مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

البيعة السياسية.. دراسة فقهية مقارنة

النصوص المؤيدة

وقد ورد هذا المعنى في طائفة من النصوص الإسلامية نورد فيما يلي بعضها:
في عيون اخبار الرضا عن الرضا (ع) بالاسناد عن رسول الله (ص): "من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة، ويغصب الاُمّة امرها، ويتولى من غير مشورة، فاقتلوه، فان الله قد اذن ذلك"[1].
وفيه دلالة واضحة على ان الامرة تكون بمشورة اهل الرأي من المسلمين، ومن دونها لا تكون الامرة شرعية.
وعندما اقبل المسلمون على بيعة الامام علي (ع) بعد مقتل عثمان قال (ع): "دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم مني أميراً"[2].
وهذه ظاهرة في ان البيعة ملمزمة للرعية بالطاعة وان الامامة تنعقد بالبيعة، ولا تنافي هذه الحقيقة رأي الشيعة الامامية في ان الامام علي بن أبي طالب (ع) كان يرى انّه منصوب بالنص الخاص من جانب رسول الله (ص)، فان الامام يتحدث في هذا النص إلى الذين كانوا ينفون النص الخاص، فيتنازل لهم عن رأيه ويأخذ برأيهم فيه ويلزمهم ببيعتهم له بناء على رأيهم.
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع):
"وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماماً، كان ذلك "لله" رضا، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان ابى فاقتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى"[3].
وروى الطبري وابن كثير ان علياً (ع) حضر المسجد يوم البيعة وقال: "أيّها الناس.. ان هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمّرتم"[4].
إلى غير ذلك من النصوص، وهذه النصوص ان كانت لا تصلح من ناحية السند للاستدلال والاحتجاج فهي صالحة لتأييد ما سبق من الدليل العقلي قطعاً.
هذا هو الرأي الفقهي عند الامامية، وإذا كان هذا الرأي موضع بحث نظري من الناحية الفقهية بين الفقهاء في بعض جوانبه، فهو الرأي المتبنى والمعمول به من الناحية العملية في الجمهورية الإسلامية المعاصرة.
وبناء على هذا الرأي تنعقد امامة ولي الأمر ببيعة المسلمين له، وتجب طاعتهم عليه.
رأي فقهاء الجمهور في البيعة:
ولننظر الآن إلى رأي فقهاء الجمهور في البيعة وقيمتها التشريعية:
يرى عامة فقهاء السنة ان الامامة والولاية تنعقد للفقيه المتصدي بصورة فعلية وناجزة ببيعة جمع من أهل الحل والعقد يمثلون عادة ارادة مساحة واسعة من الاُمّة أو ببيعة مباشرة
من شريحة كبيرة من الاُمّة، بكيفية وكمية يعتد بها عادة في أمثال هذه المسائل التي يربطها الشارع بارادة الجمهور، إذا كان الفقيه يستجمع الشروط التي يطلبها الشارع في الامام.
والى هذا الرأي يذهب جمهور فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، وفيما يلي نذكر بعض كلمات هؤلاء الاعلام:
1ـ يقول ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفى 450 هـ:
"فاذا اجتمع اهل العقد والحل للاختيار تصفحوا احوال اهل الامامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا لبيعة منهم اكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعة، فاذا تعين لهم من بين الجماعة من اداهم الاجتاد إلى اختياره عرضوها عليه، فان اجاب اليها بايعوه عليها، وانعقدت بيعتهم له الامامة فلزم كافة الاُمّة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته"[5].
2ـ يقول القاضي عبدالجبار في "المغني" المتوفى في 415 "وان اقام بعض اهل الحل والعقد اماماً سقط وجوب نصيب الامام عن الباقين. وصار من اقاموه اماماً، ويلزمهم اظهار على ذلك بالمكاتبة والمراسلة لئلا يتشاغل غيرهم بامام غيره. وقد وقعت الكفاية، ولئلا يؤدي ذلك إلى الفتنة. فعدم مبايعة سائر افراد الاُمّة لا يؤثر في انعقاد الامامة، لان العقد تم بمجرد مبايعة اهل الحل والعقد، ولا يكون العقد صحيحاً إذا لم يبايع الامام أهل الحل والعقد"[6].
3ـ وقال ابو عبدالله القرطبي "671 هـ" في "الجامع لأحكام القرآن":
"الطريق الثالث لاثبات الامامة": اجماع أهل الحل والعقد وذلك ان الجماعة في مصر من امصار المسلمين إذا مات امامم ولم يكن لهم امام ولا استخلف فأقام اهل ذلك المصر الذي هو حضره الامام وموضعه اماماً لانفسهم اجتمعوا عليه، ورضوه، فان كل من خلفهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الامام إذا لم يكن الامام معلناً بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب اجابتها، ولا يسع احد التخلف عنها لما في اقامة امامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين قال رسول الله (ص): "ثلاث لا يفل عليهم قلب مؤمن اخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر". فان دعوة المسلمين من ورائهم محيطة[7].
4ـ ويقول ابن تيمية المتوفي 728 هـ في كتابه "منهج السنّة":
"الامامة عندهم (اهل السنة) تثبت بموافقة اهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل اماماً حتى يوافقه اهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الامامة. فان المقصود من الامامة انما يحصل بالقدرة والسلطان فاذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار اماماً، ولهذا قال ائمة السنة من صار له قدرة وسلطان فهو من اولى الامر الذين امر الله بطاعتهم ما لم
يأمروا بمعصية الله، فالامامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد واثنين ولا اربعة الا ان تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك"[8].
5 ـ ويرى (القلانسي) ومن تبعه ان الامامة تنعقد بعلماء الاُمّة الذين يحضرون موضع الامام وليس لذلك عدد مخصوص[9].
التسامح في عدد المبايعين عند فقهاء السنة:
بل ويتسامح الكثير من فقهاء السنة ومتكلميهم في العدد الذي ينعقد ببيعتهم الامامة، فمنهم من يحدد الحد الادنى منه بالاربعين، ومنهم بالخمسة ومنهم من يكتفي بالثلاثة، ومنهم من يكتفي بالاثنين، ومنهم من يكتفي ببيعة رجل واحد في انعقاد الامامة واليك طرف من كلماتهم.
6 ـ يقول القضاي عبد الرحمن الايجي الشافعي المتوفي 756 في "المواقف":
"(وتثبت الامامة) ببيعة اهل الحل والعقد، خلافاً للشيعة. (ثم قال) إذا ثبت حصول الامامة بالاختيار والبيعة فاعلم ان ذلك لا يفتقر إلى الاجماع، اذ لم يقم دليل من العقل أو السمـع بل الواحد والاثنان من اهل الحل والعقد كـاف"[10].
7 ـ قال ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفي 450 هـ في الاحكام السلطانية: اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الامامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة لا تنعقد الا بجمهور اهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لامامته اجماعاً.. وقالت طائفة اخرى تنعقد الامامة بخمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها احدهم برضا الاربعة استدلالاً بامرين: احدهما ان بيعه ابي بكر (رض) انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها.. والثاني ان عمر (رض) جعل الشورى في ستة ليعقد لاحدهم برضا الخمسة وهذا قول اكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها احدهم برضا الاثنين.. وقالت طائفة اخرى تنعقد بواحد لان العباس قال لعلي رضوان الله عليهما امدد يدك ابايعك فيقول الناس عم رسول الله (ص) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان[11].
8 ـ وذهب الجبائي من المعتزلة ان الامامة تنعقد بخمسة يجتمعون على عقدها[12]. وذكر جلال الدين المحلي في شرحه على منهاج الطالبين للنوري ان الامامة تنعقد بالبيعة من قبل اربعة[13] ونقل انها تنعقد بمبايعة ثلاثة لانها جماعة لا يجوز مخالفتهم[14].
وقيل ان الامامة تنعقد ببيعة رجلين من اهل الورع والاجتهاد، وهو رأي منسوب إلى سليمان بن جرير الزبدي وطائفة من المعتزلة[15].
ويذهب عدد من الفقهاء إلى انعقاد الامامة ببيعة شخص واحد فقط كما ذكرنا.
9 ـ يقول امام الحرمين الجويني المتوفي في 478 في "الارشاد إلى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد".
"اعلموا انّه لا يشترط في عقد الامامة اجماع، بل تنعقد الامامة وان لم تجمع الاُمّة على عقدها.. فاذا لم يشترط الاجماع في عقد الامامة لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود فالوجه الحكم بان الامامة تنعقد بعقد واحد من اهل الحل والعقد"[16].
10 ـ ويقول القرطبي المتوفي 671 هـ في تفسيره "الجامع لاحكام القرآن".
"فان عقدها واحد من اهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد الا بجماعة من اهل الحل والعقد.. قال الامام ابو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير امر. قال: وهذا مجمع عليه"[17].
11 ـ ويروي عبد القاهر البغدادي عن ابي الحسن الاشعري توفي سنة 330 هـ "ان الامامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من اهل الاجتهاد والورع، إذا عقدها لن يصلح لها فاذا فعل ذلك وجـب على الباقيـن طاعته"[18].
12 ـ ويقول البزدوي: "وحكى عن الاشعري انّه قال: إذا عقد واحد من اهل الرأي والتدبير، وهو مشهور لواحد هو افضل الناس عقد الخلافة يصير خليفة"[19].
وقد اشترط بعضهم في انعقاد الاماة بواحد الاشهاد على البيعة.
13 ـ يقول النوري في الروضة "الاصح انّه لا يشترط الاشهاد ـ ان كان العاقدون جمعاً، وان كان واحد اشترط الاشهاد"[20].
