مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الولاء والولاية 

ولاء الإمامة

لقد لاحظنا حتى الآن على العموم أن قضية الولاء لعلي(ع) ولسائر أهل البيت أمر لا شك فيه. كل ما في الأمر هو البحث في
المراد بالولاء في هذه الآية والآيات الأخرى, وفي الأحاديث الشريفة التي تدعو إليه. فلكي يتضح المقصود لابد لنا من معرفة
مواضع استعمال لفظتي (الولاء) و(الولاية) بالمعنى الخاص في الكتاب والسنة بشأن أهل البيت، وبالبحث يتضح أن هذا المعنى
الخاص يستعمل في أربعة مواضع.
ولاء المحبة أو ولاء القرابة:
1ـ ولاء المحبة أو ولاء القرابة, يعني أن أهل البيت هم من ذوي قربى الرسول الكريم (ص) وأن الناس مدعوون إلى أن يولوهم
من المحبة بصورة خاصة أكثر مما يقتضيه الولاء العام. لقد جاء هذا في القرآن الكريم, وفي كثير من الروايات التي يرويها
الشيعة وأهل السنة، وكلها تقول أن حب أهل البيت، ومنهم علي(ع) من المسائل الإسلامية الأساس.
هنا لابد من إجراء البحث في إتجاهين اثنين:
الأول: لماذا نلاحظ هذه الكثرة في الإيصاء بحب أهل البيت، وفي أن يجعل الناس حبهم وسيلة للتقرب إلى الله؟ ولنفرض أن كل
الناس أدركوا منزلة أهل البيت وأحبوهم حباً حيقيقاً، فما تكون نتيجة ذلك؟ من المعلوم أن جميع تعاليم الإسلام مبنية على فلسفة ما
أو حكمة. فإذا كان هذا قد جاءنا في صلب الإسلام، فلا شك أن وراءه فلسفة وحكمة.
الجواب على هذا السؤال هو أن وراء محبة أهل البيت، أو بعبارة أخرى وراء الولاء لأهل البيت فلسفة خاصة، ولم يأت على
عواهنه وبدون سبب، ولا هو من باب تكريم الرسول أو تكريمهم هم، يصرح القرآن الكريم، على لسان النبي الكريم:
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[1] أي أن المودة في القربى تعود عليكم أنتم
فائدتها. إنّ ولاء المحبة مقدمة أو وسيلة لسائر أنواع الولاءات التي سنشرحها فيما بعد. إنّ المحبة هي الخيط الذي يربط الناس
بأهل البيت ربطاً حقيقياً يدفعهم إلى أن يقتدوا بوجودهم وآثارهم وأقوالهم وتعاليمهم وسيرهم وسلوكهم.
إننا في كتابنا (جاذبة علي ودافعته) قد بحثنا بالتفاصيل في مزايا الحب والعشق، وعلى الأخص حب الأئمة الأطهار وأولياء الله
باعتباره حباً يصنع الإنسان, وعاملاً ثميناً من عوامل التربية وتحريك الأرواح وتقليبها.
الثاني: هل ولاء المحبة مما يختص به الشيعة،أم أن سائر الفرق الإسلامية تؤمن به أيضاً؟
في الجواب لابد أن نقول أن ولاء المحبة هذا ليس مقصوراً على الشيعة، بل إن سائر الفرق الأخرى توليه اهتمامها أيضاً. وهذا
الإمام الشافعي، وهو من أئمة أهل السنة الأربعة، يقول:
يـا راكباً قـف بـالمحصب مـن منى واهتف بساكن خيفها والناهـض
سحراً إذا فـاض الحجيج إلـى مـنى فيضاً كملتطم الفرات الفائـض
إن كـان رفـضاً حـب آل محـمد فليشهد الثقلان أني رافـضي[2]
ويقول أيضاً:
يا آل بـيت رسول الله حـبـكـم فـرض من الله في القرآن أنـزله
يكـفيـكم من عظيم الـفخر أنكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له[3]
وله أيضاً:
ولـما رأيت الناس قد ذهبت بـهم مــذاهبهم في أبحر الغنى والجهل
ركبت على إسم الله فـي سفن النجا وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حـبل الله وهـو ولاؤهم كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل[4]
إنّ الزمخشري والفخر الرازي اللذين يهبّان لمحاربة الشيعة في موضوع الخلافة، بنفسيهما يرويان رواية في ولاء المحبة. ينقل
الفخر الرازي عن الزمخشري أن النبي (ص) قال:
(من مات على حب آل محمد مات شهيداً. ألا من مات على حب آل محمد مات مغفوراً له. ألا ومن مات على حب آل محمد مات
تائباً. ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان)[5].
وابن الفارض، شاعر الغزل الصوفي المصري المعروف ـ الذي يعتبر في الأدب العربي مثل حافظ في الأدب الفارسي ـ في
قصيدته التي مطلعها:
سائق الأظـعان يطوي البيد طي منعماً عـرج على كثبان طي
يقول:
ذهـب الـعمر ضياعاً وانقضى بـاطـلاً إذ لم أفز منك بشي
غير ما أوليت مـن عقدي ولاء عترة المبعوث حقاً من قصي[6]
من المحتمل أن يكون المقصود بالولاء هنا معنى أعلى، ولكن القدر المسلم هو أن ولاء المحبة هو المقصود.
والملا عبد الرحمن الجامي ـ على الرغم من أن القاضي نور الله يقول بشأنه: شخصان يحملان إسم عبد الرحمن قد آذيا علياً (ع)
الأول هو عبد الرحمن بن ملجم، والآخر هو عبد الرحمن الجامي ـ ولكنه ترجم إلى الفارسية تلك القصيدة العصماء التي قالها
الفرزدق في الإمام السجاد(ع).
يقال أن أحدهم قد رأى الفرزدق في المنام بعد موته، فسأله: كيف حالك هناك مع الله؟ فقال لقد غفر لي الله بفضل تلك القصيدة في
مدح علي بن الحسين(ع).
ويضيف الجامي إلى ذلك قائلاً: إذا غفر الله لجميع الناس بفضل تلك القصيدة ما كان الأمر عجيباً. كما أن الجامي قد هجا هشام بن
عبد الملك الذي سجن الفرزدق وعذبه.[7]
وعليه فليس ثمة خلاف بين السنة والشيعة في موضوع ولاء المحبة، باستثناء الناصبين الذين يبغضون أهل البيت, وهم
مطرودون من المجتمع الإسلامي، ولقد حكم بنجاستهم، كالكفار. والحمد لله الذي طهر الأرض من وجودهم ولا أثر لهم في الوقت
الحاضر، سوى بعض الأفراد الذين يكشفون أحياناً عن أنفسهم فيما يؤلفون من الكتب، وكل همهم هو إيجاد الشقاق والإنقسام بين
المسلمين، مثل بعض الأفراد من بيننا، وهذا نفسه دليل على عدم أصالة هؤلاء، وهم لا يعدون أن يكونوا أدوات بيد الإستعمار.
ويضيف الزمخشري والفخر الرازي في نهاية تلك الرواية على لسان الرسول الكريم(ص) أنه قال أيضاً:
(ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة).
وقد جاء عن الإمام الصادق(ع):
(فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، والناصب لنا أهل البيت لأنجس منه)[8].
إنّ هذا النوع من الولاء إذا نسب إلى أهل البيت, وقلنا أنهم (أصحاب الولاء) فهو (ولاء القربة). أما إذا نسب إلى المسلمين من
حيث واجبهم نحو أهل البيت، فهو (ولاء المحبة).
أما كون لفظة (ولاء) تستعمل بمعنى المحبة، فلا نقاش فيه. وهذا كثيراً ما يواجهنا في الزيارات حيث نقرأ:
(موال لمن والاكم، ومعاد لمن عاداكم).
فلا شك في أن معنى ذلك هو أني أحب من يحبكم وعدو لمن يعاديكم. أو نقرأ:
(موال لكم ولأوليائكم ومعاد لأعدائكم) وكثير مثل ذلك.
هنا يتجه البحث وجهتين، الأولى: هل تستعمل كلمة (ولي) بمعنى المحب خاصة؟ الثانية: ما معنى كلمة (ولي) التي استعملت في
الآية: {إنما وليكم الله} التي تثبت ولاية أمير المؤمنين علي(ع)؟
يرى بعضهم أن هذه الكلمة حيثما استعملت في القرآن توهم أنها تعني( المحب)، ثم يتضح بعد التدقيق أنها ليست بهذا المعنى.
فالآية:
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}[9] لا تعني أن الله يحب أهل الإيمان، بل تعني أن الله بعنايته الخاصة
يتصرف بشؤون أهل الإيمان، وأن أهل الإيمان ينعمون في حفظ الله وصيانته الخاصة. كذلك هي الحال في الآية:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[10].
فهي تعني أن ليس على أحباء الله خوف. إنّ لفظة (ولي) هنا على وزن فعيل بمعنى مفعول. وعليه يكون المعنى: أن الذين يكون
الله ولي أمرهم والمتصرف في شؤونهم لا خوف عليهم. وكذلك الأمر في الآية:
{الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[11].
إذ ليس المعنى أن المؤمنين والمؤمنات يحب بعضهم بعضاً، بل المعنى هو أن المؤمنين يلتزم بعضهم شؤون بعض, ويتصرف
فيها ويؤثر أحدهم في مصير الآخر. ولذلك فهو يقول بعد ذلك:
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[12].
هنا يتضح جواب السؤال الثاني. فالمقصود من الآية المذكورة ليس أن الله والرسول وعلياً أحباؤكم، بل المقصود هو أنهم ذو حق
في التصرف في شؤونكم.
وحتى لو صح استعمال (ولي) بمعنى المحب، فهي لا تنسجم هنا مع القول بأن الله ومحمداً وعلياً أولياؤكم حصراً. ومن هذا
يتضح أن تفسير بعض مفسري أهل السنة بأن مفاد هذه الآية ليس شيئاً مهماً، وإنما هي تعني أن علياً محب لكم، أو أن علياً ينبغي
أن يكون محبوبكم(إذا قلنا أن فعيلاً بمعنى مفعول)، غير صحيح.
وعليه، فإن الآية الشريفة {إنما وليكم الله} .. وهو الولاء الإيجابي الخاص، لا يعني المحبة صرفاً، بل هو ولاء أرفع. فما هو هذا
الولاء الأرفع؟ سيأتي بيان ذلك قريباً.

[1] يونس، الآية: 72.
[2] التفسير الكبير للفخر الرازي ج 27، ص 166. و(الرفض) بمعنى الطرد والترك. ويوصف الشيعي بالرافض لأسباب
خاصة.
