ثلاثة انواع من البيعة في سيرة رسول الله (ص)
وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نلتقي بعدد من البيعات.
تبدأ هذه البيعات ببيعة العقبة الاولى وتنتهي ببيعة "الغدير".
وبمراجعة دقيقة لهذه البيعات في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله نستطيع ان نجد
ثلاثة انواع من البيعة:
1ـ بيعة الدعوة.
2ـ بيعة الجهاد.
3ـ بيعة الأمرة والولاية.
وكل من هذه البيعات بمعنى الطاعة والالتزام بالانقياد لله ولرسوله. ولكن طبيعة هذه
البيعات الثلاث تختلف عن بعض.
فان بيعة الدعوة هي التعهد بحمل الدعوة والصبر في مواجهة تحديات الجاهلية.
وبيعة الجهاد هي التعهد بالطاعة للاوامر العسكرية والصبر على مر القتال.
وبيعة الامرة هي التعهد بقبول الامارة والولاية والاعتراف لصاحبها بحق الطاعة.
واليك تفصيل هذه البيعات الثلاثة في سيرة رسول الله (ص):
1ـ بيعة الدعوة:
وهي في سيرة رسول الله (ص): بيعة العقبة الاولى وفيما يلي ننقل النص التاريخي لهذه
البيعة من سيرة ابن اسحاق باختزال.
يقول ابن اسحاق: لما اراد الله عز وجل اظهار دينه واعزاز نبيه صلى الله عليه وآله
وسلم خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل
العرب، كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقى رهطاً من الخزرج، اراد
الله بهم خيراً. قال لهم من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي اليهود؟
قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز
وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم اولئك النفر ودعاهم إلى الله. قال بعضهم لبعض:
يا قوم، تعلمون والله انّه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه فأجابوه
فيما دعاهم إلى الله إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا:
انا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى ان يجمعهم الله
بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي اجبناك إليه من هذا الدين،
فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا حتى إذا كان العام
المقبل وأمّ الموسم من الانصار اثنا عشر رجلاً فلقوه بالعقبة، وهي "العقبة الاولى"
فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيعة النساء وذلك قبل ان تفرض
الحرب، عن عبادة بن الصامت قال:
"كنت فيمن حضر العقبة الاولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله (ص) على بيعة
النساء، وذلك قبل ان تفرض الحرب: على ان لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني،
ولا نقل اولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في
معروف، فان وطيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجل إن
شاء عذّب وإن شاء غفر"[1].
فلما انصرف القوم بعث رسول الله "معهم" مصعب بن عمير وأمره ان يقرءهم القرآن.
وبيعة النساء التي يشير اليها عبادة بن الصامت رحمه الله هي البيعة التي ذكرها
القرآن الكريم للنساء؟
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن،
ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه، من بين أيديهن وأرجلهن
ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله، إنّ الله غفور رحميم)"الممتحنة 12".
وهذه هي بيعة العقبة الاولى، وهي "بيعة الدعوة".
2ـ بيعة القتال والجهاد:
وهذا من النوع الثالث من البيعة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوامها
التعهد بالطاعة في ساحة القتال وتحمل الضراء والبأساء حتى الموت والى هذه البيعة
تشير الآيتان الواردتان في سورة الفتح:
(ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله، يد الله فوق ايديهم، فمن نكث فانما ينكث على
نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجراً عظيماً) "الفتح 10".
(لقد رضى الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فأنزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) "الفتح 18".
وهذه البيعة هي "بيعة الرضوان" أو "بيعة الشجرة" وخلاصة هذه البيعة ان رسول الله
(ص) استنفر اصحابه للعمرة فخرج معه الف وثلاثمائة وستون ومعه سبعون بدن، وقال لست
أحمل السلاح، انما خرجت معتمراً وأحرموا من ذي الخليفة، وساروا حتى دنوا من
الحديبية على تسعة اميال من مكة فبلغ الخبر أهل مكة فراعهم.
واستنفروا من اطاعهم من القبائل حولهم، وقدموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو
عكرمة بن ابي جهل فاستعد لهم رسول الله (ص)، وقال ان الله امرني بالبيعة فأقبل
الناس
يبايعونه على ان لا يفروا وقيل بايعهم على الموت، فلما رأوا ذلك تهيبوا وصالحوا
رسول الله (ص)[2].
قال ابن اسحاق فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله (ص) على الموت وكان جابر بن
عبدالله يقول: ان رسول الله (ص) لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على ان لا
نفر[3].
وفي مسند احمد قلت لسلمة بن أكوت: على اي شيء بايعتم رسول الله (ص) يوم الحديبية؟
قال بايعناه على الموت[4].
وروى احمد أيضاً في المسند عن جابر”بايعنا نبي الله يوم الحديبية على أن لا نفر[5].
وهذه البيعة هي بيعة الجهاد والقتال.
3ـ بيعة الأمرة والولاية:
وهذه البيعة هي بيعة العقبة الثانية قال بن اسحاق:
ثم ان مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الانصار من المسلمين إلى الموسم مع
حجاج قومهم من اهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
العقبة من اواسط التشريق حين اراد الله بهم ما أراد من كرامته.
قال كعب، فقمنا تلك الليلة مع قومنا في رجالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من
رجالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتسلل تسلل القطا، مستخفين، حتى
اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة
بنت كعب "ام عمار" واسماء بن عمر بن عدي وهي "ام منيع".
قال فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (ص) حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن
عبدالمطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلاّ انّه احب ان يحضر امر ابن اخيه ويتوثق له.
فلمّا جلس كان أول متكلم العباس بن عبدالمطلب، فقال يا معشر الخزرج، ان محمداً منا
حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فمن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه
ومنعة في بلده، وقد أبى إلاّ الانحياز اليكم واللحوق بكم، فان كنتم ترون انكم وافون
بما دعوتموه إليه، وما منعوه فمن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك، وان كنتم ترون
انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم فمن الآن دعوه فانه في عز ومنعة من قومه
وبلده.
قال: فقلنا له قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربّك ما أحببت. قال
فتكلم رسول الله (ص) فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال ابايعكم
على ان تمتعوني مما تمنعون به نساءكم وابناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم
قال: نعم
والذي بعثك بالحق فينا لنمنعك مما نمنع منه ازرنا، فبايعنا رسول الله فنحن والله
أبناء الحروب وأهل الخلقة ورثناها كابراً عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله (ص)، ابو الهيثم بن التيهان فقال يا
رسول الله: ان بيننا وبين الرجال حبالاً انا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت ان
فعلنا ذلك ثم اظهرك الله ان ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله (ص) ثم قال:
بل الدم الدم والهدم الهدم، انا منكم وانتم مني احارب من حاربتم وأسالم من
سالمتم[6].
وكما نرى فهذا نوع آخر من البيعة قوامها الطاعة والتسلم لامامه ورسول الله صلى الله
عليه وآله والقبول بولايته وحاكميته، وهو يختلف اختلافاً واضحاً عن ببيعة العقبة
الاولى التي كانت تدور حول محور الدعوة وتعاليمها والالتزام بهذه التعاليم. وبيعة
الغدير من هذا النوع، إلاّ انها لأخذ العهد من الناس بالطاعة لـ "علي (عليه
السلام)" من بعده (ص) اماماً وولياً على المسلمين.
_________________________
[1] سيرة ابن هشام 2/70 - 75.
[2] هذه خلاصة يذكرها العلامة العسكري في معالم المدرستين، 1/155 عن الامتاع
والمآنسة للمقريزي 274 - 291 ويرويها ابن هشام في السيرة 3/330.
[3] سيرة ابن هشام، 3/330.
[4] مسند احمد بن حنبل، 4/51.
[5] مسند احمد 3/292.
[6] سيرة ابن هشام، 2/81 - 85.