مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

الولاء والولاية 

الحياة الظاهرة والحياة والمعنوية

إن للإنسان في باطن حياته الظاهرية الحيوانية حياة معنوية.
إنّ الحياة المعنوية في الإنسان، تلك الحياة التي تكمن بذورها في كل إنسان، تستقي رشدها وكمالها من أعمالها وأهدافها. فكمال
الإنسان وسعادته، وكذلك سقوطه وشقاؤه، يعتمدان على حياة الإنسان المعنوية التي تعتمد بدورها على أعماله ونياته وأهدافه وما
يستهدفه من مسيرته.
إننا نعني بالتعاليم الإسلامية من حيث جوانبها التي تتعلق بالحياة الفردية أو الإجتماعية في الدنيا. لا شك أن التعاليم الإسلامية
مليئة بمختلف الفلسفات في شؤون الحياة المتنوعة، فالإسلام لا يقلل أبداً من أهمية الحياة وشؤونها، وهو لا يرى للمعنويات
وجوداً منفصلاً عن الحياة، فكما أن الروح عندما تفارق الجسد لا تعود لها علاقة بهذا الدنيا، بل تصبح من شؤون عالم آخر, كذلك
الأمور المعنوية إذا فصلت عن هذه الحياة لم تعد ترتبط بها. إنّ الكلام على المعنويات مجرداً عن العيش في هذه الحياة الدنيا لا
فائدة فيه.
ولكن ينبغي ألا نتصور أن فلسفات التعاليم الإسلامية تنحصر في الشؤون الحياتية فحسب. كلا، فإن إتباع هذه التعاليم وسيلة
لاجتياز طريق التعبد والعبودية إلى استكمال الوجود. إنّ للإنسان سيراً كمالياً باطنياً لا يتحدد بحدود الجسم والمادة والحياة الفردية
والإجتماعية, بل يستقي من مجموعة المقامات المعنوية. وإن الإنسان يكون فعلاً سائراً على هذا الطريق بسيرة في طريق
العبودية والإخلاص لله تعالى، بحيث أنه إذا لم يشاهد في هذه الدنيا المراحل التي طواها في مراتب التقرب والولاية، فإنه سوف
يشاهدها في العالم الآخر بعد رفع الحجاب عنه[1].

[1] أنظر النشرية السنوية، مكتب التشيع، رقم 2، صفحات 172 ـ 180.
 


الإمام حامل الولاية

يقول العلاّمة الجليل الطباطبائي أيضاً بخصوص ثبوت الولاية وحاملها الإمام, وإن عالم الإنسان لا يمكن أن يخلو من إنسان (
كامل) يحمل الولاية:
(ليس ثمة شك في ثبوت الولاية وتحقق صراطها الذي يسير عليه الإنسان نحو مراتب كماله الباطني حتى يصل إلى قرب الله.
وذلك لأن الظواهر الدينية لا يمكن تصورها بغير حقيقة باطنية. ولا ريب في أن جهاز الخلق الذي وفر للإنسان الظواهر الدينية
(التعاليم العلمية والأخلاقية والإجتماعية) ودعاه إليها، لابد أن يوفر أيضاً وبالضرورة هذه الحقيقة الباطنية التي هي بمثابة الروح.
إنّ الدليل على ثبوت النبوة ودوامها (الشرائع والأحكام) في عالم الإنسان، والذي يسند مجموعة التعاليم الدينية. يدل أيضاً على
ثبوت (الولاية) وفعاليتها ودوامها. كيف يمكن تصور مرحلة من مراحل التوحيد، أو حكماً من أحكام الدين، أن يكون حياً بالفعل
بغير أن يكون هناك وجود للحقيقة الباطنية التي يشتمل عليها، أو أن يكون العالم الإنساني مقطوع الرابطة بتلك المرحلة؟
إنّ من يحمل درجات القرب، ويكون أمير قافلة وأهلاً(للولاية) ويحافظ على الرابطة الإنسانية بهذه الحقيقة، يطلق عليه القرآن
إسم (الإمام)[1] أي الذي اختاره سبحانه للتقدم على صراط (الولاية) وللإمساك بزمام الهداية المعنوية.
إنّ (الولاية) التي تسطع في قلوب عبيد الله، أشعة نور هو مصدرها، وما المواهب المختلفة سوى سواقي تتصل ببحره العظيم)
[2].
لقد جاء في (أصول الكافي) في باب (أن الأئمة نور الله) نقلاً عن أبي خالد الكابلي بروايته عن الإمام الباقر (ع) أنه سأله عن
الآية:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا}[3] فقال الإمام في معرض تفسير للآية: (والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين
أنور من الشمس المضيئة بالنهار).
إنّ من الخطأ القول بأن تحديد هدف التعاليم الدينية وظاهرها وباطنها بآثارها الحياتية؛ وبأن القرب الإلهي ـ وهو النتيجة
المباشرة لإتباع تلك التعاليم بصورة صحيحة ـ ليس سوى أمر اعتباري ومجازي من قبيل التقرب إلى ذوي الجاه والمال في
الدنيا، بغير أن تكون له أي دور مؤثر في حياة الإنسان المعنوية والواقعية بما يرفعه في سلم الوجود. إنّ الذين اجتازوا مراتب
القرب حقاً حتى وصلوا إلى درجاته العليا، أي أنهم فعلاً اقتربوا من مصدر الوجود، لابد أنهم قد تمتعوا بمزايا تلك المرحلة،
وأولئك هم الذين يحيطون بعالم الإنسان، ومسلطون على أرواح الآخرين وضمائرهم، وشهداء على أعمالهم.
إن كل كائن يتقدم خطوة في طريق كماله المقدر, ويطوي مرحلة من مراحل كمالاته، يكون، في الحقيقة، سائراً على طريق
الإقتراب من الله. والإنسان كائن من كائنات هذا العالم، وطريق كماله لا ينحصر فقط في التمكن مما يصطلح عليه اليوم باسم (
التمدن) أي تلك العلوم والفنون التي تنفع في تطوير الحياة وتحسينها، وتلك الآداب والعادات التي تعين على حياة إجتماعية
أفضل. لو أننا نظرنا إلى الإنسان مجرداً على سطح هذه الكرة الأرضية، لكان ذلك القول مقبولاً، إلا أن للإنسان بعداً آخر، لا
يصل إليه إلا بتهذيب النفس, وإلا بالتعرف على الهدف الأخير، وهو الله جل جلاله.

[1] أنظر (تفسير الميزان)، ذيل الآية {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فاتهمن قال إني جاعلك للناس إماماً} (سورة البقرة، الآية
124).
[2] النشرية السنوية، مكتب التشيع، الرقم 2.
[3] سورة التغابن: الآية : 8.
 


من العبودية إلى الربوبية

إنه لتعبير حي: من العبودية إلى الربوبية! أيمكن أن يخرج من العبودية، ويضع قدمه على تخوم الربوبية، (أين التراب من رب
الأرباب)؟
هذا صحيح، ولكن المقصود من (الربوبية) ليس (الألوهية) إذ كل صاحب قدرة هو (ربها)، وكل امرئ هو (رب) ما يقع تحت
يده وسيطرته ونفوذه. عندما جاء أبرهة يريد هدم الكعبة قال له عبد المطلب: إني رب الأبل، وللبيت ربه)[1].
لقد أدرجنا القول السابق إستناداً إلى حديث معروف وارد في (مصباح الشريعة). يقول الحديث المذكور (العبودية جوهرة كنهها
الربوبية).
لقد كان الإنسان يسعى، وما يزال، للعثور على طريق يوصله إلى الهيمنة على ذاته وعلى العالم.
إننا في هذه العجالة لا نتطرق إلى الطرق التي اختارها لبلوغ هذا الهدف، وهل أوصلته إلى هدفه أم تاهت به عنه. إلا أن من بين
تلك الطرق طريقاً واحداً يوجب العجب، وذلك لأنه طريق لا يوصل إلى الهدف إلا إذا لم يكن ذاك هو الهدف، أي إذا لم يكن
الهدف هو إكتساب القوة للتسلط على الدنيا، بل يكون الهدف هو النقطة المقابلة لذلك تماماً، أي (التذلل والخضوع والفناء
واللاوجود) ذلك الطريق العجيب هو طريق العبودية لله.

[1] سيرة ابن هشام، الجلد الأول.
 


مراحل الطريق ومنازله

إنّ للربوبية والولاية، وبعبارة أخرى، إن للكمال الذي يبلغه الإنسان على أثر عبوديته وإخلاصه وتعبده الحقيقي، مراحل ومنازل.
المرحلة الأولى تكون ذات إلهام, وتتميز بتسلط الإنسان على نفسه. وبعبارة أخرى، إن أدنى علاقة تدل على قبول عمل الإنسان
من لدن الخالق هي أنه يصبح ذا نظرة نافذة واضحة، ويرى نفسه. يقول القرآن الكريم:
{إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}[1].
ويقول:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[2].
ثم يتغلب الإنسان على نفسه وقواه النفسانية, ويقهرها وتتقوى إرادته في قبال رغباته النفسية الحيوانية، ويصبح حاكماً على
وجوده، ويتميز بإدارة لائقة لما يحيط به.
وهذا القرآن يقول عن الصلاة:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[3].
ويقول عن الصوم:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[4].
وفي كليهما يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}[5].
إنّ ما يناله الإنسان في هذه المرحلة من العبودية هو: الوضوح في الرؤية والسيطرة على الأهواء والرغبات النفسية.
وبعبارة أخرى، الأثر الأول للعبودية هو الربوبية والولاية على النفس الأمارة بالسوء.[6]
وفي المرحلة الثانية يكون تسلطه وولايته على الأفكار المتناثرة، أي يكون في مرحلة التسلط على قوة الخيال. إنّ من أعجب
قدراتنا هي قدرتنا على التخيل. إنّ هذه القدرة هي التي تمكن عقلنا من الإنتقال في كل لحظة من موضوع إلى آخر. أو ما يسمى
بتداعي الخواطر والمعاني. إنّ هذه القوة، قوة التخيل، ليست تحت سيطرتنا عادة، بل نحن الذين نقع تحت سيطرة هذه القوة
العجيبة. فنحن قد لا نستطيع أن نركز ذهننا في موضوع معين ذاته بحيث لا ننتقل إلى موضوع آخر فنجدنا, وقد طرأت علينا
دون اختيار فكرة مغايرة لما كنا نفكر فيها، ولا نلبث حتى يخطر لنا خاطر آخر وهكذا. ففي الصلاة، مثلاً، كلما حاولنا أن نحافظ
على (حضور القلب) والإبقاء على هذا التلميذ في قاعة درس الصلاة، إنفلت وهرب، وفجأة نلاحظ إننا قد أتممنا الصلاة بينما كان
هذا (الطالب) غائباً عن الدرس.
النبي الكريم (ص) يشبه هذا تشبيهاً لطيفاً، فيقول:
(مثل القلب مثل ريشة في الغلاة، تعلقت في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهراً لبطن)[7].
أو قوله (ص):
(لقلب ابن آدم اشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً)[8].
ولكن هل الإنسان مضطراً اضطراراً ومحكوم أبدياً بالبقاء تحت حكم الفكر الذي يحط كالعصفور القلق كل لحظة على غصن، مع
أن الإستسلام لحكم الخيال دليل على الضعف وعدم النضج؟ أم أن أهل الولاية الكاملين قادرون على إخضاع هذه القوة المخزونة
لمشيئتهم؟
إنّ الشق الثاني من السؤال هو الصحيح. فواحد من واجبات الإنسان هو التحكم في أهوائه وتخيلاته، وإلا فإن هذه القوة الشيطانية
الصفات, لن تترك لأحد مجالاً للإرتقاء بنفسه والسير على صراط التقرب من الله، وتبطل عمل جميع المواهب والقدرات
الأخرى في الإنسان، كما جاء في الحديث الشريف.
(تنام عيناي ولا ينام قلبي).
إن السالكين طريق العبودية لله يصلون في المرحلة الثانية إلى حيث ينالون الولاية والربوبية على قواهم التخيلية، ويجعلونها في
أسارهم وفي طاعتهم، فيكون من أثر هذا الترويض أن الروح تستطيع أن تسمو بدافعها الفطري الإلهي بغير أن تتدخل هذه القوة
في ذلك بألاعيبها.
إننا إذا تجاوزنا عن أشخاص مثل علي(ع) وزين العابدين(ع) ممن تستغرقهم الصلاة، بحيث إنهم يستخرجون شوكة من قدم
علي(ع) بغير أن يحس بذلك، أو أن طفل زين العابدين(ع) يسقط من مرتفع وتكسر يده، فيرتفع صراخ الطفل والنسوة في البيت،
ويأتي المجبر ويجبر الكسر ويلف يد الطفل، وأثناء ذلك كله يكون الإمام زين العابدين(ع) مستغرقاً في الصلاة إلى درجة لا يسمع
معها كل ذلك الصراخ والهرج والمرج. وعندما ينتهي من صلاته ويرى يد الطفل مشدودة، يتساءل عما جرى للطفل وما الذي
حدث.
أقول إذا تخطينا أمثال هؤلاء العظام، فإننا نرى بين ظهرانينا أناساً إذا وقفوا للصلاة تجمعت خواطرهم وتركزت أفكارهم في
الصلاة بحيث أنهم يغفلون عن كل ما هو بعيد عن ذكر الله. لقد كان أستاذنا الكبير الجليل المرحوم الحاج ميرزا علي آقا
الشيرازي الأصفهاني أعلى الله مقامه من هؤلاء.
ليس من العبادة ـ وهي التوجه إلى الله أساساً ـ ما يوصل الإنسان إلى هذا الانتصار. أما المرتاضون فيدخلون من طرق أخرى
ومعظمهم يتوصل لذلك بإهمال الحياة وتعذيب الجسم. ولكن الإسلام يتوصل إلى ذلك عن طريق العبادة، بغير حاجة للتوسل
بطرق غير سليمة. إن توجه القلب إلى الله، وتذكر المرء أنه يقف بين يدي رب الأرباب وخالق المخلوقات ومدبرها، يهيأ له حالة
تركيز الذهن وتجميع الخواطر.
خليق بنا في هذا المقام أن نستشهد بشيخ فلاسفة الإسلام وأعجوبة الدهر الذي أوصل الآراء الفلسفية، ببركة تعاليم الإسلام، إلى
حيث لم يصل إليه القدامى من اليونانيين والفرس والهنود.
يتناول هذا الرجل العظيم في النمط التاسع من الإشارات ـ بعد شرحه العبادات التي يؤديها العامة، والتي تكون لمجرد الحصول
على الجزاء, وهي لذلك لا قيمة كبيرة لها ـ العبادات المقرونة بالمعرفة، فيقول:
(والعبادة عند العارف رياضة ما لهممه وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة ليجرها بالتعويد عن جانب الغرور إلى جانب الحق
فتصير مسالمة للسر الباطن حينما يستجلي الحق لا تنازعه فيخلص السر إلى الشروق الباطن).
والمرحلة الثالثة هي أن الروح في مراحل القوة والقدرة والربوبية والولاية تصل إلى مرحلة تكون فيها في كثير من الحالات
غنية عن الجسد، في الوقت الذي يكون فيه الجسد محتاجاً للروح مائة بالمائة.
إنّ الروح والجسد لا يستغني أحدهما عن الآخر عادة. فحياة الجسد بالروح، والروح صورة الجسد وحافظة له، وإن سلب العلاقة
التدبيرية بين الروح والجسد تستوجب خراب الجسد فساده والروح، من جهة أخرى لا تستغني عن الجسد في القيام بفعالياتها،
لأنها لا تكون قادرة على العمل بغير أن تستخدم الأعضاء والجوارح في الجسد. أما استغناء الروح عن الجسد فيكون في بعض
الحالات التي لا تحتاج فيها الروح إلى الجسد.
وهذا الإستغناء قد يكون للحظة، وقد يتكرر، وقد يكون دائمياً، وهذا ما يعرف باسم (التجرد).
يقول السهروردي، الحكيم الإشراقي المعروف: إننا لا نتعرف بحكمة الحكيم إلا إذا استطاع (التجرد).
ويقول ميرداماد: لا يكون الحكيم حكيماً إلا إذا أصبح (التجرد) عنده ملكة وطوع إرادته. يقول المحققون أن (التجرد) ليس دليلاً
كبيراً على الكمال. أي أن الذين لم يعبروا بعد عالم (المثال) إلى عالم الغيب المعقول يمكن أن يبلغوا تلك المرحلة أيضاً.
المرحلة الرابعة هي أن يقع الجسد تحت إرادة الشخص وأوامره من جميع الوجوه، بحيث أنه يحقق أعمالاً خارقة للعادة في جسده.
وهذا موضوع بحثه طويل.
يقول الإمام الصادق(ع):
( ما ضعف بدن عما قويت عليه النية).
المرحلة الخامسة التي هي أعلا المراحل تكون عندما تصبح الطبيعة الخارجية تحت نفوذ الإنسان وإرادته وطوع أمره. ومن هذه
المقولة تأتي معاجز الأنبياء وكرامات أولياء الله.
إنّ مسألة المعاجز والكرامات بحد ذاتها قابلة للبحث بصورة مستقلة لتفسيرها. إنّ الإيمان بأحد الأديان السماوية يستلزم الإيمان
بحوادث خرق العادة والمعاجز. فالمسلم، مثلاً، لا يمكن أن يكون مسلماً وبالقرآن مؤمناً، ثم ينكر المعجزة وخرق العادة.
إنّ مشكلة المعجزة من المشاكل المحلولة في نظر الحكمة الإلهية الإسلامية، غير أن بحث هذا الموضوع يستوجب البحث في
مقدمات كثيرة. إلا إننا هنا نبحث الأمر من حيث علاقته بموضوع(ولاية التصرف) وبديهي إننا نخاطب الذين يؤمنون بالقرآن
ويعتقدون بحدوث المعجزات. لهؤلاء نقول إن المعجزة ليست إلا مظهراً من مظاهر ولاية التصرف والولاية التكوينية. فإذا
تجاوزنا القرآن، الذي فضلاً عن كونه معجزة بحد ذاته، فإنه كلام الله، وليس كلام رسول الله(ص)، وهو حالة استثنائية بين جميع
المعجزات، فإن المعجزة تتحقق عندما يهب الله صاحبها نوعاً من القدرة والإرادة تجعله قادراً في التصرف في الكائنات بإذن الله،
فيجعل من العصا حية تسعى، أو يجعل الأعمى بصيراً، بل يستطيع أن يحيي الموتى بإذن الله، وأن يطلع على الخفايا.
إنّ هذه القدرات إنما تتهيأ له عن طريق السير في صراط التقرب من الله والإقتراب من مصدر الوجود, وما ولاية التصرف إلا
هذا.
يحسب بعضهم أن إرادة صاحب المعجزة وشخصيته لا تأثير لهما في المعجزة، وإنه ليس سوى الستارة التي تظهر عليها
الصورة, وإن الله يقوم بالمعجزة مباشرة وبدون وساطة أحد، على اعتبار أن حدود المعجزة خارجة عن حدود القدرة البشرية،
مهما يكن مقام صاحبها. وعليه، فإن حدوث المعجزة لا يعني تصرف الإنسان بالكائنات، وإنما الخالق هو الذي قام بذلك مباشرة
وبغير تدخل الإنسان.
هذا ظن بعيد عن الصواب، فعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى يأبى أن يقع فعل طبيعي بلا وساطة خلافاً للنظام، فإن هذا
التصور يناقض النصوص القرآنية. إنّ القرآن يقول بكل صراحة أن أصحاب الآيات (المعاجز) هم رسله، ولكنهم يفعلون ذلك
بإذنه وبديهي أن هذا الإذن ليس مجرد إذن اعتباري بشري يلفظ باللسان أو يمنح بالإشارة فيزيل استحالته الأخلاقية أو
الإجتماعية. إنّ إذن الله هو الكمال الذي يكون سبباً لظهور هذا الأثر. وإذا شاء الله فإنه يسلب منه ذلك الكمال. يقول الله سبحانه
في سورة المؤمن، الآية 078
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}[9].
فأصحاب الآيات في هذه الآية هم رسول الله، ولكن بإذن منه. إنّ هذا الإذن يضاف هنا لئلا يحسب أحد أن لأحد استقلالاً ذاتياً في
قبال الله سبحانه، بل إنّ على الجميع أن يعرفوا أنْ:
{لا حول ولا قوة إلا بالله}.
فكل كائن، مهما تكن مرتبته، فإنه ينفذ إرادة الله ويجري مشيئته، وإنه أحد مظاهره، كذلك هم الأنبياء الذين يتكئون في إعجازهم
على المنبع الغيبي الأزلي، إذ منه يستمدون العون.
سورة النمل المباركة تشير إلى قصة النبي سليمان وملكة سبأ. وإحضار سليمان الملكة. وحضور الملكة أمام سليمان. إذ يطلب
سليمان من الحاضرين في مجلسه أن يحضر أحدهم عرش الملكة قبل حضورها، فيتطوع بعض الحاضرين للقيام بذلك، إلا أن
سليمان لا يعجبه نوع عملهم:
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[10].
فهذا العالم قال إنه قادر على الإتيان به في تلك البرهة الوجيزة، أي أنه نسب إلى نفسه القدرة لأنه كان عنده بعض العلم. وهذا
يعني أنه حقق ذلك العمل الخارق للعادة بموجب نوع من العلم، وإن ذلك العلم ليس من تلك الأنواع التي سجلت حتى الآن في
سجلات البشر، وإنما هو علم يرتبط باللوح المحفوظ، ولا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق القرب من الله سبحانه. ويضيف
القرآن قوله عن النبي سليمان:
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ *وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ*وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[11].
ومن الآيات التي ترد بخصوص معجزات عيسى بن مريم (ع) نستنتج هذا المعنى ذاته, ولا حاجة لذكرها خشية الإطالة. القصد
هو أنه لا يمكن القبول بالقرآن, وإنكار ولاية التصرف في الكائنات, أما إذا شاء أحدهم أن ينظر إلى هذا الموضوع من حيث
وجهة النظر العلمية والفلسفية، فإن ذلك أمر آخر خارج عن مجرى كلامنا الآن.
وفي الختام أود أن أوضح النقطة التي أوردتها في البداية، وهي أن جميع هذه المراحل هي نتيجة (القرب) من الله، وأن القرب
من الله قرب حقيقي وليس تعبيراً مجازياً:
في الحديث القدسي المعروف الذي يرويه السنة والشيعة ترد هذه الحقيقة بصيغة جميلة. يروي الإمام الصادق(ع) عن النبي(
ص):
قال الله عز وجل: (ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وإنه ليقترب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها. إن دعاني أحببته وإن سألني أعطيته)
[12].
في هذا الحديث روح القضية قد ذكرت. فالعبادة تؤدي إلى القرب، والقرب يؤدي إلى المحبوبية عند الله. أي إنّ الإنسان بالعبادة
يقترب من الله، ويكون من نتائج هذا القرب أن ينال عناية خاصة، وتصبح حواسه إلهية، فبالقدرة الإلهية يسمع ويرى وينطق
ويبطش، ويستجاب دعاؤه ويعطى سؤاله.
في الواقع إن روح مذهب التشيع التي تجعله متميزاً على سائر المذاهب الإسلامية، وتمنح أتباعه رؤية إسلامية خاصة، هي هذه
النظرة الخاصة التي يحملها هذا المذهب نحو (الإنسان) فهو من جهة يعتبر المواهب الإنسانية على درجة عظيمة من الروعة،
ولا يرى أن عالم الإنسان يمكن أن يخلو يوماً من وجود إنسان كامل وصلت فيه جميع المواهب الإنسانية إلى الفعلية، ويرى من
جهة أخرى، وبحسب نظرته الخاصة به، أن العبادة هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المقامات الإنسانية، وإن طي طريق
العبودية لله بصورة كاملة وتامة لا يكون إلا ضمن قافلة الإنسان الكامل الرفيعة وتحت رعاية ولي الله وحجته.
وبهذا قال أولياء هذا المذهب:
(بُني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية. ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية)[13].
 


[1] الأنفال، الآية: 28.
[2] العنكبوت، الآية: 69.
[3] العنكبوت، الآية: 45.
[4] البقرة، الآية: 183.
[5] البقرة، الآية: 153.
[6] أنظر محاضرتنا عن (التقوى) في (ده گفتار).
[7] نهج الفصاحة، والجامع الصغير، ج1، الصفحة 102.
[8] مسند أحمد، الجلد 6، الصفحة 4.
[9] الرعد، الآية: 38.
[10] النمل، الآية: 39.
[11] سورة ص، الآيات: 36 ـ 39.
[12] الكافي، المجلد، 1 الصفحة 352.
[13] الوسائل، المجلد 1، الصفحة 4.
 

السابق

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية