مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الحكومة في الإسلام

الفصل الرابع: وظائف الحكومة الإسلامية

المـدخل
قال الله تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً} (النساء:58).
مر بنا ـ في الفصول السابقة ـ الحديث عن الحكومة الإسلامية وخصائص الحاكم الإسلامي، وخصائص الحاكم الطاغوتي، ونتناول في هذا الفصل بحثاً ثالثاً هو "وظائف الحكومة والدولة الإسلامية".
فبعد أن عرفنا أنه لا بد لكل مجتمع من وجود حاكم وزعيم، وعلمنا ما هي خصائص الحاكم الإسلامي وصفاته، وعلمنا أن الحكومة الإسلامية حكومة شعبية وأن للشعب دوراً أساسياً في تعيين شكل الحكومة واختيار الحاكم الإسلامي وفي الإجراءات والقرارات الحكومية، فينبغي لنا الآن أن ندرس ما هي وظائف الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية وواجبات المسؤولين والمتصدين والمدراء التنفيذيين تجاه الشعب.
ولهذا البحث أهمية بالغة وسأحاول أن أتناول خطوطه العريضة وبشكل موجز ومجمل، لأن الدخول في تفاصيله وشرح جوانبه الكثيرة من مهام المجامع الدراسية وحلقات البحث والدرس، وسأطرح منه ما أراه ضرورياً ومناسباً وما يتسع له المجال.
وبادئ ذي بدء، أود الإشارة إلى أن المقصود بـ "الحكومة الإسلامية" ليس شخصاً معيناً أو عدة أشخاص بعينهم، بل المراد مجموعة جهاز الحكومة برمته. أي جميع الذين يمتلكون مسؤولية تنفيذية في المجتمع الإسلامي وفي النظام الإسلامي، وهؤلاء يتحملون عبء القيام بهذه الوظائف والنهوض بهذه الواجبات بشكل عام.
وهي تشمل ـ بشكل رئيسي ـ السلطة التنفيذية والسلطة القضائية بشكل كامل، فتضم رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء والمسؤولين القضائيين الكبار وتمتد لتشمل كل المسؤولين التنفيذيين والقضائيين في البلاد، وجميع الذين يؤدون الأعمال لهذا الشعب على صعيد الدولة. كل هؤلاء يمثلون ـ بمجموعهم ـ نظاماً وجهازاً هو جهاز الدولة والحكومة الإسلامية، وهم يتحملون هذه الوظائف والواجبات.
وبالطبع فإن مبدأ تقسيم الواجبات وتعيين المسؤوليات مبدأ متسالَم عليه ومقبول بشكل عام، ولهذه المجموعة عدد من الوظائف والمسؤوليات الموزعة عليهم، بحيث يقومون بها كلاً حسب حصته.
الحكومة الإسلامية امتداد لحاكمية الله
وكمقدمة للبحث أرى من الضروري الإشارة إلى أن الحكومة الإسلامية امتداد لحاكمية الله، وامتداد للولاية والسلطة التكوينية وربوبية الله بمعنى أن الله تعالى خلق الكائنات بما فيها البشر، ثم بعث الأنبياء وفتح أمام الخلق سبيل الهدى {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه:50).
وأوجد حركة عامة عظيمة لا متناهية في كل أنحاء العالم بإرادته وتدبيره، تتجه نحو الكمال والتسامي، فعندما تنظرون إلى مسيرة العالم تجدونه عبارة عن قافلة تضم الإنسان وبقية الكائنات، وهي تطوي مسيرها كي تصل إلى هدف وغاية عليا. والإنسان ـ طبعاً ـ محور هذه المسيرة والقافلة، والحركة الأصلية والمنطقية والإرادية تعود لبني الإنسان، فهم يُعملون إرادتهم ويتحركون في هذه المسيرة.
لقد خلق الله تعالى هذا العالم وهذه البشرية والكائنات والنعم، ووضع لها قاعدة وقانوناً وعيّن لها اتجاهاً وغاية خاصة، وبعث الأنبياء وكلفهم أن يضعوا كل شيء في مكانه الصحيح والمناسب في هذا العالم، وأن يعلّموا بني الإنسان كيفية الاستفادة من الكائنات والمخلوقات والنعم الموجودة في العالم وأسلوب الانتفاع من القوى المتنوعة الكامنة في ثنايا الطبيعة، وطريقة الاستفادة من القوانين والمناهج الموجودة لإيصال الذات وكل الواقع المحيط المعاش والعالم بأسره إلى الكمال.
الحكومة الإسلامية والإلهية
وهكذا يصل الدور إلى الحكومة الإسلامية والإلهية، فالحاكم الإسلامي والحاكم الإلهي هو في الحقيقة خليفة الله في أرضه وفيما بين الناس، وهو المشرف والراعي للمسار نفسه الذي عيّنه الله المتعال لبني الإنسان وقرره لهم {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} (ص:6).
أي إنا جعلناك الهادي والموصل للناس إلى الكمال المقدر والمقرر لهم عبر استخدام القواعد والقوانين المختلفة التي تمكنهم من بلوغ غايتهم.
فالدولة الإسلامية وحكومتها الإسلامية هي المسؤولة في فترة ما من الزمان وفي جزء معيّن من العالم، عن توجيه مسيرة الناس وهدايتهم في هذا السبيل.
وظائف الدولة الإسلامية
وعلى هذا الأساس، فالدولة الإسلامية تعمل وفقاً لإرادة الله، وتقوم بتوجيه الناس وهداية المجتمع نحو الأهداف نفسها وفي الاتجاه ذاته وضمن المسار نفسه الذي أراده الله عز وجل. ولذلك فإن وظائفها هي الوظائف المقررة من قبل الله، أي أن عليها أن تتعامل مع العباد بالأسلوب نفسه الذي يرضاه الله ويعامل به الكائنات وبني الإنسان.
ولذلك فإننا نأخذ بنظر الاعتبار وجود مثل هذه الرؤية لدى الدولة الإسلامية، ونفترض أن معاملتها للناس لا بد أن تكون معاملة طيبة أبوية وإصلاحية. إن الحكومة الإسلامية ليست خصماً للناس الواقعين في حيز سلطتها وليست عدوة مناوئة لشعبها ولا تنافس سكانها في كسب الأرباح الخاصة، ولا تنقم عليهم أو تفرض عليهم الضيق والحرج، ومن المحتمل أن تبدي حزماً في مكان ما أو حالة ما، ولكنه حزم كحزم الأب الرؤوف على ابنه المحبوب، ومثل حزم الممرضة أو الطبيب تجاه المريض المتداوي عنده.
إن هذا يشبه ما لو كان ثمة طفل مريض في بيت وأراد أن يتناول طعاماً غير مناسب له فيمنعونه، ومثلما لو كان ثمة ولد في منزل وأراد أن يعتدي على حقوق الآخرين القاطنين معه أو يشغل مكان استراحتهم أو لعبهم فيمنعونه، ونظير ما لو كان ثمة طفل في بيت أو مستشفى، وهو مبتلى بمرض معدٍ، وأراد أن يعاشر الآخرين ويختلط مع الناس فيحجزونه عن ذلك.
وهكذا الأمر بالنسبة لقيام الحكومة الإسلامية بدور الطبيب والأب في المجتمع، وهو دور يطفح بالشعور بالمحبة والمودة نحو كل الناس، ولكنه مقترن أيضاً ببعض الإجراءات الحازمة أحياناً.
ينبغي أن تؤدي جميع واجبات الحكومة الإسلامية في هذا الإطار، إطار الرحمة والحب والمودة لجميع أفراد الشعب بل وحتى الخاطئين منهم وحتى تجاه ذوي المخالفات والأخطاء، ولا بد وأن يكون التعامل معهم تعاملاً أبوياً وإصلاحياً وتأديبياً، مقروناً بالمحبة، بعيداً عن الانتقام.
أما أولئك الذين يحاولون الاعتداء على هذا الحيّز المقدس ـ من خارجه ـ ومهاجمته وإلحاق الأذى بعباد الله وتحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق، وتعويق تحركهم والتأثير على طمأنينتهم، فينبغي معاملتهم معاملة حازمة حاسمة شديدة.
أما فيما يتعلق بما يجري في أروقة الجمهورية الإسلامية والنظام الإلهي وفي حناياه فينبغي أن يجسد الجميع قوله تبارك وتعالى {رحماء بينهم} فيعامل بعضهم بعضاً بمنتهى الرأفة والعطف والرحمة والشفقة، بل ينبغي أن يعامل حتى المقصرين، أو ذوي المخالفات بهذا الشكل.
ولذلك فإن جوهر القضاء الإسلامي وحقيقة التأديب الإسلامي وهدف الحدود والتعزيرات الإسلامية، والإجراءات الحكومية الصارمة، وبعض التحديدات التي تقررها الدولة الإسلامية، كلها منسجمة مع روح المحبة والمودة، وهي تقتدي بالنموذج الإلهي في الإدارة وتسير على المنهج الرباني الطافح بالشفقة والرحمة والود.