هل تنعقد الامامة بالثورة المسلحة من دون بيعة:
يذهب جمهور فقهاء السنة إلى انعقاد الامامة للحاكم بالثورة المسلحة والسيطرة على مراكز الحكم واسقاط نظام الحكم السابق، وفرض الادارة الجديدة بالقوة العسكرية، ولا يحتاج انعقاد الامامة حينئذ إلى عقد البيعة من قبل جمهور المسلمين أو من جانب اهل الحل والعقد. وهذا مذهب معروف وقديم عند اهل السنة.
14 ـ يقول ابو يعلى الفراء:
"فقال (احمد بن حنبل) في رواية عبدوس بن مالك العطار "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى امير المؤمنين فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه اماماً براً كان أو فاجراً". وقال (احمد) ايضاً في رواية ابي الحرث "إذا خرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم: تكون الجمعة مع من غلب" واحتج بان ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة، وقال: "نحن مع من غلب"[21].
15 ـ ويقول التفتازاني في شرح المقاصد:
"إذا مات الامام وتصدى للامامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكة انعقدت له الخلافة، وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الاظهر، وتجب طاعة الامام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلاً أو جائراً"[22].
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان:
"وجمهور العلماء على انعقادها بهذا الطريق سواء كانت شروط الامامة متوافرة في هذا المتغلب أو لم تتوافر فيه، حتى ولو كان المتغلب فاسقاً أو جاهلاً انعقدت امامته[23] بل لو تغلبت امرأة على الامامة انعقدت لها[24] وكذا إذا تغلبت عليها عبد[25] وذلك لان العلماء ينظرون إلى انّه لو قيل بعدم انعقاد امامة المتغلب لأدى ذلك إلى وقوع الفتن بالتصادم بين المتغلب ومعاونيه وبين الامام الموجود ومن يقف بجانبه ولانتشر الفساد بين الناس بعدم انعقاد الاحكام التي صدرت عن هذا المتغلب، وان من يتولى امامة المسلمين بعده عليه ان يقيم الحدود اولاً ويأخذ الجزية ثانياً.
بـل ان العلماء نصـوا على انّه لو تغلب آخر على هذا المتغلب فقعد مكانه انعزل الاول وصار الثاني اماماً تغلب[26]، فالعلماء يقارنون بين نوعين من الشر، فيختارون اهونها إلى الاُمّة ولا يفتون بتعريضها لاعظم الشرين"[27].
___________________________
[1] عيون اخبار الرضا 2/62 باب 31 ح 254.
[2] نهج البلاغة ـ صبحي الصالح ـ 136 خطبة 92.
[3] نهج البلاغة، صبحي الصالح، 367، كتاب 6.
[4] الطبري، 6/3077 و3076، وابن الاثير، 3/193.
[5] الاحكام السلطانية للماوردي، ص 7، ط مصطفى البابي 1386 هـ.
[6] المغني في أبواب التوحيد والعدل املاء القاضي عبدالجبار بن احمد، الجزء المتم العشرين، القسم الاول في الامام، ص 303 ط 1966.
[7] تفسير القرطبي 1/168 ـ 169 الطبعة الثالثة.
[8] منهاج السنة النبوية1/141ط سنة 1321.
[9] رئاسة الدولة للدكتور محمد رأفت عثمان، ص265 نقلاً عن اصول الدين للبغدادي 281.
[10] شرح المواقف، 3/265.
[11] الاحكام السلطانية للماوردي ص6 ـ ص7 ط مصطفى الحلبي.
[12] الفصل في الملل والنحل، لابن حزم، 4/167 ط سنة 1321.
[13] شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للنوري، الجزء الرابع، ص173، مطبعة علي صبيح.
[14] نفس المصدر.
[15] اصول الدين للبغدادي 381 برواية د. محمد رأفت عثمان في كتاب رئاسة الدولة.
[16] الارشاد إلى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد، ص424، مطبعة السعادة بمصر.
[17] تفسير القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، 1/269، الطبعة الثالثة، ط دار الكتب المصرية.
[18] - اصول الدين لعبد القاهر البغدادي 280 ـ 281 بحكاية د. محمد رأفت عثمان في رئاسة الدولة 266.
[19] اصول الدين للبزدوي 189 بحكاية د. محمد رأفت عثمان في رئاسة الدولة 266.
[20] الروضة للامام النووي برواية د. محمد رأفت عثمان، ص267.
[21] الاحكام السلطانية لابي يعلى، ط اندونيسيا، 23/24.
[22] شرح المقاصد، 2/272.
[23] مآثر الانافة في معالم الخلافة، لاحمد بن عبد الله، ج1، ص58.
[24] ارشاد الساري للقسطلاني، ج10، ص263.
[25] المصدر السابق، ص264.
[26] حاشية ابن عابدين، ج3، ص478.
[27] رئاسة الدولة في الفقه الاسلامي، 293 ـ 294.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية