وكذلك عدنا نرى أن المساواة ـ لو صحت في نفسها ـ لا وجود لها في المجتمعات
الديموقراطية ـ إطلاقاً، أما المجتمعات التي فرضت عليها المساواة قسراً فلا مسحة
ديموقراطية لها إطلاقاً.
إن الدولة التي ينتظر منها العدل وإقامة الحق ومراعاة الوظائف الحقيقية للدولة، هي
تلك التي تجعل نصب عينيها أداء حق العبودية لله جل وعلا وطلب مرضاته، لا الدولة
التي تنتابها الأهواء والمصالح ولا يستهدف أفرادها ـ عند دراسة خلفيات أهدافهم ـ
إلا الاعتلاف والتقمم، وإشباع الرغبات الضيقة.
هذه هي النقطة الأولى التي تمنع من تحول الحكم الاسلامي الى حكم مستبد.
النقطة الثانية: عدم الانسجام بين شكل الحكم الاسلامي والاستبداد.
وذلك أن الصيغة التي يمكن استفادتها لشكل الحكم الاسلامي، والتي تمنح من خلالها
الولاية للهيئة الحاكمة ـ بعد فرض عدم وجود المنصوص عليه من قبل السماء كرسول الله
(ص) عند جميع المسلمين والأئمة المعصومين (ع) عند الشيعة ـ هذه الصيغة هي أحد
أمرين:
الأمر الأول: نظام الشورى:
ويدعي بعض علماء السنة قيام الحكم منذ وفاة رسول الله (ص) على هذا الأساس، في حين
يرى الشيعة أن الحكم أوكل بنص من النبي وبأمر إلهي الى الأئمة الاثني عشر (ع)، فإذا
أمكن تصور نظام للشورى ـ عندهم ـ فليس إلا في عصر غيبة المعصوم الكبرى.
وعلى أي حال، فنظام الشورى (لو قبلنا به في عصر الغيبة) يختلف عن الديموقراطية في
أن أمر التشريع الرئيس ليس بيد الناس، بل بيد الله تعالى عن طريق الأحكام والشرائع
الاسلامية، وقد ترك الاسلام منطقة فراغ معينة المعالم يقوم بملئها ولي الأمر في
الإطار الاسلامي العام. فإذا أمكن تصور شورى فإنما هي في ملء هذه المنطقة فحسب وعلى
ضوء تصورات الاسلام، أو في انتخاب من يملؤها ومن ينفذ القوانين الاسلامية.
كما أن نظام الشورى يختلف عن النظام الدكتاتوري، بأنه لا استبداد لرئيس الدولة في
شيء، لا في التشريعات الأساسية ولا فيما أسميناه بمنطقة الفراغ ولا في انتخاب
المنفذين؛ لأن التشريعات الأساسية بيد الله والاسلام، وأما الأمور الأخرى فتتم
بالشورى لا بالاستبداد.
إلا أننا سنوضح ـ في بحث الشورى بطلان هذا التصور للحكم الاسلامي، وأن نظام الشورى
لا يمتلك أي مستند شرعي مطلقاً.
الأمر الثاني: نظام نيابة الفقيه عن الامام المعصوم (ع)، فيكون الولي الحقيقي هو
الامام المعصوم، وهو الذي عين الفقيه نائباً عنه.
وهذا هو الشكل المنسجم مع المنهج الشيعي.
ويختلف نظام نيابة الفقيه وولايته عن الدكتاتورية في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أن واضع القوانين الأساسية في دولة قائمة على أساس ولاية الفقيه هو
الله تعالى لا الفقيه.
النقطة الثانية: ان الولاية ليست محصورة بفقيه معين، وإنما هي لكل فقيه جامع
للشروط، ويكون الكل أولياء يراقبون الولي المخول للحكم أو هيئة الفقهاء العاملة
فعلاً في مجال القيادة، ويحدون من أخطاء القيادة الحاكمة. وربما نقضوا حكمها في
الموارد التي يكون فيها نقض الحكم أقل مفسدة من الخطأ الذي وقع فيه حكمها، ويكون
عصيان الحاكم أفضل من تفادي مضاعفات الإنشقاق بمجاراة أخطائه في نظرهم.
النقطة الثالثة: ان الولاية هنا لا تقوم على أساس القهر والغلبة، وإنما تتحقق بتحقق
شروطها، وعمدتها: الفقاهة، والعدالة، والكفاءة.. وهي شروط تقود تصرفات ولي الأمر
نحو الخط الصحيح، وتدع الأمة مراقبة له ولتوفر الشروط فيه، بعد أن كانت قد ربيت على
الالتفات لهذه الشروط.
كما أن دائرة الولاية هنا محددة بحدود مصلحة الأمة، وهذا أيضاً يقود تصرفات الولي
نحو الخط الصحيح، ويدع الأمة المتربية على الالتفات الى ذلك مراقبة له. وحينما
تقتضي المصلحة وضع الشيء موضع التصويت والأخذ بأكثرية الآراء وجب على ولي الأمر
ذلك.
كما أن نظام نيابة الفقيه وولايته يختلف عن الديموقراطية، بأنه لا يتضمن مبدئياً أي
نظام للتصويت وتجميع الآراء، وذلك لا في مجال القوانين الأساسية الاسلامية، ولا في
منطقة الفراغ السالفة الذكر، ولا في مجال تعيين الهيئة التنفيذية.
فالاسلام هو مشرع القوانين الأساسية، والفقيه هو الذي يملأ منطقة الفراغ أو يعين من
يملؤها، كما يعين الهيئة التنفيذية أيضاً أو يعين من يعينها. نعم قد تستدعي المصلحة
ـ كما أشرنا ـ أن يعمل الفقيه أسلوب التصويت في منطقة الفراغ، أو في تعيين الهيئة
التنفيذية، فيتبع في الحدود التي يعينها الفقيه لذلك.
الشورى
حاول بعض علماء السنة تصوير إقامة الدولة الاسلامية على أساس "مبدأ الشورى" كروح
لنظام الحكم الاسلامي.
السؤال المحير
ولأول وهلة يثور سؤال هام أمام هذه النظرية، هو:
إذا كان الاسلام قد خطط لنظام الحكم على أساس من مبدأ الشورى بحيث تكون حجر الزاوية
فيه ومصدر الولاية والسلطة الشرعية، فإن من الطبيعي ـ والحال هذه ـ أن يقوم ـ أي
الاسلام ـ بتثقيف واسع للأمة واطلاع كامل لها على حدود هذا الأساس الهام وتفاصيله
وبنوده، وذلك لأهمية الأمر وضرورته المتناهية، إلا أننا لا نجد لهذا الثقيف أثراً
في الكتاب أو السنة، فكيف نفسر هذه الظاهرة على ضوء هذه النظرية؟
وقد بادر بعض الكتاب والعلماء السنة للإجابة عليه، وأفضل جواب ذكروه هنا هو التأكيد
على أن الاسلام قد تعمد اعطاء مبدأ الشورى بلا أي تحديد لها في قالب معين موكلاً
أمرها الى الأمة، وذلك انطلاقاً من الصفة الواقعية العامة التي تمتاز بها الشريعة
الاسلامية، وهي صفة المرونة التي أمكن من خلالها أن يكون نظاماً خالداً يستوعب
مختلف الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية.
ومن الواضح أن أمر الشورى يختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية، وتتدخل في صياغة نوعية
الشورى عوامل سعة الاقليم، وعدد السكان، وأهمية موضوع الشورى، وما الى ذلك من عناصر
متحركة متغيرة بتغير الظروف الزمكانية؛ فلا يمكن أن تفرض نوعية عملية الشورى في
مجتمع بدء الرسالة ـ مثلاً ـ بما يتناسب وفطرته الساذجة وقتئذ. هذه النوعية لا يمكن
أن تفرض على كل الحالات والشعوب في كل حين، لأن صلاحية النظم نسبية، فما يصلح لقوم
قد لا يصلح لغيرهم.
قال قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه (الشورى بين النظرية والتطبيق):
"وما مرونة شكل الحكم إلا حسنة جليلة امتاز بها الاسلام على غيره من النظم تجعله
صالحاً لكل زمان ومكان"(18).
هذا، ولكن الحقيقة هي:
ان هذه المرونة المدعاة لو كانت بحيث ان الاسلام رسم للأمة خطوط نظام الشورى العامة
وأعطاها القواعد والمبادئ الرئيسية فيه تاركاً لها تطبيق هذه القواعد تطبيقاً
متفاوتاً بتفاوت الظروف، يتأكد معه من أن نظام القاعدة موجود في شكله المناسب للظرف
المعين، وان اختلف هذا الشكل عن الشكل المطبق في ظرف آخر.
وبحيث كان لكل ظرف خاص شكل معين خاص يتأكد الناس بلا أي تشكيك من أنه الشكل
المطلوب. نعم، لو كانت المرونة بهذا النحو لأمكن أن يجعل هذا حسنة جليلة يمتاز بها
الاسلام ـ على حد تعبيره ـ على غيره من النظم تجعله صالحاً لكل زمان ومكان. إلا أن
الواقع يخالف هذا تماماً؛ فإن هناك أشكالاً عديدة ومصاديق مختلفة تتصور حتى في اطار
زمان واحد وظروف متحدة في الخصائص وتبقى الاسئلة هنا حائرة بلا جواب؛ فمثلاً لو
اختلف المستشارون على قولين وكانت الأكثرية في طرف معين في حين كان أكثر أهل السداد
والصلاح والمشهورين اجتماعياً في الطرف الآخر، فلأي الطرفين يكون الترجيح؟ وهل نهتم
بعنصر الكم أو بعنصر الكيف؟ ولو أن الجانبين تساوياً كماً وكيفاً، فما هو الموقف؟
وهل يؤثر الترجيح بصوت واحد أم لا؟ ومن هم الذين ينبغي أن يكونوا مشتركين في
الشورى؟ هل كل من يصلح للمشورة له الحق في هذا، أو يقتصر على البعض منهم؟ وما هو
مقدار هذا البعض؟ وكيف نستفيد ذلك من نصوص الشورى؟
ربما يقول البعض في هذا الصدد ان المشاورين هم كل من كان موضوع الشورى يهمهم من
المسلمين، وذلك بدليل قوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم}، فبملاحظة وحدة مرجع الضميرين
في "أمرهم" و "بينهم" يعلم أن المشتركين في عملية التشاور هم كل من كان الأمر
المتشاور فيه أمرهم.
ولكن كيف نحسم الموقف في موضوع يرتبط بجماعة بدرجة من الارتباط، كما يرتبط بقطاع
خاص من قطاعات هذه الجماعة نفسها بدرجة أشد وأوثق، بحيث يمكن ان ينسب العرف (الأمر)
تارة الى هذا القطاع الخاص وأخرى الى الدائرة العامة الشاملة له ولغيره؟ وأي هاتين
الجماعتين (العامة والخاصة) تشترك في عملية الشورى؟
وهناك الكثير من الأمثلة العملية التي يمكن أن تصدق عليها هذه الصورة؛ فمثلاً لو
اتفقت الأمة ـ على سبيل الإجمال ـ على انتخاب فقهاء البلد لإدارة الحكم، ثم وقع
الخلاف في مجال تنسيق الأعمال وتقسيمها على الفقهاء بين أكثرية الناس ـ بما فيهم
الفقهاء ـ وأكثرية الفقهاء أنفسهم، فما هو موقفنا بعد الإيمان بمبدأ الترجيح
بالأكثرية؟
ها نحن نجد أكثرية الناس من جهة تؤمن بلزوم إرجاع الأمور كلها الى الفقهاء وتوافق
عليه، ومن جهة أخرى نلاحظ أن أكثرية الناس أيضاً تفضل أن يعين فلان رئيساً للدولة،
أو أن يتم الحكم عن طريق "مجلس قيادة" بدلاً من القيادة الفردية. إلا أن أكثرية
الفقهاء أنفسهم، ومن جهة ثالثة، كانت تخالف رأي أكثرية الأمة في ذلك.
فهل العبرة بأكثرية الناس لأن الأمر أمرهم، أو بأكثرية الفقهاء لأن الأمر يختص
بمجال عملهم وأسلوب تقسيمه فيما بينهم في المجال الإداري الذي سلمه الناس إليهم؟
هذا أحد الأمثلة، وهناك مثال آخر:
فلو فرضنا جماعتين أريد أن ينتخب لكل منهما شخص متخصص في معرفة مصلحة الجماعة التي
يمثلها، وذلك بروح أن يشترك الشخصان في عملية تنسيق بين المصالح العامة والخاصة بما
يحقق مصلحة المجموع لا بروح أن يكون كل فرد منهما يدافع عن مصالح الجماعة التي
يمثلها فقط، فلمن نمنح حق إنتخاب هذين الشخصين، هل لمجموع الجماعتين أو يختص إنتخاب
كل شخص بالجماعة التي هو خبير بمصالحها ومهتم بها؟
ان الأمر كما يمكن أن ينسب ـ عرفاً ـ الى الجماعة الخاصة يمكن أن ينسب الى المجموع
أيضاً، فهو أمر الكل.
ومثال ثالث:
أريد التشاور في قانون يمس النساء أكثر من غيرهن، فهل يختص التصويت بهن لأن الأمر
أمرهن أو يرجع للكل لأن الأمر أمر الكل؟ ولأي الأكثريتين يرجع لو اختلفتا؟
وبعد كل هذا، فلو تخلّف بعض الأشخاص الذين كان الأمر أمرهم عن الاشتراك في الشورى،
فهل تبطل الشورى أولاً؟ وبأي قدر من الانسحاب تبطل ـ لو قلنا بالبطلان ـ؟ وهل
يجبرون على الاشتراك في عملية التشاور من قبل من اكتسب السلطة والولاية في مرحلة
سابقة؟
على أنه يوجد في الناخبين أو المستشارين الكثيرون من المستضعفين ممن لا يؤثر دخولهم
في عملية التشاور في الاقتراب الى ما هو الأصلح والأقرب الى الحق، وذلك لعدم قدرتهم
على التفكير الصحيح المستوعب لموضوع الشورى، مثل كثير من العامة والنساء الجاهلات
في بعض الأجواء الاجتماعية. وهذا القطاع من المستضعفين يملأ ـ أحياناً كثيرة ـ
مساحة واسعة من الأمة، فهل يشترك هؤلاء في العملية لأن الأمر أمرهم أيضاً ولا
يستثنى منها إلا الأطفال الصغار أو المجانين أو السفهاء شديدو السفه مثلاً، اما من
عداهم فيشتركون بمقتضى إطلاق عبارة {وأمرهم شورى بينهم} ويدعون الى التشاور ولو على
أساس تأليف القلوب وجلب رضا الجيمع مثلاً، أو يرفض اشتراكهم باعتبار أن الهدف من
الشورى ليس إلا معرفة أصلح السبل فيمنعنا ذلك عن فهم الاطلاق من الدليل؟ وعلى
التقدير الثاني فما هي بالضبط الحدود الفاصلة بين من يحق له الاشتراك في الانتخاب
ومن لا يحق له ذلك؟
إن هذه الأسئلة الشاخصة وعشرات غيرها تبقى بلا جواب، وتدع المجتمع ـ أي مجتمع ـ في
غمرة من الحيرة في مجال اختيار الشكل الواحد من الأشكال الأخرى للشورى والتي يمكن
أن يفترض أنها هي الصحيحة في نفس هذا الزمان وهذا الظرف.
ومن هنا يؤكد الاشكال على أن المرونة الاسلامية إنما تتصور وتصبح مزيّة جليلة
للإسلام ـ على فرض قوله بنظام الشورى ـ فيما إذا حدد قواعد هذا النظام ومبادئه بشكل
لا يؤدي الى هذه الحيرة العجيبة. اما ترك الأمور على عواهنها وعدم تثقيف الأمة بتلك
القواعد والاكتفاء بإشارة من آية قرآنية الى الشورى، فلا يعبر إلا عن نقص فاحش
يتبرأ الاسلام من نسبته إليه وإلى مبلغه وجاعله تعالى.
هذا هو السؤال المحير الذي يطرح أمام النظرية السنية القائلة بنظام الشورى، فلنتعرف
على ما يمكن أن نجيب به عليه.
ويمكننا هنا ان نتصور الإجابات كما يلي:
الجواب الأول:
أن يدعى أن الامامة والدولة وكيفية الحكم أمر دنيوي لا يفترض في الشريعة الاسلامية
التدخل فيه، كغيره من الشؤون الدنيوية. ولذا فلا يعتبر عدم تعرض الاسلام لهذا
الجانب الدنيوي نقصاً، أما وقد تفضل الاسلام وتعرض له فإن من الطبيعي له أن يكتفي
بالإطار العام دون أن يقيده بأي قيود تمنع من تطبيقه في كل زمان ومكان مع اختلاف
الظروف الزمانية والمكانية، ولذا أعطت الشريعة المفهوم العام وتركت للأمة أمر تحديد
الشكل والخصوصيات المناسبة لها، بعد أن كان للإسلام أن يترك لها حتى حق اختيار نظام
الشورى ـ من أصله ـ أو رفضه بلا أن يشكل ذلك أي نقص منطقي فيه لأنه من شؤون الدنيا.
وهكذا يمكن أن نقول: ان ترك التحديد بنحو لا ينسجم مع مختلف الظروف هو حسنة جليلة
للاسلام.
ولكن هذا الجواب الأول باطل تماماً للأمور التالية:
أولاً: إن مسألة الحكم والامامة من الضرورات التي لا يمكن غض النظر عنها بعد أن كان
حفظ أصل الاسلام وقوانينه في المجتمع متوقفاً عليها؛ فإذا افترضنا الاسلام مهتماً
بنفسه وتشريعه وجب أن نفترض وقوفه موقفاً إيجابياً من مسألة الحكم، ولو بإعطاء نظام
ذي قواعد مرنة تقبل الانطباق على مختلف الظروف وعدم إيكال هذا الجانب الى العقول
الإنسانية التي ينتابها الضعف من مختلف الجوانب فيتيه الناس وينسحق بالتالي أصل
الشريعة.
وثانياً: إن الاسلام نظام كامل شامل للحياة، ولم يغفل تنظيم شؤون الحياة الانسانية
الدنيوية بالمقدار الممكن ترقّبه من الشريعة والدين الواقعي. ويتوضح هذا بملاحظة
النظم الاقتصادية والاجتماعية وتحديد أساليب السلوك الفردي والاجتماعي وتنظيم
الأمور العائلية وغير ذلك. بل إن تدخل الاسلام في الشؤون الدنيوية من ضروريات الدين
الاسلامي أو الفقه ـ على أقل تقدير ـ الأمر الذي لا ينكره إلا مكابر، ومع هذا كيف
نتصور الاسلام يغفل جانب الحكم، وهو من أهم المسائل الحياتية للمجتمع الذي عمل على
بنائه ووضع أسسه.
وثالثاً: ان الامامة أو تأسيس الدولة يتضمن ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ إعمال نفوذ
شخص وأشخاص في مجالات كثيرة، الأمر الذي لا ينسجم مع الأحكام الأولية للناس.
وعليه، فلو لم يكن تأسيس الدولة هذا قائماً على أساس من ولاية إسلامية تعطى ضمن
نظام خاص لمن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، لأمكن تصور التورط في محرمات كثيرة.
الأمر الذي يعيق تشكيل أي حكومة إسلامية صحيحة، وبالتالي يوقع المجتمع المتدين في
ورطة وحيرة شديدتين.
الجواب الثاني:
أن يقال ان عدم تحديد المبادئ العامة وشكل نظام الشورى قد يكون على أساس عدم وجود
عناصر مشتركة بين مختلف الظروف والعصور والأمكنة، مما لم يمكن معه أن توضع قواعد
مشتركة عامة لمعالجة مختلف المواقف بقواعد واحدة وإن اختلفت تطبيقاتها، ولذا وجد
الاسلام ـ بمقتضى واقعيته ـ أن يترك هذا النظام بلا تحديد.
ولكننا نلاحظ بهذا الصدد:
أولاً: ان هذا الجواب لا يعني تبرئة الاسلام من النقص في تنظيم الحياة والتشريع
الشامل لكل جوانبها، وإلقاء تبعة كل النقائص على سوء تطبيق المسلمين لهذه القوانين
الاسلامية الكاملة الضامنة للسعادة، وإنما يعني أن الاسلام ناقص، ولكن هذا النقص
مبرر بأن لابد منه بعد أن لم تكن هناك عناصر مشتركة بين مختلف الظروف يمكن وضع
قواعد ثابتة لها.
ولو تطرق هذا الاحتمال ـ أي احتمال النقص الجبري في نظام الدولة في الاسلام ـ لتطرق
الى العديد من جوانبه أيضاً، كالجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي، إذ يقال فيها
كذلك: لعل الاسلام عاجز عن تنظيم الحياة في شتى الجوانب بالنحو الصالح، ولذا أبقى
أسس النظم ناقصة أحياناً ـ كما في نظام الشورى ـ أو ملأها أحياناً أخرى بنحو لا
يصلح إلا لبعض الأزمنة والظروف، ولكنه اضطر لتعميمها على كل الظروف حتى التي لا
تصلح لها، وهذا التعميم كان ضرورياً لعدم قدرته على تعيين بعض العلائم والدلالات
التي يفهمها الناس فيعينوا بها الظرف الصالح للتطبيق ويفصلوه عن الظرف غير الصالح.
ولما كان الأمر دائراً بين عدم إعطاء أي نظام في المورد أصلاً فيتيه الناس في كل
الظروف، وإعطاء النظام بشكل مطلق فيسعد الناس في بعض الظروف ـ على الأقل ـ فقد
اختار الشق الثاني لمصلحة الناس.
وعليه يدعى أن هذا لا يشكل نقصاً في الاسلام، وإنما ينشأ من عدم وجود حل مناسب ـ
مرن مرونة حقيقية ـ في الواقع، لا أن يفترض وجود حل في الواقع لم يتوصل إليه
الاسلام.
أفهل يمكن الأخذ بهذا الاحتمال على ما فيه من تبعات؟!
والواقع أننا عممنا الاحتمال ليشمل غير جانب نظام الحكم، ولم نهدف إلا الى تنبيه
الوجدان الى أن هذا الاحتمال يخالف ضرورة واضحة من ضرورات الدين أو الفقه على
الأقل.
وثانياً: ان هذا النقص المفترض له محتملات ثلاثة:
المحتمل الأول: أن نفترض وجود نظم عديدة وأشكال مختلفة للشورى، وهي تصلح جميعها لكل
الظروف والعصور، فلم يشأ الاسلام أن يعين أحدها دون غيره، لأن ذلك سيكون ترجيحاً
بلا مرجح وإلزاماً بلا ملزم. ويختلف نظام الشورى عن سائر النظم الاجتماعية
والاقتصادية وغيرها في الموارد التي يمكن الحكم فيها بالتخيير بفارق مهم، هو:
ان الاسلام عندما يواجه مشكلة اجتماعية أو اقتصادية لها أسلوبان صالحان للحل على
مستوى واحد مع إمكانية التخيير، فإنه يخير الناس بينهما، فيرتفع النقص. أما بالنسبة
لمجال الحكم والشورى والتصويت، فإنه لم يكن بالإمكان الحكم بالتخيير بين نظامين
معينين مثلاً، رغم ان كلاً منهما يحل المشكلة! وذلك على أساس أن الناس قد يختلفون
في اختيار أحدهما دون الآخر، فلا نصل بالتالي لحل أساس يقيم أود الدولة، ويسير
بالمجتمع سيراً موحداً نحو أهدافه. ولهذا لم يشأ الاسلام ان يعين شكلين مثلاً
للتخيير، فالتزم الاسلام جانب الاهمال، وإنما ترك تعيين الأشكال والقواعد للناس.
ولنقتصر في الجواب على هذا بتوضيح أنه بإمكان الاسلام أن يعين أحد الأنظمة ـ ولو
على أساس الترجيح بلا مرجح ـ وهو أمر جائز في الأفعال الاختيارية، فالله تعالى
يختار بلا مرجح أحد الأنظمة (التي يفرض أنها جميعاً تحل المشكلة)، وذلك تفادياً
لبقاء الاسلام على نقصه وعدم اهتداء الناس الى أسلوب موحد صحيح، ووقوع الأمة
المسلمة في مشكلة الخلاف والنزاع حول نوعية النظام الأصلح(19).
المحتمل الثاني: أن نفترض وجود نظم عديدة للشورى بحيث كان كل منها صالحاً ـ واقعاً
ـ لظرف خاص دون غيره من الظروف ولذا لم يكن بالإمكان إعطاء قواعد عامة ثابتة. ومن
هنا جاء هذا التعبير العام بالشورى دون تحديد أي مبدأ أو قاعدة فيه.
وجوابه: أن الاسلام ان أمكنه أن يعطي بعض الميزات التي تعين الظرف الخاص لكل نظام،
كان عليه ذلك، وإلا كان من الطبيعي ان نفترض مجيء رسول جديد على رأس كل ظرف وبين
فترة وأخرى ليهدي الناس الى الدين المناسب لذلك الظرف، أو يعين الاسلام وصياً خاصاً
يملأ هذا الفراغ الهائل.
المحتمل الثالث: ان نفترض أن كل أنظمة الشورى ناقصة وعاجزة عن إسعاد البشرية، ولكن
لما كان مبدأ الشورى أفضل من الفوضى والهرج فقد أطلق الاسلام كلمة (الشورى) دون أن
يعين فيها أي قاعدة.
وهنا نقول: ان الواقع هو أن كل أنظمة الشورى لا يمكنها أن تسعد البشرية حقاً، ولكن
هذا لا يعني أن لا طريق للاسلام إلا بإعطاء نظام متميع ضائع الحدود، وإنما عليه أن
يعدل عن أصل نظام الشورى الى نظام النص على القائد، ومنحه الولاية العامة، أو اعطاء
الولاية العامة لمن هو ذو مواصفات خاصة. وبذلك يمكنه أن يتدخل تدخلاً مباشراً
لإسعاد الانسانية دون أن يبتلي بالنقص المذكور. وهذا ما صنعه الاسلام بالضبط ـ كما
نرى ـ.
وخلاصة الأمر: أن الاسلام لم يعجز عن وضع نظام يسعد البشرية بتطبيقه الكامل الشامل
ولم يتهاون في ذلك. أما شقاء البشرية فهو ينشأ بالضرورة من تهاونها وتقصيرها في
مجال تطبيقه، وربما أشارت الآيتان الكريمتان لهذا المعنى، إذ يقول تعالى:
{ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا يكسبون}(20).
ويقول تعالى:
{ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن
تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون}(21).
الجواب الثالث:
أن يقال: ان نظام الشورى وإن كان يبدو ـ بادئ الرأي ـ نظاماً مبهماً مائعاً، ولكننا
إذا تأملنا الأمر أكثر ارتفع الابهام والميوعة.
وما يمكن أن يفترض رافعاً لكل إبهام في نظام الشورى، هو أحد أمور ثلاثة:
الأول: أن يقال بأن دليل الشورى نفسه دليل مطلق، وهذا الإطلاق وعدم التحديد في
الدليل يمنح الأمة اختياراً تاماً بين مختلف الأشكال التي تتعلقها للشورى في زمان
واحد وظروف واحدة.
وجواب هذا واضح، إذ ماذا نصنع فيما لو اختلفت الأمة في الاختيار؟ إن هذا السؤال
نفسه يوجب أن لا يفهم العرف من الدليل مثل هذا الاطلاق المدعى بهذا المعنى.
الثاني: أن يدّعى إمكان تعيين شكل نظام الشورى بالشورى.
وهذا أيضاً يبتلى بنفس الإشكال السابق، إذ ماذا نصنع لو اختلفت الأمة في تعيين هذا
الشكل ولم تنته المشكلة الى حل؟!
فلو فرضنا أن الأمة اتفقت على تسليم ادارة الأمور بيد الفقهاء واعتبرت ذلك هو
الأفضل ـ بأي شكل يفرض تنسيق الأمور فيما بينهم ـ ثم اختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية
الفقهاء في كيفية التنسيق فيما بين الفقهاء، فرحنا نستفتي الأمة عن رأيها في المرجع
النهائي لحالة ما إذا كان هناك أمر من الأمور ينسب تارة الى دائرة وسيعة وأخرى ـ
وفي نفس الوقت ـ ينسب الى دائرة ضيقة ضمن تلك الدائرة الوسيعة، فلمن يرجع في
التصويت؟ فأفتوا بعدم وجود مقياس عام يرجع له في كل الحوادث، وإنما يجب التصويت
لهذا الأمر في كل مسألة؛ فقد يكون الأصلح الرجوع للدائرة الوسيعة وقد يكون العكس.
ورحنا نستفتي في هذه المسألة بالذات (أي تنسيق الأمور بين الفقهاء) وهل يكون بتصويت
خاص بين الفقهاء أو بتصويت عام تشترك فيه الأمة، فاختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية
الفقهاء، فما هو موقفنا من هذه الفوضى البالغة؟!وإذا طرحنا مشكلة (وجود رجحان كمي
في طرف وكيفي في آخر، ومن المقدم منهما؟) على الامة وافترضنا ان قسماً يمتلك
رجحاناً عددياً منها اختار تقديم الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان العددي، في
حين أن القسم الآخر الذي يمتلك الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان الكيفي، فماذا
الحل والمخرج؟!
وإذا طرحنا مشكلة (المتقاعسين عن الاشتراك ومدى اضرارهم بالتصويت أولاً) على الأمة
وتقاعس البعض عن الاشتراك في التصويت على هذه المشكلة، فماذا نصنع؟!
وإذا رحنا نستفتي الأمة عن (مسألة اشتراك المستضعفين من النساء والرجال أو
استثنائهم وعن الحد الفاصل بين من يخرج عن دائرة التصويت ومن يدخل) فممن يكون
الاستفتاء؟ هل من كل الأمة أو ممّا عدا المستضعفين؟ وما هي حدود الاستثناء، علماً
بأن النتيجة قد تختلف بدخول البعض عنها في حال خروجه؟!
الثالث: أن يدّعى أن نظام الشورى وإن كان مبهماً ناقصاً عند تشريع الإسلام له إلا
أن من حق أحد المجتهدين إكماله في كل زمان وظرف، وذلك بملء الفراغ باجتهاده عبر
الاستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك حسب مباني الفقه السني المشهور.
ولكن ماذا نفعل فيما لو اختلف المجتهدون في عصر واحد وفي ظروف واحدة في
تشريعاتهم..؟ إن اختلاف المجتهدين في أحكام فردية أمر هين، ولكن ماذا نصنع بنظام
الحكم حين يختلف فيه المشرعون؟! قد يقال نعمل على جمعهم في لجنة واحدة لينتخبوا بعض
الاجتهادات وفق نظام الشورى، إلا أن هذا يعني الرجوع مرة أخرى الى الشورى التي لا
زالت مائعة غامضة الحدود والمبادئ!
وبهذا العرض اتضح الإشكال في كل ما يقام من أدلة على مبدأ الشورى والتصويت
والانتخاب كأساس لإقامة الدولة، إذ لو كان يهدف رسول الله (ص) حقاً لإرشاد أمته
بعده نحو تسيير أمورهم وانتخاب حكومتهم بالشورى، لكان عليه أن يشرح لهم بنود هذا
المبدأ ونظمه. ولو كان الأئمة المعصومون (ع) يهدفون حقاً الى توجيه الشيعة بعد
الغيبة نحو الشورى والانتخاب، لكان عليهم أن يشرحوا للشيعة بنود الشورى،
ونظمها(22).
ولكننا مع هذا نتعرض لأهم أدلة الشورى كي نرى هل تسلم عن الإشكال، لو غضضنا النظر
عن هذه الملاحظة العامة، أولاً؟
أدلة الشورى من الكتاب والسنة
عندما يطرح البحث على الصعيد الشيعي ـ حيث يبحث عن شكل الحكم في عصر الغيبة ـ
تستثنى أول الأمر من روايات الشورى بعض الروايات التي يبدو منها كون الامامة أو
تعيين القيادة بالانتخاب والشورى حتى في زمن حضور الأئمة (ع)، وكأن امامة الامام
أمير المؤمنين قد تمت بالشورى والانتخاب، وذلك من قبيل ما جاء في نهج البلاغة: في
كتاب للامام علي (ع) الى معاوية: "انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر
وعثمان على ما بايعوهم، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى
للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى"(23).
ونقل ذلك نصر بن مزاحم في كتاب (وقعة صفين)(24) مع شيء من التفصيل مصدراً الكلام
بقوله: "أما بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا
بكر وعمر وعثمان…".
وجاء أيضاً في كتاب نصر بن مزاحم في كتاب له (ع) الى معاوية: "وأما قولك ان أهل
الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلاً من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل
له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار…"(25).
وجاء في نهج البلاغة: "أيها الناس ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم
بأمر الله فيه؛ فإن شغب شاغب استعتب، فان أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الامامة لا
تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها،
ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار"(26).
أقول: مثل هذه الروايات(27) حتى مع غض النظر عن حالها من حيث السند لا تدخل في
البحث الشيعي عن نظام الحكم في عصر غيبة الامام صاحب الزمان (ع)، لأن الشيعي قد فرغ
مسبقاً بالروايات والأدلة القاطعة عن أن الامامة ورئاسة الدولة في زمن حضور الامام
المعصوم ثابتة بالنص على إنسان معين هو المعصوم، وإنما يبحث عن شكل الحكم وعمّن
ينوب عن الرئيس الحقيقي للدولة ـ وهو الامام المعصوم ـ في غيابه.
نعم، يمكن طرح هذه الروايات على صعيد البحث في مجالين:
الأول: مجال البحث السني عن نظام الحكم.
الثاني: مجال البحث الشيعي السني عن الامامة بعد عصر الرسول (ص)، وانها هل هي بالنص
أو بالانتخاب.
ونحن طبعاً لم نضع هذا الكتاب للبحث عن أساس الحكم بالنسبة لما بعد عصر الرسول (ص)
مباشرة، وإنما هذا بحث آخر مفصل له كتبه ومباحثه، ولكنا نذكر هنا أن هذه الروايات
لن تنجو عن الملاحظة العامة التي مضى شرحها مفصلاً؛ فرسول الله (ص) لو كان قد تدخل
في مستقبل الأمة بعد وفاته تدخلاً إيجابياً ـ بوضع نظام الشورى ـ لكان من الطبيعي
أن نجده يشرح للأمة ضوابط هذا النظام وقواعده العامة، أما السكوت عن كل ذلك فليس
يعني إلا عدم الاهتمام بالأمة ومستقبلها وبمستقبل الدين الحنيف، وهذا ما لا ينبغي
للمسلم أن يحتمله بحق الرسول (ص).
وعليه، فالروايات المشار إليها ـ لو صحت سنداً ـ فهي محمولة عندنا على أن الامام
أمير المؤمنين (ع) يخاطب معارضيه محتجاً عليهم بمقاييسهم، وملزماً لهم بما ألزموا
به أنفسهم، فهو (ع) ـ لمصلحة الأمة ـ يسف إذا أسفوا ويطير إذا طاروا، كما جاء في
الخطبة المعروفة بالشقشقية قوله (ع):
"فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن الى هذه
النظائر، لكني أسففت إذا أسفّوا وطرت إذا طاروا"(28).
وخير دليل على نظام الشورى هو الآيتان الكريمتان:
الأولى: قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا
من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله
يحب المتوكلين}(29).
والثانية: قوله تعالى {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير
وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما
غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما
رزقناهم ينفقون* والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون}(30).
وتوجد روايات كثيرة تحث على مسألة الشورى، والأغلبية الساحقة منها أو كلها وإن كانت
ضعيفة السند ولكنها بالغة حد التواتر والاستفاضة؛ تجد كثيراً منها في الوسائل في
أبواب أحكام العشرة، نذكر منها ما يلي:
1 ـ عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم (ص) يقول: استرشدوا العاقل ولا تعصوه
فتندموا(31).
2 ـ عن ابن القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) قال: قيل: يا رسول الله ما الحزم؟
قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم(32).
3 ـ عن السري بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: فيما أوصى به رسول الله (ص) علياً
(ع) قال: لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير(33).
4 ـ عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) قال: في التوراة أربعة أسطر… من لا يستشر يندم،
والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر(34).
5 ـ عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (ع) قال: قال: لن يهلك أمرء عن مشورة(34).
6 ـ عن معمر بن خلاد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (ع) يقال له سعد، فقال له: أشر
عليَّ برجل له فضل وأمانة. فقلت: أنا أشير عليك! فقال شبه المغضب: ان رسول الله (ص)
كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد(35).
7 ـ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال لعبد الله بن عباس وقد أشار عليه
في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير علي، فإذا خالفتك فأطعني(36).
8 ـ عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (ع) ان سل فلاناً أن يشير عليّ
ويتخير لنفسه، فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛
قال الله لنبيه في محكم كتابه: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}؛ فإن
كان ما يقول مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق
الواضح إن شاء الله. {وشاورهم في الأمر} قال: يعني الاستخارة(37).
9 ـ عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: استشر العاقل من الرجال
الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف، فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في
الدين والدنيا(38).
10 ـ عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): مشاورة العاقل
الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله؛ فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف، فإن
في ذلك العطب(38).
11 ـ عن الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال: اضمم
آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب ـ الى أن
قال ـ قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ(39).
ولا بأس بذكر نموذج من أخبار العامة عن النبي (ص) في المقام، وأقتصر على ما جمعه
قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه الشورى بين النظرية والتطبيق(40).
1 ـ المستشار مؤتمن.
2 ـ المستشار مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه.
3 ـ إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير
لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن
الأرض خير لكم من ظهرها.
4 ـ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه.
5 ـ قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسوله الله.
وفي المبسوط للسرخسي: حتى إنه كان يستشيرهم في قوت أهله وادامهم.
6 ـ ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد.
7 ـ من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه.
8 ـ ما يستغني رجل عن مشورة.
9 ـ من أراد أمراً فشاور فيه وقضي هدي لأرشد الأمور.
10 ـ لما نزلت {وشاورهم في الأمر} قال رسول الله (ص): أما ان الله ورسوله لغنيان
عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها
لم يعدم غياً.
والواقع ان إقامة حكومة اسلامية حقة، لا يمكن أن تكون ـ كما ألمحنا فيما سبق ـ إلا
بولاية واسعة النطاق تضفيها السماء على الهيئة الحاكمة أو الفرد الحاكم، وتشمل حق
جميع التصرفات التي لا تتقوم الدولة إلا بها، من قبيل:
1 ـ التصرف في ممتلكات القاصر.
2 ـ وتنبيه العصاة.
3 ـ وإجراء النظم والقوانين الشرعية ولو عن طريق إجبار من لا يخضع لها بالاختيار.
4 ـ وخصم المرافعات.
5 ـ وتوحيد المواقف فيما يحتاج الى ذلك، كما في الأمر بالجهاد وغير ذلك.
6 ـ والالزام في كثير من الموارد الأخرى بما هو غير لازم بالعنوان الأولي، أي في
نفسه وبغض النظر عن أوامر الدولة.
كما ان هذه الولاية تؤدي كثيراً الى تجويز ما هو غير جائز بالعنوان الأولي(41).
فالبحث حول جعل الشورى أساساً للحكم يجب أن يتركز على انه هل يُستفاد من أدلة
الشورى كونها مبدأ للولاية بعرضها العريض وفي نطاقها الواسع أولاً؟
محتملات الشورى
فنقول: ان المحتملات بدواً في مسألة الشورى ثلاثة:
المحتمل الأول:
ان يدّعى أن الشورى تؤدي الى امتلاك السلطة الشرعية والولاية؛ فلو تمت الشورى على
تعيين فرد أو هيئة ولياً فالولاية تثبت له أولها في الحدود التي قررتها نفس عملية
الشورى، ولو تمت عملية الشورى على حكم فأقرت بها الأكثرية عاد الحكم نافذاً حتى في
الموارد التي يكون الحكم فيها مخالفاً لمقتضى الواجب الالزامي الظاهري الثابت عند
الفرد، بغض النظر عن الحكم المذكور(42).
ويمكن للولي المعين بالشورى أن ينفذ قانون العقوبات وغيرها من القوانين التي يجب أن
ينفذها الولي لا غير، كما يمكنه أن يشرف على الشؤون الاجتماعية التي لا يسد نقصها
إلا من له الولاية.
وبكلمة واحدة: ان الشورى يمكنها أن تثبت جميع شؤون الولاية العامة.
المحتمل الثاني:
أن يدّعى أن الشورى إذا أدت الى لزوم العمل طبق خط خاص، فإن ذلك حكم يلزم الجميع،
حتى لو كان على خلاف الرأي الشخصي للمتبع الذي يرى لنفسه عدم الإلزام لولا الشورى.
وبهذا تكون نتيجة الشورى هي تبديل الجواز بالوجوب ودون أن تستطيع ـ أي الشورى ـ أن
تثبت للولي كل شؤون الولاية العامة ـ بعرضها العريض ـ ذلك بأن يقال: ان دليل الشورى
ليس فيه ظهور يمكن معه إثبات هذا المستوى من الولاية، وإنما الذي يظهر منه أن وزانه
هو وزان دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين والشرط والعقد، وكلها انما تفترض
في المساحة الجائزة من الأحكام، حيث لم يكن يوجد فيها إلزام بخلاف هذه الأحكام ولو
بنحو ظاهري.
وهذا المدعى ـ لو تم ـ لم يغننا في مجال إنشاء الحكومة الاسلامية التي يمكنها أن
تملأ كل الفراغات الاجتماعية، فإنها ـ كما قلنا ـ تتوقف على ثبوت الولاية في
الدائرة الواسعة التي أشرنا اليها ولا تكتفي الولاية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب
فحسب.
المحتمل الثالث:
أن تكون الشورى مجرد أسلوب للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من تجاربهم
وخبراتهم، دون أن تؤدي الى إلزام أو ولاية أو تسليط على أي شيء ـ أي دون أن تنتج
الولاية بعرضها العريض ـ كما في المحتمل الاول، وحتى دون أن تنتج الولاية في مجال
تبديل الجواز بالوجوب كما في المحتمل الثاني.
ومثل هذا لوحده لا يمكنه ـ كما هو واضح ـ أن يشكل أساساً لدولة إسلامية إطلاقاً،
بعد أن أوضحنا فيما سبق احتياج الدولة قبل كل شيء الى الولاية، والمفروض أن الشورى
بهذا المعنى لا تؤدي اليها.
وهكذا يبدو لنا: أن الشورى إنما يمكنها أن تشكل أساساً للدولة الاسلامية إذا
استطعنا أن نعين المحتمل الأول وندلل عليه من بين المحتملات الثلاثة المذكورة.
علاقة أدلة الشورى بأدلة ولاية الفقيه
نحن نعلم أن هناك أدلة تنص على أن الولاية العامة إنما هي لله تعالى ثم للرسول (ص)
ثم للامام المعصوم ـ على رأي الشيعة ـ ، وأخيراً فهي للفقيه الحائز على بعض الشرائط
عند غيبة الامام على ما سيأتي الحديث عنها.
ولذا فينبغي لنا أن نلاحظ العلاقة بين أدلة ولاية الفقيه وأدلة الشورى، لو تمت لها
دلالة بنحو المحتمل الأول السابق، إذ قد يقال: ان أدلة الشورى ـ حتى لو كانت دالة
على الولاية العامة بعرضها العريض وهو المحتمل الأول ـ لا تنفع في مجال جعل الشورى
والتصويت بيد الأمة جميعاً، مع وجود أدلة ولاية الفقيه؛ وذلك لأن الشورى إنما تفرض
في المساحة التي تركتها الشريعة ولم تقضِ فيها بقضاء من الله ورسوله، قال تعالى:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}(43).
فإذا كان القائد قد عين من قبل الله تعالى كما هو الحال في عصر الرسول (ص)، فهو
قضاء من الله تعالى بأنه رئيس الدولة الاسلامية، ولا مورد فيه للشورى. وهكذا الحال
في عصر الأئمة المعصومين (ع) ـ على رأي الشيعة ـ وثبوت إمامتهم بالنص… وكذا أيضاً
لو تمت الأدلة على ولاية الفقيه وأثبتت أنه قائد المجتمع في عصر غيبة الامام (ع)،
ولذا فلا معنى لطرح هذه المسألة؛ أي مسألة القيادة على بساط الشورى، وانتخاب جميع
الأمة.
وإذاً فدليل الشورى ـ لو تم على النحو الأول ـ لا مجال له في دائرة تعيين القائد.
نعم، لو جمعنا بين الدليلين (دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى) نعرف أن الشورى
والتصويت يجب أن تتم بين الفقهاء أنفسم.
وهكذا يحاول هذا الاعتراض أن يسلب مجموع الأمة الدور الأساس عن طريق الشورى في نظام
الحكم الاسلامي، حتى على تقدير دلالة أدلة الشورى على الولاية العامة.
وقد يقال بتعارض الأدلة في فتح مجال لعمل الشورى بين مجموع الأمة، وتأثيرها في غير
مجال تعيين القائد المنفذ، وهو مجال الفراغ التشريعي، وذلك بأن يقال:
لنقبل أن الشورى والتصويت من قبل الأمة لا دور لها ولا مجال عند تعيين السلطة
التنفيذية العليا من قبل الله تعالى، وهي تتمثل في الفقيه في عصر الغيبة، ومعه لا
خيرة للناس في ذلك.
إلا أن هناك منطقة فراغ واسعة تركتها مرونة الاسلام، لأنها ترتبط بمساحة حياتية
متغيرة غير محددة بعناصر مشتركة؛ فلم تقض الشريعة فيها بحكم مباشر وقانون خاص، ولكن
عينت من يُرجَع إليه في ملء هذه المنطقة ملأً منسجماً مع متطلبات الظروف. وقد
تعارضت الدلالة وتنافت في مجال تعيين هذا المرجع، فمن دليل يؤكد على أنه الفقيه،
الى آخر يركز على أنه الأمة أو الأكثرية.
ووفقاً لهذا العرض يكون الدليلان ـ دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى ـ في مستوى
واحد، ولا يتقدم أحدهما على الآخر في هذا المجال.
والواقع: أن هذا البيان لا يتم، فقد سبق وان قلنا: أن قوله تعالى {وأمرهم شورى
بينهم} يقرر بأن الشورى إنما تكون بين من يكون الأمر ـ موضوع التشاور ـ أمرهم؛ فإذا
كان هناك موضوع ينسب تارة الى دائرة واسعة وينسب تارة أخرى الى جماعة خاصة في داخل
تلك الدائرة، فتصبح إضافة الأمر إليهم آكد وأوثق، فإن ذلك إجمالاً في النص السابق،
وتردداً بين منح الشورى للدائرة الكبرى أو الدائرة الضمنية.
ودليل ولاية الفقيه يدل على أن موضوع ملء منطقة الفراغ من هذا القبيل، فهو من جهة
أمر يهم الأمة وينظّم حياتها، فهو ينسب اليها بهذا الاعتبار. ولكنه من جهة أخرى
ينسب الى الفقهاء ـ بدلالة أدلة ولاية الفقيه ـ وليس الفقهاء إلا قطاعاً خاصاً من
قطاعات الأمة.
فبناءً على دليل ولاية الفقيه، يكون دليل {وأمرهم شورى بينهم} مجملاً بالنسبة لهذا
المورد، ومع ذلك لا ينهض كدليل معارض لدليل ولاية الفقيه غير المبتلى بالإجمال.
وتثبت بالتالي أن الولاية ـ سواء في مجال السلطة التنفيذية أو مجال ملء منطقة
الفراغ ـ هي للفقيه لا غير، وإن كان لابد للفقهاء بحكم آية الشورى أن يتشاوروا فيما
بينهم في كيفية التنفيذ وملء منطقة الفراغ.
الجمع بين الدليلين بانتخاب الفقهاء فقط:
وربما يعترض على ما سبق بأننا لو قبلنا هذه الدلالة التامة لأدلة ولاية الفقيه
ومنحناه سلطة التنفيذ وملء منطقة الفراغ، فماذا يبقى في البين لدليل الشورى غير
التشاور بين الفقهاء أنفسهم، بينما جاءت الآية في معرض وصف المؤمنين عموماً؟ فهل
يمكن تأويلها في إرادة خصوص الفقهاء؟ إن الفهم العرفي يأبى ذلك، ولذا فهو يرى حصول
تنافٍ بين الدليلين إذا قبلنا بالنتيجة السابقة(44).
ولذا فإن مقتضى الأخذ بكلا الدليلين ـ لو تمّا في نفسيهما ـ هو القول بمنح الأمة حق
انتخاب مرشحيها للحكم، ولكن ليس لها أن تختار من غير الفقهاء، فإذا انتخبت من
الفقهاء راح المنتخبون يديرون الأمور بالتشاور فيما بينهم.
فإذا أعطينا الأمة هذا المقدار من النصيب في الأمر، كنّا قد تجاوبنا مع الفهم
العرفي الذي لم يستسغ بأي وجه تخصيص الآية الكريمة وجعلها في دائرة الفقهاء
فقط(45). إلا أن كل هذا البحث فرع أن نفهم من دليل الشورى مسألة التصويت وإعطاء
الولاية بيد الأكثرية أو من ينتخب.
فلنقم بمناقشة أدلة الشورى ومعرفة مدى إمكان تعيين الاحتمال الأول منها من بين
الاحتمالات الثلاثة السابقة.
ملاحظة أدلة الشورى
أما الروايات:
فنستثني منها قبل كل شيء ما دل على أن تعيين الامامة في زمن الأئمة المعصومين (ع)
أيضاً كان بالشورى والانتخاب(46)! وقد تقدم الحديث عنها.
وهنا نلاحظ أن بعض روايات الشورى لا تشتمل على أمر بالشورى أو نهي عن مخالفتها،
وإنما لا تعدو كونها حثاً على التشاور، كما روي عن النبي (ص) قوله: "لا مظاهرة أوثق
من المشاورة".
وهذا القسم من الروايات ـ لا يدل على المقصود ـ كما هو واضح.
كما أن هناك قسماً منها يأمر بالمشورة دون أن ينهى عن مخالفة المستشارين، وهي كما
في وصية أمير المؤمنين (ع) لمحمد بن الحنفية حيث قال له: "اضمم آراء الرجال بعضها
الى بعض ثم اختر أقربها الى الصواب وأبعدها من الارتياب".
وهذا القسم لو فرض(47) دلالته على وجوب المشورة على الإطلاق فإنه لا دلالة فيه على
كون لزوم التشاور لأجل ما في الشورى من ولاية، ذلك أن الولاية لم تؤخذ ـ لا لغة ولا
عرفاً ـ في كلمة الشورى.
ولهذا فيمكننا أن نقول: ان المراد به هو إيجاب التشاور طبق المحتمل الثالث من
المحتملات الثلاثة الماضية، وذلك للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من خبراتهم،
كما هو الظاهر من الوصية الماضية حيث يقول (ع): "ثم إختر أقربها من الصواب وأبعدها
من الارتياب"، ويعطي الخيار بيد المستشير دون المستشارين.
وهناك قسم ثالث من الروايات ينهى عن مخالفة نتيجة الشورى، كقوله (ص): "استرشدوا
العاقل ولا تعصوه فتندموا".
وهذا القسم يمكن حمله على مجرد الحث دون الوجوب والولاية، وذلك بملاحظة أن هذه
الرواية لم ترد بالنسبة لخصوص الأمور العامة، وإنما تشمل الأمور الشخصية. ومن
الواضح أن المشورة في الأمور الشخصية ليست إلا بمعنى الاستضاءة بآراء الآخرين بلا
أي إلزام.
ولعل أكثر الروايات دلالة على المقصود ما مضى عن رسول الله (ص): "إذا كان أمراؤكم
خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا
كان أمرؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من
ظهرها".
وهناك نقطتان يمكن أن تؤثرا في قوة الاستدلال بهذا الحديث:
النقطة الأولى: أنه يمكن أن يدّعى في هذا الحديث أنه لا يشمل إطلاقاً الأمور
الشخصية، لأن قوله (ص) "أموركم شورى بينكم" موجّه الى المجتمع المسلم من حيث هو
مجتمع، والأمر أمره، فلا ينظر الى الأمور الفردية الشخصية. ولذا نجد عدم افتراض
مستشير ومستشار في الحديث(48)؛ فهناك وحدة بين المستشيرين والمستشارين تتجلى في
المجتمع. وعليه فهذه الأمور هي الأمور العامة.
وإذ قد عرفنا أن الرواية لا تشمل الأمور الشخصية، فإن هذه الرواية لا تكون مبتلاة
بالإشكال الذي أوردناه سابقاً على الروايات؛ إذ كان شمولها للأمور الشخصية يصرفها
الى أن المراد بها هو خصوص الاسترشاد والاستضاءة بآراء الآخرين، دون أن تنتج أي
ولاية.
وهو المحتمل الثالث من المحتملات السابقة.
فإذا استطعنا أن نعثر على دلالة في الرواية على المحتمل الأول للشورى ـ أي إعطاء
الولاية للأكثرية مثلاً أو لمن يعين من قبلها ـ لم يكن لهذه الدلالة معارض من هذه
الجهة.
النقطة الثانية: ان في الرواية قرينة تصرفها الى المحتمل الأول للشورى دون الثالث،
وهي ما أشرنا إليه من وحدة المستشير والمستشار وعدم افتراض اختلافهما.
بيان ذلك: أن أكثر روايات الشورى فرض فيها مستشير ومستشار، وفرض أحدهما على الآخر،
وفرض الأمر المستشار فيه أمراً راجعاً الى المستشير دون المستشار، وذلك من قبيل
وصية أمير المؤمنين (ع) لمحمد بن الحنفية الماضية "اضمم آراء الرجال بعضها الى
بعض"؛ فالمستشير هو محمد بن الحنفية مثلاً والمستشارون هم الرجال.
وقوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة" محتمل لذلك؛ فهناك شخص يحتاج الى ظهر وقوة
فتقول الرواية أن قوته بالمشورة مع الآخرين.
وقوله فيما مضى أيضاً: "استرشدوا العاقل ولا تعصوه"؛ فهناك شخص يسترشد عاقلاً.
وقوله: "من لا يسترشد يندم"؛ والفرد طبعاً يستشير غيره لا نفسه.
وقوله: "لن يهلك امرؤ عن مشورة".
وقوله: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه". وغير ذلك.
فهذه الروايات فرضت مستشيراً له أمر يحتاج فيه الى مشورة ومستشاراً، ولذا فبالإمكان
حملها على المحتمل الثالث، بأن يقال ان المستشير يعمل في النهاية برأيه لا برأي
المستشار وإنما يستشير لكسب العلم والمعرفة، واحتمال تأثير كلام المستشار على رأيه
وتبدل رأيه بذلك.
وأما النهي الوارد في بعضها عن مخالفة المستشار، فيحمل على الحث على العمل برأيه ما
لم تتحقق رؤية واضحة على خلافه وذلك بما مضى من قرينة عدم تخصيص المشورة بالأمور
العامة.
وأما قوله: "أموركم شورى بينكم" فليس المفروض فيه مستشير ومستشار يختلف أحدهما عن
الآخر، وإنما الأمر أمرهم جميعاً، فكلهم مستشيرون وكلهم مستشارون في أمر مشترك.
فلا يتطرق بحسب المفهوم العرفي احتمال أن المستشير يعمل برأيه لا برأي المستشارين
كي يحمل على المعنى الثالث، إذ لا يوجد مستشير منفصل عن المستشارين، كما لا يتطرق
عرفاً أيضاً احتمال العمل برأي ولي ما منفصلاً عن المشورة بنكتة سيأتي توضيحها ان
شاء الله عند الاستدلال بالآية الثانية على الشورى.
إذن، فيصبح المفهوم العرفي للكلام هو: أن الرأي رأي المجموع على شكل الأخذ برأي
الأكثرية مثلاً أو على أي شكل آخر. وبهذا يثبت المعنى الأول وتثبت إمكانية تعيين
ولي الأمر بالشورى.
وحاصل ما ذكرناه هو إمكان القول بتمامية دلالة هذه الرواية لولا الملاحظة العامة
الماضية في أول بحث الشورى. إلا أنه لا قيمة لهذه الرواية من حيث السند. وواضح أن
روايات الشورى ـ وإن قلنا أنها متواترة أو مستفيضة ـ إذا كان ما يمكن أن يتم منها
دلالة لا يبلغ حد التواتر ولا الاستفاضة سقط بضعف السند
وأما الآيات فتنحصر في الآيتين الشريفتين:
الأولى: هي قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}.
ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الآية بوجهين:
الوجه الأول:
ان الاستدلال بهذه الآية الشريفة اما أن يفترض نشوؤه من إدعاء أن الأخذ بآراء الغير
المستشار متضمن في مفهوم (الشورى)، فإذا أطلق هذا اللفظ ومشتقاته فهم منه استقراء
آراء الآخرين والأخذ بأكثريتها مثلاً. أو يفترض نشوؤه من ادعاء أن الأمر بالشورى
إنما هو للوصول إلى ما هو أقرب للواقع، ولا يتم هذا إلا إذا عمل المستشير برأي
الآخرين. في حين أنه لو استشارهم ثم أعرض عمّا توصلوا اليه فإن هذه الشورى سوف لا
تحقق هدفها المرجو. وهكذا تجعل هذه الصفة الطريقية للشورى قرينة عرفية على أنه يهدف
من الأمر بالشورى إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً.
أما الفرض الأول فباطل جزماً، فلم يؤخذ ـ لغة ـ في مفهوم "الشورى" أن يؤخذ بآراء
الغير لتثبت بذلك الولاية لهم ولو بنحو ناقص فضلاً عن ثبوتها ـ أي الولاية ـ بالنحو
الكامل. وبه نعرف أن لا دليل هناك من مفهوم الشورى يلزمنا بحمل "الشورى" في الآية
على المحتمل الأول أو المحتمل الثاني.
وهكذا أيضاً لا يتم الفرض الثاني، إذ حتى لو قبلنا أن المشورة المفروضة في الآية
كانت لتحقيق الوصول الى ما هو الأصلح أو للتعويد على مبدأ يوصل الأمة الى ما هو
الأصلح "وإن كان النبي (ص) غير محتاج الى ذلك"، حتى لو قبلنا هذا، فإنه لا يلازم
ولا يقتضي أن تعطى الولاية للأكثرية، إذ يحتمل أن يكون الأمر بالشورى لتحصيل
المعرفة بآراء الآخرين والاستضاءة بأفكارهم وتجاربهم التي تضاف الى تجارب المستشير
مما يقربه الى ما هو الأصلح حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية. وإنما استعرض الآراء
وانتخب منها ـ حسب فهمه وتصوراته ـ الرأي الأصلح الذي قد لا يعدو أن يكون رأي
القلة، أو رأيه هو لا غير بعد أن رأى بطلان آرائهم.
هذا، وقد لا يكون الأمر بالشورى في هذه الآية باعتبارها طريقاً للوصول الى الرأي
الأسد، وإنما باعتبارها عملية تطيب القلوب والعواطف وتحملها بشكل أكثر مسؤولية
الأمر الذي استشير فيه. وإذا راجعنا سياق الآية رأيناه يناسب هذا المعنى، إذ يقول
تعالى:
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظّوا من حولك فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.
انه سياق تطييب القلوب وشدها الى الدعوة الاسلامية، فلا يتم الاستدلال بهذه الآية
الكريمة حتى لو فرضنا أن سبيل الوصول الى الأصلح منحصر بالأخذ برأي الأكثرية.
هذا، وقد تجعل رواية علي بن مهزيار ـ التي سبق ذكرها ـ شاهدة على أن الملاحظ في
الآية الكريمة هو عنصر الوصول الى الحق والأصلح دون مجرد تطييب القلوب وتحميل
المسؤولية.
فقد روى العياشي عن أحمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (ع) أن
سل فلاناً أن يشير عليَّ ويتخير لنفسه فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل
السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: {وشاورهم في الأمر
فإذا عزمت فتوكل على الله}؛ فإن كان مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت
أن أضعه على الطريق الواضح أن شاء الله. {وشاورهم في الأمر} قال: يعني الاسختارة.
إلا أن هذه الرواية لم تدل على أن الغرض الأساس في المشورة في الآية الشريفة كان هو
اكتشاف الأصح، فلا يمكن أن نثبت وجوب المشورة بالآية الكريمة كقاعدة عامة من باب
الوصول الى ما ينبغي العمل به.
ثم ان هذه الرواية ضعيفة سنداً، لعدم معرفتنا بالرواة الذين كانوا الواسطة بين
العياشي وأحمد بن محمد.
وإذ قد أثبتنا ـ الى هنا ـ عدم وجود دلالة على ان الشورى في الآية فإنما كانت للعمل
برأي الأكثرية قلنا: ان هناك دلالة على خلاف ذلك تستفاد من قوله تعالى: {فإذا عزمت
فتوكل على الله}، فهذا يعني عدم وجوب العمل برأي المشاورين. فليس المفروض في مورد
الآية التشاور لاتباع نتيجة رأيهم أياً كانت، وإنما طلبت منه (ص) أن يشاورهم ثم
يتخذ هو القرار النهائي، ويتوكل على الله.
ومن هنا، فليس من الصحيح ما جاء في تفسير المنار حيث فسر {فإذا عزمت فتوكل على
الله} بالعزم على امضاء ما ترجحه الشورى(49)، لأن هذا الكلام إنما يتم لو كان صدر
الآية ظاهراً في الإلزام باتباع رأي الأكثر، فيحمل عندئذ "فإذا عزمت" على امضاء ما
ترجحه الشورى، أما مع عدم ظهور الصدر في ذلك فإن قوله تعالى "فإذا عزمت" محذوف
المتعلق؛ أي لم يذكر العزم على ماذا، وهذا الحذف يصبح ظاهراً في أن متعلق العزم
عبارة عما يرتئيه هو بنفسه(50). وتكون الآية ظاهرة في المحتمل الثالث من المحتملات
التي ذكرناها في الشورى، وهو مجرد طلب الاسترشاد بآراء الآخرين بلا أي إلزام في
البين.
الوجه الثاني:
أنه لا يمكن تفسير الآية الكريمة بفرض أي ولاية للمستشارين أو الأكثرية، فمن الواضح
عدم وجود أي حاكمية أو ولاية لأي جهة في مورد الآية ـ وهو النبي (ص) ـ إذ هو أولى
بالمؤمنين من أنفسهم.
فإذا قالوا: أن عمل النبي بالشورى كان لغرض تدريب الناس على الالتزام بهذا النظام
وإن لم يكن بنفسه محتاجاً الى الشورى ولم تكن للمشاورين أي ولاية عليه.
قلنا: انه إذا لم نقبل وجود الولاية في المورد الذي صرحت الآية به، فكيف نقبل
دلالتها على الولاية في غير موردها(51)؟!
الآية الثانية: قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}.
وتقريب الاستدلال بها أن يقال: أنه لا إشكال في أن المفروض عادة في باب الاستشارة
أن المستشير يعمل بعد الاستشارة برأي ما، فما هو الرأي الذي يعمل به في المقام، وهل
يتعين أن يكون هو رأي المستشارين أو أكثريتهم مثلاً، أو لا يتعين ذلك، بل قد يطرح
رأي المستشارين جميعاً ويعمل برأي نفسه لإقوائية أدلته، أو لأن كل واحد من
المستشارين دله على نقاط ضعف كلام الآخر مثلاً، أو أن هناك ولياً آخر في المجتمع
غير الأكثرية، أو من تعينه الأكثرية يتعين الأخذ برأيه، وإنما كانت الاستشارة لأجل
الاستضاءة بأفكار الناس، فقد تؤثر أفكار الناس على الولي وتنير الدرب أمامه؟
فهذه فروض ثلاثة:
1 ـ فرض العمل برأي المستشارين.
2 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين، ثم يعمل المستشير بما يرتئيه
هو.
3 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار المستشارين، ثم الذي يصمم على رأي
معين ويتبع الآخرون رأيه هو ولي المجتمع لا الأكثرية.
اما الفرض الأول فهو المقصود.
وأما الفرض الثاني، وهو أنه قد يأخذ المستشير برأي نفسه ويطرح رأي المستشارين فهذا
يتوقف على المغايرة بين المستشير والمستشار، بينما نجد هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة
التي أضافت الأمر الى ضمير راجع الى نفس المستشارين.
وأما الفرض الثالث، وهو افتراض وجود شخص ما غير تمام المستشارين أو أكثريتهم يجب
الرجوع إليه، فهو وإن كان محتملاً في المقام، ولكنه خلاف الظاهر في الآية الشريفة،
وكذا في رواية "أموركم شورى بينكم"، وذلك بنكتة عدم وجود أي إشارة في الكلام من
قريب أو بعيد الى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه(52).
السابق || التالي