وظائف الحكومة الإسلامية فـي مجال بناء الذات
النقطة الأخرى ذات العلاقة بهذا الأمر ـ الوظيفة المهمة والواجب الضروري الذي يقع على عاتق الحكومة الإسلامية ومسؤوليها ـ تخص قضية بناء الذات وتربية النفس. فهذا العبء الثقيل لا يستطيع النهوض به إلا ذوو الهمة والاستقامة والسيطرة على زمام النفس والرياضات الروحية، وإلا الذين لا يعملون لتحقيق مصالحهم الفردية وكسب الأرباح لهم، والذين لا ينظرون إلى عباد الله الآخرين إلا نظرة ملؤها الحب والرأفة ـ حتى تجاه المخطئين ومرتكبي المخالفات من الناس ـ وإلا المحافظون على الأمانات المودعة لديهم بالرغم من كون كل الثروات العامة العائدة للشعب تحت تصرفهم، والذين يغضون أبصارهم عن النظرات الخيانية نحو نواميس الناس وأعراضهم، رغم سنوح ذلك لهم... هؤلاء وحسب، هم الذين يتمكنون من النهوض بهذا العبء ولا يستطيع غيرهم ذلك.
هؤلاء الذين يتمتعون بالسيطرة على أنفسهم وبالورع الكافي، اللذين يجعلانهم يوظفون كل ما بوسعهم وجميع إمكاناتهم من أجل تحقيق مصالح الشعب ومنافع الأمة في سبيل صيانة راحة واستقرار الذين اختاروهم وانتخبوهم لهذه المناصب، وهم طبعاً عامة الناس... هؤلاء لا بد وأنهم يتمتعون بمستوى أخلاقي رفيع، ولا يمكن أن يتسنى ذلك لغيرهم.
ملامح الحاكم الإسلامي وصفاته
بناءاً على ما تقدم ينبغي للحاكم الإسلامي أن يتمتع بالعديد من الصفات الأخرى علاوة على تلك الصفات الحميدة التي استعرضناها في نطاق حديثنا عن الحكم الإسلامي والحاكم الإسلامي في مطلع البحث، حيث كنا قد ذكرنا حينها الوظائف العامة والكلية التي تقع عليه، وثمة ملامح أخرى ينبغي له التوفر عليها وحيازتها.
لقد قال أمير المؤمنين عن شخصين أتياه يطلبان أن يقلدهما رئاسة بعض أقاليم الدولة الإسلامية، إنما لو لم يكونا حريصين ـ إلى هذه الدرجة ـ على الإمارة والرئاسة وشغوفين بها لكان من الممكن أن ننظر في أمرهما وندرس طلبهما ونعالج قضيتهما بنحو من الأنحاء، ولكنهما من الذين تنبض قلوبهم بحب السيطرة والرئاسة والولاية على هذا الإقليم وتلك المنطقة، وعندما يكون المرء تواقاً ـ إلى هذا الحد ـ وحريصاً، بهذه الدرجة على المنصب والرئاسة فإنه لا يصلح لتولي مسؤولية رفيعة المستوى في المجتمع الإسلامي... هذا مضمون كلام الإمام (ع).
إذاً، فإن شدة التوق والرغبة نحو إحراز منصب معيّن يعتبر من الخصال السلبية في نظر الإسلام، بيد أنه ليس كذلك في العصر الحاضر بنظر المدارس الأخرى. ولذلك فلا بد للحكومة الإسلامية من ملاحظة هذا الأمر والاهتمام بتهذيب النفس وبناء الذات كواحدة من أهم وظائفها، وعلينا نحن المسؤولين في شتى مستويات الدولة تقع مهمة تهذيب النفس وإعادة بناء الذات، ولنبدأ بأنفسنا فنربيها، ثم نعلّم الناس عبر تقويم سلوكنا أولاً.
هذه وأمثالها تعتبر من المواعظ التي لا بد لي ولأمثالي من أن نسمعها من الآخرين فنتقبلها قبل أن نعظ بها الناس، ونسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يوفق مسؤولي الجمهورية الإسلامية اليوم لتطبيق أنفسهم مع هذه المعايير وتجسيد هذه القيم العليا، وفي هذه الحالة سيمكنهم أن يوجهوا حركة الجمهورية الإسلامية ويديروا دفة أمورها على أحسن وجه ممكن.
وهنا نصل إلى موضوع وظائف الحكومة الإسلامية، وسأحاول أولاً أن أذكرها بشكل موجز وسريع، إذ أنها تنقسم إلى قسمين:
الأول ـ الوظائف العامة: وهي تشمل أموراً عامة نظير إقامة العدالة الاجتماعية ونشر الأمن وإشاعة الاستقرار والدفاع عن الحدود والثغور ونشر الوعي والتعليم والعلم والمعرفة بين شرائح الناس المختلفة وإشاعة الرفاه والرخاء والسعادة.
الثاني ـ البرامج والخطط المستقبلية: وهي تشمل البرامج والإجراءات التي ينبغي أن تتخذها الحكومة الإسلامية كي يمكنها أداء وتحقيق هذه الوظائف العامة، وهي في الحقيقة أهداف الحكومة الإسلامية.
رفض البيـروقراطية وتعميق دور الشعب
وفي هذا النطاق، نرى تأكيد الإمام الخميني على تجنب "البيروقراطية" ورفض السيطرة المطلقة للجهاز الإداري الرسمي، وتعميق دور الشعب في إدارة الدولة، وهذا هو الخط الرئيسي لسياسة الجمهورية الإسلامية، وقد أعلنا ذلك مراراً، مؤكدين أن السياسة العامة لحكومة الجمهورية الإسلامية ترتكز على دعامة أساسية هي تعميق دور الشعب وإسهامه في إدارة الدولة، على صعيد البرامج والمبادرات التي يُقدم عليها الشعب، بيد أن الإمام الخميني قد أكد أكثر فأكثر أهمية انتهاج هذه السياسة، وترسيخها وتوسيعها بشكل صريح وواضح.
ومشاركة الشعب ودوره الفعال يعني بالتالي أن عبء إدارة الدولة لا يقع كله على عاتق الحكومة فحسب وإنما تستمد الدعم من الشعب، وهذا أمر منطقي جداً من وجهة نظر الفكر الإسلامي والنظرية الإسلامية، حيث نرى لها جذوراً ضاربة في عمق المبادئ الإسلامية، ونجد أن الشريعة الإسلامية ترفض ـ بشكل عام ـ "البيروقراطية" والسيطرة المطلقة للجهاز الإداري الرسمي.
ومن الأمور الملفتة للنظر أن الحكومة تمتلك وفقاً للنظرية الإسلامية صلاحيات واختيارات واسعة كثيرة. ولو أمعنا النظر في تركيبة الحكومة الإسلامية لوجدنا فيها عنصرين متداخلين يشكلان معاً نسيجاً متلاحماً وعجيباً:
الأول: الصلاحيات والاختيارات الواسعة الإسلامية، فالحاكم الإسلامي يستطيع عند الضرورة أن يستخدم صلاحيات استثنائية عندما يرى أن مقتضيات ومتطلبات المجتمع تستوجب ذلك، وإذا نظرنا من هذه الزاوية إلى القضية وجدنا أن حكومة الجمهورية الإسلامية لا تعاني من أي ضيق أو أزمة في معالجة الأمور على شتى الصعد وفي إنجاز مختلف الأعمال المناطة بها.
علاوة على ذلك، نجد أن الإمام الخميني أعلن بصراحة في أحد خطاباته أن الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي بالحق يستطيع حتى التصرف بالأموال الخاصة العائدة للشعب في المجالات التي يراها تحقق المصلحة العامة، وحينما يرى المصلحة تقتضي ذلك وتتوقف عليه.
فالحاكم الإسلامي الحق يمكنه أن يتصرف بممتلكات الناس وأثاثهم ووسائل النقل العائدة لهم وحتى برؤوس أموالهم إذا اقتضت المصلحة العامة للشعب والثورة ذلك. وللحاكم الإسلامي إذن مثل هذه الصلاحيات الواسعة من وجهة نظر الإسلام... هذا أحد وجهي القضية.
والثاني: هو أن السيطرة المطلقة للجهاز الإداري مرفوضة رفضاً باتاً في الإسلام، فالإسلام لا يرتضي أبداً أسلوب قبض يد أبناء الشعب عن الإسهام في المجالات المختلفة ـ ومنها مجال الانتاج والخدمات والتجارة والتربية والتعليم وغيرها على حد سواء ـ ولا أسلوب حصر امتياز هذه الأمور بيد الجهاز الإداري الحكومي.
إن هذا الأسلوب من الحكم شائع في الدول السائرة في ركاب المعسكر الاشتراكي، ويعتبر ذلك من المبادئ الأساسية لمنهجها، بينما لا وجود له في الإسلام.
كما أنه عندما ترى الحكومة الإسلامية ـ أحياناً ـ أن المصلحة والضرورة تقتضيان أن ينحصر القيام بعمل معيّن فيها هي فإن بإمكانها منع الآخرين ـ ممن يعجزون عن القيام بهذا العمل أو يسيئون الاستفادة منه ويستغلونه استغلالاً سيئاً ـ عن القيام به، وهذا لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه.
أما أن يكون ذلك هو الخط العام للدولة والقانون المطبق فيها والمنهج الذي تسير عليه، فهذا ما ليس له وجود ـ البتة ـ في ظل حكومة الجمهورية الإسلامية. فالحكومة الإسلامية إذاً ـ والحال هذه ـ ضمن امتلاكها زمام المقدرة في إدارة الشعب فإنها ـ ونظراً لكونها غير محدودة الاختيارات والصلاحيات ـ تجعل للشعب دوراً فعالاً وإسهاماً واسعاً في جميع الميادين وعلى كل الصعد.
ومشاركة الشعب في ساحة الأحداث ودوره الفعال لا تقتصر على خروج الجماهير المليونية إلى الشوارع للمشاركة في المسيرات أو الاحتشاد في صلوات الجمعة أو دفع عجلة الحرب ودعم العمل السياسي وإطلاق الشعارات الإسلامية والثورية فحسب، وإنما تعني أيضاً بسط يد الشعب في ميدان الإعمار والبناء وفسح المجال أمامه للإسهام في التطوير والتنمية الاقتصادية، فالشعب لا يشارك على الصعيد البدني وإنما على الصعيد الفكري وفي ميدان الإدارة والإبداع والابتكار الخلاق، وعبر إمكانياتهم ورساميلهم المادية والمعنوية من أجل إدارة دفة الأمور.
ضرورة البرمجة والتخطيط والإشراف من قبل الحكومة
لقد أشار الإمام في خطاباته إلى ضرورة مشاركة الشعب في قطاعات التجارة والانتاج والصناعة، وبإمكان الشعب أن يدخل هذه الميادين ويستثمر رؤوس أمواله تحت إشراف الدولة وتوجيهها ووفقاً لما تراه صواباً وصلاحاً وتنظمه الأجهزة الرسمية التي تشرف على تسيير الأمور، ولا بد أن يبادر أبناء الشعب لخوض هذه التجربة في مجال الصناعة ويدير مؤسسات هذا القطاع الحيوي بسواعد قوية ومقتدرة لإحداث هزة جديدة ونقلة نوعية ونهضة طموحة في هذا القطاع.
وهكذا الأمر في مجال التجارة والتربية والتعليم والنقل والمواصلات فلا إشكال ولا مانع من أن يبادر أبناء الشعب الراغبون في إقامة المؤسسات التعليمية والمدارس الابتدائية والإعدادية... طبعاً عبر برمجة الحكومة وتخطيطها وبإدارة مدراء حكوميين أحياناً، ولكن المبادرة والمشاركة تبقى للشعب نفسه، لقد برهن شعبنا أنه راغب في خوض هذه التجارب وإنجاز هذه الأمور وثمة كثيرون من الناس يملكون إمكانات مالية أو فكرية، وهم مستعدون للمبادرة إلى ذلك. وخلال السنوات المنصرمة رأينا الكثير من المصاديق والنماذج في هذا المضمار.
على سبيل المثال، في قطاع النقل والمواصلات إذا ما بادر أبناء الشعب إلى توظيف إمكاناتهم فسيحققون نتائج جيدة. ويوماً طرح الإمام الخميني هذا الأمر وتطرق إلى وجود حاجة ملحّة لنقل كميات كبيرة من البضائع والسلع المكدسة في مداخل البلاد، كالموانئ، موضحاً ضرورة توجه أصحاب الشاحنات وسائقو سيارات النقل الضخمة لنقلها إلى الأماكن المخصصة لها، مما خلق ظاهرة تأهب واستنفار وتجاوب شعبي، وامتلأت الطرق الخارجية بهذه الشاحنات بحيث أن المسؤولين الحكوميين أوشكوا أن يعلنوا عجزهم عن توجيه وإدارة كل هذا الحشد الهائل والسيطرة على هذا الإقبال الشعبي الواسع وتنظيمه.
إذاً، فمشاركة الشعب وإسهامه تشمل كل المجالات ولكنها ينبغي أن تقترن بشرطين:
الأول: أن يكون ذلك تحت إشراف الدولة وتخطيطها كي يتم ذلك بعيداً عن تحقيق أطماع الطامعين والمستغلين والخبثاء الأنانيين الذين لا يهمهم سوى تحقيق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الفردية فهم لا يبالون في سبيل ملء جيوبهم بزعزعة أمور البلاد وبعثرة أوضاع الدولة.
والثاني: تشديد الرقابة الحكومية والإشراف والمتابعة الفعالة للأجهزة المسؤولة، فتمارس السلطة القضائية أعمالها بشكل فعال ويعالج المسؤولون المختصون كل القضايا بكل نشاط ومثابرة، لئلا يستطيع الذين يريدون الاصطياد في المياه العكرة، من استغلال فرصة الحماس الشعبي والاندفاع العام للعمل والخدمة، ولئلا يسارع هؤلاء الماكرون للتلاعب والاحتيال والاستغلال من أجل الإثراء غير المشروع ومثل هذه النماذج من الناس موجودة في صفوف شعبنا ولن يقلعوا عن أعمالهم الخبيثة تلك ما لم تكن هناك معاملة حازمة ومكافحة مستمرة لهم.
فإذا ما وضعنا مثل هذه البرامج والخطط للمشاركة الشعبية ينبغي أن نكون مطمئنين من حصول نقلة نوعية وهزّة شاملة في البلد.
إن بلادنا ورثت خراباً وتركة ثقيلة من العهود الماضية، جرّاء حكم السنوات الطويلة وإثر سيطرة الذين أهلكوا الحرث والنسل، بمؤامراتهم ومكرهم واحتيالهم وتلاعبهم غير مشروع في مقدرات البلاد، مما أورثنا وضعاً فاسداً. لقد أدت السياسات الفاسدة السابقة إلى تدمير زراعة البلاد وربط عجلة صناعتها بالخارج وتحويلها إلى صناعة "تجميع" و"مونتاج" ليس إلا، وشاعت في المجالات الأخرى مفاسد من هذا القبيل طيلة السنوات التي كانت الدولة ترزح تحت نير هؤلاء الخبثاء، فكيف يمكننا اليوم إعادة إعمار البلد دون مشاركة الشعب الواسعة في ذلك؟!
كم كانت دقيقة وثاقبة رؤية إمامنا الحكيم المدبّر، في اليوم الذي عاد فيه إلى البلاد فقال في خطابه الأول الذي وجهه من مقبرة الشهداء "روضة الزهراء" إلى جماهير الشعب: "إننا لو تكاتفنا وتعاضدنا وعملنا معاً مدة عشرين عاماً عندذاك نتمكن من إعمار بلدنا".
ولا ننسى أننا خضنا حرباً مدمرة استمرت سنوات طويلة وفترة مديدة واستنفدت منا الكثير من القوى والطاقات والإمكانات، وفي ضوء ذلك ازدادت المشاركة الشعبية إلحاحاً وأهمية[1].
اهتمام الحاكم الإسلامي بتربية النفس
هناك مجموعة من وظائف الحاكم الإسلامي ترتبط بتربية النفس وتهذيب الذات والسلوك الشخصي للحاكم. فبالرغم من أن أفراد الأمة الإسلامية كلهم معنيون بهذه الوظيفة، ومطلوب منهم الانكباب على بناء النفس والاهتمام بتنقية السلوك الشخصي والفردي وجعله منطبقاً مع الضوابط الأخلاقية في الإسلام، وبالرغم من التحلي بالأخلاق الفاضلة والخصال السامية والسجايا الحميدة والمثُل الإسلامية والإنسانية، إلا أن هذا الأمر يكتسب أهمية فائقة وإضافية بالنسبة للحاكم والمسؤولين وأصحاب المناصب والمسؤوليات في البلد.
ذلك لأن السلوك الشخصي للفرد العادي لا يتجاوز مدى تأثيره محيط الفرد والمجال الصغير الذي يعيشه المرء، بيد أن آثار سلوك الحاكم الإسلامي تمتد إلى مدى أبعد وأعمق يتناسب مع درجة ارتفاعه في سلّم المسؤولية.
فعندما يكون الحاكم الإسلامي متواضعاً فإن تواضعه لا يؤثر في دائرة ضيقة أو نطاق محدود، بل ينعكس ذلك في كل أوساط الشعب ويؤثر على عقول أذهان جميع المواطنين ويترك بصماته في نمط سلوك كل واحد منهم. ولذلك فإن إحدى وظائف الحكومة والحاكم هـو إمعــان النظــر فــي سلوكــه الشخصي ومراعاة الضوابط والأطر التي عيّنت له.
وبالطبع فعندما نتحدث عن الحاكم الإسلامي فنحن لا نعني شخصاً محدداً ذا منصب عالٍ ورفيع في الدولة، بل إن جميع الذين يسهمون بشكل من الأشكال في إدارة دفة الحكم ولهم تأثير على الصعيد الحكومي ويعدّون ضمن أعضاء الجهاز الحاكم والقائم بإدارة المجتمع الإسلامي معنيون بذلك أيضاً، كل ما في الأمر أنه كلما اقتربت مسؤولية الشخص من المركز الأصلي والأساسي وارتفعت درجته في سلم المسؤولية ازداد ثقل المسؤولية التي ينبغي عليه النهوض بأعبائها.