[3] (الكنى والألقاب) للمحدث القمي و(نور الأبصار) للشبلنجي، ص 104.
[4] الكنى والألقاب للمحدث القمي.
[5] التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 47، ص 166 والكشاف للزمخشري، ج 4 ذيل 32 سورة الشورى. كذلك جاء في آخر
الخطبة 232 من خطب الإمام علي (ع) قوله: (فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته
مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه).
[6] قصيّ، مع ضم القاف وتشديد الياء، إسم جدّ الرسول(ص) الرابع.
[7] سلسلة الذهب.
[8] وسائل الشيعة، ج1، ص 159، الطبعة الجديدة.
[9] البقرة، الآية: 257.
[10] يونس، الآية: 62.
[11] التوبة، الآية: 71.
[12] آل عمران، الآية: 104.
 


ولاية الإمامة

2ـ إنّ ولاية الإمامة والقيادة، أو بعبارة أخرى، ولاية المرجعية الدينية، هو مقام من ينبغي على الآخرين أن يتبعوه, وأن يعتبروه
قدوة لهم في أعمالهم وسلوكهم، وأن يأخذوا عنه تعاليمهم الدينية، أي مقام الزعامة الدينية. إنّ مقاماً كهذا يستلزم العصمة، ما دامت
أقواله وأعماله سنداً وحجة على الآخرين: وهذا هو المقام الذي يضع الله الرسول الكريم فيه.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[1] كذلك:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[2].
الرسول الكريم (ص) في هذه الآيات قدوة، وعلى الناس أن يجعلوا سلوكهم وأخلاقهم متطابقة مع سلوك الرسول وأخلاقه وأن
يقتدوا به. وهذا بذاته دليل على عصمة رسول الله عن الخطأ والذنب، إذ لو أمكن أن يصدر عنه خطأ أو ذنب، لما كان هناك ما
يدعو لأن يجعله الله قدوة نقتدي به.
هذا المقام قد انتقل بعد رسول الله(ص) إلى أهل البيت. وبموجب روايات أكثر علماء أهل السنة التي ذكروها في كتب السيرة
والتاريخ على نحو ثلاثين من الصحابة[3]، فإنه يختار أهل البيت للقيادة والإمامة:
(إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تتقدّموهما فتهلكوا، ولا
تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم)[4].
هنا يرى رسول الله (ص) أهل بيته وكتاب الله توأمين مقترنين معاً. والله يقول عن كتابه:
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[5]
فلو كان أهل البيت ممن يعتورهم الباطل لما قورنوا بكتاب الله، ولو لم يكن النبي (ص) معصوماً عن الخطأ ومنزهاً عن الإثم، لما
كان لأهل بيته أن يكونوا لنا قدوة وقيادة. إن مضمون الحديث يوحي بأنه يدور حول أشخاص معصومين عن الخطأ والإثم، وأن
غير أولئك ـ كما يقول الخواجة نصير الدين الطوسي ـ ليسوا معصومين ولا يدعون العصمة لأحد. فعليه، لا ينطبق الحديث إلا
على الأئمة الأطهار.
يقول ابن حجر: إنّ قول رسول الله: (فلا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) إنما هو
دليل على أن من يصل أهل البيت إلى أعلى مراتب العلم وكان لائقاً للقيام بالمهمات الدينية، يكون مقدماً على الآخرين)[6].
يروي الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس أن رسول الله(ص) قال: من أحب أن يحيا حياتي ويموت موتي, وأن يخلد في الجنة فليوال
علياً من بعدي[7]، وأن يوالي من والاه وأن يقتدي بالأئمة من بعدي وهم عترتي خلقوا من طينتي. والويل لمن أنكر فضلهم وقطع
رحمي بهم، فلن ينال شفاعتي[8]؟
إنّ الإمامة والقيادة والقدوة الدينية بما يقوله القائد, وبما يعمله ويكون سنداً وحجة، يعتبر نوعاً من الولاية، لأنه ضرب من حق
الهيمنة وتدبير شؤون الناس والتصرف فيها.
فعلى وجه العموم، يكون كل معلم ومرب ـ من حيث كونه معلماً ومربياً ـ ولياً على شؤون المتعلم والمربي وتصرف فيها، فكيف
بالمعلم أو المربي الذي جاءه هذا الحق من الله. تقول الآية:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[9].
وهي إشارة إلى هذا الضرب من الولاية. بديهي أن هذا لا يعني أن هذه الآية لا تشمل أنواعاً أخرى من الولاء مما سوف نتطرق
إليه قريباً، بل يعني أن هذا الولاء يشمل ولاء الإمامة والقيادة والمرجعية الدينية، كما أن هناك أحاديث أخرى استعملت فيها كلمة
(ولاء) بمعنى ولاء الإمامة.
إنّ هذا الولاء إذا نسبناه إلى الإمام كان بمعنى حق القيادة. والمرجعية الدينية، وإذا نسبناه إلى عامة الناس فيعني القبول بهذا الحق.

[1] الأحزاب، الآية: 21.
[2] آل عمران، الآية: 31.
[3] أنظر الرسالة التي كتبها قوام الدين الجاسبي القمي، وهو من فضلاء الحوزة العلمية بقم، بأمر من آية الله البروجردي، بشأن
أسانيد هذا الحديث. وقد طبعتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ونشرتها.
[4] الصواعق المحرقة, ص 90 .
[5] فصلت، الآية: 42.
[6] الصواعق المحرقة، ص 135.
[7] يختلف معنى هذه الجملة بحسب اختلاف معنى (ولاء).
[8] حلية الأولياء، ج 1، ص 86.
[9] المائدة، الآية: 55.
 


ولاية الزعامة

3ـ ولاية الزعامة يعني حق القيادة الإجتماعية والسياسية. أنّ المجتمع يحتاج إلى قائد. فمن يمسك بيده زمام أمور المجتمع، ويدير
شؤون الناس الإجتماعية ويكون مسلطاً على مقدراتهم، هو ولي أمر المسلمين. كان رسول الله(ص) في حياته ولي أمر المسلمين،
وكانت هذه الولاية قد منحت له بأمر من الله تعالى، ومن ثم إلى أهل بيته بدلائل كثيرة غير قابلة للإنكار. من ذلك الآية الكريمة:
{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[1].
وكذلك الآيات الأول من سورة المائدة، وحديث غدير خم الشريف، وعموم الآية الكريمة {إنما وليكم الله} وعموم الآية الكريمة: {
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[2].
ليس هناك أي خلاف بين السنة والشيعة في أنه كان للنبي شأن كهذا، وأنه كان مقاماً إلهياً، أي أنه كان حقاً أعطاه الله له، ولم يكن
تفويضاً من الناس. إنّ إخواننا من أهل السنة يتفقون معنا إلى هنا. إنما الكلام يكون في أمر (ولاية الزعامة) هذه بعد النبي(ص).
إنّ المجتمع لكي لا يصيب التزلزل أركانه، ولكي لا يسوده الهرج والمرج، لا مندوحة له عن ولي وحاكم يطيعه الناس ويتبعونه
فكيف ينبغي أن يكون هذا الحاكم والولي؟ أيقول الإسلام شيئاً بهذا الخصوص أم أنه يلزم الصمت؟ وإذا كان قد قال شيئاً فما هو؟
أترك الخيار للناس في أن يختاروا من يشاؤون بعد النبي(ص) وأن يوجبوا على الآخرين إطاعته، أما النبي الكريم قد عين قبل
رحيله من يقوم مقامه في هذا المركز المهم العظيم؟
هنا لابد أن نبحث في جميع شؤون النبي(ص) الإجتماعية في الأمة، بحسب ما يستنبط من القرآن المجيد.
يستنبط من القرآن المجيد ومن السنة والسيرة النبوية أنه كان للنبي(ص) بين المسلمين شؤون ثلاثة:
الأول أنه كان إماماً وقائداً ومرجعاً دينياً، وكانت له ولاية إمامة، وكان كلامه وعمله حجة وسنداً:
{مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[3].
الثاني أنه كانت له الولاية القضائية، أي أن حكمه كان نافذاً في الإختلافات الحقوقية والمخاصمات الداخلية:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[4].
بديهي أن استعمال كلمة (الولاية) هنا صحيح أيضاً مثلما كان من قبل، ولكننا لا نجدها قد استعملت عملياً في موضوع الولاية
القضائية.
الثالث أنه كانت له ولاية سياسية واجتماعية، أي أنه فضلاً عن كونه كان مبلغاً لأحكام الله مبيناً لها، وفضلاً عن كونه كان يقضي
بين المسلمين، فقد كان أيضاً يسوس مجتمع المسلمين ويديره. كان ولي أمر المسلمين وصاحب الخيار في مجتمعهم، كما قلنا من
قبل, وكما جاء في الآية: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[5].
وكذلك الآية:
{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.
هناك للنبي، بالطبع، شأن رابع سوف نتطرق إليه.
كان النبي(ص) يحكم الناس حكومة رسمية ويقود سياسة المجتمع الإسلامي. وكان يجبي من المسلمين الضرائب بحكم الآية.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[6]. ويدير شؤونهم المالية والإقتصادية, إنّ هذا الشأن من شؤون الرسول الكريم
الثلاثة, هو الأصل في بحث موضوع الخلافة.
لابد من الإشارة إلى أن كلمة (الإمامة) مثلما هي تطلق على الرائد الذي تؤخذ عنه معالم الدين، فيوصف بأنه (إمام)، أي أنه (
الشخص الذي يجب أن تؤخذ منه التعاليم الدينية)، وبهذا المعنى يطلق أهل السنة إسم (الإمام) على أبي حنيفة والشافعي ومالك
وأحمد بن حنبل، فإن اللفظة تطلق أيضاً في حالات الزعامة الإجتماعية والسياسية. قال الرسول الكريم(ص).
(ثلاث لا يغل عليهن قلب أمريء مسلم: إخلاص العمل لله، والتضحية لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم)[7].
ويقول علي(ع) في إحدى رسائله:
(فإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة)[8].
وذلك لأن نتيجة هذا ليس سوى ضرر المسلمين. فلو أن رباناً كان يدير دفة سفينة باتقان، ثم جاء من يوسوس للربان ويخدعه
بحيث يعرض السفينة للخطر، فإن هذا لا يكون قد خان الربان وحده، بل يكون في الحقيقة قد خان ركاب السفينة جميعهم. إنّ
كلمة (الإمام) قد استعملت هنا للقيادة الإجتماعية.
إننا كثيراً ما نقرأ في التاريخ الإسلامي أن المسلمين، وحتى الأئمة الأطهار، كانوا يخاطبون خلفاء عصورهم بكلمة (إمام). كل ما
في الأمر هو أن الكلمة قد تعني إمام العدل، وقد تعني إمام الجور، وإن على المسلمين واجبات معينة بإزاء كل واحد من هذين.
وفي الحديث الشريف المشهور الذي يرويه السنة والشيعة، قوله:
(أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر).
وكذلك قوله(ص):
آفة الدين ثلاثة: (إمام جائر، ومجتهد جاهل، وعالم فاجر).
بل إن القرآن نفسه يشير إلى قادة يدعون الناس إلى نار جهنم، ومع ذلك فقد وصفهم بالإمامة:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}[9].
ولكن لاشك في أن كلمة (إمام) أو (أئمة) أكثر ما تطلق على القادة العدول الصالحين, أما في عرف الشيعة، فالأئمة هم أئمة الحق
المعصومون، وهم إثنا عشر إماماً.

[1] النساء، الآية: 59.
[2] الأحزاب، الآية: 6.
[3] الحشر، الآية: 7.
[4] النساء، الآية: 65.
[5] الأحزاب، الآية: 6.
[6] التوبة، الآية: 103.
[7] الكافي، ج1، ص 103.
[8] الرسالة 26.
[9] القصص، الآية: 41.
 


ولاء التصرف

4ـ ولاية التصرف، أو الولاء المعنوي، أعلى ضروب الولاية. فضروب الولاية الأخرى إما أن ترتبط برابط القرابة من رسول
الله(ص) إضافة إلى مقام الطهارة والقداسة لأهل البيت، وإما أن ترتبط بالصلاحيات العلمية أو الإجتماعية التي يتمتعون بها. إنّ
ما يطلق عليه إسم الولاية في الحالتين الأخيرتين لا تتعدى حدود التشريع والعهد، حتى يخال للمرء أن أصل هذا التعهد ومعناه
وفلسفته هو الصلاح العلمي أو الإجتماعي. أما ولاية التصرف المعنوي، فهي ضرب من التسلط والإقتداء التكوينيين. فلابد من
معرفة معنى ولاية التصرف وما هو القصد منها.
ترتبط نظرية الولاية التكوينية من جهة بالإمكانات الكامنة في هذا الذي ظهر على وجه الأرض باسم الإنسان، وبالكمالات
الموجودة بالقوة في هذا الكائن العجيب، وهي الكمالات التي يمكن أن تنتقل من القوة إلى الفعل. وهي ترتبط من جهة أخرى
بالعلاقة بين هذا الكائن والله. إنّ المقصود في الولاية التكوينية هو أن يقترب الإنسان، بسيره على صراط العبودية، من الله،
فيكون من أثر ذلك ـ في مراتبه العليا طبعاً ـ أن تتركز فيه المعنوية الإنسانية التي هي بذاتها حقيقة من الحقائق، وهو بنيله تلك
الدرجة من المعنوية، وهي رأس المعنويات، يصبح مسلطاً على الضمائر، وشاهداً على الأعمال، وحجة على زمانه، وإن الأرض
لا تخلو من حجة بهذا المعنى.
إنّ الولاية بهذا المفهوم غير النبوة؟ غير الخلافة، وغير الوصاية، وغير الإمامة التي تعني المرجعية في الأحكام الدينية. إنّ
اختلافها مع النبوة والخلافة والوصاية إختلاف حقيقي، ومع الإمامة إختلاف من حيث المفهوم والإعتبار.
إنّ المقصود باختلافها عن النبوة والخلافة والوصاية إختلافاً حقيقياً ليس أن كل نبي أو خليفة أو وصي لا يمكن أن يكون ولياً، بل
المقصود هو أن النبوة والخلافة والوصاية حقائق تختلف عن حقيقة الولاية، وإلا فإن الأنبياء العظام، وعلى الأخص خاتمهم،
كانت لهم ولاية إلهية كلية.
أما القول بأن اختلافها عن الإمامة إختلاف اعتباري، فيعني إنها والإمامة مقام واحد، فمرة تعتبر إمامة ومرة تعتبر ولاية. إنّ
تعبير (الإمامة) قد استعمل في المصطلحات الإسلامية بمعنى الولاية المعنوية، مفهوم الإمامة مفهوم واسع. فالإمامة تعني القيادة
والمرجع الديني قائد، بمثل ما أن الزعيم السياسي والإجتماعي قائد أيضاً.
إنّ الشيعة يطرحون موضوع الولاية من جوانب ثلاثة، وفي كل تلك الجوانب الثلاثة تستعمل كلمة الإمامة:
الجانب الأول هو الجانب السياسي: فمن الذي كان أحق وأليق بالقيام مقام النبي بعده لزعامة المسلمين ولقيادتهم إجتماعياً
وسياسياً؟ ومن ذا الذي كان يجب أن يخلف النبي(ص) في زعامة المسلمين؟ أما القول بأن النبي قد اختار علياً بأمر من الله لهذا
المركز الإجتماعي، فإن له في الوقت الحاضر جانباً تاريخياً، وليس له جانب عملي.
وعلى الرغم من أن الله قد أقام الدنيا على نظام الأسباب والمسببات، وإن من يذكرهم القرآن باسم الملائكة {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[1]
و{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[2] إنما هم يأتمرون بأمر الله، فإن ذلك لا يتنافى مع وحدانية الله تعالى ولا مع مالكيته وخالقيته، كما أنه لا
يتنافى أيضاً مع عدم وجود (ولي) بمعنى حبيب لله ومعين له، وحتى آلة من آلات الله:
{وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[3].
إنّ علاقة المخلوق بالخالق ليست بعد الخالقية والمربوبية، هي اللاشيئية المطلقة. فالقرآن الذي يقول: إن الله غني عن العالمين،
وفي الوقت الذي يقول فيه:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[4].
يقول أيضاً في مكان آخر:
{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}[5]
وكذلك:
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}[6]
ويقول أيضاً: {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[7].
ويقول أيضاً:
{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}[8].
وفي هذه الآية رسل وحفظة يقبضون الأرواح.
وعليه، فمن حيث النظرة التوحيدية، لا مانع من وجود وسائط وقيام غير الله بتدبير الأمور بإذن الله وبإرادته بحيث يكون منفذوا
الأوامر قائمين بها بإرادة الله.
ولكن في الوقت نفسه يقتضيا الأدب الإسلامي ألا ننسب الخلق والرزق والإحياء والإماتة وأمثالها إلى غير الله، فالقرآن يريدنا أن
نتخطى الأسباب والوسائط ونعبرها إلى المنبع الأصلي لكي يكون توجهنا إلى الفاعل الأول في الكون كله والذي خلق الوسائط
من مخلوقاته ومن منفذي أوامره ومظاهر حكمته أيضاً.
ثم إنّ نظام العالم من حيث الوسائط نظام خاص خلقه الله، وليس بمقدور الإنسان في سيره التكاملي أن يقوم مقام أي من وسائط
فيض الله، بل أنه نفسه يتلقى الفيض من تلك الوسائط نفسها فالملائكة توحي إليه، والملائكة تؤمر بالحفاظ عليه وبقبض روحه،
على الرغم من أن مقام ذلك الإنسان وسعة وجوده يمكن أن تكون أرفع أحياناً من مقام ذلك الملك الموكل به.
ثم إننا لا نستطيع أن نعين تعييناً دقيقاً حدود ولاية التصرف أو الولاية التكوينية، لإنسان كامل أو قريب من الكمال. إنّ مجموع
القرائن القرآنية والعلمية الذي بين أيدينا يؤيد إمكان وصول الإنسان إلى مرتبة تتحكم فيها إرادته في العلم. ولكن إلى أي حد؟ هل
لذلك حد، أم لا حد له؟ إنّ الجواب على ذلك خارج عن طاقتنا.
الموضوع الثالث الذي يجب ذكره هو: إن ولاية التصرف من شؤون ذلك العبد الذي تنزه كلياً من أهواء نفسه فهذه القدرة ليست
مما يتأتى على وفق الرغبة والهوى لأي إنسان.
بل إنّ الإنسان الذي ما يزال تحت سيطرة رغباته وأهوائه وميوله العشوائية محروم من أمثال هذه الكرامات. أما الإنسان الذي
طهر إلى ذلك الحد، لا تتبع إرادته أبداً من النزاعات والغرائز التي تنبعث عنها إرادتنا بل تتحرك إرادته باطنياً وبإشارة غيبية،
أما كيف يكون ذلك فلا علم لنا به. أما ما جاء في بعض آيات القرآن: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا}[9] فإنه يعني أن الذي
يملك أصلاً كل نفع وضر هو الله، وإن قدرتي على نفعي وضرري هي أيضا من الله, وليست من عندي. وإلا فكيف يمكن أن
يملك الناس إلى حد ما نفعهم وضرهم، ثم يكون النبي(ص) أدنى من أولئك في ذلك.
هذه النقاط الثلاث كان من الضروري بحثها أولاً كمقدمة لبحث الولاية التكوينية، لأنها قلما تناولتها الأقلام بالبحث، يضاف إلى
ذلك أن بعضهم قد اقترح علينا معالجة ذلك أيضاً.
أعترف أن قبول مفهوم الولاية بهذا المعنى ليس من السهولة بمكان، وكذلك هو تصديقه، خاصة وأن طبقة المتنورين عندنا لا
يعجبها الخوض في أمثال هذه المسائل، فهم يعرفون صعوبة الموضوع وسهولة إنكاره بهذا الشكل:
(بالنظر لكثرة المسائل الضرورية والآية المطروحة أمام المسلمين في الوقت الحاضر، فليس هناك ما يدعو إلى تناول موضوع
إن كان للنبي والإمام ولاية تكوينية أم لا).
ويطرح آخرون إنكارهم واعتراضهم بشكل آخر يصطبغ بالصيغة الدينية، فيقولون: هذا غلو، ويعني القول بمقام فوق بشري
ونصف إلهي للبشر، ونسبة عمل الله إلى غير الله، وعليه فإنه شرك ويتنافى مع أول أصول الإسلام وهو التوحيد.
والحقيقة هي إننا لا نستطيع بأنفسنا أن نتقبل أمراً أو أن نرده. إنّ كون قضية من القضايا شركاً أو توحيداً لا يتأكد أو ينتفي
برغبتنا بحيث إننا يمكن أن نقول إن هذه النظرية شرك وتلك توحيد بحسب ميولنا. هنالك مقاييس دقيقة قرآنية وبرهانية لذلك. إنّ
في المعارف الإسلامية من المسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد ما يبلغ بها أوج العظمة التي تفوق قصور الإنسان العادي, كما أن
مسألة ضرورة بعض المسائل وآنيتها بالنسبة لمسائل أخرى تعتبر من المسائل الرئيسة، ولكن معيار ضرورتها لا ينحصر في
كون بعض المسائل تطرح في زمان ما أكثر ويحس الناس بالحاجة إليها أكثر. إنّ من الخطأ التصور بأن الإحساس بالحاجة يكون
دائماً مطابقاً للحاجة فعلاً.
إنّ مقدار توكيد القرآن على موضوع ما ضمن عرضه المسائل يعتبر بحد ذاته معياراً ينبغي أن يؤخذ بنظر الإعتبار في كل
زمان. ومسألة الولاية التكوينية من المسائل المتعلقة بالإنسان ومواهبه. إنّ القرآن يولي أهمية كبرى للإنسان ولمواهبه وللجوانب
غير العادية في الخلق. وهذا ما سوف نتناوله إن شاء الله في كتابنا(القرآن والإنسان).
يكفي هنا أن نشير بصورة إجمالية إلى هذا الموضوع لتوضيح أسسه إستناداً إلى المفاهيم القرآنية، لئلا يقول بعضهم إنّ هذا
الكلام من (عندياتنا).
إننا في أمثال هذه المسائل التي تثقل على أفهامنا أحياناً، نكون أقرب إلى الحقيقة إذا خطأنا أنفسنا من أن ننكرها.
لا شك إن مسألة (الولاية) بمفهومها الرابع تكون من المسائل العرفانية الصوفية، ولكن هذا لا يعطينا الحق في أن ننبذ المسألة
على هذا الإعتبار. إنّ هذه المسألة العرفانية تعتبر مسألة إسلامية من وجهة نظر التشيع. والتشيع مذهب والصوفية مسلك(بصرف
النظر عن الخرافات التي دخلت فيها).
ولكنهما يلتقيان في هذه النقطة، وإذا كان لابد من القول أيهما أقدر في تبني تلك المقولة فالذي لا شك فيه بدلائل من القرآن
والتاريخ, إن التصوف هو الذي اقتبس ذلك من التشيع، وليس العكس, على كل حال، سوف نستعرض بصورة موجزة جذور هذه
الفكرة:
أهم مسألة ينبغي أن تعرض هنا هي مسألة (التقرب من الله) من المعلوم في الإسلام، بل وفي كل دين سماوي، أن روح التشريع
هو قصد التقرب إلى الله، وأن النتيجة النهائية المتوقعة من كل عمل هي التقرب إلى الله أيضاً.
إذن سوف نبدأ كلامنا على معنى (التقرب) ومفهومه.
فما معنى التقرب إلى الله؟
إن كثرة تعاطينا لمفاهيم إعتبارية وإجتماعية مما نستخدمه في حياتنا اليومية غالباً ما تسبب لنا الوقوع في الخطأ، وتجعل بعض
الألفاظ المستعملة في المعارف الإسلامية تنحرف عن معانيها الأصلية وتتخذ معاني إعتبارية.
إننا عندما نستعمل كلمة (التقرب) في غير مفاهيمها الإجتماعية، فإنما نريد مفهومها الحقيقي. فقد نقول، مثلاً: بقرب ذلك الجبل
عين ماء. أو: وصلت قرب ذلك الجبل فهنا يكون المراد من القرب هو المعنى الحقيقي، أي من حيث المسافة بعداً أو قرباً، وهي
الفاصلة الحقيقية التي تفصلنا عن الشيء، ولا علاقة لذلك بفاصلة إعتبارية ومتفق عليها.
ولكن عندما نقول أن فلاناً قد نال مقاماً قريباً من فلان، أو عندما نقول إن فلاناً قد تقرب إلى فلان بالعمل الفلاني، فما هو القصد
من القرب هنا؟
هل نقصد أن المسافة بينهما قد قلت، كما لو كانت من قبل 500 مترٍ وأصبحت الآن 100 متر؟ طبعاً لا. لو كان الأمر كذلك لكان
الخادم أقرب الناس إلى المخدوم في غرفته. إنما نقصد أن الخادم بما قام به من خدمة راقت في عين المخدوم قريباً من نفسه, وهو
لم يكن كذلك من قبل، وإنه اقترب منه بذلك أكثر، فكانت النتيجة أن المخدوم راح يولي الخادم عناية أكبر. إذن، يكون استعمال
القرب هنا استعمالاً مجازياً وليس استعمالاً حقيقياً، لأنه لا علاقة له بوجود كياني الخادم والمخدوم في مكان قريب بعض من
بعض, إنما الكلام يدور على العلاقة الروحية الخاصة التي تنشأ بين المخدوم والخادم لسبب ما، فالأثر الناتج عن ذلك يعبر عنه
بالقرب تشبيهاً ومجازاً.
فما هو القرب من الله؟ أهو قرب حقيقي أم هو قرب مجازي؟ أحقاً أن العبادة بالطاعة والعبادة والسلوك والإخلاص يرتفعون نحو
الله، ويتقربون منه، وتقل الفاصلة بينهما، بحيث تتضاءل حتى تنعدم ويحصل ما يعبر عنه القرآن بتعبير(لقاء الرب)؟ أم أن هذه
كلها تعبيرات مجازية ولا تعني الإقتراب من الله، وأن ليس هناك قرب أو بعد من الله، وإن القرب من الله لا يختلف شيئاً من
القرب من شخصية إجتماعية، أي أن الله يرضى عن عبد فتزداد عنايته به ويكثر لطفه عليه؟
هنا يظهر سؤال آخر. ترى ما معنى رضا الله؟ إن الله لا تعتوره الحوادث بحيث يكون مرة غير راض ثم يرضى، أو أن يكون
راضياً ثم يصبح غير راضٍ. فيكون الجواب الذي لا محيص عنه هو أن الرضا وعدم الرضا هنا مجازيان أيضاً، والمقصود
بالرضا هو آثار رحمته ولطفه التي سبغها على العبد في حالة طاعته وعبوديته، ولا شيء غير ذلك.
فما هي تلك الرحمة وما هو ذلك اللطف؟ هنا تتباين الإجابات، فهناك من يرى الرحمات تشمل الأمور المعنوية والمادية،
والمعنوية هي المعارف واللذة الحاصلة منها، والمادية هي الجنة والحور العين والقصور. وهناك بعض آخر لا يعترف بالرحمات
المعنوية، ويقصر ألطاف الله على الناس بما ينالونه في الجنة من الحور والقصور والتفاح والكمثري. وهذا الكلام يعني أنه كلما
ازداد تقرب أولياء الله إلى الله إزدادت قصورهم وحورهم وتفاحهم وفواكههم وبساتينهم.
يستنتج من أقوال منكري القرب الحقيقي من الله, أن طاعة الله وعبادته لا تغير علاقة الله بالعبد(وهو ما يقول به أصحاب القرب
الحقيقي) ولا تغير علاقة العبد بالله، فمن حيث القرب الحقيقي يتساوى أول شخص في العالم، أي النبي الكريم(ص)، وأشقى
الناس من أمثال فرعون وأبي جهل.
الحقيقة هي أن هذا الخطأ ناشئ عن نوع من التفكير المادي بالنسبة للإنسان والله، وعلى الأخص بالنسبة للإنسان.
إنّ من يرى الإنسان وروحه مجرد كمية من الماء والطين، ولا يريد أن يعترف بقول الله:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[10] أو أنه يحمله على محمل المجاز، لا يسعه إلا أن ينكر القرب الحقيقي.
ولكن ما الذي يدعونا إلى أن نفترض الإنسان حقيراً وترابياً إلى هذا الحد، بحيث نضطر إلى تأويل كل شيء ونوجهه تلك
الوجهة؟ إنّ الله كمال مطلق وغير محدود.
حقيقة الوجود تساوي الكمال، وكل كمال يرجع إلى حقيقة الوجود التي هي حقيقة أصيلة مثل العلم، والقوة، والحياة، والإرادة،
والرحمة، والخير، وغيرها.
إنّ الكائنات في أصل خلقتها، كلما كانت أكمل في وجودها، أي كلما كانت أقوى وأشد في وجودها، كانت أقرب إلى ذات الله التي
هي الكمال المحض، فمن الطبيعي أن الملائكة أقرب إلى الله من الجمادات والنباتات، وبهذا السبب نفسه يكون بعض الملائكة
أقرب إلى الله من بعضهم الآخر، فبعضهم يأمر وبعضهم يطيع، وهذا الإختلاف في المراتب قرباً وبعداً، يتعلق، في الواقع، بأصل
الخلق أو بما يصطلح عليه باسم(قوس النزول).
إنّ الكائنات، وعلى الأخص الإنسان، تشملهم آية:
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[11].
وعلى الإنسان، بحكم مرتبة وجوده، أن يحقق هذه العودة في صورة الطاعة والعمل الإختياري والقيام بالواجب اختيارياً. إنّ
الإنسان باجتيازه طريق طاعة الله, إنما يطوي في الواقع درجات الإقتراب من الله، أي أنه يطوي المراتب من مرتبة الحيوانية
إلى مرتبة ما فوق الملائكية. إنّ هذا الإرتقاء والصعود ليس أمراً تشريفياً أو إدارياً متفقاً عليه، كأن يكون ارتقاء من درجة بسيطة
إلى درجة وزير، أو من مجرد عضو في حزب إلى مركز قيادة الحزب، وإنما هو ارتقاء على سلم الوجود، وازدياد في الشدة
والقوة والكمال، أي أنه ازدياد واستكمال في العلم والقوة والحياة والإرادة والمشيئة، واتساع دائرة النفوذ والتصرف. إنّ التقرب
إلى الله يعني في الحقيقة اجتياز مراحل الوجود والإقتراب من قلب الوجود اللامتناهي.
وعليه، فإن من المستحيل أن لا يصل الإنسان، بعد الطاعة والعبودية واجتياز صراط العبودية إلى مقام الملائكة أو إلى أبعد من
ذلك المقام، أو أن يكون في الأقل متمتعاً بالكمالات الملائكية, إن القرآن يؤكد مقام الإنسان بقوله:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[12]حقاً ينبغي القول بأن من ينكر مقام الإنسان
فهو إبليس!.

[1] النازعات، الآية: 85.
[2] الذاريات، الآية: 4.
[3] الإسراء: الآية: الأخيرة.
[4] الزمر، الآية: 42.
[5] السجدة، الآية: 11.
[6] النحل، الآية: 28.
[7] هود، الآية: 57.
[8] الأنعام، الآية: 61.
[9] الأعراف، الآية: 188.
[10] الحجر، الآية: 29.
[11] البقرة، الآية: 156.
[12] البقرة، الآية: 34.

السابق || التالي

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية