنها لمست حقيقة ظاهرة الاستكبار والاستعمار وهيمنة
الحكومات ـ وخصوصاً في دول العالم الثالث ـ لكنها ما فتئت لا تملك تصوراً واضحاً
وتشخيصاً دقيقاً لها. والشعوب الأوروبية وشعوب الدول ذات النهج التسلطي هي الأخرى
أيضاً لا تعرف هذه الحقائق، على الرغم من أنها من أهم مجريات وقضايا عالمنا
المعاصر.
بيد أن الأمر ليس هكذا في بلد ثوري وفي مجتمع ناهض وفي صفوف شعب يحس بالحرية
والاستقلال، إذ تتبلور عند هذا الشعب حقائق الأمور.
وهذه المعرفة والوعي واليقظة التي يملكها الشعب وهذه الرؤية الثاقبة لديه نحو
القضايا العالمية تعتبر أهم عنصر للمحافظة على معالم هذه الشخصية التي توفرت لهم
باعتبارهم يملكون صفة الإنسانية، والوعي واليقظة، يجعلان أبناء الشعب يشعرون
بالقدرة على تغيير الواقع المعاش وجعله منسجماً وتطلعاتهم.
وثمة مظهر آخر للاستخفاف يستفاد من قوله تعالى في الآية المباركة {فاستخف قومَه
فأطاعوه} يمكن مشاهدته لدى الشعوب وهو أن الحاكم المستكبر يسلب إرادة الشعب قدرته
وقواه الفعالة وإمكانات التحرك والانطلاق الكامنة لديه.
أجل.. لبني الإنسان مثل هذه القوى والطاقات، فلو وظّفت واقترنت بقدرة الإرادة
والتصميم والتحرك والإبداع ـ التي نرى مظاهرها متجسدة في الابتكارات التكنولوجية
والتقدم الصناعي ـ في سبيل تغيير الأوضاع وإحداث التطورات الاجتماعية، لصارت الدنيا
برمتها روضة مليئة بالزهور.
بيد أننا نرى أن الشعوب يحال بينها وبين ذلك، وما لبثت مسلوبة الإرادة والتصميم على
القيام بالتغيير المتوخى على صعيد الواقع لإزالة الجوانب المريرة من الحياة، وبذلك
حولوا الناس ـ بهذه الوسيلة ـ إلى حيوانات لا يهمها سوى تأمين شهواتها وتلبية
رغباتها من الطعام والمنام، ولا تحمل أي غمّ أو همّ آخر.
ولقد صار هذا الوضع مشهوداً اليوم ـ مع الأسف ـ بحيث أصبحت الشعوب التي استطاع
أبناؤها أن ينجزوا بإرادتهم الخلاّقة المبدعة الخارقة للعادة كل هذه المظاهر
العجيبة من التقدم والتطور في المجالات الصناعية والتكنولوجية وغيرها ـ عاجزة عن
فعل شيء عندما وصل الدور إلى التغييرات الاجتماعية وإلى قضية الأخلاق الاجتماعية
الأفضل والأكثر تطوراً وعدالة محل الأنظمة البالية. لقد تحوّل بنو الإنسان إلى
كائنات عديمة الإرادة فاقدة للقيمة مكتوفة الأيدي مسلوبة القدرة على الحركة. وكل
ذلك من جرّاء الممارسات والسياسات التي اتبعتها القوى الاستكبارية في العالم.
وعلى هذا الأساس فإن الوجه الآخر لاستكبار الحاكمين والتسلط الاستكباري والطاغوتي
للقوى الكبرى ينعكس سلبياً على حياة البشر، فيصيبهم الصَّغار والذل ويصبحون أذلاء
عاجزين عن اتخاذ القرار ويصيبهم باليأس من تغيير مستقبلهم.
في بلدنا نفسه كيف كان الطابع العام السائد على أفكار ورؤى غالبية الناس عندما لم
تكن شعلة الثورة قد عمّمت بعد وشملت كل مكان؟ في ذلك الحين الذي لم تعمّ مجريات
الثورة كل مكان، بالرغم من أن النداء الثوري قد علا وترددت أصداؤه في شتى الأنحاء،
منطلقاً من حنجرة عالم كبير يحظى بثقة الشعب ويجتذب إليه القلوب، ومع أن إمام الأمة
كان يتولى باقتدار كبير توجيه دفة النهضة وقيادة الثورة والكفاح مدة طويلة، وانضم
إليه عدد من أبناء الشعب، بيد أن التصور السائد والانطباع العام لدى الناس هو العجز
عن تحقيق أي شيء.
لقد كنت ألاحظ مثل هذه المفردات تتردد حتى على ألسنة بعض الطلائع والرواد والنخبة
الأوائل، فكانوا يقولون: ليس هناك من أمل في حصول تغيير في هذا البلد. وكانت هناك
ثلة من "المتنورين" الذين يعبرون عن هذا اليأس بنمط خاص من المفاهيم، وفي الوقت
نفسه فقد شهدنا ثلة من العلماء المؤمنين الخلّص ولكن غير الواعين يعبّرون عن يأسهم
بنمط آخر من التعبيرات، ولكن النتيجة كانت واحدة والاستنتاج متماثلاً وهو أن شريحة
كبرى من الناس كانوا قد أيقنوا من انعدام إمكانية حدوث أي تغيير في هذا البلد.
وبالطبع فإن ذلك ناتج عن فقدانهم الثقة بقدراتهم وقدرات الشعب، وعدم اعتنائهم
بطاقاتهم.
لقد قلت مراراً إن أعظم درس تعلمناه من إمامنا وقائدنا واستاذنا وزعيمنا المحبوب
وإمام الأمة إبّان خوضنا لهذا النضال هو أنه ينبغي الثقة بالشعب وحسن الظن به
والاعتماد عليه.
ففي تلك الأيام التي لم تكن فيها الفئات الشعبية والحشود الجماهيرية والشرائح
الاجتماعية قد أعلنت بَعدُ طاعتها للإمام وانقيادها لتوجيهاته، وفي الوقت الذي كانت
فيه زهرة الثورة تتفتح في الحوزة العلمية في قم فقط وفي نطاق محدود وضيق وبعد ذلك،
أي في عام 1962، عندما طفقت النهضة تنطلق شيئاً فشيئاً، ألقى الإمام العزيز خطاباً
ـ أتذكره الآن جيداً ـ في المسجد الأعظم بعد انتهائه من إلقاء درسه الحوزوي المعتاد
على طلبة العلوم الدينية.
وضمن خطابه ذاك وجّه الإمام الفذّ حديثه إلى الحكومة القائمة آنذاك والتي لم تراعِ
آراء العلماء في شأن مسوَّدة قانون التقسيمات الإدارية وانتخاب مجالس البلديات، ولم
تعبأ بنظرات العلماء. وقد تضمن خطابه ذلك تهديداً واضحاً للنظام الحاكم وطلب إليها
الانصياع لآراء العلماء قائلاً: إذا نفذتم ذلك فهو المطلوب، وإن لم ترضخوا لنظرات
العلماء وآرائهم فإننا سندعو الشعب للنزول إلى ميدان الكفاح وساحة النضال، وستكون
قم مسرحاً للاشتباكات وحلبة للصراع ضد الحكومة فتمتلئ بالحشود البشرية العارمة.
لقد كنا نتعجب آنذاك من أسلوب مخاطبة الإمام لمسؤولي النظام القائم، ونهمس مع
أنفسنا: أية حشود بشرية يعنيها الإمام؟ حتى نحن القريبين من الإمام والذين شملتنا
بركات أنفاس الإمام وغمرتنا آراؤه الحماسية وألهبت فينا العزم وألهمتنا المعنويات
العالية، لم نكن نعلم مَن هم وأين هم الناس الذين يقصدهم الإمام ويشير إليهم في
خطابه، وما هو التحرك الجماهيري الهادف الذي يعقد الإمام آماله عليه..
وكان الكثيرون لا يعلمون معنى ذلك أيضاً، بل ربما أمكنني القول إن الأغلبية الساحقة
آنذاك لم تكن تدرك أن للناس حضوراً مؤثراً وإسهاماً ودوراً فعالاً يمكنهم القيام
به، ولم نكن بعد قد شاهدنا تحركاً شعبياً وتأثيراً جماهيرياً يلفت إليه الأنظار.
أما الإمام فقد كان مفعماً بالأمل، يعقد الآمال الكبار على الشعب، إلى درجة أنه كان
يشعر أنه بالإمكان جر جموع الشعب عن بكرة أبيها إلى ساحة النضال وحلبة الصراع ضد
النظام المتجبر عبر توجيه نداء عام وصرخة استنهاض شاملة، وما يلبث ذلك أن يؤدي إلى
جعل الشوارع والميادين والأزقة تغص بالحشود المليونية، ولربما أدى إلى امتلاء
الصحراء المحيطة بقم بجماهير الأمة الزاحفة.
وفعلاً أثبتت التجربة أن الحق إلى ذلك القائد البصير المحنّك والحكيم الواعي الثاقب
النظرة.
إن عباد الله الصالحين يعرفون الناس حق معرفتهم، مثلما أن الناس كانوا هم
المخاطَبين دائماً لدعوات الأنبياء والأولياء والأصفياء، فقد كانوا يتحدثون معهم
ويدعونهم فيستجيب لهم من الناس مَن يستجيب ويلبي دعوتهم المؤمنون.
ولقد رأينا ـ إبّان أحداث تلك الفترة ـ أنه لم تكد تمضي سوى ستة أشهر من عام 1963
حتى لبّت الجماهير الشعبية في حزيران من ذلك العام نداء الإمام، وقامت بتلك
الانتفاضة العارمة التي شملت طهران وقم وبعض مراكز المحافظات والأقضية، وسجلت فيها
الحشود الجماهيرية مشاهد رائعة وملاحم بطولية وجهاداً فذاً وقدّمت فيها تضحيات
عظيمة وقرابين سخية وإيثاراً فريداً مما يعكس لنا معنى الحضور الشعبي والإسهام
الجماهيري وضرورة الثقة بالشعب واعتماد الجماهير على قدراتها وطاقاتها التي لا
تنضب.
مناط المقارنة بين الأنظمة الحكومة الإسلامية والاستكبارية
هذا هو مناط المقارنة ومقياس الاختلاف بين نظام الحكومة الإسلامية والأجهزة
التسلطية الطاغوتية والاستكبارية، فالقوى الاستكبارية لا تعبأ بالشعب ولا تبالي
بالناس قط ولا تهتم بآراء الأمة ونظرة الجماهير وأفكارها، وهي لا تهتم ـ كذلك ـ
بتوعية الناس وتزويدهم بالمعرفة والبصيرة اللازمتين، بل إنها تعيق سعيهم نحو الوعي
والمعرفة.
أما القوى الإسلامية والشعبية فإنها تثق بالشعب وتنظر له بحسن الظن وتوليه
اهتمامها، وتستنصره وتستنهضه وتستفيد من دعمه وتأييده، وتستطلع رأيه وأفكاره، وتنظر
إلى مشاعره وأفكاره بعين الاحترام والتقدير، بالرغم من أنها تقوم بإرشاد الرأي
العام وتوجيه مشاعره أيضاً في بعض الحالات. إن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران
يأخذ بنظر الاعتبار هذا الأمر ولذلك فإنه لا يهتم إلا بالأفكار الإسلامية والتطلعات
الشعبية وكل ما دون ذلك فهو لا يهمه، وبحمد الله فإن شعب الجمهورية الإسلامية اليوم
منضوٍ في إطار وخط الحكومة الإلهية والإسلامية ويواصل مسيرته في نهجها اللاهب.
تكثيف الحضور الشعبـي فـي شتى المجالات
ينبغي أن يسجل الناس حضورهم الفعال ـ أكثر فأكثر ـ في الميادين المختلفة، ولا بد أن
يبدي الناس آراءهم حول شتى القضايا والأمور، ومن الضروري استطلاع رأي الشعب
واستنطاقه ودراسة مطالب الناس وتطلعاتهم وعلى الناس أخذ زمام المبادرة في الكثير من
المجالات والتحركات، مثلما كان حالهم إبّان الفترات التي كانوا فيها سبّاقين
ورواداً في ساحات المواجهة والنضال، وينبغي أن يهتم المسؤولون والمتصدون والمدراء
بآراء أبناء الشعب وأفكارهم واعتقاداتهم[11].
_______________________
[1] نهج البلاغة، الخطبة 209. يتبيّغ: يهيج به الألم فيهلكه.
[2] من خطبة ألقاها سماحته في مراسيم صلاة الجمعة (طهران)، بتاريخ 1403
(18/11/1983).
[3] من خطبة ألقاها سماحته في مراسيم صلاة الجمعة (طهران)، بتاريخ 1403
(16/12/1983).
[4] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بطهران في 1404 هـ (6/1/1984).
[5] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 5/12/1362 ش.هـ (24/2/1984).
[6] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بطهران في 12/12/1362 هـ.ش (2/3/1984).
[7] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 5/12/1362 هـ.ش (15/4/1983).
[8] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 23/2/1363 هـ.ش (13/5/1984).
[9] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بطهران في 19/3/1363 هـ.ش (9/6/1984).
[10] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 29/4/1363 هـ.ش (20/6/1984).
[11] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 12/5/1363 هـ.ش (3/8/1984).