أما ذوو المستوى الأدنى في سلم المسؤولية، والمسؤولون ذوو الوظائف الأقل أهمية في الدولة فإن ثقل هذه المسؤولية يقل بالنسبة لهم.
وثمة الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث والروايات الشريفة الواردة في "نهج البلاغة" وعن أئمة أهل البيت الآخرين في هذا الشأن.
ومن خصائص الحاكم الإسلامي المهمة، العلم وسعة الصدر وتحمل المشاق والمتاعب والانحرافات والتطرف والتصرفات غير الأخلاقية من الغير تجاهه، والسيطرة على النفس تجاه استفزازات الآخرين، وعدم الانجرار للاصطدام من الإثارات الصغيرة والتافهة، وبُعد النظر والرؤية الثاقبة.
ومن خصائصه الأخرى: القناعة والزهد في الحياة الشخصية سواء في المأكل والملبس أو في المسكن والمركب وفي بقية الأمور والمجالات التي تُعدّ من جملة الأمور الحياتية الشخصية للمرء.
ونلاحظ في حياة وسيرة أمير المؤمنين (ع) وفي السيرة النبوية نماذج ومصاديق رائعة وعظيمة في هذا المجال.
وهكذا الأمر على صعيد محاسبة النفس ومراجعة الذات، فمع أن هذا الواجب يخص كل الناس ـ حاكمين ومحكومين ـ بيد أنه يتأكد في خصوص الحاكم الإسلامي، فمحاسبة الحاكم الإسلامي لنفسه في الحقيقة ـ ذات تأثير في مصير شعب بأكمله إذ أنه سيتوخى الدقة والحذر في مقابل مستقبل هذا الشعب ومقدراته.
ومن وظائف الحاكم الإسلامي الأخرى، عدم الابتلاء بمرض حب الجاه والتحكم وشهوة التسلط والسيطرة والتفرد والعناد والزهو بالنفس وتنزيه الحاكم الإسلامي لنفسه من هذه الأمور يعدّ من أهم الوظائف وأبرز الخصائص الخلقية التي ينبغي له التحلي بها.
هذه مجموعة من الوظائف التي تقع على عاتق الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية وإذا أراد أن يقوم بكل الوظائف الاجتماعية الملقاة على عاتقه دون الالتزام بهذه الواجبات الأخلاقية أو الاهتمام بها، فإن النتيجة هي خروج تلك الحكومة وذلك الحاكم عن النموذج الذي ينشده القرآن ويدعو له الإسلام، ومن المؤكد أن عدم اهتمامه بأداء هذه الواجبات الأخلاقية سينعكس سلبياً حتى على كيفية قيامه بالواجبات الاجتماعية أيضاً، وسيفقد القدرة اللازمة للقيام بها خير قيام.
وظائف الحكومة الإسلامية فـي المجال المعنوي والتربوي للمجتمع
وثمة مجموعة أخرى من وظائف الحكومة تتعلق بالمجال المعنوي والتربوي لحياة المجتمع، وهي تحظى بالدرجة الأولى من الأهمية. ومن هذه الأمور:
الانكباب على تهيئة مستلزمات التربية والتعليم لأفراد المجتمع والاهتمام بالتزكية الأخلاقية للناس، وترشيد الطاقات وتنمية الاستعدادات الذاتية لأبناء الأمة، واستخدام كل الوسائل وتسخير كل الإمكانات اللازمة لتفتّح المواهب الإلهية التي غرسها فيهم الباري عز وجل، من قبيل الاستعدادات والابتكارات الخلاقة والمبادرات الخيّرة والقيم الأخلاقية والخصال الحميدة والصفات السامية.
وإذا وجدنا أن أفراد المجتمع في بلد ما لا يتمتعون بالأخلاق الفاضلة، أو أن الفساد مستشرٍ بين الناس، أو أنهم لم يدركوا أهمية التربية والتعليم وأن مستواهم العلمي والدراسي متدهور وضعيف، أو أن مستوى الوعي السياسي ليس كما ينبغي، فلا يمكن توجيه اللوم إلى أفراد ذلك المجتمع، بل ينبغي لوم الحكومات المتعاقبة على ذلك المجتمع، وينبغي توبيخ وتفريع الحكام المتلاعبين بمقدرات ذلك البلد المادية والمعنوية.
وهذا هو الوضع الذي نشاهده اليوم في العالم، سواء في أقطار العالم التي تمتلك الوعي والإدراك السياسي وتفتقر إلى الجوانب المعنوية والأخلاقية، أو في البلدان المتخلفة التي تفتقد حتى الوعي والإدراك السياسي والتي فُرض عليها التخلف والتأخر، حيث لم يُسمح لشعوبها بحرية التفكير، وحُرمت من اكتساب الوعي والإدراك السياسي، وفي مثل هذه البلدان لا يجوز أن نلقي التقصير والملامة على عاتق الشعوب، فليست هي التي تمتلك زمام اتخاذ القرار في هذه المجالات، وإنما الحكومات والحكام هم المقصرون.
إن نشر القيم المعنوية وإشاعتها في البلد، من قبيل الوعي والنضج السياسي واليقظة وتنمية القدرة على التحليل والمتابعة والاستنتاج، وتصعيد مستوى إدراك الأحداث والقضايا وفهم أبعادها، وتنمية الخصائص الأخلاقية، كل ذلك يُعدّ من أهم وظائف الحاكم الإسلامي التي تكتسب أهمية فائقة.
وعندما نلقي نظرة على مضامين دستورنا نجده يهتم بهذه القضايا اهتماماً بالغاً، ولا يتسع هنا المجال للتطرق إلى هذا الأمر بالتفصيل.
ولاية الحاكم الإسلامي امتداد للولاية الإلهية
إن التزكية والتعليم يعدّان من أهم دواعي بعثة الأنبياء، ومن بين أهم ما كلفوا به. وقد ذكرنا أن ولاية الحاكم الإسلامي هي امتداد للولاية الإلهية وولاية الأنبياء.
نشر العدالة والأمن من وظائف الحكومة الإسلامية
وثمة مجموعة أخرى من الوظائف التي تقع على عاتق الحكومة الإسلامية، وهي من مستلزمات إدارة الأمور الحياتية والمادية في المجتمع، فإن لم تنجز هذه الوظائف افتقد الناس الظروف الاجتماعية المؤاتية لكي يحيوا حياة سعيدة ومطمئنة، يتسنى لهم فيها الرقي الأخلاقي والثقافي والتربوي. ومن هذه الوظائف: نشر العدالة وإقرار العدل.
فهذه المهمة الأساسية التي يتوجب على أجهزة الحكومة الإسلامية الاهتمام بها، فلا يمكن أن يقال للناس: لماذا لم تراعوا العدالة، بل الحكومة الإسلامية والدولة الإسلامية هي التي ينبغي عليها مراعاة الضوابط التي تؤدي إلى ظهور العدالة الاجتماعية وإقرارها في المجتمع.
ولهذا السبب نفسه مُنح الحاكم الإسلامي صلاحيات وسلطات واسعة كي يتسنى له بسط العدالة ونشرها في حنايا المجتمع، عبر إقرار الأمن والطمأنينة ـ سواء الطمأنينة في المجال العملي والمهني أو من الناحية القانونية والقضائية وفي شتى نواحي الحياة بشكل عام، كالبيوت والطرق والقرى والنواحي والقصبات وأمن الحدود ـ فتأمين الطمأنينة ونشر الاستقرار في كل أنحاء المجتمع يعد من أبرز التكاليف وأهم الواجبات التي يجب على الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي إنجازها.
وإلى جانب توفير الأمن والاطمئنان ينبغي نشر الرفاه الاجتماعي، فالأمن والرفاه أمران مهمان للغاية وتحتاج إليهما كل المجتمعات البشرية سواء الإسلامية منها وغير الإسلامية.
فنحن لا نقول: "إن على الحكومة الإسلامية تهذيب أخلاق الناس ورفع مستواهم العلمي والسياسي، وليس عليها ـ بعد ذلك ـ أن تؤمن لهم الخبز اللازم لمعيشتهم أو الحياة المرفّهة السعيدة، ولا توفير المساكن اللازمة لأبناء الشعب، ولا إيجاد فرص العمل اللازمة للعاطلين، ولا تأمين الحد الأدنى من مستلزمات الحياة الكريمة المستقرة لهم..." ليس الأمر هكذا أبداً.
يقول الله تعالى على لسان نبيّه إبراهيم {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات مَن آمن منهم بالله} (البقرة:126).
فبعد أن بنى إبراهيم الكعبة المشرّفة رفع يده بالدعاء والتضرع إلى الله بأن يمنّ على سكان هذا البلد بالرفاه والأمن؛ فالأمن إذاً من بين أهم الاحتياجات والمستلزمات الحقيقية للناس، ومن واجب الحكومة الإسلامية توفيره. والرفاهية هي الأخرى من الاحتياجات الواقعية والحقيقية للناس، وعلى الحكومة الإسلامية أن تلبي هذه الحاجة.
وليس المقصود ـ طبعاً ـ توفير الرفاه لطبقة معيّنة أو فئة محدودة ولا رفاه سكان المدن لوحدهم أو سكان إحدى أنحاء البلد، بل المراد هو توفير الرفاهية والرخاء والازدهار لجميع أفراد الشعب ولكل المواطنين من أي فئة أو شريحة أو مهنة أو منطقة كانوا. وبالطبع فإن الحكومة تنظر في شدة احتياج أي واحدة من هذه الأصناف وتقوم بتنسيق الأمور لتلبية الاحتياجات الموجودة حســب شدتهــا وضعفهــا وحسب جدول الأولويات الموضوعة في خطط البلاد.
وهكذا الأمر بخصوص القضايا الصحية والعلاجية والأمور اللازمة لتنظيم العائلة وما يشابهها من الأمور المرتبطة بحياة الناس الفردية وحياتهم الاجتماعية؛ فالحكومة ملزمة بإنجاز هذه الأمور وسد هذه الاحتياجات.
تولـي سياسة المجتمع إحدى وظائف الحكومة الإسلامية
وثمة صنف آخر من أصناف وظائف الحكومة الإسلامية وهو إدارة الشؤون للمجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية، والقيام بدورها تجاه القضايا العالمية والأحداث الدولية. فلا يمكن أن نفترض وجود مجتمع تحكمه حكومة ويعيش حياة وادعة مطمئنة مستقرة في الوقت نفسه الذي يفتقد فيه الأواصر والروابط الدولية أو لا يكون له دور فعال وقوي وطليعي ينطلق من موقع الاقتدار في الساحة العالمية. مثل هذا الأمر غير ممكن إطلاقاً ليس فقط في هذا اليوم، حيث نرى العالم مترابطاً مع بعضه البعض وأموره يسودها التداخل والتواصل، وتنتقل فيه مظاهر الحضارة وأنماط التقدم وصور الثقافة، ويتم فيه تبادل الأخلاق والأعراف الجيدة والرديئة، والثمار الطيبة والمرة وتنعكس فيه الأفراح والأتراح من هذا الطرف من العالم إلى الطرف الآخر منه فتشمل كل الشعوب... أقول ليس هذا مستحيلاً اليوم فحسب وإنما حتى بالأمس لم يكن ممكناً.
فلا يمكننا أن نفترض وجود مجتمع مزدهر ومتطور دون وجود سياسة قوية وروابط دولية متينة وعلاقات وثيقة بالدول والشعوب الأخرى؛ هي الأخرى من ضمن وظائف الحكومة الإسلامية، فالحكومة الإسلامية لا تؤيد العزلة والانطواء على الذات، ولا ترغب في الانعزال عن الشعوب والحكومات الأخرى، ولا تريد الانزواء جانباً عن القضايا العالمية، بل تسعى لتسجيل حضورها الفعال والمؤثر في شتى المجالات والصعد وفي القضايا الدولية.
وبالطبع فإن القيام بكل واحدة من هذه المهام وإنجاز كل واحدة من هذه الواجبات يتطلب وجود أجهزة إدارية وتشكيلات ومؤسسات عديدة والحكومة الإسلامية ملتزمة بإقامة وإيجاد هذه الأجهزة والمؤسسات كي يكون بمقدورها إنجاز هذه الوظائف والواجبات.
والأمر المهم هو أن الحكومة لا يمكن أن تحظى بالتأييد وتكتسب القبول إلا بعد تعهدها والتزامها بهذه الوظائف، أما الحاكم والنظام الذي لا يرى من واجبه القيام بهذه المسؤوليات والوظائف ولا يعيرها اهتماماً كافياً ولا يبذل مساعيه لتحقيقها فإنه يعتبر ـ من وجهة نظر الإسلام ـ مرفوضاً وفاقداً للتأييد.
ولذلك فإن الحكومة التي تستهدف تحقيق غاياتها الشخصية وتسعى وراء المطامع وإرضاء الشهوات وتحقيق الجاه والمنصب وإشباع حب الذات، والحكومة التي تبتعد عن تحقيق الوظائف الإلهية والاجتماعية فإنها تعتبر عبأً ثقيلاً على عاتق الحاكم ووبالاً ماحقاً ليس إلا، أما إذا كانت الحكومة تستهدف تحقيق هذه الغايات السامية والواجبات المهمة المرضية من قبل الله فإنها تعتبر ذلك عبادة وواجباً إسلامياً وشرعياً وعملاً مقبولاً يرضاه الله.
وقد رُويَت حادثة ملخصها أن صحابياً قال عند رسول الله (ص): "ما أسوأ الإمارة والرئاسة!" وكان يظن هذا الصحابي أن ذلك دليل الزهد في الدنيا، فأجابه النبي (ص) بعكس ما كان يظن، موضحاً أنه ما أحسن الرئاسة أو الإمارة إن كانت مقترنة بشرطين:
أولهما: إن مَن يتصدى للإمارة أو الرئاسة إنما يتصدى لها وهو جدير بها وأحق بالنهوض بأعبائها، أي لا يكون غاصباً لحق غيره، وفقاً للمعايير الإلهية وطبقاً للمقاييس الإسلامية.
وثانيهما: أن يؤدي الواجبات والوظائف التي تستلزمها الإمارة أو الرئاسة وألا يتغافل عن أداء حقها.
ولذلك فإن هذه القضية تأتي على رأس القضايا الإسلامية التي تستحق الاهتمام. وقد روي عن الإمام الرضا (ع) بأنه تحدث عن الإمامة "وهي الإمارة أو الرئاسة والحكومة الإلهية في المجتمع الإسلامي"، فعبّر عنها بأنها محور لكل أصول الإسلام وعماد الدين وأسس العقيدة.
ولقد حظيت قضية الإمامة والولاية بكل هذا الاهتمام في رواياتنا لأنها تمس الأمور المعنوية والمادية للشعب، وتخص نمو الناس ورشد المجتمع، وحتى أن مصير الناس إلى الجنة يعدّ إحدى نتائج نوع الحكومة والنظام القائم فـ "الناس على دين ملوكهم" كما يقال.
فإذا كان النظام الحاكم نظاماً متديناً كفوءاً وجديراً ونظاماً ملتزماً متحرقاً على مصالح الأمة حريصاً عليها، وتنطبق عليه المعايير الصحيحة فإن كل هذه الأمور تسهم في سوق الناس إلى الجنة، جنة الدنيا وجنة الآخرة.
وإذا افتقد الحكام والزعماء اللياقة والجدارة اللازمة أو عدموا الالتزام والتحرق والإخلاص، أو لم يعرفوا وظائفهم، أو لم يقوموا بها كما ينبغي فحينذاك يسوقون الناس نحو الجحيم ويؤول مصيرهم نحو السقوط في جهنم؛ ولا يكون هذا مصير الحاكم وحده بل يجرّ معه الناس الذين يعيشون تحت ظل حكومته.
وعلى هذا الأساس، فإن وظائف الحكومة تُعدّ أموراً مهمة للغاية وتكسب الحكومة أهمية وقيمة كبيرتين إلى هذا المستوى.
من مداليل قضية حديث "الغدير"
وهنا أرى من المناسب أن أتطرق إلى موضوع مهم، وهو قضية حديث "الغدير" التي حصلت إثر نزول قوله تبارك وتعالى {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس} (المائدة:67).
وبعد ذلك وعقب أخذ البيعة للإمام أمير المؤمنين قال عز وجل {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشَوهم واخشونِ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3).
وبالطبع فإننا نعتبر قضية "الغدير" من أصولنا العَقَدية الإسلامية ونعتقد أن لها العديد من المداليل والمعاني أهمها هي: إنها تعكس أهمية قضية الخلافة والولاية والحكومة الإسلامية، مما دعا النبي الأكرم (ص) إلى التأكيد عليها في الشهور والأسابيع الأخيرة من عمره الشريف، فطفق يوضح للناس أهميتها وأبعادها، ولذلك أبدى الرسول كل ذلك الاهتمام بها في قضية "الغدير".
فبعد أن ألقى النبي خطبة تضمنت وصاياه الأخيرة ـ في منى أو في مكة ـ في السنة العاشرة للهجرة، وبينما كان عائداً من مكة إلى المدينة ـ بعد الفراغ من حجة الوداع ـ توقف في منطقة تقع بين المدينتين تُعتبر مفترق طرق مهم يتوجه منها الحجاج اليمنيون إلى بلدهم بعد فراغهم من فريضة الحج، وتتوجه كل واحدة من القبائل إلى منطقتها.
ويعكس اختيار تلك المنطقة ـ وهي صحراء حارة ذات رمال تكوي الأقدام وشمس حارقة ـ أهمية هذه القضية، قضية الحكومة الإسلامية. وتقول الروايات أن حرارة تلك المنطقة بلغت حداً بحيث صار الحجاج معه يضعون أرديتهم تحت أرجلهم أو يلفّون بعباءاتهم أقدامهم كي لا تتورم بحرارة الأرض.
وفي هذه الاستثنائية، اعتلى النبي أحداج الإبل المنصوبة له كالمنبر ورفع معه الإمام علي بن أبي طالب (ع) وأراه للناس كي لا يحصل أي التباس ثم قال (ص): "مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه".
