مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

البيعة السياسية.. دراسة فقهية مقارنة

مناقشة رأي فقهاء الجمهور

وهذا دليل لا يسلم عن المؤاخذة والمناقشة.
ونلخص نحن مؤاخذتنا على هذا الاستدلال في نقطتين:
النقطة الاولى: ان الاصل في الموقف الشرعي من الفئات الظالمة التي تغتصب السلطة ليس
هو الاستسلام والقبول أو الانقياد، وانما الموقف الاسلامي هو الرفض والرد والمواجهة وتحريم الركون، وهو الموقف الصريح في القرآن يقول تعالى:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (هود، 113).
ويقول تعالى: (ولا يطيعوا امر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون) (الشعراء، 151 ـ 152).
ويقول تعالى: (ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا) (الكهف، 28).
ويقول تعالى: (الم تر إلى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به، ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيدا) (النساء، 60).
وقد يتفق ان تعجز الاُمّة عن تأدية فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسقط عنها هذه الفريضة الإسلامية ويرتفع عنها وجوب الرد، والمقاومة، فيما إذا كان من غير الممكن احباط الثورة المسلحة ونصرة الامام العادل المغلوب على امره وتمكينه من الحكم، وكانت المقاومة تعود على الاُمّة بمردود سلبي ضره اكثر من نفعه وتودي إلى تمكين الظالمين من ابادة الفئة المؤمنة المقاومة. ولكن هذه الحالة استثناء وليس باصل والاصل هو المقاومة، ولا ينفي هذا الاستثناء في ظرفه الخاص به، الا ان الاستثناء لا يجوز ان يتحول إلى الاصل وعندما نستعرض كلمات هؤلاء الاعلام نجد انهم يقررون الحكم بالتسليم والركون والانقياد وحرمة المعارضة والمقاومة على نحو الاصل وليس على نحو الاستثناء وقد قرأنا قبل قليل كلمة الامام احمد برواية عبدوس بن مالك القطان: "ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي امير المؤمنين لا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه إماماً، وبراً كان أو فاجراً".
وحتى فيما إذا كان من غير الممكن اعادة الولاية والامامة إلى اهلها واقتضى الامر التسليم فان هذا التسليم امر مؤقت، وعلى المسلمين العمل والاعداد لاسقاط الحاكم الظالم، ويجب العمل لهذا الاعداد حتى في فترة التسليم ومسايرة النظام الحاكم.
وهذه كلها حقائق واضحة لا يمكن التشكيك فيها بينما مذهب جمور فقهاء السنة إلى وجوب الانقياد.
وجوب الانقياد للحاكم المتسلط (التسليم له وقبول امامته وحرمة معارضته من دون قيد أو شرط ولا مبرر على الاطلاق لمثل هذا الاطلاق).
النقطة الثانية: ان مال هذه الاستدلال ـ إذا سلم من المؤاخذة الاولى ـ إلى قاعدة الضرر المعروفة لدى الفقهاء والتي تتبنى على الحديث المعروف عن رسول الله (لا ضرر ولا ضرار).
وتقرر الاستدلال بقاعدة الضرر ان تحريم الركون إلى الظالمين ووجوب المقاومة والرفض عندما يتسبب للفئة المؤمنة بضرر بليغ، ويكون ضره اكبر من نفعه فان قاعدة الضرر ترفع الحكم بتحريم الركون إلى الظالم ووجوب مقاومته، ما دام هذا التحريم والوجوب يكون سببا في الاضرار بالمؤمن، اذن فان قاعدة الضرر ترفع حكم الحرمة عن اطلاق قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) وترفع النهي عن طاعة المسرفين في قوله تعالى: (ولا تطيعوا امر المسرفين) وليس من شك ان القاعدة حاكمة على اطلاقات الاحكام الاولية بمعنى انها تضيق المحمول في هذه الاطلاقات وتقيده بما إذا لم يكن ضررياً فاذا كان ضررياً ارتفع الحكم بموجب دليل هذه القاعدة كما ان وجوب الصلاة والوضوء والصوم في اطلاقات الصلاة والوضوء والصوم يرتفع في حالات الضرر بمقتضى قاعدة الضرر وهذا احد نحوي الحكومة، والنحو الآخر للحكومة هو تصرف الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم بالتوسعة أو التضيق.
ومهمة دليل قاعدة الضرر هو التصرف في ناحية المحمول ورفع الحكم (المحمول) فيما إذا كان ضررياً. والحكم الذي يرفعه دليل قاعدة الضرر اعم من ان يكون حكماً تكليفياً كما في الامثلة المتقدمة أو حكماً وضعياً كاللزوم في المعاملات الضرورية.
فان دليل قاعدة الضرر ينشأ منه الضرر على المكلف سواءاً كان حكماً تكليفياً كوجوب الصلاة والصيام أو حكماً وضعياً كاللزوم في المعاملة.
وليس لدليل (الضرر) تأثير في وضع الحكم الذي يكون عدمه ضررياً للمكلف سواءاً في ذلك الحكم الوضعي والحكم التكليفي. فان دليل (لا ضرر ولا ضرار) لا يزيد مقتضاه على النفي ورفع الحكم الذي يتسبب في اضرار المكلف، دون اثبات الاحكام التكليفية والوضعية التي يتضرر المكلف من عدمها.
ولذلك يقول الفقهاء ان دليل الضرر رافع فقط وليس بمشرع، ولا واضع، فلا يمكن اثبات الضمان مثلاً بقاعدة الضرر في المعاملات التي يترتب فيها الضرر على عدم الضمان.
وعليه فلا يمكن الاستدلال بهذا الدليل إذا صح الاستدلال به في اكثر من رفع الالزام بمعارضة الحاكم الظالم المتغلب، ورفع وجوب النهي عن المنكر، ومقاومة الفئة الظالمة المتغلبة على الامر، وهذا هو اقصى ما يمكن استفادته من دليل الضرر الذي هو روح الاستدلال الذي قرأناه في النص المتقدم، ولا يتكفل دليل الضرر قطعاً اثبت شرعية الادارة التي قامت بصورة غير مشروعة وانعقاد الامامة للحاكم الذي فرض سلطانه على المسلمين بالانقلاب العسكري، من دون بيعة ورضى من المسلمين، كما لا يثبت دليل الضرر صحة الزواج الذي يعقده الحاكم الذي جاء بطريقة غير مشروعة لغير البالغة ولغير البالغ، ولا يثبت حق الحاكم في اجراء الحدود الشرعية، أو شرعية نزع الاملاك وجباية الاموال، فان مقتضى دليل الضرر كما ذكرنا لا يزيد على الرفع ولا يصل إلى مرحلة الوضع.
وليس ما وراء هذا الدليل دليل آخر للحكم بوجوب الانقياد للظالم المتغلب على البلاد.
شرط الفقاهة في صحة بيعة ولي الأمر
ونخصص هذا الشرط من شروط صحة البيعة بتفصيل اكثر من وجهة نظر المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة.
اما عند الشيعة الامامية فلا نكاد نجد خلافاً يذكر في هذه المسألة. فمن قائل بتخصيص الولاية بخصوص الفقيه، وقائل بان الفقاهة هو المقدار المتيقن من شرعية الولاية.
وقد وردت طائفة من النصوص في اشتراط الاجتهاد والفقاهة في ولي الامر، وفيما يلي نذكر جملة من هذه النصوص:
منها ما رواه حسن بن شعبة عن السبط الشهيد الحسين (ع)، "مجاري الامور والاحكام على ايدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه"[1].
وعن الفضيل بن يسار قال سمعت ابا عبد الله (ع) يقول: "من خرج يدعوا الناس وفيهم من هو اعلم منه فهو ضال مبتدع"[2].
وروى البرقي في المحاسن عن رسول الله (ص) قال: "من أمّ قوماً وفيهم اعلم منه أو افقه منه لم يزل امرهم في سفال إلى يوم القيامة"[3].
وعن علي (ع): "ايها الناس ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليهم، واعلمهم بأمر الله فيه، فان شغب شاغب استعتب، فان أبى قوتل"[4].
ومن طرق السنة روى البيهقي عن ابن عباس عن رسول الله(ص): "من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم ان فيهم اولى بذلك منه، واعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين"[5].
ويذهب إلى اشتراط الفقاهة والاجتهاد في (ولي الامر) جمهور فقهاء اهل السنة. يقول السيد شريف الجرجاني من المتكلمين في شرحه على المواقف للقاضي عضد الدين الايجي: "الجمهور على ان اهل الامامة ومستحقها من هو مجتهد في الاصول والفروع ليقوم بأمر الدين متمكناً من اقامة الحجج، وحل الشبه في العقائد الدينية، مستقلاً بالفتوى في النوازل واحكام الوقائع: نصاً واستنباطاً، لان اهم مقاصد الاُمّة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ولن يتم ذلك بدون هذا الشرط"[6].
ومن الفقهاء يقول الامام الشافعي في شروط الامامة: "والعلم بحيث يصلح ان يكون مفتياً من اهل الاجتهاد"[7].
وذهب ابن الهمام من علماء الاحناف إلى اشتراط العلم في الامامة، ولم يقيد العلم بخصوص الفقاهة، ويظهر ان يقصد بالعلم ما يمكّن الامام من ممارسة دوره في الامامة.
ولكنه اضاف هذا التخصيص فيما بعد فقال: "وزاد كثير الاجتهاد في الاصول والفروع"[8].
ويقول القلقشندي في مآثر الاناقة في معالم الخلافة في شروط الامامة:
"العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والاحكام، فلا تنعقد امامة غير العالم بذلك"[9].
ويقول النووي: "شروط الامامة وهي كونه مكلفاً مسلماً عدلاً، حراً، ذكراً، عالماً، مجتهداً"[10].
ويذهب جمع من الفقهاء إلى ان اشتراط الفقاهة في الامام مما اجمع عليه الفقهاء ومن هؤلاء شمس الدين الرميلي يقول: "ان هذا الشرط لابد منه في الامامة كالقاضي واولى بل حكى فيه الاجماع"[11].
ويدعي الاجماع كذلك صاحب البحر الزخار يقول: "العلم فيجب كونه مجتهداً اجماعاً ليتمكن من اجراء الشريعة على قوانينها"[12].
____________________________
[1] تحف العقول لحسن بن شعبة، 237.
[2] وسائل الشيعة، 18/564.
[3] المحاسن للبرقي 1/93.
[4] نهج البلاغة، صبحي صالح، 247، الخطبة 173.
[5] سنن البيهقي، 10/118.
[6] شرح المواقف للسيد شريف الجرجاني 8/349 مطبعة السعادة، 1907.
[7] الفقه الاكبر للامام الشافعي 39 المطبعة الادبية.
[8] المسامرة في شرح المسايرة للكمال بن الهمام 162 ـ 168 مطبعة السعادة 1347.
[9] مآثر الاناقة في معالم الخلافة للقلقشندي، 1/37.
[10] روض الطالبين للنوري برواية د. رأفت عثمان في «رئاسة الدولة» ص135.
[11] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن ابي العباس الرميلي 7/389.
[12] البحر الزخار، 5/379 مطبعة السنة المحمدية.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية