تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُّبِينًا}[1].
{الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[2].
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[3]
[1] النساء، الآية: 122.
[2] التوبة، الآية: 71.
[3] المائدة، الآية: 55.
كلمة ولي
الولاء والولاية (بفتح الواو) والولاية (بكسر الواو) والوالي والمولى والألفاظ
المماثلة الأخرى مشتقة كلها من مادة والي، التي هي
من الألفاظ المستعملة كثيراً في القرآن على اختلاف اشتقاقاتها. يقولون إنها ترد
إسماً في 124 موضعاً، وترد فعلاً في 112
موضعاً من القرآن الكريم.
والمعنى الأصلي للكلمة، كما ورد في (المفردات) للراغب الإصفهاني هو أن يكون الشيء
إلى جانب شيء آخر بحيث لا يكون
بينهما فاصل. أي إذا اتصل شيئان معاً إتصالاً لا فاصل بينهما نقول إن أحدهما (يلي)
الآخر. وإذا أردنا أن نصف جلسة أشخاص
في مجلس، فنقول: زيد يجلس في صدر المجلس ويليه عمرو، ويلي عمراً بكر، وهكذا. أي إن
زيداً وعمراً وبكراً يجلسون
متلاصقين لا يفصل بعضهم عن بعض فاصل.
والكلمة تستعمل أيضاً في حالات القرب عموماً، سواء أكان قرباً مكانياً أم قرباً
معنوياً، ومن هنا تتداعى معاني اللفظة لتشمل
المحبة، والعنوان، والتصدي للأمر، والتسلط، وكثيراً من المعاني الأخرى المتقاربة
الأصل, والتي يضمها جميعاً نوع من
الإتصال والتقارب، حتى قيل إن للفظة (مولى) سبعة وعشرين معنى. وبديهي أن هذه اللفظة
لم توضع لمعاني متباينة ومنفصلة،
فمعنى الأصل واحد.
إلاّ أن هناك اختلافات في المعنى تنشأ من اختلاف مواضع الإستعمال، وهذه الإختلافات
تدرك بالقرآن.
واللفظة تستعمل أيضاً في المواضع المادية الجسمانية، كما تستعمل في المواضع
المعنوية المجردة، ولكن الذي لا شك فيه هو أنها
أول ما استعملت في المواضع المادية، ثم امتد استعمالها للمعنويات المجردة عن طريق
تشبيه المعقول بالمحسّ، أو عن طريق
تجريد معنى المحسّ، وذلك لأن اهتمام الإنسان بالمادي المحسّ ـ سواء من وجهة نظره
كفرد، أم من وجهة نظر المجتمع البشري
في طول تاريخه ـ يسبق اهتمامه بالمعقول المعنوي. أما البشر، بعد إدراك المعاني
والمفاهيم الحسية، يتنقل تدريجياً إلى درك
المعاني والمفاهيم المعنوية. وهو بالطبع قد استعمل الألفاظ نفسها, التي كان
يستعملها للمسائل المادية، بمثلما أن لبعض العلوم
مصطلحاتها الخاصة، أو أنها تستخدم ألفاظاً دارجة وتحملها معاني ومفاهيم خاصة تختلف
عن معانيها ومفاهيمها المألوفة.
يقول الراغب بشأن كلمة (ولاية) ومواضع استعمالها: إنّ (الولاية) بكسر الواو تعني
النصر، و(الولاية) بفتح الواو تعني
المتصدي, والمهيمن على عمل ما، ويقال إنّ المعنيين سواء. والحقيقة هي أن المعنى هو
التصدي والهيمنة.
وفيما يتعلق بكلمتي (الولي) و(المولى) يقول الراغب: هاتان الكلمتان لهما أيضاً
المعنى نفسه، وكل ما في الأمر هو أن إحداهما
إسم فاعل والأخرى إسم مفعول. ثم يأخذ بتبيان مواضع استعمالهما.
1 ـ الولاء السلبي
في القرآن يكثر ورود ألفاظ (الولاء والموالاة) و(التوالي) باعتبارها عناوين لمسائل
يتناولها هذا الكتاب السماوي العظيم. إنّ ما
يمكن استنتاجه على وجه الإجمال من التمعن في هذا الكتاب المقدس هو أن هناك نوعين من
الولاء في الإسلام: الولاء السلبي،
والولاء الإيجابي, أي أن المسلمين مأمورون بأن يرفضوا نوعاً من الولاء، وأن يتقبلوا
نوعاً آخر منه وأن يتمسكوا به.
إنّ الولاء الإسلامي الإيجابي على نوعين أيضاً: الولاء العام والولاء الخاص.
وللولاء الخاص أقسام؛ ولاء المحبة، وولاء الإمامة
وولاء الزعامة، وولاء التصرف، أو الولاء التكويني. ولسوف نبحث كلاً على وجه
الإجمال.
2ـ الولاء الايجابي العام
حذر القرآن الكريم المسلمين من منح ولائهم ومحبتهم لغير المسلمين، ليس لأن حب
الآخرين أمر منهي عنه، ولا لأن القرآن
يطلب من المسلم أن يبغض غير المسلم في كل الأحوال أو يعارض الإحسان إليه، فالقرآن
صريح في هذا بقوله:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[1].
إنّ الإسلام لا يقول إن أعمال الخير والمحبة التي تعلمونها يجب أن تختص بالمسلمين
دون غيرهم، وإن خيركم يجب ألا يصل
إلى غير المسلمين. كيف يصح هذا في دين يقول قرآنه صراحة إنه (رحمة للعالمين)؟
إلا أن هناك قضية مهمة وهي أن على المسلمين ألاّ يغفلوا عن أعدائهم الذين ينظرون
إليهم نظرة مغايرة. إنّ عليهم أن ينتبهوا إلى
العدو الذي يلبس لبوس الصديق. فلا يحسبونه صديقاً ويطمئنون إليه.
على المسلم أن يتذكر دائماً أنه عضو في مجتمع إسلامي، وأنه جزء من هذا المجموع، وإن
شروطاً ينبغي أن تتوفر في العضو
الذي ينتمي إلى الجسد، شاء العضو ذلك أم أبى. أما غير المسلم فهو عضو في جسد آخر.
إن علاقات عضو الجسد الإسلامي مع
أعضاء الجسد غير الإسلامي ينبغي أن تكون بصورة لا تخل، في الأقل، بعضويته في الجسد
الإسلامي، فلا يصيب الجسد
الإسلامي ضرر من جراء ذلك. إنّ علاقات المسلم بغير المسلم لا يمكن أن تكون مساوية
لعلاقته بالمسلم، ولا أن تكون أقرب من
ذلك.
إنّ روابط المحبة الحميمة فيما بين المسلمين ينبغي أن تكون بما تستوجبه عضوية العضو
في الجسد ككل. الولاء السلبي في
الإسلام يعني أن المسلم لا ينسى وهو يواجه غير المسلم أنه يواجه عضواً في جسد غريب.
وإنّ القول بأن عليه أن لا يقبل، ولاء
غير المسلم يعني أن علاقات المسلم بغير المسلم ينبغي ألا تكون بمستوى علاقاته مع
المسلم، بحيث يصبح المسلم عضواً في جسد
غير مسلم، أو أن عضويته في الجسد الإسلامي لا تؤخذ بنظر الإعتبار.
إذن لا يتنافى أن يحسن المسلم إلى غير المسلم، وفي الوقت نفسه لا يحسبه عضواً في
الجسد الذي يكون هو عضواً فيه ويعامله
كما يعامل الغريب.
كذلك لا يوجد تناقض بين الولاء السلبي ومبدأ حب الإنسان والعطف عليه. إنّ حب
الإنسان يعني, إن على الإنسان أن يعني
بسعادة بني البشر الحقيقية وسعادتهم.
ومن هنا يتمنى كل مسلم أن يصبح جميع الناس الآخرين مسلمين, وليهتدوا إلى الصراط
المستقيم. أما إذا لم يحصل لهم مثل هذا
التوفيق، فلا يجوز التضحية بمن وفق في سبيل من لم يوفق، أو أن تتداخل الحدود وتزول
الفواصل بين الأفعال والإنفعالات.
فلنفرض أن جماعة من الناس مصابة بمرض معين، فالإنسانية توجب علينا أن ننقذهم مما هم
فيه، وأن نوالي الإحسان إليهم
ماداموا في تلك الحالة. ولكن الإنسانية لا توجب علينا ألاّ نقيم أي فاصل بينهم ـ
وهم المصابون بمرض معد ـ وبين السالمين من
الناس. لذلك فالإسلام يجيز من جهة الإحسان إلى غير المسلم، ولا يجيز من جهة أخرى أن
يتقبل المسلم الولاء لغير المسلم.
إنّ الإسلام الإنسانية، حتى إنه يحب المشرك، لا لكونه مشركاً، بل لكونه مخلوقاً من
مخلوقات الله. إنّ المسلم ليحزن إذ يرى
المشرك يسير على طريق الضلالة والهلاك، مبتعداً عن طريق السعادة والخلاص. ولولا حبه
الإنساني لما عناه أن يبقى المشرك
في تعاسته وعماه.
إنّ في الإسلام حباً وبغضاً. وهماً حب وبغض عقليان ومنطقيان، وليسا ناشئين عن
الأحاسيس والإنفعالات لا يضبطهما ضابط
ولا تنتظمهما قاعدة. إنّ الحب والبغض الناشئين عن الإنفعالات لا منطق لهما، بل
يكونان من الإنفعالات العمي والصم التي
تتسلط على دخيلة الإنسان وتجره إلى حيث تشاء. أما الحب والبغض العقليان فإنهما
ينشآن من إدراك الحقيقة، والواقع إنهما
ينشآن من الإهتمام بمصير الإنسان الآخر الذي نحبه.
إليكم المثال التالي:
حب الأبوين لطفلهما ينقسم إلى نوعين: نوع عقلي ومنطقي، ونوع انفعالي. إنّ الحب
العقلي يوجب أحياناً على الوالدين أن يسببا
الألم لطفلهما بكل جد وبوعي، كأن يأخذانه إلى الطبيب لإجراء عملية جراحية. إنّ
الأبوين قد يذرفان الدموع على طفلهما وهو في
تلك الحالة وتنقطع نفساهما حسرات عليه، ولكنهما يطلبان من الطبيب أن يستعجل العملية
وأن يقطع من جسمه ما يجب قطعه
على الرغم مما في ذلك من ألم أو فقدان عضو. فتلك الدموع ناشئة من الحب الإنفعالي،
والإلحاح على الطبيب ناشئ من الحب
العقلي.
فإذا عنيا بحبهما العاطفي وقدماه على حبهما العقلي ورفضا أن ينقص من ابنهما عضو من
أعضائه، وإن يكن فاسداً، فإنهما في
الحقيقة قد قضيا على ابنهما بالموت.
ولكنهما بسبب حبهما المنطقي وبحكم العقل واهتمامهما بمصير ابنهما، داسا على
عواطفهما ورضيا بعذاب ابنهما وألمه.
كل إنسان عاقل لا يتوانى عن تسليم نفسه إلى مبضع الجراح ليقتطع له أصبعاً يؤلمه ولا
فائدة من بقائه. إنه بالطبع لا يحب أن
يعاني ألم القطع، كما أنه يتألم نفسياً من ذهاب أحد أصابعه، ولكنه منطقياً يتحمل
هذا الألم ويستسلم عقلياً لفقده أحد أعضائه.
فالمنطق والعقل هما اللذان يدفعان به لمراجعة الطبيب، وإلا فإن حكم العواطف حكم
يختلف عن ذلك.
إنّ الإسلام إذا رأى مجتمعاً فاسداً يحكمه الكفر والجهل، يأمر من جهة بمجاهدته
واقتلاع جذور الفساد منه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ
تَكُونَ فِتْنَةٌ}[2] ويأمر من جهة أخرى بالحذر واجتناب الإنفتاح عليهم لكي يبقى
المجتمع سالماً. ولا يتناقض هذا أدنى تناقض مع
الإنسانية وحب الإنسان.
إنّ اللصوصية من طبيعة الإنسان، ومن طبيعته أيضاً الضبط والإلتزام، إذ كثيراً ما
يحدث أن يثبت الإنسان في لوح فكره بوعي
أفكار الآخرين وآرائهم. يقول القرآن:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم
مِّنَ الْحَقِّ}[3].
إلى أن يقول: {... إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ}[4].
فالقرآن يرى أن سبب طلب الحذر منهم وتجنبهم هو أنهم يحبون أن يروا الآخرين, وقد
دانوا بدينهم ومالوا إليهم. ولكن ترى ما
الخطر في أن تكون هذه هي رغبتهم؟
هنا يشير القرآن إلى أن منشأ أصل الخطر ليس مجرد الرغبة، بل هم يسعون جاهدين لبلوغ
ذلك الهدف.
كل هذا يستوجب أن تتسم روابط المسلم مع غير المسلم بالحذر، وعلى المسلم ألاّ يغفل
عن الخطر، وألا ينسى أنه عضو في
مجتمع موحّد, وأن غير المسلم عضو في مجتمع آخر. غير أن ذلك لا يستوجب أيضاً أن يقطع
المسلم كل صلة له بغير المسلم،
وألاّ تكون له معه علاقات اجتماعية واقتصادية, وأحياناً سياسية أيضاً، إذا كانت تلك
العلاقات منسجمة طبعاً مع مصالح المجتمع
الإسلامي.
[1] الممتحنة، الآية: 8.
[2] سورة البقرة، الآية: 193.
[3] الممتحنة، الآيات: 1 , 2.
[4] الممتحنة، الآيات: 1 ، 2.
أنواع الولاء الإيجابي الخاص
يريد الإسلام من المسلمين أن يعيشوا في وحدة مستقلة، وأن يكون لهم نظام مترابط
ومجتمع متماسك، كل فرد فيه يرى نفسه
عضواً في جسد واحد هو المجتمع الإسلامي، لكي يصبح المجتمع الإسلامي قوياً. لقد جاء
في القرآن أن المجتمع المسلم ينبغي أن
يكون أفضل من المجتمعات الأخرى:
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ}[1].
ويقول القرآن في مكان آخر:
{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[2].
إنّ الإيمان أساس المحبة والوداد والولاء بين المؤمنين:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[3].
فالمؤمنون قريب بعضهم من بعض، وهذا القرب يحملهم على أن يحب بعضهم بعضاً وينصره
ويحامي عنه ويهتم بمصيره الذي
هو في الحقيقة مصير مجتمعه الموحد الواحد، ولذلك فهو يأمره بالمعروف وينهاه عن
ارتكاب الأعمال القبيحة.
إنّ هذين العملين ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ناشئان من الود الإيماني،
وبهذا نجد هذه الجملة ترد مباشرة بعد ذكر ولاء
المؤمنين بعض لبعض.
إنّ الإهتمام بمصير الأشخاص ينبع من اهتمامهم بمصيرهم، فالأب الذي يحب أبناءه لاشك
أنه يعاني بمصائرهم وسلوكهم، ولكنه
قد لا يحس بالإحساس نفسه إزاء أولاد الآخرين، لأنه لا تربطه بهم رابطة بحيث أن
أعمالهم الحسنة تثير فيه إحساساً إيجابياً،
وتثير فيه أعمالهم الشائنة إحساساً، سلبياً.
فالأمر بالمعروف يأتي من ذلك الإحساس الإيجابي، والنهي عن المنكر يأتي من ذلك
الإحساس السلبي. فإذا لم يكن ثمة حب فلا
تكون تلك الأحاسيس في قلب الإنسان.
إذا لم يكن المرء محباً للناس يكون لا أبالياً إزاء أفعالهم، ولكنه إذا كان يحبهم
فإنه لا يستطيع أن يقف ساكناً ولا أبالياً نحو ما
يفعلون. ولهذا فإن الآية المذكورة تربط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالولاء
ربطاً خاصاً.
وبعد ذلك يشير القرآن إلى نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويذكر إثنتين
منها:{يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[4].
والصلاة نموذج للعلاقة بين المخلوق والخالق. والزكاة نموذج لحسن علاقة المسلمين بعض
ببعض. فهم بسبب التعاطف والتراحم
الإسلاميين يتعاونون فيما بينهم, ويحمي بعضهم بعضاً.
{أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[5].
سوف نبين أموراً أخرى بخصوص هذه الآية والآيات الأخرى التي تتناول الولاء الإيجابي،
وكيف أنه لا يقتصر على اعتبار
المحبة والولاء القلبي فحسب، بل يؤكد ضرباً من المسؤولية والتزام حسن الروابط بين
المسلمين.
يقول رسول الله(ص) في حديثه المعروف:
(مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء
بالسهر والحمى).
ويصف القرآن رسول الله(ص) وأتباعه فيقول:
{رسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ}. في هذه الآية إشارة إلى الولاء السلبي والولاء الإيجابي العام. ولقد
سبق
أن قلنا إن الآيات القرآنية تنبهنا إلى أن أعداء الإسلام في كل زمان يسعون إلى أن
يبدلوا ولاءنا الإيجابي بولاء سلبي، والولاء
السلبي بولاء إيجابي، أي أنهم يسعون إلى جعل العلائق بين المسلمين وغير المسلمين
علاقات صميمية، وجعلها بين المسلمين
أنفسهم ـ بأعذار مختلفة كالتفرقة الطائفية ـ علاقة عدائية.
إننا نلاحظ في عصرنا هذا جهوداً، كثيرة يبذلها الأجانب في هذا السبيل، بحيث أنهم
خصصوا لذلك المبالغ الطائلة، وإنه لمما
يؤسف له أن نلاحظ أنهم نجحوا في إيجاد عناصر بين المسلمين لا عمل لهم سوى تغيير
الولاء السلبي الإسلامي إلى ولاء إيجابي
والعكس بالعكس. وهذه أشد ضربة يمكن أن توجه إلى الإسلام. وإذا كانت هناك مصيبة من
مصائب الإسلام ومأساة من مآسيهم
تستدر الدم بدل الدموع فهي هذه, يقول علي (ع):
(فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم
عن حقكم).
نسأل الله أن يقينا شر أمثال هؤلاء ويصوننا من مكارههم:
(اللّهم إنا نشكو إليك فقد نبينا، صلواتك عليه وآله، وغيبة ولينا، وكثرة عدونا،
وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على
محمد وآله، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبنصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك
تجللناها، وعافية منك تلبسناها).
الولاء الإيجابي الخاص
الولاء الإيجابي الخاص هو الولاء لأهل البيت عليهم السلام. إن الولاء الذي دعا
النبي(ص) المسلمين إليه بالنسبة لعترته
الطاهرة غني عن الذكر والتوكيد. أقصد حتى أن علماء أهل السنة يؤيدون ذلك. إنّ آية
ذوي القربى {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}[6]
تشير إلى الولاء الخاص. كما أن ما جاء في حديث غدير خم المعروف: ( من كنت مولاه
فهذا عليّ مولاه) أيضاً يشير إلى نوع
من الولاء سنشرحه فيما بعد.. والآية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ}[7].
قد نزلت، باتفاق الفريقين، بحق علي(ع). فالطبري يذكر روايات عديدة بهذا الخصوص[8].
بينما يقول الزمخشري، وهو من
أكابر علماء أهل السنة: إنّ هذه الآية قد نزلت بحق علي. والسر في نزولها بصيغة
الجمع مع أنها عن فرد واحد هو ترغيب
الناس على مثله, وإن على المؤمنين أن يكونوا على مثل تلك السيرة والسجية، وأن
يحرصوا على الإحسان ومد يد المعونة
للفقراء بحيث أن الصلاة نفسها لا تحول دون ذلك.[9]
أي أنهم حتى إذا كانوا أثناء الصلاة وحصلت مناسبة لأداء الزكاة، فلا تكون الصلاة
مانعة من ذلك، بل تؤدى خلالها.
والفخر الرازي، وهو أيضاً من كبار علماء أهل السنة، يقول: هذه الآية نزلت بشأن علي.
وقد اتفق العلماء أن أحداً لم يؤد الزكاة
وهو راكع إلا علي.[10]
إلا أن هناك أقوالاً حول معنى (ولي) الذي سنبحثه في كلام قادم.
علي بن حماد العدوي البصري البغدادي، المعروف بابن حماد، من كبار شعراء الإمامية في
القرن الرابع الهجري، يشير إلى ذلك
بقصيدة عصماء، منها:
قــرن الإله ولاءه بولائه مــمن تـزكى وهو حان يركع
سماه رب العرش نفس محمد يوم البهال وذاك ما لا يدفع[11]
إنّ الإسلام، كما قلنا، يوصي بنوع من الولاء الإيجابي العام، وهو ما تشير إليه
الآية الكريمة: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[12].
إلاّ أن الآية الكريمة: {إنما وليكم الله...} تشير إلى الموضوع بحيث لا يكون هناك
أي احتمال بأنها تقصد الولاء العام كالآية
السابقة، لأن القرآن هنا ليس بصدد بيان قانون كلي، ولا يريد أن يبين وجوب أداء
الزكاة في حال الركوع أو استحبابه، ولا يقصد
إلى تشريع مندوبة أو فريضة إسلامية، بل هو إشارة إلى عمل قام به فعلاً شخص في
الخارج, ويريد القرآن أن يحصل من ذلك
العمل على وسيلة لتعريف ذلك الشخص، وذلك كناية عن إثبات حكم تلك الولاية الخاصة.
إنّ استخدام الجمع لبيان حادث فردي له نظائر مماثلة في القرآن. من ذلك مثلاً قوله:
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَّ}[13].
هنا يشير القرآن أيضاً إلى حادثة واقعة، ويستعمل تعبير(يقولون) بصيغة الجمع، مع أن
القائل هو عبد الله بن أبي وحده.
ثم إن هذه الصيغة مستعملة عندنا في الوقت الحاضر أيضاً، فنحن كثيراً ما نستعمل صيغة
الجمع في خطابنا للمفرد.
لم يكن أداء الزكاة في حال الركوع من الأمور المألوفة عند المسلمين حتى يمكن القول
بأن القرآن قد مدح الجميع، وأنه أثبت(
الولاية) للجميع، مهما يكن معناها.
إنّ هذا بذاته شاهد حي على أن موضوع الآية شخصي وخاص، أي أنه كان هناك من لم يغفل
في حال عبادته وأثناء ركوعه عن
عبادة الله، فأدى الزكاة, ولذلك يقول القرآن: إنّ هذا مثل الله ورسوله، وليكم.
وعليه، فالكلام يدور على شخص معين هو ولي
المؤمنين, مثلما أن الله ورسوله وليّا المسلمين، وأن على المسلمين قبول (ولايته).
أما عن معنى هذه الولاية والمقصود منها، وهل هو مجرد الحب والود اللذين ينبغي أن
يحملها الناس له، أم أنه شيء آخر أرفع
من ذلك، فإننا سوف نبحثه قريباً: إنما نحن الآن بصدد إثبات أن مفاد هذه الآية هو
الولاء الخاص، لا الولاء العام، كما يراه بعض
علماء أهل السنة.
[1] آل عمران، الآية: 139.
[2] الأنفال، الآية: 46.
[3] التوبة، الآية: 71.
[4] المائدة، الآية: 55.
[5] التوبة، الآية: 77.
[6] الأنعام، الآية: 90.
[7] المائدة، الآية: 55.
[8] تفسير الطبري، ج 6 ص 288 ـ 289.
[9] الكشاف، ج 1، ص 505، طبع مصر، سنة 1373.
[10] التفسير الكبير، ج 12، ص 30، طبع مصر، سنة 1357.
[11] ريحانة الأدب، المجلد 5، ص 311.
[12] التوبة، الآية: 71.
[13] المنافقون، الآية: 8.