وإننا نعتقد أن لهذه الحادثة اثنين من المعاني والمداليل وهما:
أولاً: إن الحكومة بعد رسول الله (ص) من حق علي (ع) وإن الخلافة ينبغي أن تؤول إليه بشكل مباشر. ولا شأن لنا هنا بالوقائع التاريخية التي حصلت، ولكن المهم هو أن التاريخ الإسلامي سجل لنا هذه الحقيقة وهي أن النبي الأكرم (ص) نصّب بنفسه الإمام علياً خليفة من بعده، نظراً لما كان يتمتع به من الصفات المعنوية والدينية، وما كان له من الخلفيات والسوابق وما يتصف به من الطهر والصفاء الفريدين والممتازين على الآخرين.
ثانياً: وهو الأمر المهم الذي يستلزم اهتمامنا اليوم، وهو إعطاء أهمية فائقة لقضية الحكومة الإسلامية. فلم تحظَ أي قضية أخرى باهتمام النبي مثلما حظيت به هذه القضية وخصوصاً في تلك الظروف الصعبة والحرجة. وبعد أن بلّغ الرسول (ص) الناس بذلك الأمر الرباني تلقى بشارة إلهية أبلغها للناس هي إكمال الدين وإتمام النعمة، في قوله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
وهذا يعكس أهمية هذه القضية، قضية الولاية والحكومة الإسلامية[2].
مزايا حكومة الإمام علي (ع) وملامحه
وأرى من المناسب في ختام هذا البحث، وبعد أن مررنا بقضية عيد الغدير، التطرق للملامح العامة والمزايا الفريدة التي امتازت بها حكومة أمير المؤمنين (ع) لا سيما وأنها موضوع يندرج في عنوان هذا الفصل "وظائف الحكومة الإسلامية".
الحقيقة أن علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) يُعتبر الإنسان المجسد لمفهوم الحكم الإلهي والإسلامي، وعندما يريد المرء أن يخوض عباب هذا البحر، بحر الحديث عن شخصية أمير المؤمنين يجد صعوبة بالغة ويشعر بحرج كبير، باعتبار أن في حياة هذا الإمام الهمام من المحطات البارزة والصفات الحميدة والملامح السامية ما يجعل المرء حائراً من أين يبدأ وأيها يتناول وعلى أية واحدة من الفضائل الجمة لديه يركّز حديثه.
حقاً كان أمير المؤمنين إنساناً متعدد الأبعاد.. إنساناً تجتمع فيه كل الفضائل الإنسانية السامية، ولذلك فليس من السهولة بمكان أن يركز المرء على بعد معيّن أو جانب محدد أو صفحة مشرفة واحدة من صفحات حياته.
بيد أنني اخترت موضوعاً يخص هذا البحث وجعلته مرتكزاً حول الجانب المتعلق بكونه خليفة لرسول الله وإماماً للمسلمين بعد ارتحال النبي (ص) إلى الرفيق الأعلى. وارتأيت أن من المناسب لنا والجدير بنا التطرق إليه، باعتبارنا أمة حققت ثورة كبرى لتوّها وأسست نظاماً جديداً في العالم المعاصر ـ وهو عالم بعيد عن المعنويات ـ من القيم الإلهية والإسلامية.
ونحن اليوم بحاجة إلى سمة مهمة من سمات حياة أمير المؤمنين أكثر من أي شيء آخر، وهي عبارة عن "الالتزام الكامل بالأصول الثورية والقيم الإسلامية".
وكمقدمة للموضوع أقول: إنه من خلال المطالعة والتعمق في أوضاع الثورات والتحولات الاجتماعية في العالم يدرك المرء جيداً أنه أينما حصل انحراف عن الأصول لم يكن أساس هذا الانحراف قائماً على الخيانة ولم يكن المنطلق حتماً منها.
كيفية وقوع الانحراف عن القيم
ودونكم الثورات والنهضات التي شهدها العالم والتي بلغت مرحلة الانتصار كيف كانت شعاراتها التي ترفعها والادعاءات التي تطرحها للشعب طيلة مائة عام أو ما يقرب منها، فأغلبية هذه النهضات التي وقعت في أطراف العالم وأكنافه كانت ترفع عقيرتها بشعارات ومبادئ وأصول جذابة وقيمة لدى كل ناظر وتلفت نظر أي مراقب، وتسترعي انتباه أي قارئ ومطالع لتاريخها في الكتب والتواريخ المدوّنة.
ولكن تلك الثورات والنهضات ما أن وصلت إلى سدة الحكم وتسنّمت دفة الأمور وأخذت مسيرة التغييرات تمشي وفقاً لآرائها وأفكارها حتى طفقت ـ بعد مضي فترة قصيرة ـ تنحرف تلك الثورات والنهضات عن شعاراتها الأولى وتتخلى رويداً رويداً عن قيمها المقدسة السابقة، وشرعت تنسى الادعاءات، فأخذ يطويها ملف النسيان.
وغالباً ما يتخلى الطلائعيون والزعماء ـ ولو بعد الرعيل الأول وبعد الجيل الأول من الزعماء والقادة ـ عن تلك القيم وينحرفون عن تلك الأصول بعد انصرام فترة من الزمن ومضي جيل جديد.
وهذا ما حدث في معظم النهضات والثورات التي شهدها عالمنا المعاصر وما حصل خلال العقود الأخيرة الماضية، والمهم أن نرى من أين وكيف بدأ الانحراف، هل أن الذين حققوا الثورة وأوصلوها إلى شاطئ النصر والظفر تعمدوا خيانتها وأقدموا على ذلك عن قصد سابق؟
من الممكن طبعاً ـ في بعض الأحيان ـ أن يقع مثل هذا الأمر ولكن الأمر في معظم الأحيان ليس بهذا الشكل وإنما حصل ذلك عبر التساهل والتسيّب واللامبالاة وعدم التقيد الشديد بالأصول ـ في بادئ الأمر ـ فإذا كان المسؤولون الجدد الذين أفرزتهم الثورة وتسنّموا سلّم المسؤولية في النظام الجديد المنبثق عن تلك النهضة ليسوا ملتزمين بالأصول التزاماً جيداً ومتقناً وإذا لم يكونوا متشددين في التزام القيم الأصيلة والمبادئ الأساسية بإحكام وإتقان فإن النتيجة هي أن مقرّبيهم وأصدقاءهم وأقاربهم يستغلون الإمكانات المتاحة لديهم والمعطاة لهم.
وهكذا فإن أولئك المسؤولين ـ ورغبة منهم بمراعاة أمور القرابة والصداقة والعلائق الودية وغيرها من الأمور ـ يزول التزامهم ويضعف تقيدهم بالأصول ويأخذون بالتخلي عنها، فيغضون الطرف عن الانحرافات وأعمال الاستغلال تساهلاً وتهاوناً منهم، وتكون النتيجة هي سيطرة حفنة من العوائل على زمام الأمور وهيمنتهم على الإمكانات، وتبرز إلى الوجود العوائل الثرية الغنية والعصابات الحاكمة والمتنفذة المسيطرة على المال والحكم.
لمحة خاطفة على عصر صدر الإسلام
وإذا أردنا أن نلقي نظرة تحليلية على التاريخ، فألقينا لمحة خاطفة على عصر صدر الإسلام للاحظنا أن العديد من الحالات ينطبق عليها ما قيل سلفاً، إذ حصل تساهل في التقيد ببعض الأصول، وأدى هذا التساهل نفسه إلى حصول بداية الانحراف بزاوية صغيرة في بادئ الأمر، وأخذت هذه الزاوية تكبر وتكبر شيئاً فشيئاً، فالانحراف يبدو أول ما يبدأ صغيراً وطفيفاً لكنه ما يلبث أن يكبر وتتضح أبعاده مع مرور الزمن بحيث تصبح الفاصلة عن القيم والمبادئ كبيرة. وفجأة يتنبه المرء فيرى أن ما تبقّى بالفعل مما يمسي بالقيم والأصول والنظرية والفكر والإسلام تفصله فاصلة كبيرة عن الحقيقة والأصل بحيث لا تبقى من تلك الأمور باقية تذكر.
فبعد مائة سنة من اندلاع ثورة الإسلام الأولى في عصر صدر الدعوة الإسلامية تجدون الوضع القائم لا يشبه بشيء الوضع السائد في زمن النبي الأكرم. وطبعاً فإنني لا أريد هنا الخوض في تفاصيل الأمور التاريخية أو التطرق إلى تفاصيل الانحراف التي شهدتها تلك الفترة وسجّلها التاريخ ومن أين منشؤها ومنطلقها وما هو سببها وجرّاء التساهل في أي من الأصول حصل الانحراف، فهذه أمور معروفة ومشخّصة في طيات التاريخ، ومعروفة أيضاً تلك الشخصيات التي ارتكبت أفظع الانحرافات عن القيم الاجتماعية في مجال تقسيم الأموال وتسليط غير الأكفّاء وغير المؤهلين وتنحية الصالحين والجديرين وإبعادهم عن مواقعهم الحقيقية... تلك الوجوه المنحرفة يسهل اليوم تشخيصها وتعيينها في التاريخ الإسلامي الحاضر، وغالباً ما لا يحصل اشتباه بين المسلمين في هذا الأمر فمعظم المؤرخين يعلمون من أين نشأت الانحرافات وانطلقت، ولا أريد الخوض في ذلك.
وما أريد الحديث عنه هو هذا البعد من أبعاد شخصية أمير المؤمنين (ع) وهو ما اعتبره من أكثر ما يلفت النظر في التاريخ الإسلامي ألا وهو: إن هذا الإمام الفذّ لم يتساهل ـ في أي من الأدوار والمراحل التي مرت بها حياته الشريفة ـ ولم يتعاون في تطبيق القيم والتزام الأصول ولم يغض الطرف أو يتغاضَ عنها.
وعلينا اليوم، نحن أتباع أمير المؤمنين (ع)، أن نرفع ذلك كلواء وعلَم وكراية خفاقة نضعها نصب أعيننا، وعلينا أن نعتبر التقيد بالأصول والتزام المبادئ الإسلامية الأصيلة أحد أكبر شعاراتنا وأهمها.
ضرورة التقيد التام بالأصول
ومنذ البداية، أعلن الإمام أمير المؤمنين التزامه الأصول وتمسكه بالمبادئ، وعبّر عن ذلك في العديد من أقواله وتصريحاته، سواءً في المجالات المالية أو في مجال المسؤوليات المتعلقة بالحكومة والولاية وإناطة المسؤوليات الحساسة والمناصب المهمة بالأفراد الصالحين. فبمجرد ما اختير الإمام للخلافة وسلّمت له مقاليدها بادر في اليوم الأول إلى إزاحة الأشخاص المنحرفين الفاسدين من سدة الحكم، فقيل له: إنك تسلّمت الخلافة لتوّك وليس من المصلحة الآن أن تصدر أمراً بعزل هؤلاء الأشخاص، وهذا ليس لصالح خلافتك وحكومتك. فقال (عليه السلام): "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلِّيت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوَّيت بينهم فكيف وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف" (نهج البلاغة، خ: 126، ص: 183، د. الصالح).
ويقول (عليه السلام): "إن أفضل الناس عند الله مَن كان العمل بالحق أحبّ إليه ـ وإن نقصه وكثره ـ من الباطل، وإن جرّ إليه فائدة وزاده" (نهج البلاغة، خ: 125، ص: 182).
وفي الأيام الأولى لحكومة الإمام أصدر (ع) أمراً باسترداد أموال بيت مال المسلمين من قطائع عثمان، وهي الأموال والأراضي والهبات والأملاك التي قُسّمت على بعض الأشخاص في عهد عثمان. قال (ع): "والله لو وجدته قد تُزُوج به النساء، ومُلك به الإماء، لرددته فإن في العدل سعة، ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" (نهج البلاغة، خ: 15، ص: 57، د. الصالح).
هذه هي القرارات الحاسمة التي أصدرها أمير المؤمنين، وهذا هو التصرف الحازم الذي اتّبعه عملياً ـ لا على صعيد القول فقط ـ منذ أوائل عهد خلافته وحتى آخره، وهو ما خلق المتاعب للإمام طيلة خمس سنوات من خلافته.
أجل هذا هو الحزم... فلربما أعاقت النوائب وصروف الزمان المرء عن تحقيق ما يريد لفترة من الزمن من خلال التزامه الحزم والقوة ولكن النتيجة النهائية والحقيقة الخالدة التي يثبتها التاريخ هي أن كل طلاب الحق وكل الذين يضيقون ذرعاً بالظلم يعتبرون علي بن أبي طالب مثلاً أعلى وقدوة سامية ونموذجاً للعدالة، ويبقى نهجه درساً بليغاً وخالداً في صفحات التاريخ المضيئة.. هذه هي ثمرة نهج علي بن أبي طالب وهذا هو شأنه الرفيع.
وإنني أنقل هنا لعشاق علي بن أبي طالب والمؤمنين بنهجه ومدرسته بعض النماذج من سيرته وقليلاً من صور حزمه وشدته في ذات الله. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى اتّباع هذا النهج وأن يستهدي مسؤولو الجمهورية الإسلامية بهذه السيرة ويّتبعوا هذا الأسلوب في مجتمعنا عبر تمتعهم بالدقة والوعي الإسلامي... ينبغي صيانة المبادئ والمحافظة على الأصول بكل حزم وحسم.
نماذج من حزم علي (ع) ودقته فـي صيانة الأصول
أحد الأمور التي جسّد فيها أمير المؤمنين حرصه على صيانة المبادئ وحفظ الأصول هي قضية تقسيم أموال المسلمين والتصرف في بيت المال. وهناك قصة مأثورة في هذا الصدد هي قصة عقيل وهو أخ الإمام علي بن أبي طالب (ع)، فبعد استشهاد الإمام ذهب عقيل إلى معاوية، فقال له معاوية: "ما قصة الحديدة المحماة، ألا ترويها لي؟!" فرواها له.
والقصة وردت في "نهج البلاغة" وملخصها أن عقيلاً كان أعمى العينين ويعاني من فقر مدقع وعوز شديد وعالة مستمرة ولا يكفيه إيراده المالي لسد رمقه ورمق أطفاله الكثيرين. ويوماً جاء إلى أخيه أمير المؤمنين ـ وهو يومئذ خليفة المسلمين وبيده إمكانات الدولة كلها ـ والفقر يعلو هامته والعوز يأخذ بتلابيبه ليطلب إليه أن يعطيه شيئاً من بيت المال.
ويروي أمير المؤمنين تلك الحادثة فيقول: "والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أُجرّ في الأغلال مصفّداً أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسولَه يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يُسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها؟!
والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بُرِّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم، كأنما سُوِّدت وجوههم بالعِظلِم، وعاودني مؤكداً، وكرر عليّ القول مردِّداً، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني واتّبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ذي دنف من ألمها وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟!" (نهج البلاغة، الخطبة 224، ص: 346).
هذا درس يخلّده التاريخ في صفحاته بأحرف من نور، وهو يزرع الأمل في قلوب المستضعفين ـ من أي دين أو مذهب كانوا ـ إلى الأبد إذا علموا مَن هو عليّ وعرفوا ما فعله مع أخيه عقيل في هذه القصة، ويبقى هذا الأمر مخلّداً في أفئدتهم مرتسماً في خواطرهم. ولهذا فحتى الذين لا يؤمنون برب علي فإنهم مؤمنون بدرس عدالة علي، ولهذا السبب أيضاً فجدير أن تهدي اليوم عدالة علي كل الشعوب وتأخذ بألباب جميع الحكومات التي تريد العمل لمصلحة شعوبها.. هذا نموذج في باب صيانة المبادئ والتزام الأصول عند أمير المؤمنين.
وفي مناسبة أخرى، لما عوتب على التسوية في العطاء بين الناس قال (سلام الله عليه): "لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف والمال مال الله".
وعندما كانت تُروى هذه الحوادث لمعاوية ـ العدو اللدود للإمام أمير المؤمنين ـ كانت دموعه تجري دون اختيار ويبكي ويترحم على علي.
مراقبة أعمال الموظفين من واجبات المسؤولين
وفي حادثة أخرى، نجد حزم أمير المؤمنين ومبدئيته في مجال الأمور المتعلقة بالحكومة والموظفين ومسؤولي الأمور متجسداً. وإذا كان عقيل لا يملك منصباً رسمياً أو مسؤولية اجتماعيـة حكوميــة فــإن
المقصود بحزم الإمام هذه المرة هو عبد الله بن عباس[3]، ابن عم أمير المؤمنين وتلميذه المخلص له، وهو أحد الذين كان يعتبرهم أمير المؤمنين من أقرب المقربين إليه، وظل هكذا حتى استشهاد الإمام. وفوق ذلك فإنه كان مكلفاً من قبل الإمام (ع) بولاية البصرة.
وبالطبع، فعلى الرغم من أن الحادثة ثبِّتت في حياة عبد الله بن عباس وأوردها التاريخ في "نهج البلاغة"، لكنه كان أحد الذين ظلوا حتى آخر حياتهم أوفياء مخلصين لأمير المؤمنين، إذ كان تلميذاً للإمام، وعلى الرغم من الشدة التي أبداها معه أمير المؤمنين، إلا أنه ـ وبسبب علمه أن الإمام لم يغضب إلا لله ولم يثر إلا صيانة لقيم السماء ـ ليس فقط لم يكره الإمام ولا انزعج منه أو ارتد عنه بل بقي حتى الرمق الأخير مبلّغاً ومؤيداً ومسانداً وذائداً ووفياً للإمام ومدافعاً عنه.
لقد تناهى إلى مسامع أمير المؤمنين أن عبد الله بن عباس قد تصرف في شيء من محتويات بيت المال التي كانت تحت تصرفه كوالٍ للبصرة، فبادر أمير المؤمنين لكتابة رسالة إليه يستوضحه فيها الأمر ويطلب إليه أن يبعث له بسجلّ حساباته.
إذاً، فأمير المؤمنين لم يَجُل في خاطره أنه ما دام ابن عباس ابن عمي فإن قلت له أرني سجل حساباتك فلربما ينزعج ويتبرّم. ولم يفكر مع نفسه أن في هذا الأمر إهانة لابن عباس، إذ كل إنسان يمكن أن يرتكب خطأ وتزلّ قدمه في منزلق الاشتباه ويقترف خطأ حتى في المسائل الشخصية والاجتماعية المهمة. وفي هذه الحالة فإن هذا الحذر وتلك الاحتياطات من انزعاج الخاطئ والمقصر تصبح في غير محلها.
من الممكن أن ينزعج ابن عباس ويكون ذلك خلافاً لتوقعه فليكن ذلك، فالمحاسبة ومتابعة دقائق الأمور ومراقبة أعمال الولاة والموظفين والمتصدين أمر واجب ووظيفة من وظائف أولياء الأمور، ولذلك فإن أمير المؤمنين كتب رسالة من فوره لواليه وابن عمه أن ابعث لي بسجلّ حساباتك.
ويروى ابن عباس عندما بلغه كتاب أمير المؤمنين تعجب منه وكبر عليه، فكتب رسالة أجاب فيها الإمام (عليه السلام) بالقول إن الأموال التي تصرفنا فيها كانت أقل من حقنا في بيت المال.
وهذه هي الأخرى ظاهرة توجد لدى بعض المتصدين لأعمال الدولة من ذوي المناصب الرسمية، فهم يظنون أنهم بقيامهم بخدمة معينة أو امتلاكهم لسوابق جيدة أو أدائهم بعض المهام والخدمات للثورة أو الشعب، يصبح لهم حق استثنائي وسهم أوفر في بيت المال. وإذا ما أنفقوا أو أتلفوا مقداراً من ممتلكات الدولة أو استحوذوا على شيء من أموال البلد فإنه أقل مما يستحقونه.
ومثل هذا التصور الخاطئ ربما كان يوجد عند هذا الشخص الجليل عبد الله بن عباس، وكان جوابه على رسالة الإمام (ع) برسالة ثانية شديدة اللهجة توجد في ثنايا "نهج البلاغة".
ونلاحظ أن كلمات رسالة أمير المؤمنين كانت حادّة وشديدة ودامغة إلى حد كبير بحيث تحمل المرء على التعجب، إذ لولا إيمان ابن عباس وسوابقه الجيدة ومعرفته الواسعة بأمير المؤمنين ـ ولو كان المخاطب بها غير ابن عباس ـ لأعرض عن الإمام وانزعج منه وارتد عنه وفرّ من دولته والتحق ببلاط معاوية.
لكنه لم يفعل ذلك فحسب وإنما ظل بعدها دائماً وحتى بعد استشهاد أمير المؤمنين كلما ذكره أو ذُكر عنده اغرورقت عيناه بالدموع وذكره بالخير وأثنى وترحّم عليه.
حزم الإمام علي (ع) فـي التعيين والعزل
طبيعي أنه عندما يكون كلام أمير المؤمنين وصمته، وإقدامه وإحجامه في سبيل الله، فإن لهذا آثاراً عميقة وإلهية. لاحظوا الحزم والحسم في نهج أمير المؤمنين فهو لا يساوم على مبدئيته حتى لو كان الطرف الآخر ابن عمه وتلميذه وله سوابق طيبة وخدمات جليلة. إذ من المعروف أن عبد الله بن عباس كان أحد حواريّي أمير المؤمنين، ومن الثابتين الأشداء على أعداء الإمام، ومن المدافعين والمستميتين دفاعاً عن إمامه وقائده، لكن هذا الإمام نفسه عندما يبلغه خبر مخالفة ارتكبها شخص كهذا لا يهتم ولا يعبأ بمسألة مَن يكون مرتكب المخالفة بل يعامل القضية بما هي، مجردة عن فاعلها كائناً مَن كان، فالمخالفة تبقى مخالفة ولا تختلف حقيقة الأمر بين أن يكون المخالف عبد الله بن عباس أو غيره، فينبغي أن يحاسَب المخالف على مخالفته.
وأعرض هنا قبل أن أختتم البحث قضية في مجال التعيين والعزل توضح لنا مدى مبدئية أمير المؤمنين وتعكس مبلغ التزامه الأصول وتقيده بالقيم الأصيلة، القيم التي تجعل صاحبها يستحق التعيين والتنصيب في موقع رسمي ومسؤولية حكومية اجتماعية... إنها قيم محددة ومعينة ولا يمكن تكليف أي كان في منصب اجتماعي حكومي ما دون توفرها فيه.
ينبغي أن يتوفر في الأشخاص المرشحين للتعيين والتنصيب في المسؤوليات والمناصب الحكومية كفاءات ولياقات وقابليات معينة، ويتميزوا بسمات خاصة، وإذا كان ثمة شخص يفتقد تلك الأمور فذلك لا يعني أنه امرؤ سيئ وإنما معناه أنه شخص غير مؤهل وغير لائق لاشغال هذا المنصب، وينبغي تكليفه بعمل آخر يناسبه، وهذا الأمر كان مطبقاً في عهد حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد لفتت انتباهي قضية تخص ما حصل في مصر على عهد خلافة الإمام (عليه السلام)، فعندما هوجمت مصر من قبل عساكر الشام، شعر أمير المؤمنين أن عليه إبدال والي مصر، وكان حينذاك أحد أنصار الإمام ومقربيه وتلامذته الخاصين وهو محمد بن أبي بكر، بوالٍ آخر أقوى منه وأشد بأساً وأمضى عزيمة وهو مالك الأشتر... وطبعاً فإن هذا تعرض ـ وهو في الطريق إلى مصر ـ لعملية اغتيال أودت بحياته وبلغ بها درجة الشهادة الرفيعة.
ولكن المهم في القضية أن مجرد كون مالك الأشتر شخصاً مؤهلاً وذا صلاحيات وقابليات أكثر هو الذي حمل أمير المؤمنين على تعيينه والياً لمصر بدلاً من محمد بن أبي بكر وعزل الأخير، بالرغم من كونه من أحسن وأفضل أنصار أمير المؤمنين بل ربيبه بالتبني، وكان الإمام يكنّ له حباً جماً وتعلقاً شديداً. وعندما أبدى محمد عدم ارتياحه لعزله، في رسالة بعثها إلى أمير المؤمنين، أجابه بكتاب أكد له فيه أن عزله له لا يدل على كونه مستاءً ولا منزعجاً منه أو مستصغراً لشأنه ومستخفاً به، ولكنه ارتأى أن الأشتر أفضل مَن يمكنه التصدي للزحف المعادي والهجوم العسكري الذي تعرضت له مصر آنذاك.
على أية حال، هذه المبدئية وهذا الحزم، وحصيلة هذه التصرفات والمواقف الأصيلة "مائة بالمائة" صنعت لأمير المؤمنين شخصية عالمية تاريخية خالدة أبد الآبدين، وصارت في أذهان المسلمين من طراز الشخصيات الأسطورية، بل وأصبحت لها حتى في أذهان غير المسلمين هذه الصورة الناصعة المضيئة العظيمة.
ونحن ـ اليوم ـ بحاجة إلى تعلم هذه المبدئية من أمير المؤمنين والالتزام بها، وينبغي أن نجعل شخصيته قدوة عليا ومثالاً محتذى، وعلينا أن نتذكر دوماً أن ثورتنا قد أقيمت على أساس أصول سامية، على رأسها التزام الإسلام وتجسيده، والدفاع عن المحرومين والمستضعفين، وعدم الخضوع للقوى الكبرى شرقيها وغربيها أو التساوم معها، ونشر العدالة الاجتماعية في صفوف الشعب، وإقرار أسس التربية والتعليم الإسلاميين في أكناف البلاد ومنح الإنسان كرامته وقيمته السامية، وغيرها من الأصول والمبادئ الإسلامية القيمة المبنية على أساس التوحيد.
علينا أن نولي أهمية فائقة لهذه الأصول والمبادئ الإسلامية ذات الأهمية القصوى في مسيرتنا الاجتماعية بحيث تحتل الدرجة الأولى من اهتمامنا وسلّم أولوياتنا.
نسأل الله أن يوفقنا للاقتداء بأمير المؤمنين (ع) والسير في نهجه القويم[4].
والحمد لله رب العالمين..
_______________________
[1] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 9/6/1363 ش.هـ (31/8/1984).
[2] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 23/6/1363 ش.هـ (14/9/1984).
[3] من خلال مراجعتنا لـ"نهج البلاغة"، لم نستطع القطع بأن المقصود بهذا الكتاب "الرسالة" هو عبد الله بن عباس، لأسباب يطول شرحها أوردها ابن أبي الحديد في شرحه لـ"نهج البلاغة"، فليراجع الجزء السادس عشر من الشرح المذكور (في طبعة دار الكتب العلمية بقم، انظر ص: 164 ـ 172 بخصوص الكتابين 40 و 41). والتزاماً بنص خطبة قائد الجمهورية الإسلامية ونص هذا الكتاب فقد ترجمنا النص كما هو (المترجم).
[4] من خطبة لسماحته في صلاة الجمعة بجامعة طهران في 24/1/1363 ش.هـ (13/4/1984).

السابق

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية