ولكي يكون المجتمع هادئاً ويبقى الانسجام فيه، لابد أن يكون المواطنون جميعاً بلا
استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ طموح واحد، مخادع
واحد، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب سوقاً رائجة في مواطنيه الأتقياء، فالبر
المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءاً بالجار. وما أن يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في
أن يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة حتى يصير رجلاً يحف به التكريم،
فالله يريد له أن يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجان الذي
يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماماً لطرد المتعصب، إذ لابد لذلك
من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة
المسيحي. وعلى كل حال ماذا يهم ان يكون الانسان حراً أو عبداً في وادي البؤس هذا؟
الجوهري هو الذهاب الى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة في سبيل ذلك.
وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة الى المعركة، ما من أحد منهم يخطر
على باله الفرار، انهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون
أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون! فماذا يهم إذا كانوا منتصرين أو مهزومين؟
ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟
فماذا ينبغي أن تكون عقائد الدين المدني اذن؟
يجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة وقليلة العدد، ومحددة بدقة دون تفسير ولا
تعليق.
إن الايمان بوجود إله قادر ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وسعادة الصالحين،
وعقاب المسيئين، وبقدسية العقد الاجتماعي، وبالقوانين، هي التي ينبغي أن تكون عقائد
للدين المدني مع التسامح الديني مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها. ومن يفرق
بين التسامح المدني والتسامح الديني ويؤمن بالأول مخطئ، فإن هذين النوعين من
التسامح أو عدم التسامح لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فمن المستحيل العيش مع أناس
يعتقد بأنهم هالكون، فحبهم يعني كره الله الذي يعاقبهم، فلا بد
قطعاً من إرجاعهم الى الدين القويم أو من تعذيبهم، والآن إذ لم يبق ولا يمكن أن
يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها
بقد ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن"(10).
والحقيقة الواضحة من خلال مطالعتنا لهذا النص هي: أن روسو نظر الى الدين من خلال ما
صورته له الأديان المخترعة أو المنحرفة التي ابتليت بما أفقدها روح الدين الحقيقة
وحولها الى تعاليم جافة بعيدة عن منطق الحضارة والحياة. أما الاسلام فإنه يبرأ من
هذه التصورات. فإذا أردنا محاسبة روسو على ضوء الاسلام وتعاليمه وجدنا الكثير من
نقاط الضعف في كلامه. ونحن هنا نركز على بعضها موضحين الواقع في كلمات:
الأولى:
ذكر في النوع الثالث من الأديان: أنه يفترض نظاماً ووطناً وقوانين دينية في قبال
النظم والقوانين والوطن الذي يفترض في اطار السلطة الحاكمة، مما يوزع الانسان بين
وطنين ونظامين ورئيسين، ورتب على ذلك الفساد المتوقع والتمزق الذي يعرقل المسيرة
الاجتماعية.
والاسلام لا يمتلك مثل هذا التصور، انه يجعل الله هو المشرع وهو الحاكم الحقيقي
والمخطط لمسيرة الأمة وحده، لا شريك له في العبودية والتشريع كما لا شريك له في
الذات.
وبالتالي فلن يفترض توزع الأمة المسلمة بين نظامين، فليس إلا نظام واحد يحقق
السعادة الاجتماعية دون غيره ويرسم للانسان طريق الكمال الحقيقي له، موجهاً لكل
نشاطاته وحالاً كل مشاكله على ضوء علم الهي غير محدد بالكون والانسان.
وهكذا فالمجتمع المسلم الحق هو المجتمع الذي يرفض أي سلطة غير سلطة الاسلام.
الثانية:
إن روسو ـ من خلال حديثه ـ يقيم الدين وواقعيته على أساس نفعه للدولة ومدى ما يحققه
من إمكانات لها في تسيير أمور المجتمع المدني، فالمقياس الأعلى لتقييم الدين هو مدى
نجاحه في عجلة التنظيم المدني والسياسي.
وهذا مقياس مقلوب، فالعلاقة الحقيقية بالدين يجب أن تتم على ضوء مطابقته للواقع
ومدى توفر الاثباتات العقلية والفطرية والمدارك المقنعة على صحة معتقداته واقعاً
وصحة نسبته الى الله تعالى. فإذا توفر الدليل التام على صحته، منحته البشرية زمامها
لينظمها ويوجهها، لا أنها تبدأ أولاً ببناء نظامها مستقلة على السماء ثم لا تقبل أي
دين إلا إذا أثبت جدارته في إعانتها على تمشية أمور نظامها المدني المذكور.
الثالثة:
أكد روسو في النوع الثاني من الأديان على أنه يلقي المجتمع في الخرافات والأوهام،
ويغرق عبادة الله في طوفان من الطقوس الجوفاء. أما الاسلام فنرى أن نظام العبادات
فيه وما يحققه من معطيات وآثار أساسية على المسيرة الحضارية للانسان والسير
التكاملي للمجتمع خالية من الأوهام الوثنية وغيرها، تكفي لنفي هذا التصور عن الدين
الحقيقي.
ويتجلى هذا بوضوح لو لاحظنا البناء الاسلامي الكل ودور العبادات البارز في هذا
التصميم الرباني للحياة.
أما الشفعاء والشفاعة فقد وضعها الاسلام، في الاطار الإيجابي البنّاء الباعث على
الأمل والمحقق لغايات كبرى، نافياً عنها السلبيات المتصورة في الشفاعات الخرافية.
الرابعة:
انه ذكر بالنسبة للقسم العالمي من الأديان أن أصحابه يعرفون كيف يموتون أكثر مما
يعرفون كيف ينتصرون، وطبّقه على المسيحية الواقعية التي تربي أتباعها على الزهد
بالدنيا والاهتمام بخلاص الروح من أسر هذه المتع الزائلة، وعدم المساهمة بالتالي في
تحقيق أهداف المجتمع في النصرة والعزة.
وهذه التصورات ـ التي طبقها على ما افترضه هو ـ مسيحية واقعية بعيدة كل البعد عن
الاسلام.
فإن الاسلام يعتبر الجهاد في سبيل النصر الاسلامي وعزة المجتمع المسلم وتطبيق أهداف
الاسلام في المجتمع من أفضل العبادات. ومما لا شك فيه أن الدوافع الحركية في هذا
السبيل تتجاوز كثيراً الدوافع المصلحية الضيقة للنصر.
إن الانتصار في خلد المسلم يعني دفع عجلة التقدم الانساني ذي المسيرة الواحدة عبر
التاريخ الى هدفها النهائي العظيم، وهو تحقيق المجتمع الكامل العابد الموحد المتنعم
بكل خصائص السعادة الحقيقية. وكل مسلم مكلف في تحقيق أقصى ما يمكن في هذا السبيل.
وما أكثر النصوص الواردة المؤكدة على الإعداد الكامل لذلك من مثل:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(11).
ان المؤمن ليهتم بمصالح مجتمعه أكثر من اهتمامه بذاته ومصالحها، ومن هنا كان الزهد
في الاسلام عملية تحرير من أسر المصالح الدنيوية الضيقة وعلوّاً معنوياً للنفس
عليها، فلا يأسى على ما فاته ولا يبطر بما حصل عليه منها.
إن النظم الاسلامية كفيلة بتنظيم الحياة وبتسييرها وإقامة العدل وإسعاد المجتمع على
أفضل الأشكال، وهذا مما يحتاج الى دراسة مستقلة واسعة لسنا في هذا الكتاب بصددها
إلا بقدر ما يرجع الى أساس نظام الحكم في الاسلام.
الخامسة:
طرح (روسو) موضوع عداء الدين الإقليمي للآخرين وإلقائه روح التمزق بين البشر.
والواقع أن علينا أن نتوقع هذا التمزق مع تحكم المقاييس المادية في الأنظمة
الاجتماعية، أما إذا رجعنا الى الاسلام وتوحيده للمقاييس الإنسانية تحت عنوان (رضا
الله) فقد حق لنا أن نتوقع السلام وعدم التمزق، أما موقف الاسلام ـ في المرحلة التي
تسبق توجيهه للعالم ـ من غير معتنقيه، فإنه يختلف عما تصوره (روسو) بالنسبة للدين
الاقليمي:
في أن الاسلام ـ وإن كان ينظر بعداء إلى من يخالفه ـ لكن هذا لا يعني السماح بقتله،
بل إذا تجاوزنا المشركين الذين هم معاندون لإنسانيتهم، يسمح الاسلام للمتدين
الكتابي بالبقاء على دينه على شروط معينة عادلة.. وربما فضل الإحسان الى هؤلاء كما
هو مبين في محله.
على أن هذا العداء له مبرره المنطقي في ضوء ما قلناه في الكلمة الثانية والرابعة من
تقييم الدين على أساس الواقع وضمانه للعدالة وإسعاد المجتمع، فإذا أثبت الدين
واقعيته وقيامه على ضوء أسس العدل والمصالح الواقعية فإن أي مخالفة له في الواقع
تعني مخالفة العدالة الحقيقية والمصلحة الواقعية للإنسانية.
وبعد هذا نقول: إن الاسلام بكل ما يمتلكه من خصائص حقق انتصاراً عظيماً في مجال
توحيد السلطتين الدينية والدنيوية، الأمر الذي فشلت فيه المسيحية ـ كما يؤكد ذلك
روسو ـ ويمدح النبي محمداً (ص) على هذا الأساس ويظن ان ذلك من عبقريته وبراعته
الادارية، غافلاً عن أن المجال ليس مجال عبقرية وبراعة انسانية، بل هو قائم على
أساس طبيعة الاسلام وروحه الحقيقية، مما نزل على النبي محمد (ص) بالوحي.
يقول روسو بهذا الصدد: "لما كان يوجد دائماً أمير وقوانين مدنية، فقد نتج عن هذه
السلطة المزدوجة نزاع أبدي في الاختصاص جعل أي سياسة صالحة مستحيلة ـ في الدولة
المسيحية ـ ولم يصل الناس الى معرفة نحو من يجب أن يلتزموا بالطاعة أللسيد أم
للقسيس؟… وكان لمحمد نظرات صائبة جداً، فقد أحسن ربط نظامه السياسي، ومادام شكل
حكومته قد دام في ظل خلفائه، فإن هذه الحكومة كانت واحدة تماماً وصالحة في هذا،
وحين أصبح العرب مزدهرين ومثقفين وبالتالي مخنثين فإن البرابرة أخضعوهم، وعندئذ بدأ
الانقسام بين السلطتين من جديد. وعلى الرغم من أن هذا الانقسام لدى المسلمين أقل
ظهوراً منه لدى المسيحيين فإنه موجود فيهم في كل مكان وخاصة في شيعة علي، وهناك دول
كالفرس لا ينفك ظاهراً فيها"(12).
هذا، وروسو يعالج مشكلة الفصل بين السلطتين بسحق سلطة الدين وتمييعه وتلخيصه في
كلمات مختصرة، وهو علاج صحيح لو كان المنظور إليه هو المسيحية التي ينظر إليها، أما
علاج المشكلة الحقيقي فهو عبارة عن توحيد السلطتين الذي قام به الاسلام على ضوء
تعاليم السماء لا لمجرد براعة الرسول (ص) في الادارة.
كيف نفهم الوطن؟
ما يستنتج من النص المتقدم لروسو هو:
أن الوطن عبارة عن الأرض التي يعيش عليها جماعة شكلوا أطرافاً للعقد الاجتماعي
وأنشأوا شكلاً من أشكال الدولة.
ولكن هذا المفهوم عن الوطن يرفضه التصور الاسلامي للدولة ـ كما سيأتي عرضه ـ وإنما
الوطن عند الاسلام هو كل بلاد المسلمين، حيث تحكمها دولة إسلامية واحدة بقانون
إسلامي واحد شرعته لها السماء، ولم يقم على أساس من تعاقد اجتماعي وأمثاله.
ولا يمكننا تصور دول إسلامية عديدة في حال وجود الامام (ع)، أما في حال غيبته فيمكن
تصور مناطق عديدة تحكمها رئاسات، ولكنها كلها تطبق النظام الاسلامي بما فيه من
تشريعات، وهي جميعاً تحكم بالنيابة عن الامام (ع).
وعليه.. فليست لدينا في التصور الاسلامي أوطان متعددة وانما هناك وطن إسلامي واحد
هو ما يدعى في الفقه الاسلامي (دار الاسلام)، ونقترح حصر التعبير عن الأرض
الاسلامية بهذا الاصطلاح، وقصر التعبير بالوطن على مجال أحكام المسافر حيث يختلف
حكم المسافر في وطنه (أي الأرض التي يقيم بها) عنه في حالة سفره الى أماكن أخرى.
والذي يدعونا الى هذا الاقتراح هو ما يحمله مصطلح الوطن العام من إيحاءات غربية
تبرر اختلاف الوطنين على أساس اختلاف العقد الاجتماعي للمجموعتين اللتين تسكنان على
قطعتين من الأرض، أو على أساس الاختلاف القومي او العنصري أو الجغرافي أو حتى مجرد
اختلاف مناطق النفوذ القائم على أساس القوة العسكرية ونحو ذلك. هذا، بينما يرى
الاسلام أن الفاصل الحقيقي بين الوطنين هو الإيمان والكفر لا غير.
