القيمة التكريمية والتشريعية للبيعة
القيمة التكريمية للبيعة
البيعة بمعنى الميثاق والعهد على الطاعة مع الله تعالى، وهذا الميثاق يتم بارادة
الإنسان واختياره، فلا قيمة لبيعة المكره، وذلك ان الله تعالى أكرم الإنسان من دون
كثير من خلقه فطلب منه الانقياد لمنهجه وسنته عن ارادة واختيار ووعي.
يقول تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي). وهذا اصل هام من اصول هذا
الدين، لانكاد نفهم الإسلام من دونه.
فلا يريد الإسلام من المسلمين الانقياد والتسليم عن اكراه أو من دون وعي. بل يريد
منهم الاستجابة لاحكام الله تعالى عن قناعة واختيار والقناعة هي أساس الاختيار،
والاختيار حصيلة القناعة.
والنقاط التالية توضح هذه الحقيقة في الإسلام.
1ـ لقد اختار الله تعالى خليفة له فقال عز شأنه (واذ قال ربك اني جاعل في الارض
خليفة).
والخليفة هو الإنسان. وسبب هذا الاستخلاف ان الله تعالى قهر هذا الكون على
الاستجابة لارادته ومشيئته واحكامه وسنته قسراً من غير ارادة، وميز الإنسان من دون
سائر الجماد والنبات والحيوان فطلب منه، الاستجابة لارادته واحكامه بارادته
واختياره، وأوكل إليه امر تنفيذ احكامه من خلال ارادته واختياره وهذه هي "الارادة
التشريعية" لله تعالى في حياة الإنسان، في مقابل "الارادة التكوينية" لله تعالى
التي تجري في سائر هذا الكون من الجماد والنبات والحيوان.
وهذا التكريم الالهي للانسان هو الذي يؤهله ان يحل دون غيره محل الخلافة الالهية،
لينفذ ارادة الله تعالى ومشيئته وحكمه.
2ـ ومرحلة اخرى من مراحل التكريم الالهي للانسان ان الله تعالى لم يشأ ان يلزم
الإنسان بالطاعة والانقياد إلاّ من خلال العهد والميثاق الفطري، فيكون ملتزماً
بالطاعة لله ولرسوله من خلال هذا الميثاق الفطري الكامن في عمق فطرة الإنسان، والذي
لا ينفك من انسان على كل حال:
(وأخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انّا كنّا عن هذا غافلين) "الاعراف 172".
وهذا ميثاق وعهد بين الإنسان وبين ربه سبحانه وتعالى، يشهد بربوبية الله تعالى،
ويتعهد فيه بطاعته وهو ميثاق كامن في عمق فطرة الإنسان، اي انسان، إلاّ ان يصيبه
فساد واختلال في فطرته، بعد ان أتاه الله سلامة الفطرة وبذلك يكون الإنسان ملزماً
بالطاعة والتسليم والانقياد لله تعالى بموجب عهده وميثاقه وتعهده والتزامه[1].
فان الطاعة والالزام يتم على نحوين:
النحو الاول الالزام من فوق من غير أخذ موافقة الطرف الآخر، ومن غير اخذ التزامه،
كما يتم ذلك بالنسبة لاسرى الحرب والسجناء والرقيق والصغار غير الراشدين.
والنحو الثاني من الالزام الذي يأتي من ناحية التزام الطرف الآخر وقبوله للالزام
والتعهد.
كالالزام الذي يتعهد به الجندي الذي يتطوع للخدمة العسكرية، فهو حين يتطوع للخدمة
العسكرية يتقبل كل الالزامات والاحكام والاوامر التي تخص الخدمة العسكرية فتحكمه
الالزامات والاوامر العسكرية من خلال ارادته ورغبته وليس من فوق ارادته.
وليس شأن الجندي الذي يتطوع للخدمة العسكرية ويلتزم بقرارات وأوامر الخدمة العسكرية
شأن السجين أو الاسير الذي يطيع وينقاد وتفرض عليه الطاعة والالزام من فوق ارادته
ورغبته، ودون المرور بارادته ورغبته.
وقد شاء الله تعالى ان يكرم الإنسان فيحكمه من خلال وعيه وارادته ورغبته من خلال
الميثاق الذي يعقده العبد مع الله.
وهذا ميثاق فطري قائم في عمق نفس كل انسان، ولا يخلو من انسان إلاّ ان يفسد سلامة
فطرته وبموجب هذا الميثاق الفطري القائم في عمق نفس كل انسان بصورة حتمية العبودية
لله تعالى والطاعة والتسليم والانقياد له عز شأنه من خلال وعيه الفطري وارادته
ورغبته واختياره.
وهذا هو المعنى التكريمي الذي تنطوي عليه الميثاق، ولاستيعاب اكثر لهذه النظرية
يحسن الرجوع إلى الدراسة التفصيلية التي كتبها كاتب هذه الاسطر عن "آية الميثاق".
3ـ والبيعة تكريم ثالث للانسان يطلب فيها الإسلام من المسلمين ان يقرروا مصيرهم في
الدعوة والقتال والامرة والولاية بأنفسهم واختيارهم. وهذه النقاط الثلاثة "الدعوة
والدولة
والقتال" اهم النقاط السياسية في حياة الإنسان، فلا يريد الإسلام ان تتقرر حياة
المسلمين السياسية في غياب من ارادتهم ووعيهم واختيارهم.
ولا يعني ذلك بالطبع ان الإسلام يسمح لهم بالتجرد عن الالتزام تجاه الدعوة أو
الدولة أو الجهاد، فلابد للمسلم ـ إذا كان مسلماً ـ من الالتزام والطاعة، ولكن
الإسلام يعمل ويخطط لتكون هذه الطاعة عن وعي وقناعة واختيار وميثاق بين الإنسان
المسلم وبين الله ورسوله، على صعيد الوعي والاختيار، كما تم من قبل على صعيد الفطرة
في ميثاق الفطرة "آية الميثاق"، والبيعة تأكيد للميثاق الفطري الذي أعطاه الإنسان
لله تعالى من قبل في عمق الفطرة في نفسه.
وهذه خلاصة البحث عن القيمة التكريمية للبيعة، ويحتاج الامر في هذا الامر إلى مزيد
من الدراسة والتأمل والبحث.
القيمة التشريعية للبيعة
هل البيعة توكيد وتوثيق للامامة والطاعة، بعد افتراض ثبوتها بأدلتها واثباتاتها
الخاصة؟ ام انها شرط لصحة طاعة الامام "من قبيل شرط الواجب"؟
ام انها شرط لوجوب الطاعة وانعقاد الامامة "من قبيل شرط الوجوب"؟
ثلاثة آراء فقهية
الرأي الأول:
يرى جمع من الفقهاء، ان البيعة تأكيد وتوثيق للالتزام بولاية وسيادة ولي الأمر،
وليس انشاء للولاية كما هو مؤدى القول الثالث، وليس شرطاً لصحة الطاعة كما هو مؤدى
القول الثاني.
وعلى رأي هذه الطائفة من الفقهاء تثبت ولاية ولي الأمر بأدلتها واثباتاتها الخاصة،
ولا تتوقف الطاعة، لا وجوباً، ولا صحة على انشاء البيعة، ويستدل هؤلاء الفقهاء
ببيعة العقبة الاولى والثانية وبيعة الغدير.
فقد كانت ولاية رسول الله (ص) ثابتة قبل هذه البيعة، وبيعة المسلمين أو عدم بيعتهم
له (ص) في الاستجابة للدعوة والجهاد والأمرة لم تغير من حق رسول الله (ص) على
الاُمّة في الطاعة في امر الدعوة والجهاد والأمرة.
وكذلك الامرة كانت ثابتة لعلي (ع) بعد رسول الله (ص) بناء على رأي الامامية ـ في
غدير خم ـ ولم تثبت هذه الأمرة يومئذ ببيعة المسلمين له، وان كان رسول الله (ص) قد
امرهم بذلك، فان هذه البيعة لا تزيد قيمتها من الناحية التشريعية على تأكيد هذه
الولاية من ناحية والطاعة من ناحية اخرى.
وهو كلام وجيه ومعقول، لا أجد إلى مناقشته سبيل، وقد قرأت مناقشة الشيخ المنتظري
لهذا الرأي في كتابه "ولاية الفقيه"، إلاّ انني لم أتمكن ان اخرج بمحصل من قراءة
المناقشة[2]. في الغاء دلالة البيعة على تأكيد وتوثيق الطاعة والولاية، واثبات
المعنى الثالث للولاية الذي يقرّ به الشيخ حفظه الله.
واعتقد ان مدلول البيعة لا يزيد على هذا التأكيد والتوثيق فيما لو ثبتت الولاية
لأحد بنص خاص من الكتاب والسنّة كما في هذه الموارد في ولاية رسول الله (ص) وولاية
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على رأي الامامية.
اما عندما لا تثبت هذه الولاية بنص خاص كما في كل ولاية بعد رسول الله (ص) للخلفاء
على رأي أهل السنة، وكما في ولاية الفقهاء عند الامامية في عصر الغيبة، فان البيعة
تدل على انشاء الولاية، وبها تتم الولاية، وليس من قبلها ولاية لصاحبها على
المسلمين، وسوف تأتي زيادة توضيح لهذه النقطة في توضيح القول الثالث.
الرأي الثاني:
والرأي الثاني ان البيعة شرط لصحة الولاية من قبيل "شرط الواجب"، كما في علاقة
الوضوء بالصلاة، بمعنى ان الطاعة واجبة على المكلف تجاه الامام مع البيعة أو بدون
البيعة غير ان هذا الواجب لا يسقط عن عهدة المكلف إلاّ بالبيعة، ولا تصح منه هذه
الطاعة إلاّ بسبق البيعة، ولا يسقط عنه وجوب الطاعة من دون البيعة، كما لا يسقط عن
المكلف وجوب الصلاة إذا اداها من غير وضوء، فان الصلاة واجبة بالفعل على المكلف
سواء كان المكلف متطهراً ام لم يكن متطهراً، ولكن في الحالة الثانية يجب عليه ان
يتوضأ ليصلي، ولا تسقط عنه الصلاة ما لم يتطهر.
وهذا احتمال ضعيف جداً في تفسير علاقة البيعة بالطاعة لا يحتاج إلى ان نقف عنده
لننتقل إلى القول الثالث فليس في أدلة البيعة ما يشعر بهذا المعنى من المقدمية
اطلاقاً.
الرأي الثالث:
والرأي الثالث يفسر العلاقة بين البيعة والطاعة بالعلاقة القائمة بين "المقدمة
والوجوب" "لا الوجود"، فتكون البيعة هي الطريقة الشرعية لانشاء الولاية، وبالبيعة
تجب الطاعة على الرعايا وتنعقد الامامة والسيادة لولي الأمر، وقبل البيعة لا ولاية
للامام ولا طاعة على الرعية.
وهو الرأي الذي اختاره من الآراء الثلاثة، والى هذا الرأي يذهب بعض الفقهاء
المعاصرين. ولابد من تقديم توضيح لهذا الرأي ضمن مجموعة من النقاط:
النقطة الاولى:
ان ادلة ولاية الفقيه من قبيل "من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا
وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً".
ومن قبيل التوقيع الشريف "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا
فانهم حجتي عليكم".
ومن قبيل "مجاري الاحكام على أيدي العلماء".
.. اقول ان ادلة ولاية الفقيه المعروفة عند الفقهاء ليست ناظرة إلى ولاية كل فقيه
بمعنى "عموم النصب"، كما يذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء، لان عموم النصب معنى غير
معقول في الولاية العامة، لانه يستلزم ذلك ان يكون الفقيه الواحد والياً بالنسبة
للفقهاء الآخرين، وفي نفس الوقت مولى عليه وهو أمر غير معقول، بناء على عموم
الولاية.
وأيضاً يلزم من ذلك ان يكون للشارع طريقة جديدة في النصب والتعيين غير الطريقة التي
يعتمدها العقلاء في هذا المجال.
فان طريقة العقلاء في الولاية واحدة من اثنتين:
الاولى: تشخيص احد للولاية، وهي الطريقة التشخيصية.
والثانية: تحديد المواصفات التي تؤهل صاحبها للولاية، وهي طريقة "التأهيل".
وليس لدى العقلاء غير التشخيص والتأهيل طريق ثالثة، ومن المستبعد جداً ان يكون
للشارع طريقة اخرى غير هاتين الطريقتين التي يألفهما الناس.
ولما كانت النصوص التي ذكرناها لولاية الفقيه وأمثالها لا تدل على التشخيص فلابد ان
تدل على "التأهيل" وأما "النصب العام" فهو امر غريب وغير مألوف في أساليب العقلاء
في مثل هذا المورد، وأيضاً يؤدي عموم النصب إلى هرج غريب في الحياة الاجتماعية
والسياسية والامنية لا يمكن ان تقرها الشريعة مطلقاً.
وبذلك تنقلب العمومات والاطلاقات في أدلة ولاية الفقيه من "كل فقيه حاكم" إلى ضرورة
ان يكون "كل حاكم فقيهاً"، وليس العكس.
وفي الحقيقة يكون مفاد هذه الروايات هو اشتراط الفقاهة في ولي الأمر، وهو التفسير
الوحيد المعقول لعمومات واطلاقات ادلة ولاية الفقيه.
النقطة الثانية:
واذاعرفنا ان ادلة ولاية الفقيه لا تدل على "النصب" عموماً ولا خصوصاً في عصر
الغيبة وانما تدل على "التأهيل" فقط للولاية، فلابد ان يكون الشارع قد اعتمد اسلوب
العقلاء في عصر الغيبة في نصب الحاكم، فلا يمكن ان يهمل الشارع مسألة خطرة في حياة
المسلمين من قبيل مسألة الولاية والحكم، ولا يمكن ان يهمل الشارع تبيان الطريقة
التي يتم بها تعيين الحاكم والولي.
اذن لابد ان يكون الشارع قد أوكل أمر الاختيار إلى الناس انفسهم في هذا العصر ضمن
الشروط والمواصفات التي بينها الشارع لهم. واختيار الناس للحاكم هو معنى "البيعة"
الذي نتحدث عنه في هذه الدراسة.
النقطة الثالثة:
اذن "البيعة" تنشأ الولاية الشرعية للحاكم، والولاية تتطلب الطاعة من الرعايا، فلا
تكون البيعة تأكيدا وتوثيقاً للولاية الثانية للحاكم، وللطاعة الواجبة على الرعية،
في موارد النص العام، كما كان كذلك في موارد النص الخاص، وانما تكون البيعة شرطاً
ومقدمة لانعقاد الامامة للحاكم، ومن دون البيعة لا تنعقد الامامة لأحد، ولا تجب
الطاعة لأحد على احد.
وتكون علاقة البيعة بالطاعة والامامة عندئذ من قبيل علاقة مقدمات الوجوب بالوجوب،
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ودخول الوقت بالنسبة إلى الواجبات المؤقتة فلا تنعقد
الامامة ولا تجب الطاعة من دونها.
غير ان هذه المقدمة "وهي البيعة" بحد ذاتها تكون واجبة وجوباً غيرياً مقدمة لوجوب
نصب الامام و"اقامة الدولة الإسلامية"، فتكون البيعة واجبة لوجوب ذيها، وتجب الطاعة
بالبيعة.
فيكون تسلسل العلاقة بين "البيعة" و"نصب الامام" و"الطاعة" بالشكل التالي، "البيعة"
مقدمة وجودية "لنصب الامام" ومقدمة وجوبية لـ "طاعة الامام"، فان "نصب الامام" واجب
قطعاً، ووجوبه يقتضي وجوب "البيعة" من باب المقدمة فتجب البيعة وجوباً غيرياً مقدمة
لنصب الامام. و"النصب" من شروط "وجوب الطاعة" ولا تجب الطاعة قبل النصب. ولما كانت
البيعة مقدمة وجودية للنصب، فهي بالضرورة مقدمة وجوبية لطاعة الامام، وشرطاً من
شروط وجوب الطاعة.
ولا حاجة إلى القول بأن البيعة تجب ضمن الملاكات والمواصفات التي يحددها الشارع في
ادلة ولاية الفقيه والتي وجدنا انها منصرفة إلى معنى "التأهيل" من الفقاهة والعدالة
والكفاءة.
ولما كان من غير الممكن عادة اتفاق الناس عموماً على انتخاب الحاكم، كان لابد من
وضع بديل معقول عن اتفاق الناس وهذا البديل لابد ان يكون واحداً من اثنين، لا
محالة.
اما وجوه اهل الحل والعقد، أو انتخاب أكثرية الناس، وسوف يأتي تفصيل هذه النقطة في
المستقبل ان شاء الله تعالى.
____________________________
[1] هذا المعنى مشروح في بحث واسع عن «آية الميثاق» كتبه كاتب هذه السطور بعنوان
«الميثاق».
[2] ولاية الفقيه للشيخ حسين المنتظري، 1/525 - 527.