الملاحظات على الديموقراطية
استعرضنا فكرة الديموقراطية وما ادعته من مبررات وجدانية وما أجابت به عن بعض
العقبات التي طرحت في وجهها وعرفنا مركز الدين في هذه الأطروحة، ونعود الآن لنعرض
العقبات والملاحظات مرة أخرى بصياغة توضح أن الديموقراطية لا تملك لها جواباً. وهي
كما يلي:
الملاحظة الاولى:
سحق حقوق الأقلية
فإن الديموقراطية تؤدي الى سحق حقوق الأقلية، بعد أن لم نكن نملك ضماناً معقولاً
على موافقة الجميع على أية قضية مطروحة حتى قضية الالتزام بمبدأ الأكثرية، فمع
افتراض وجود أقلية ترفض الموافقة على هذا المبدأ، كيف نتصرف معها؟
وهنا يتصدى جان جاك روسو للقول بأن الدولة تقوم فيما بين المشتركين في العقد
الاجتماعي، أما هذه الأقلية فتعود غريبة بين المواطنين، وإذا صممت بإرادتها الحرة
على البقاء في الاقليم فإن ذلك يعني رضاها في الدخول في العقد والخضوع للسيادة، فلا
تبقى لدينا مشكلة اسمها مشكلة الأقلية.
لكن السؤال المحير هو عن الداعي لتخييرها بين الإقامة في الاقليم، وهذا يعني خضوعها
للسيادة، أو الرحيل عنه، وعدم ترك خيار ثالث لها، وهل اعترفت هي أصلاً بالدولة
وقدرتها على وضع هذا الخيار أمامها حتى تلزم باعترافها؟ ان لها أن تبقى في الاقليم
دون ان يعني ذلك أي تسليم وخضوع للسيادة والعقد الاجتماعي.
ولا معنى هنا لأن نفترض انقطاع الروابط تماماً بين جماعة الغرباء الذين يسكنون
الاقليم والجماعة التي دخلت في العقد الاجتماعي فشكلت الدولة، فلا تبقى أية مشكلة
في البين.
لا معنى لذلك، فإن كل دولة لابد وأن تحدد نوعية علاقة مواطنيها بغيرهم، وتضع
أسلوباً لعيش غير المواطنين في كنفها وتفرض عليها حدوداً معينة. فإذا كان الأمر
كذلك ثار السؤال مرة أخرى عن مبرر تحديد حرية هذا الانسان الذي لم يوافق على العقد
وتنفيذ ولاية الدولة عليه، رغم أنه لا يعترف بها ولم يشترك في عقد يبررها! إن
الديموقراطية بأزاء هذا لا تمتلك أي جواب مقنع.
الملاحظة الثانية:
رأينا في الملاحظة الأولى أن الأكثرية لابد وأن تتحكم برأي الأقلية بلا مبرر في
النظام الديموقراطي.
وما نلاحظه هنا هو عكس هذا الأمر ـ مما يشدد النكير على الديموقراطية ـ ونعني به
تحكّم الأقلية برأي الأكثرية في نهاية الأمر.
ولكن كيف يتم ذلك؟!
انه مع افتراض وجود تفاوت مالي أو اختلاف في المزايا الأخرى كالدهاء والعلم والنفوذ
السياسي والاجتماعي والديني وأمثال ذلك في المجتمع، يعود من الطبيعي أن توجد هناك
أقلية تمتلك بعض هذه المزايا.
كما أن من الطبيعي أن تسخّر هذه الفئة الممتازة إمكاناتها المالية والسياسية
والاعلامية والدينية وغيرها في سبيل شراء الأصوات أو التمويه على الرأي العام وجره
للموافقة على تحقيق رغبات الأقلية، وبالتالي التحكم في اتجاهات رأي الأكثرية.
أما ادعاء علاج هذا القص بتطبيق مبدأ المساواة ـ ولو كانت مساواة نسبية ـ في المال
أو في القدرة والقوة فلا تمارس القوة إلا بتأثير من مركز الدولة أو السلطة
القانونية ـ فهو أمر لا يحل المشكلة بتاتاً؛ ذلك أن مبدأ المساواة لا يتم إلا على
أساس قيام الدولة بتطبيق مخطط اقتصادي واسع الأبعاد، وفرضه بمختلف الأساليب
وبتنظيمه للقوى.. هذا، ونحن لازلنا نتحدث عن مبررات قيام الدولة بفرض أي سلطة على
الشعب.
على أن مجرد فرض تفاوت ما ـ ولو كان نسبياً ـ في مجتمع غير شيوعي يؤدي لا محالة
لإمكانية استغلال الأصوات بالشراء أو بالدعاية والتمويه.
إلا أن يدعي أنصار الديموقراطية أن الحكومة بنفسها تقوم بسد الطريق على هذه الفئة
القليلة وتمنعها من التأثير بالمال.
ولكن يعود هنا ما قلناه من أننا مازلنا نتحدث عن مبرر تسلط الحكومة نفسها، فكيف
ندعي انها تقوم بإعمال سلطتها في تحقيق شرعية الانتخابات ونزاهتها، وهي ـ أي
الحكومة بنفسها ـ تفتقد المبرر الشرعي لنفوذها؟!
على أننا إذا افترضنا وجود سلطة حكومية تمنع عن استغلال الأقلية لقدراتها ضد
الأكثرية لم يكن لدينا ما يضمن عدم تسخير هذه السلطة لقدراتها المالية والسياسية
والإعلامية لصالحها هي بمختلف الأساليب.
اما بالنسبة الى المجتمع الشيوعي الذي يفترض انعدام (الحكومة) فيه فإنه ـ لو فرض
وجوده الخارجي فرضاً لا واقع له ـ خارج عن موضوع بحثنا هذا حول شكل الحكومة.. ولو
ركزنا على مرحلة ما قبل انعدام الحكومة فلا أقل من أن نجد القوة الحاكمة فيه هي
الأقلية الحزبية التي تستغل الأكثرية بما تشاء.
هذا، بغض النظر عن أن أصل تنفيذ الشيوعية أو الاشتراكية (التي هي مقدمة لها فرضاً)
لا يتم إلا بواسطة حكومة صارمة، ونحن مازلنا نتساءل عن المبرر الوجداني لولاية أية
حكومة ونفوذ أمرها على الأمة.
والواقع أن الحكومة البروليتارية التي ينادي بها الشيوعيون تشملها ملاحظاتنا
الواردة على الديموقراطية، لأنها ـ كما تدعي ـ ديموقراطية في دائرة البروليتاريين،
وملاحظاتنا الواردة على الدكتاتورية لأنها دكتاتورية بالنسبة للآخرين ولكنها فوق
الملاحظات حسب ما يدعون من ابتنائها على الجبرية التاريخية طبقاً لنظرية "المادية
التاريخية"، فإن ما يخرج عن دائرة الاختيار لا معنى للبحث عن كونه عدلاً أو ظلماً،
وإنما العدل ما اقتضته المادية التاريخية في كل زمان والظلم ما رفضته هذه المادية.
وهذه النظرية قد نوقشت في مجال آخر، حيث ثبت أن إرادة الإنسان لها دور أصيل في صنع
التاريخ وليست وسائل الإنتاج هي الأساس الوحيد.
الملاحظة الثالثة:
ولعل هذه الملاحظة رغم أنها اعتراض على بعض أقسام الديموقراطية لا تشكل مناقشة لبعض
أقسامها الأخرى، مادمنا نحصر شكل الحكم في أشكالها الوضعية.
وهي تركز على أن التصويت وتجميع الآراء ان كان نافعاً ـ بغض النظر عن الملاحظات
الأخرى ـ فإنما ينفع من ناحية الاستجابة لمقتضى الضمير والأخلاق من ناحية حساب حقوق
الكل عند سن القوانين، إلا أنه ليس سبيلاً مضموناً للحفاظ على مصالح المجتمع ومعرفة
العلاج الأنجح والنظام الأصلح، بل ان الأسلم من هذا السبيل هو التركيز على جماعة من
الخبراء وذوي الرأي الحصيف، وترك الأمر إليهم ليتشاوروا ويتبادلوا الأفكار لينتخبوا
أفضل حل للمشاكل الاجتماعية. اما الرجوع الى الشعب كله، فمعناه تسليم الحل الى
مجموع كبير أكثره يسيطر عليه الجهل والهوى، وربما ضاع الحق بين فوضى الأصوات
وعجيجها.
هذا إذا فرضنا التصويت المباشر للناس على سَنّ القوانين، أما إذا افترضنا أن
الاختيار وقع على تعيين مجموعة من الممثلين والنواب يمتازون بالخبرة والموضوعية،
فإن الخطب سيكون أهون. إلا أننا مع ذلك لا نملك ما يضمن لنا موضوعيتهم الكاملة،
سواء اختار الشعب تعيينهم عن طريق القرعة أو اختار تعيينهم عن طريق الانتخاب
والتصويت.. فالقرعة لا معنى لكونها معينة للأكثر نزاهة منهم، والتصويت الذي تم
عليهم لا يضمن ذلك أيضاً، بعد أن كان مجرد تجميع لعدد من الأصوات التي يسيطر على
أكثر أصحابها الجهل والهوى.
وعلى أي حال، فإننا لو غضضنا النظر عن العلاج السماوي لكان لنا أن نفضل أسلوب
انتخاب الخبراء وذوي الرأي على غيره من الأساليب.
الملاحظة الرابعة:
وهنا نتساءل عن طرف العقد الاجتماعي مع الحكومة، هل هم الموجودون من الأحياء
(ولنطلق عليهم اسم "الشعب") أو أن الطرف هو شخص معنوي أوسع من الموجودين من الاحياء
وهو يشمل على الأقل القادمين (ولنطلق عليه اسم "الأمة")؛ فمن هو صاحب السيادة، هل
الشعب أو الأمة؟ وهذان مسلكان مختلفان في الديموقراطية.
قال الدكتور عبد الحميد متولي في كتابه (الاسلام ومبادئ نظام الحكم)(13)، وذلك في
مقام بيان أهمية التفرقة بين مبدأ سيادة الشعب ومبدأ سيادة الأمة ما لفظه (مع حذف
التعبيرات الأجنبية بالحروف الأجنبية):
تبدو هذه الأهمية في مسألتين:
الأولى: ان الانتخاب يعد طبقاً لنظرية سيادة الشعب حقاً، وذلك نظراً لأن السيادة
تعد ملكاً للمواطنين الذين يعيشون الآن؛ أي أن كل مواطن يمتلك جزءاً منها. وبناء
على ذلك يصبح له الحق أن يشترك في شؤون السلطان (أي السيادة)، أما إذا أخذنا بنظرية
سيادة الأمة فإن الانتخاب يعد (طبقاً للرأي الراجح) بمثابة وظيفة أو سلطة قانونية
على حد تعبير بعض الفرنسيين؛ أي أن الناخب، إنما يتولى طبقاً لهذه النظرية اختصاصاً
لحساب الأمة لاحق
لحسابه الخاص، فشأنه شأن من يقوم بأداء وظيفة عامة، ويترتب على ذلك أن يصبح للمشرع
الحق في أن يضع من الشروط والقيود (على الفرد من أجل أن يكون ناخباً) ما يراه
كفيلاً بحسن أداء هذه الوظيفة.
الثانية: وهذه هي النتيجة الأكثر أهمية المترتبة على هذه التفرقة، وهي أن هاتين
النظريتين (نظرية سيادة الشعب ونظرية سيادة الأمة) صورتان مختلفتان؛ فنظرية سيادة
الشعب لا تجيز الأخذ بأساليب الحواجز وسياسة التوازن أو على حد التعبير الفرنسي
(الفرامل والقوى الموازنة) وذلك خلافاً لنظرية سيادة الأمة.
* وتفسيراً لما تقدم نقول: انه يغدو جائزاً ومشروعاً ـ بناءً على نظرية سيادة الأمة
ـ أن يعمل الدستور على الوقوف في وجه النزوات أو الرغبات الوقتية التي قد تبدو من
جانب الأغلبية البرلمانية؛ أي أن يعمل على إرجاء إصدار أمثال تلك القرارات، حتى
يستطاع الاطمئنان والتأكد من أن تلك القرارات تعبر عن إرادة ثابتة متولدة من تفكير
وروية لا عن نزوات وخواطر وقتية، إرادة يصح وصفها بأنها تعبر عن المصالح والإرادة
الحقيقية للأمة، التي تشمل ـ كما قدمنا ـ الأجيال القادمة الى جانب الجيل الحاضر.
وبناءً على ذلك، فإنه يصبح من الجائز لدى أصحاب نظرية سيادة الأمة ان يكون للسلطة
التنفيذية "حق الاعتراض" (أو ما يطلق عليه حق الفيتو)(14) على قرار البرلمان.
كما أنه يصبح جائزاً مشروعاً، لدى أصحاب هذه النظرية، أن يتكون البرلمان من مجلس
آخر الى جانب مجلس النواب الذي يمثل الأمة، إذا كان ذلك المجلس الآخر (ويطلق عليه
عادة مجلس الشيوخ) يهدف الى تمثيل تلك "الإرادة الثابتة" التي أشرنا إليها (أو كما
يعبر عنها الفقهاء الفرنسيون: اتجاهات الرأي العام الطويلة المدى) فطالما كان هذا
المجلس الآخر معارضاً لرأي مجلس النواب فإنه يمكن القول إذاً في هذه الحالة بأن
سيادة الأمة لم يعبر عنها بعد بتلك "الارادة الثابتة" التي تعد معبرة عن الارادة
الحقيقية للأمة، أو بعبارة أخرى عن سيادة الأمة.
* اما لدى أصحاب نظرية "سيادة الشعب" (التي يرجع مصدرها كما قدمنا الى روسو)(15)
فإن الأمر بالعكس؛ إذا ان إرادة الأغلبية يجب احترامها وتنفيذها، دون حاجة الى
البحث عما إذا كانت تمثل "ارادة ثابتة" صادرة عن الأمة.. وبناءً على ذلك فإنه لا
يجوز لدى أصحاب هذه النظرية أن يكون للسلطة التنفيذية حق الفيتو، كما لا يجوز أن
يتكون البرلمان من مجلسين، بل يجب أن يقتصر في تكوينه على مجلس واحد (اللهم إلا في
حالة الدولة التعاهدية أو الفيدرالية).
* يرى روسو أن نواب الشعب لا يصلح أن يكونوا إلا خاضعين لإرادة الشعب، يصدر إليهم
الناخبون تعليماتهم ورغباتهم التي يجب على أولئك النواب تنفيذها، كما ان للناخبين
حق عزل أولئك النواب متى شاؤوا.
ومن ذلك يُرى أن روسو يأخذ بنظرية الوكالة الإلزامية التي تعد منافية للديموقراطية
النيابية (الغربية)(16).
هذا هو المقدار الذي أردنا نقله من عبارة الدكتور عبد الحميد متولي.
وعلي أي، فإن قال أنصار الديموقراطية إن طرف العقد هم (الشعب) ـ أي الموجودون فعلاً
ـ ثار التساؤل عن حقوق القادمين من الأفراد، وكذا الموجودين القاصرين حين يبلغون سن
الانتخاب القانونية، وما هو المبرر لاختصاص حق السيادة بالموجودين البالغين فعلاً؟
فإذا قيل ان القادمين والبالغين في المستقبل عندما يرون القانون على خلاف مصلحتهم
لهم أن يبدلوه لو شكلوا الأكثرية، أما ما داموا الأقلية فلا أشكال إلا ما قيل
سابقاً من سحق الأكثرية لحقوق الأقلية، وانه لم تثبت موافقة الأقلية للأكثرية حتى
في مجال "مبدأ الأكثرية" نفسه، فيؤدي الأمر الى سحق حقوقهم والتحكم بمصالحهم.
فإن الجواب عن ذلك يتوضح إذا أدركنا وجوه الفرق بين هذه الأقلية (القادمين
والقاصرين غير البالغين) والأقلية التي ذكرناها فيما سبق، وتتلخص فيما يلي:
الأول: أنه كان يمكن أن يفترض (ولو كفرض محتمل عقلاً) ان شعباً ما اتفق كل أفراده
على مبدأ (الأخذ برأي الأكثرية)، إلا أن هذا الفرض غير صحيح مع أقليتنا هنا، وكيف
نضمن موافقتها حينما تقدم أو تبلغ السن القانونية، ولو جاءت ولم توافق، فماذا نصنع
كي نضمن تمامية العقد الاجتماعي لأمد معقول؟!
الثاني: أن القاصر قد يكون قصوره واضحاً كالطفل الصغير وغير المميز الرشيد، وقد لا
يكون كذلك. وهنا تكمن حاجة لوضع قانون يميز القاصرين عن غيرهم، فمن ذا الذي يضع هذا
القانون؟ هل الأكثرية أو من يمثلها، مع أننا لم نزل نجهل عدد الأفراد المؤهلين
للتصويت قبل تشريع هذا القانون؟ وهل يمكننا مع عدم تحديد نطاق البالغين أن ندعي
حصول إجماع ما ولو على مبدأ (الأخذ برأي الأكثرية)؟!
الثالث: ان القادمين أو القاصرين بعد قدومهم أو بلوغهم، قد يشكلون بالتدريج
الأكثرية التي يمكنها أن تغير القانون لصالحها، فتمنع من إجحاف الماضين من الآن
فصاعداً بمصالحها. ولكن كيف يمكن لهذه الأكثرية ـ رغم كونها أكثرية ـ أن ترفع الضرر
الذي لحق بها من جراء تنفيذ قوانين سابقة أضرت بهؤلاء القادمين مع عدم إمكان رفع
الضرر، كما لو كانت حقول النفط واحتياطياته قليلة في منطقة ما ورأت الأكثرية تصريف
كل قطرة فيها، فرفعت الإنتاج الى اقصى حد حتى نفدت، الأمر الذي رفهها هي من جهة،
ولكن ألقى الأجيال الآتية في حاجة شديدة جعلتها تشتري النفط من السوق العالمية
بأثمن القيم؟! وهكذا قل بالنسبة لإزالة الغابات في عصر مما يؤثر على نقاء البيئة في
العصر التالي، وعقد المعاهدات التجارية أو السياسية الطويلة الأمد، وأمثال ذلك.
كل هذا إذا التزم بالمسلك الأول، وهو كون طرف العقد هو الشعب. أما لو التزم بالمسلك
الثاني ـ وهو كون طرف العقد الأمة بما يشمل القادمين أيضاً ـ فإن للتساؤل مجالاً عن
كيفية ضمان حقوق القادمين والقاصرين (ولو القاصرين قانونياً بغض النظر عن مناقشتنا
في ذلك).
وللديموقراطية أن تجيب على هذا التساؤل، باتخاذ بعض الإجراءات الكفيلة بضمان
حقوقهم، من قبيل ما يلي مما يعرف أكثرها من النص الذي نقلناه عن كتاب عبد الحميد
متولي:
الأول: أن يلتزم المصوّتون بعدم اتباع مصالحهم، وأخذ رغباتهم فقط في الحساب، وإنما
التوجه الى المصالح العامة للأمة بما فيها القادمون.. وذلك على أساس وجود حق لهم في
ثروات الأرض والطبيعة، ومشاركتهم المنتظرة لهؤلاء في الحياة الاجتماعية. وهكذا
يلتزم المنتخبون والنواب بأن لا ينظروا الى المصالح المقصورة على موكليهم، وإن
وسعوا من مدى نظرهم ليشمل الأمة بمجموعها.
الثاني: منح أعضاء البرلمان نوعاً من الاستقلالية عن الناخبين ليفسح لهم المجال
فتؤخذ حقوق القادمين بعين الاعتبار، ولا يتقيدوا بإطار مصالح ناخبيهم.
الثالث: أن يضع المشرع من الشروط والقيود على ناخبية الفرد ما يراه كفيلاً بحسن
أداء هذه الوظيفة بشكل يكون في صالح الأمة.
الرابع: قد يقسم البرلمان الى مجلسين أحدهما للنواب والآخر للأعيان الذين يُنتخبون
على أساس خبراتهم الطويلة وحنكتهم، مما يؤهلهم للتفكير في المصالح البعيدة الأمد.
الخامس: وقد تمنح السلطة التنفيذية حق الفيتو ضد قرار البرلمان حفاظاً على حقوق
القادمين.
إلا أن هذه لا تشكل علاجاً ناجعاً للمشكلة، حتى ولو غضضنا النظر عن أنه لا معنى
لافتراض تحرك الموجودين فعلاً شعباً وحكومة وفق مصالح المجموع الشامل للقادمين،
وضمان عدم الانحراف عن هذا الخط بعد أن كان الدافع النفسي منحصراً بشكل عام في
المجالات المادية الدنيوية الضيقة، ولم يكن هناك أي دخل للدين في الحساب بالمعنى
الحقيقي للكلمة.
نعم، حتى لو لم نلتفت لهذا فإن التساؤل باقٍ عن كيفية قيام العقد الاجتماعي على
ذلك، بعد أن كان القادمون معدومين فعلاً وعن من ينوب عنهم في الموافقة على العقد.
ولا يمكن هنا أن يدّعي أن الشعب الحاضر أو قسماً منه هو الممثل لأولئك، أو أن الشعب
يمثل الأمة، ذلك أن هذا التمثيل نفسه يحتاج الى عقد مسبق بين الممثِّل والممثَّل،
وإلا فمن الذي سمح لهؤلاء أن يكونوا أولياء لأولئك ويمثلوهم؟!
ولو أدُّعي عدم الحاجة الى ولاية وعقد من هذا القبيل، قلنا: إذا تم هذا الإنكار
فلماذا لا ننكر الاحتياج في أصل انعقاد السلطة الى عقد يوافق عليه الموجودون، وعند
ذلك يمكننا أن نرجع الى الحكم الاستبدادي أو الدكتاتوري.
أما وأنكم تحاولون إقامة الحكم على أساس من العقد الاجتماعي فإنكم تصطدمون لا محالة
بهذا الحاجز الذي لا مخلص منه في مجال تحقيق عقد يشارك فيه المعدومون ولو بممثليهم.
وهكذا رأينا أننا لن نصل الى شكل صالح للحكم يبرره الوجدان الانساني، سواء في ذلك
الدكتاتورية أو الديموقراطية، وذلك حتى لو لم ننظر لمسألة الحكم من زاوية نظر
الاسلام.
الإسلام والديموقراطية
ونحن إذ نركز على الديموقراطية باعتبارنا مسلمين نضيف على المؤآخذات السابقة ما
يلي:
أولاً: إن الولاية التامة لله تعالى وحده لا شريك له، وليست لأحد على أحد ولاية
مستقلة عن الله تعالى، وإنما تُستمَد من الله وبأمره.
أما العقد الاجتماعي، فلا يمكنه أن يحل المشكلة في نظر الفقه الاسلامي؛ ذلك لأن
إدارة الدولة بحاجة الى كثير من الأمور التي يجب أن تقوم بها الهيئة الحاكمة، وهي
بالنظر الأولي محرمة إسلامياً حتى بعد التعاقد والاشتراط، ولا تخرج عن حرمتها إلا
بولاية تستمدها السلطة من قبل الاسلام. وكذلك لا دليل على ثبوت حق الولاية على مثل
إقامة الحدود أو التصرف في ممتلكات القاصر بمجرد العقد او الشرط لمن لم يكن له ذلك.
{إن الحكم إلا لله أمَرَ ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا
يعلمون}(17).
وهكذا فالحكم في التصور الاسلامي لله تعالى لا لغيره.
ثانياً: إن المسلم يعتقد أن الله الخالق الحكيم العليم هو الأعلم بمصالح الانسان
وأسلوب إشباع احتياجاته إشباعاً عادلاً منسجماً مع القوانين التكوينية؛ لأنه خالق
العالم والمجتمع والانسان، وهو أعلم به وبما يحقق كماله.
وعليه، فلا معنى لتسليم أمور التشريع والتقنين وتنظيم أمور شكل الحكومة بيد الناس
الذين يجهلون الكثير الكثير عن أنفسهم فضلاً عن جهلهم الواسع بالعالم وأسراره، مع
وجود الخالق العظيم الحكيم، وقد أنزل لهم من النظم والأحكام ما يسعدهم ويهديهم سواء
السبيل.
ونتيجة هذين التعليقين هي عدم صحة اعتناق المسلم للديموقراطية والعمل بها (حتى في
مجال انتخاب الهيئة التنفيذية فقط) إلا أن يأمر الاسلام ويسمح بذلك.
المبدأ الثاني لاستمداد الولاية هو الله تعالى
فهو تعالى الخالق والمنعم والمولى الحقيقي للكون والناس، وقد عرفنا ـ من خلال ما
سبق ـ أن هذا المبدأ هو المبدأ الصحيح الوحيد الذي يجب أن تستمد الحكومة قدرتها
وولايتها منه. فإذا تم ذلك فلا ريب في ضمان موافقة الوجدان بل تأكيده على هذا
الشكل، بعد أن استمدت الولاية من صاحبها الحقيقي، وبعد أن كان ذلك هو الضمان الوحيد
لتحقيق مصالح الأمة في الحياة الدنيا على أساس التشريع الإلهي وحكومة الولي من قبل
الله، كما أن هذا هو الضمان الوحيد ـ أيضاً ـ لتحقيق رضا الله عز وجل وسعادة الحياة
الآخرة.
ووفقاً لهذا المبدأ لا معنى للبحث عن كون السيادة للشعب أو للأمة وأمثال ذلك، وإنما
السيادة الحقيقية لله لا غير، وهو يعين السلطة الحاكمة. وهنا يجب البحث عن نوعية
هذه الولاية ولمن أعطيت من قبل الله.
هل ينتهي الحكم الإسلامي للإستبداد؟
ربما يُدعى في هذا الصدد أن الحكم الإلهي يعني الالتزام بالثيوقراطية التي تؤكد على
ان السلطة الحاكمة تستمد قدرتها على الحكم وقدسية أوامرها من الله تعالى، وهي
بالتالي تحكم بلا منازع ولا رادع ودون أي حساب، إذ الراد عليها يعتبر راداً على
الله وهو المولى الحقيقي الذي يحكم بما يشاء، وكذلك تحكم حكومته بما تشاء، وهذا
يؤدي الى أتعس ألوان الحكم الاستبدادي الدكتاتوري.
والواقع أن هذا الادعاء باطل وبلا أي مبرر، فإذا افترضنا كون رئيس الدولة معصوماً
من الزلل والخطأ والانحراف ـ كما هو الحال في رسول الله (ص) والأئمة المعصومين (ع)
في رأي الشيعة ـ فلا معنى لهذا، إذ الواقع حينئذٍ أن السماء بكل ولايتها وعطفها
وعلمها وحكمتها هي التي تحكم، وكذا الحال حينما يكون الحاكم نائباً خاصاً للإمام
المعصوم يتشرف بخدمته ويسترشد بهداه، كما هو الحال في النواب الأربعة (رض) في رأي
الشيعة.
أما لو لم يكن الحاكم معصوماً ـ بأن كان الحاكم هو نائب الإمام العام، كما سيأتي
توضيح ذلك ـ أو الشخص المنتخب بالشورى ـ كما يرى بعض علماء السنة ـ فإن لهذا المدعى
مجالاً، ولكنه مع ذلك لا يتم إذا اخذنا بعين الاعتبار نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: التربية الاسلامية للقادة والمجتمع:
الاسلام يولي اهتمامه الكامل بتهذيب نفوس المسلمين عموماً، ويؤكد على تربية القائد
المسلم تربية ممتازة توجِد في أعماقه الدوافع الدينية الأخلاقية الأصيلة التي تعبر
عن نفسها في موضوعية أصلية واتباع للحق أينما كان، وتضحية بالنفس والنفيس في سبيل
أمر الله وتطبيق شريعته ونشر العدالة الحقة.
بينما كنا نناقش النظام الديموقراطي بعد امتلاكه الضمان الكافي لمنع أتباع الأهواء
والمصالح الشخصية وتقديمها على المصالح العامة ـ ذلك لأن إطار النظام اطار مادي ضيق
ـ نجد أن إيمان المسلمين وحكامهم بالله العظيم والآخرة والمثُل والقيم الاسلامية
وانخراطهم في اطار عملية التربية الاسلامية الشاملة يشكل ضماناً قوياً لعدم
الانحراف.
ويمكن ـ لأجل التعرف على أساليب هذه التربية الرائعة ـ مراجعة ما كتبه سيدي الاستاذ
آية الله العظمى السيد الصدر (رحمه الله) بشكل مشبع في مقدمة كتابه القيم "فلسفتنا"
وغيرها من كتاباته، وكذلك مراجعة كتابنا "الأخلاق".
وقبل أن ننتقل الى النقطة الثانية لا بأس ببيان خلاصة ما يستفاد من كلمات مونتسكيو
في ذكر الأسس التي ينبغي ارتكاز الحكومات عليها كي تبقى الدول متماسكة ونزيهة الى
حد معقول، وهي عنده عبارة عن أسس ثلاثة بعدد أقسام الحكومات عنده؛ فالحكومات عنده
منقسمة الى ثلاثة أقسام: الجمهورية، والملكية الدستورية، والمستبدة.
والأسس التي ينبغي ارتكاز هذه الحكومات عليها ثلاثة: التقوى أو الفضيلة، والشرف،
والخوف أو الرعب.
فالأول ينبغي أن يكون أساساً للجمهورية، والثاني ينبغي أن يكون أساساً للملكية
الدستورية، والثالث ينبغي أن يكون أساساً للحكومة الاستبدادية.
أما التقوى أو الفضلية، فليس مقصوده بها التدين أو الاتصاف بما يعتبره علماء
الأخلاق من الصفات الحسنة، وإنما المقصود بها حب الوطن والمساواة وأن يحب دولته
أكثر من نفسه، وهو يرى أن الجمهورية على قسمين:
1 ـ الديموقراطية: ويكون الحكم فيها بيد الكل، وحينئذٍ لولا تفاني المجتمع في حب
الوطن والمساواة لفسدت الدولة وانهارت الحكومة، إذ لا قوة مركزية مهيمنة تمسك زمام
الأمور بيد حديدية وتمنع عن طغيان بعض على بعض وتبقى الدولة متراصة متماسكة، فالشيء
الوحيد الذي يحفظ الدولة عن الفساد والانهيار هو شيوع التقوى والفضيلة.
2 ـ الارستقراطية: ويكون الحكم فيها بيد قسم من الشعب. وهذه الحكومة أيضاً بحاجة
الى أساس التقوى والفضيلة، ولكن لا بقدر حاجة الجمهورية الى ذلك.. وذلك لأن قسماً
من الشعب، وهم غير الارستقراطيين ـ نسبتهم الى الارستقراطيين كنسبة الرعايا الى
الملك في النظام الملكي ـ مقيدون ومسيّرون بالقوانين التي يمليها عليهم
الارستقراطيون، والحكومة الارستقراطية في حد ذاتها أقوى من الحكومة الديموقراطية،
وأقدر على تقييد الشعب وتسييره.
أما الارستقراطيون فيما بينهم فلا يفيدهم القانون ولا الضمان لانحفاظ المساواة في
الحقوق فيما بينهم إلا بالتقوى والفضيلة؛ فلو كانت التقوى عندهم قوية جداً الى حد
تجعلهم يوجدون المساواة بينهم وبين الشعب عاد الأمر الى جمهورية واسعة، ولو كانت
تقوى خفيفة نسبياً أنتجت على الأقل تساوي الارستقراطيين فيما بينهم وحفظتهم من
الانهيار.
وأما الشرف فيقصد بذلك روح الكرامة والإباء الشعبيين وطلب الجاه والطموح في مقابل
الخسة ودناءة الطبع. ويرى أن هذا ينبغي أن يكون أساساً للملكية الدستورية؛ فمن
ناحية من الصعب أن ننتظر من رجال البلاط الملكي عدم الظلم والطغيان وعدم سوء الخلق،
وبالتالي من الصعب أن نفترض في أفراد أمة تعيش تحت أيدي هؤلاء أن يصبحوا من ذوي
التقوى ويحبون وطنهم وحكومتهم ودولتهم، إذ هذا يعني أن الحاكمين يظلمون ويغفلون
دائماً والمحكومين يغفلون ويستسيغون الظلم دائماً.
ومن ناحية أخرى لا حاجة مهمة في نظام الحكومة الدستورية الى التقوى، إذ القوانين في
هذا النظام إذا انضمت الى أساس الشرف نابت مناب التقوى، فقوة القانون تقيد الناس
وتسيرهم وقوة الشرف أيضاً تحركهم نحو الخير بدافع كسب الشهرة والمحبوبية. وهذا ـ
وإن لم يكن شرفاً فلسفياً واقعياً، بل هو شرف ظاهري تصنّعي ـ يفيد في بقاء أعضاء
الهيئة متماسكين وإبقاء الدولة في خير وعافية.
أما الحكومة الاستبدادية فلا يجتمع معها الشرف في نفوس المجتمع؛ فإن الشعب نسبتهم
الى الملك المستبد نسبة العبيد الى المولى، بينما الشرف وإباء النفس يمنع عن ذلك،
ولا يستطيع الملك المستبد أن يتحمل من الشعب الشرف والإباء وعدم الهروب من الموت.
فالشرف ـ الذي كان يوجد في الممالك الدستورية ويقوي الهيئات السياسية والقوانين بل
ويقوي التقوى ـ لا يوجد في الممالك الاستبدادية.
فما هو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الحكومة الاستبدادية؟
ليس هو التقوى ولا حاجة إليها، ولا الشرف بل الشرف، كما عرفت يولد الأخطار
والمشاكل، بل هو الخوف والرعب كي يمنع من ناحية أن يفكر أحد في قلب الهيئة الحاكمة
أو يحس بطلب الجاه والمقام ويمنع من ناحية أخرى رجالات الحكومة والذين بيدهم زمام
أمور المملكة من ظلم الشعب؛ إذ لولا خوفهم من الملك فإنهم لا يبقون شيئاً ولا
يذرون، حيث لا شرف ولا تقوى ولا قوانين ثابتة ومتقنة، وإنما الشيء الوحيد هو إرادة
الملك.
أما شأن الدين ورجال الدين، فيرى "مونتسكيو" بهذا الصدد أن الملك المستبد لا يقف
أمام إرادته وقدرته عدا الدين؛ فالملك لو أمر إنساناً أن يترك أباه تركه، أو أن
يقتله قتله، أما لو أمر الناس بشرب الخمر فلم يشربوا لأن الدين الذي تنبسط سلطته
على الناس وعلى الملك نفسه لا يسمح بذلك.
أما في الحكومة الدستورية والمعتدلة في التصرف، فالشرف هو الذي يحدد من قدرة الملك،
فلا يتحدث أحد مع الملك عن الدين، ولو تحدث معه أحد رجال البلاط عن الدين لكان
قابلاً للاستهزاء، وإنما يتحدث معه دائماً عن الشرف وعلو النفس.
ومع هذا، فبما أن الحكومة الملكية الدستورية تنقلب بطبيعتها الى الاستبداد لولا
وجود روابط ووسائط وقوى فيما بين الملك والشعب، فلابد من وجود أشراف من ناحية عن
طريقهم تطبق القوانين وتجري فيما بين الناس كي لا ينقلب الملك رأساً الى ملك مستبد،
ومن ناحية أخرى ينبغي أن تكون لرجال الدين قدرة ونفوذ عند الشعب في مقابل نفوذ
الحكومة، على الخصوص إذا كانت الحكومة تميل الى الاستبداد؛ أما في الحكومة
الجمهورية ففرض القدرة لرجال الدين خطر وغير صحيح.
هذه خلاصة ما يمكن استفادته مما كتبه مونتسكيو خلال عدة صفحات من كتابه (روح
القوانين).
ونحن إزاء هذا النص لا نملك إلا أن نفترض أن مونتسكيو وأمثاله يتحدثون عن حكومات
مثالية وخيالية لا تمتلك نصيباً من الواقع وإنما تعيش على مستوى فروض فلسفية ممكنة
وصور عقلية تجريدية. وإلا فلو كان البحث عن واقع حكومي خارجي فإننا نجد ـ عادة ـ
أنه لا يقف أي شيء في قبال المصالح الشخصية والظلم والطغيان اللذين ينتجهما حب
الذات الا الدين والعقيدة والأخلاق الفاضلة التي تغرسها السماء عن طريق الأنبياء
والوحي في النفوس.
ولا نقصد بالدين طبعاً ذلك الدين الذي لا يملك من القدرة إلا منع الناس من شرب
الخمر بينما لا يستطيع أن يمنع الابن من قتل أبيه! ـ كما جاء في كلمات مونتسكيو ـ
وإنما نعني الدين الذي لم يكن مونتسكيو وأمثاله من أئمة القوانين الوضعية قادرين
على تصوره؛ إنه الدين الذي يأمر بكل ما هو خير وينهى عن كل ما هو شر، ويربي الانسان
المضحي بماله ومقامه ودمه في سبيل انتصار العقيدة طالباً بذلك رضا الله لا غير.
أما إذا ضربنا صفحاً عن العقيدة والدين، فسوف لن نلقى أي ضمان في النظام الدستوري
أو الجمهوري لاتباع الحق والعدل، وأي شرف يتصور فيمن لا يعتقد بنظام مسيّر للحياة
مبشرٍ كلّ من ضحى بمصالحه الشخصية الدانية لصالح المجتمع والعقيدة بجنة عرضها
السماوات والأرض، والخلود في السعادة الأبدية، كما لا يعتقد بحقيقة المثُل والقيم
التي غرستها أوامر السماء في النفوس؟!
وما مضمون السعي لتحقيق المساواة ودوافعه مادامت الغريزة الذاتية تثور في الفرد
فتدفعه للتعالي على الآخرين ومنافستهم في حطام الدنيا وملذاتها، ما لم تؤطر هذه
الغريزة بإطار تربوي سماوي؟!
أما حب الوطن ـ بالمعنى الذي يفهمه الانسان الغربي ـ فسوف لن يؤدي إلا الى مد النظر
الى الأوطان الأخرى وخيراتها والعمل على استعبادها واستعمارها، محققاً بذلك مصالح
وطنه في قبال مصالح الأوطان الأخرى. هذا بالنسبة لخارج الوطن، أما بالنسبة للداخل
فمن الطبيعي أن يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الآخرين عندما تتعارض فيما بينها،
متبعاً بذلك غريزة حب الذات.
فلا شرف إذن ولا تقوى، بمعنى يؤدي الى المنفعة العامة في نظام جمهوري أو ملكي
دستوري.
والدين وحده ـ وبمعناه الصحيح ـ هو الذي يكفل إجراء الحق والعدالة في المجتمع وعدم
انحراف الحاكم واستبداده مادام المجتمع متديناً حقاً بالدين الصحيح. ونحن عندما
ننظر للحكم الاسلامي الذي يقوده انسان غير معصوم ولكنه يستمد ولايته من الدين،
فإنما ذلك مع إفتراض اطار ديني عام للحكومة والمجتمع لنتوقع بعد ذلك الثمار الطيبة.
وعلى أي حال، فإن العنصر الكفيل بأن لا ينتهي الحكم الاسلامي الى الاستبداد يتوفر
في روح الحكم الاسلامي نفسها، وهو الدين والتدين، ومن المعقول تماماً أن يهتم
أولياء الله بتربية المجتمع الذي يقوده الدين، كما توفر ذلك في بعض عصور التطبيق
الإسلامي الصحيح، كعصر النبي (ص) الذي مارس التجربة في منطقة كانت أبعد ما يتصور من
الإنسانية والشرف والتقوى والأخلاق، فأوجد ذلك المجتمع الذي تؤطره التقوى والعدالة.
هذا في حين تفقد النظم الأخرى ما يكفل لها من ذاتها عدم التحول الى الاستبداد، كما
لا يتوفر لها عادة في الواقع الموضوعي عامل يحول دون هذه النهاية المرة.
وهذه ديموقراطيات العالم اليوم نراها ونلمس آثارها وما جرته على العالم من دمار
واستعمار وامتصاص لدماء الشعوب الضعيفة، ومازال العالم يعيش على فوهة بركان مطامعها
ويهدده بين آونة وأخرى شبح الحروب العالمية وما يتبعها من الفناء والاضمحلال.
السابق || التالي