الدرس الخامس عشر: أسئلة حول ولاية الفقيه وأجوبتها(2)
2ـ ولاية الفقيه والإاستبداد الديني
في الدرس السابق قمنا بتحليل العلاقة بين ولاية الفقيه وسلطة الشعب، وذكرنا أن
الحكومة حق إلهي يختص بالله تعالى. فعلى هذا الأساس يكون تعيين وتنصيب الولي الفقيه
من جانب الله، أما دور الناس في هذا المجال فهو تحقيق ولاية وقيادة الولي الفقيه في
المجتمع وإيصال هذه الولاية إلى مرحلة الفعلية، ونقوم الآن بتحليل بعض الأبعاد
الأخرى لهذه العلاقة:
من جملة الإشكالات التي تطرح في هذا المجال، تضاد هذين الأصلين في بعض الموارد.
وأصل هذه الشبهة يعود إلى أن ولاية الفقيه تجر المجتمع إلى الإستبداد وحصر السلطة.
وفي هذا المجال، يمكن أن تطرح الأسئلة التالية:
أ ـ في الإسلام، عندما يصدر الولي الفقيه أي حكم أو أمر يصبح ملزماً لجميع الناس
الذين عليهم أن ينفذوه ولا يجوز لهم مخالفته، وليس هذا إلا نوعاً من الإستبداد
الديني على المجتمع والحكومة الديكتاتورية.
الجواب: إنّ ما يطرح تحت عنوان الإستبداد الديني، له جذور من الناحية التاريخية في
الفكر الليبرالي، حيث يتهم الفقهاء بالاستبداد الديني في إجراء الأحكام الإلهية
والضغط دون أي تسامح في ذلك.
ومنشأ هذا الإتهام يعود إلى الإستبداد الديني الذي مارسته الكنيسة الأوروبية في
القرون الوسطى[1]. وعندما يقوم المتغربون بمطالعة تاريخ تلك الحقبة يقومون بمقارنة
غير عادلة بين ما حدث في الغرب وما يطرح تحت عنوان ولاية الفقيه، يريدون بذلك أن
يشيروا إلى أن ولاية الفقيه تشبه الإستبداد الديني الذي حدث في الغرب على يد
الكنيسة.
لكن الحقيقة هي أن ولاية الفقيه تعني ولاية العارف بالإسلام والعادل والتقي. ومثل
هذا الحاكم يجب عليه أن يستشير أهل الخبرة، ولا يتناسب الإستبداد مع العدالة. أما
لو اتجه الفقيه الحاكم نحو الإستبداد فإنه سيعزل تلقائياً. وحيث أن خبراء الأمة
يشرفون على أدائه، فإنهم يعلنون عزله عندما يجدون أنه يستبد ولم يعد يمتلك صفة
العدالة.
فحكومة الولي الفقيه ليس فيها جهة الإستبداد والتسلط، بل هي حكومة القرآن والسنة.
ونشير هنا إلى ما ذكره الإمام الراحل:
(فحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشرّع وحده لا سواه،
وحكم الله نافذ في جميع الناس، وفي الدولة نفسها. كل الأفراد: الرسول وخلفاؤه وسائر
الناس يتبعون ما شرعه لهم الإسلام الذي ينزل به الوحي ويبينه الله في القرآن أو على
لسان الرسول (ص).. والنبي والأئمة(ع) والناس يتبعون إرادة الله وشريعته).
ب ـ في الأصل الخامس من الدستور ورد:
(في زمن غيبة ولي العصر(عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في
جمهورية إيران الإسلامية على عاتق الفقيه العادل المتقي العارف بالزمان، الشجاع
المدير والمدبّر).
وهذا الأصل ينقض حرية وحاكمية الشعب، لأن الشعب ينبغي أن يكون حراً في تعيين قائده
وشروطه وخصوصياته، وأن يختار من يشاء لذلك.
الجواب: في الأنظمة الدينية، تكون حرية الناس في تعيين مصيرهم بيدهم واختيارهم ضمن
إطار الدين، أي أن الناس يرسمون مصيرهم على أساس الدين أو المذهب الذي اختاروه.
كمثال، جاء في الأصل الثاني في دستور جمهورية الصين الشعبية أن (الحزب الشيوعي
الصيني هو نواة القيادة لكل الشعب الصيني).
أي أن النظام الحاكم يجب أن يعمل وفق الموازين الإشتراكية. وهذا التحديد قد حصل من
جانب الناس بانتخابهم المسبق للنظام الإشتراكي. وفي النظام الجمهوري الإسلامي
أيضاً، قبل الشعب من خلال اختياره المسبق الجمهورية الإسلامية تحت عنوان مظهر
الحاكمية الإلهية ومصداق الحكومة الإسلامية[2].
ج ـ يحصل الفقيه الجامع للشرائط على الولاية من دون أن يكون لرأي الناس دخل في
تعيينه. إذاً، فلا اعتناء برأي الشعب في إنتخاب الولي الفقيه.
الجواب: يتم إعمال رأي الشعب من طريقين، الأول بصورة مباشرة حيث ينتخب الشعب شخصاً
بصورة مباشرة مثل رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى، والطريق الآخر بصورة غير
مباشرة، حيث يوكل الشعب أشخاصاً يقومون باختيار شخص لهذه المسؤولية. ولاشك أن
الوكلاء هنا يعبرون عن رأي الشعب الذي انتخبهم. مثل إختيار الوزراء باقتراح من رئيس
الجمهورية الذي انتخبه الشعب، حيث يقوم مجلس النواب بالموافقة عليهم، كونه يمثل رأي
الشعب. أما في مورد قيادة المجتمع الإسلامي وطبقاً للتدبير الذي طرح في الدستور
يوجد طريقان:
الأول: من خلال الإقبال الحاسم لأكثرية الشعب على فقيه عادل وجامع للشرائط حيث يصبح
الأخير قائداً للمجتمع الإسلامي، كما حدث مع قائد الثورة العظيم ومؤسس الجمهورية
الإسلامية في إيران. فقد شاركت الأمة في تعيين القائد بشكل مباشر.
الثاني: عبر الخبراء الذين ينتخبهم الشعب، حيث يختار هؤلاء من بين الحائزين على
الشرائط قائداً، ففي هذه الصورة أيضاً، قام الشعب بالإنتخاب، ولكن بطريقة غير
مباشرة. وفي كلا الحالتين يمكن الجمع بين ولاية الفقيه وحاكمية الشعب.
3ـ في حال كان قائد المسلمين فقيهاً عادلاً ولكن ليس مرجعاً للتقليد، هل تكون له
كافة صلاحيات الولي الفقيه؟
الجواب: إنّ ولاية الفقيه العادل ولاية مطلقة. وقد ذكرنا هذا الموضوع سابقاً
وأثبتناه، حيث قيل أن جميع صلاحيات الإمام المعصوم في إدارة شؤون المجتمع الإسلامي
تكون لخليفته ونائبه أيضاً، إلا ما استثني بالدليل والنص فيما يتعلق بالعصمة. فجميع
الصلاحيات الثابتة للفقيه العادل الذي هو نائب الإمام المعصوم تكون لكل فقيه عادل
متصدٍ لولاية أمر المسلمين.
وفي هذه المسألة لا يوجد فرق بين الفقيه العادل الذي يعتبر مرجعاً للتقليد أم لا.
فما ورد في الروايات حول ولاية الفقيه لا يتطلب أكثر من (الفقيه العادل). ويجب على
كافة المسلمين أن يطيعوه، سواء كانوا من مقلديه أم لم يكونوا، وحتى إذا كانوا من
مراجع التقليد أيضاً فيما يتعلق بشؤون الحكومة، وإلا عمت الفوضى وزال النظام من
المجتمع الإسلامي.
[1] الدوافع نحو المادية، الشهيد مطهري.
[2] لاشك أنه لأجل حفظ النظام الإسلامي وعمله بدقة، ينبغي السعي لإعطاء الناس
الصورة الواضحة والصحيحة عن الحكومة الإسلامية لكي يشعروا بضرورة تنفيذ الأحكام
أكثر فأكثر، ويحرسوها من هجوم المخالفين. وأن هذا البحث هو أحد الإسهامات..
الدرس السادس عشر: أسئلة حول ولاية الفقيه وأجوبتها(3)
3ـ هل أن إقامة الحكومة تنحصر بيد إمام الزمان(عج)؟
في الأبحاث السابقة، قمنا بدراسة وتحليل أهمية وضرورة إقامة الحكومة وشروط الحاكم
الإسلامي، ولكن في نفس الوقت يعتقد البعض أنه لا يجوز إقامة الحكومة في عصر الغيبة
حتى ظهور القائم(عج)، وينبغي أن يتحمل الناس كل ظلم ويصبروا عليه، لأن إقامة
الحكومة ليست إلا من مختصات إمام الزمان(عج). ويلزم من هذا الإعتقاد إنكار ولاية
الفقيه.
وتعتقد هذه الجماعة أن المسلمين ليسوا مكلفين في عصر الغيبة بالقيام والثورة على
الحاكم الظالم وإقامة الحكومة الإسلامية، ولو رفعت راية باسم الإسلام، فإنها تكون
طاغوتية لا تجوز نصرتها.
ويقوم فكر هؤلاء على أساس بعض الروايات التي تحكم على أي ثورة قبل ظهور القائم(عج)
بالهزيمة، وتوجب على المسلمين عدم نصرتها. نذكر منها:
1ـ عن أبي بصير عن الإمام الصادق(ع) قال:
(كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عزوجل)[1].
2ـ عن الإمام زين العابدين(ع):
(والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن
يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به)[2].
3ـ وفي خطاب الإمام الصادق(ع) لسدير الصيرفي، قال:
(يا سدير، إلزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك
أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك)[3].
الجواب:
أولاً، على فرض صحة سند الروايات هذه، فإنها لا تشمل أكثر من بعض الموارد التي تقوم
فيها ثورات خاصة، ولا علاقة لها بالإدعاء المذكور. كمثال، في الرواية الثانية يحتمل
أن يكون المراد من (خروجنا) خروج الأئمة المعصومين عليهم السلام. وفي هذه الحالة،
لا تشمل الرواية أية ثورة ولو قبلنا أنها تشمل كل ثورة، فلا تفيد نفي الحكومة
الإسلامية والثورة لإسقاط الطواغيت، بل بيان عدم تحقق النتائج الإيجابية لأية ثورة
قبل قيام القائم المهدي عليه السلام، وإلا لكان حدوث الثورة الإسلامية في إيران
نقضاً لهذا التوقع. فلم تكن هذه الثورة المباركة لعبة بيد الصبيان, فضلاً عن أن
تكون لعبة بيد المستكبرين، وإنما انتصرت وحققت نتائجها.
وكذلك في الرواية الثالثة، كأن سدير كان يحب الثورة والجهاد المسلح كثيراً، وقد
راجع الإمام الصادق(ع) في هذا الشأن مراراً. ولكن الإمام يهدئه ويخبره أن وقت
قيامنا لم يحن بعد. ففي هذه الحال، لا يمكن الإدعاء بأن هذه الرواية تبين تكليف
الجميع أو أنها لا تجيز الثورة من بعد هذا أو هزيمتها.
ولأجل اتضاح فساد هذا الإدعاء ومعنى هذه الروايات التي تمسكوا بها، ينبغي الإلتفات
إلى هذه المسألة:
يمكن تقسيم الثورات التي حدثت قبل ظهور الإمام المهدي(عج) أو التي يمكن أن تحدث إلى
قسمين:
أ ـ الثورات التي تقوم في سبيل إحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت
قيادة حائزة على الشرائط، مثل قيام زيد بن علي(ع) الذي كان رجلاً صالحاً وعالماً،
لم يدع الناس إلى نفسه، بل إلى الرضا من آل محمد، وكان هدفه أنه لو انتصر فسوف يفي
بوعده، ويرجع الحكم إلى الإمام المعصوم(ع)[4].
ب ـ الثورة التي تقوم لأجل التسلط والإمساك بزمام الأمور.
فالروايات التي تمسكوا بها لإدعائهم ناظرة إلى هذا النوع من الثورات مثل ثورة محمد
بن عبد الله بن الحسين المعروف بالنفس الزكية والذي ادعى أنه المهدي الموعود وأخذ
البيعة من الناس على هذا الأساس. وقد قال أبوه عبد الله في أحد المجالس التي كان
فيها كل من المنصور الدوانيقي والسفاح وجمع من بني هاشم:
(كلكم يعلم أن ابني محمد هو المهدي الموعود! وعلى الجميع أن يبايعه)[5].
وبهذه الطريقة دعى بني هاشم لبيعته حتى أنه طلب من الإمام الصادق (ع) ذلك. فأجابه
الإمام:
(إذا كنت تقصد أن ولدك محمد هو المهدي الموعود لآل محمد، وهو القائم اليوم فهذا ليس
صحيحاً، لأنه ليس المهدي الموعود، ولم يحن بعد زمان الإمام المهدي).
وتدخل ثورة بني العباس ضد بني أمية تحت هذا القسم من الثورات. فهم قد أعلنوا في
الظاهر شعار الحق والتظاهر بالدفاع عن آل بيت النبي (ص) لكن هدفهم الأساسي كان
الرئاسة والوصول إلى سدة الحكم.
ثانياً: إنّ التكليف بالدفاع والوقوف بوجه الكفر والظلم، والسعي لأجل حفظ ونشر الحق
في كل زمان ومكان حيث أن كل هذا يعتبر واجباً عاماً فهو ليس مخصصاً في الآيات
والروايات المتعلقة بالجهاد وإقامة الحكومة الإسلامية. فتلك الروايات مع فرض صحة
سندها، لا تشمل إلا الثورات التي يقودها أدعياء الباطل. وأن تعميمها على كل ثورة
وفي كل زمان ومكان ودافع يمثل نوعاً من إهمال العديد من الروايات والآيات التي وردت
في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هذه الفرائض الإلهية
التي تقع على رأس الفرائض الإسلامية وأهمها، وقد تم التأكيد عليها في كل زمان
ومكان، يقول الله تعالى:
{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}.[6]
ويقول النبي الأكرم(ص):
(إنّ الله عزوجل يباهي بالمتقلد سيفه في سبيل الله ملائكته وهم يصلّون عليه مادام
متقلده)[7].
ويقول الإمام علي(ع):
(جاهدوا في سبيل الله بأيديكم، فإن لم تقدروا فجاهدوا بألسنتكم، فإن لم تقدروا
فجاهدوا بقلوبكم)[8].
في بعض الروايات، نجد أن الأئمة المعصومين(ع) يرغبون ويحثون المسلمين على الثورة
المسلحة ضد الظالمين ويحملونهم مسؤولية هذه الفريضة العظمى. فهذا الإمام علي(ع)
يقول:
(من رأى عدوانا يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره
بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا
وكلمة الظالمين هي السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه
اليقين)[9].
وهذه الروايات التي استندوا إليها ـ على فرض صحة سندها أو عموميتها ـ لا يمكن أن
تواجه الآيات والروايات التي ترتبط بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا
يمكن أن تكون في مقابل ضرورة إقامة حكومة العدل ووجوب تطبيق قوانين الإسلام التي
تحد بزمان أو مكان.
إنّ إقامة دولة العدل وتطبيق قوانين الإسلام العادلة الشاملة في عصر الغيبة تحت
رعاية وإشراف الولي الفقيه الجامع للشرائط ليست من الأمور الواضحة التي لا ترديد
فيها فحسب، بل إنها تمثل الأرضية والتمهيد لظهور حضرة إمام الزمان عجل الله فرجه
الشريف. وقد كان للأئمة المعصومين عليهم السلام توجهاً خاصاً نحوها في هذه المرحلة
الزمانية (عصر الغيبة). وقد عرفوا لنا الفقهاء الذين يصونون أنفسهم ويحفظون دينهم
ويخالفون أهوائهم ويطيعون أمر مولاهم تحت عنوان الأولياء والقادة الذين تجب علينا
طاعتهم.
يقول الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه في حديث له، إنّ طاعة الولي الفقيه
الجامع للشرائط واجبة على الجميع:
(وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه
النبي(ص) منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا).
ثالثاً: الإعتقاد بتعطيل القسم الأعظم من الواجبات الإلهية وترك المحرمات والمعاصي
على حالها مع إمكان تطبيق الواجبات والحد من المعاصي. كل هذا، يعتبر رضا بتحقق
الكفر والفسق، والله تعالى يقول:
{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.[10]
وكذلك الروايات التي تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على ضرورة تطهير
المجتمع من الكفر والفسق، ولا يمكن تخصيص هذه الروايات.
وحاصل هذا النوع من التفكير أن يمتنع المجتمع الإسلامي عن مواجهة الظلم والفساد
ويسقط في مستنقع الرذيلة.
[1] وسائل الشيعة، ج11، ص 37.
[2] وسائل الشيعة، ج11، ص 36.
[3] وسائل الشيعة، ج11، ص 36.
[4] وسائل الشيعة، ج1، ص 35.
[5] الإرشاد للشيخ المفيد، ص 276.
[6] التوبة: 12.
[7] ميزان الحكمة، ج2، ص 131.
[8] ميزان الحكمة، ج2، ص 129.
[9] نهج البلاغة.
[10] الزمر: 7.
الملاحق: الملحق الاول: الثورة الفقهية للإمام
السيد أحمد الخميني(رض)
سأطرح في هذه الجلسة أمراً يمكن أن يكون مثاراً لطرح أسئلة من قبل البعض، معتمداً
في ذلك على كتابات الإمام. ثم إنه وإن كان أمراً مسلماً به بالنسبة لي، لكني لا أرى
أنه قد وصل من خلال ما طرح لحد الآن. إلى مرحلة أصبح فيها منهجاً واضحاً. إنّ أكثر
أبعاد الإمام مجهولية هو البعد العرفاني والفقهي، حيث كان الإمام يحل معضلات النظام
من خلال طرح مسائل جديدة، وقد كان ذلك يتم بصورة موجزة، ومن خلال أطر فقهية محكمة.
ولكن الحرب والمسائل الداخلية لم تكن لتسمح لنا بالإستفادة من آرائه إستفادة كاملة.
1ـ الإسلام دين عالمي كامل وشامل، وقد أنزل كآخر دين لإدارة العالم.
نحن نعتقد أن الإسلام قادر على إدارة العالم بأفضل وجه. والأحكام الأولية تتكفل
بهذا الأمر. والأحكام الثانوية (المسلم كونها من الإسلام) هي لموارد الإضطرار ولحل
مشاكل المجتمع والمسلمين.
ولكن أصل إدارة المجتمع يكون من خلال الأحكام الأولية، وإلا فلم يكن من المناسب أن
تسمى أحكاماً أولية. الأحكام الأولية للإسلام تجيب عن كل حادثة وواقعة، إلا في بعض
الموارد النادرة حيث تنشأ الحاجة للأحكام الثانوية. فإذا اعتبرنا أن الأحكام
الأولية للإسلام لا تجيب عن كل مسألة وأنه يجب على الفرد أو على المجموعة أن يجدوا
الحلول الناجعة لمشاكل المجتمع بحيث تكون لمصلحة الإسلام والمسلمين ولو من باب
الضرورة، فهذا يعني أنه يكفي لكل دين مجموعة أحكام كلية، أما بقية الأمور فتكون من
مسؤولية ولي المسلمين أو من مسؤولية كل مدينة وقرية! فعلى سبيل المثال قد يقول
المسؤولون: إذا حذفنا الربا من البنوك فسوف تفلس، وإذا لم نعط المسؤول حرية التصرف
في أموال الناس فسوف يسود الهرج والمرج.
إذاً لا حق لأحد بالتصرف في أمواله. وإذا لم نأخذ أموال الناس إضافة لما نأخذه منهم
خمساً وزكاةً فسوف تختل أمور البلد.
إذاً يجب أخذها بالقوة. وحاصل هذا الكلام أن الإسلام غير قادر على إدارة أمور
المجتمع، بل يجب على المسلمين أن يقوموا باللازم لذلك أو أن ينصبوا شخصاً يجعلونه
ولياً عليهم ويسن لهم القوانين وإذا كان الأمر كذلك فما حاجتنا إلى الدين إذاً؟
2ـ من ناحية ثانية: العالم بحاجة في كل حين لقانون جديد ويجب عليه انتخاب الطرق
الصحيحة لحل مشاكل الناس والنظام ـ مثلاً ـ لو كان كل الناس في الصين مسلمين، فكيف
سيحل الإسلام مشكلة حاجتهم للحم؟ هل يمكننا إدارة مليار مسلم بواسطة الغنم والبقر
والجمال وبعض من الطيور ومجموعة حيوانات برية وبحرية أخرى؟؟
الذين يأتون من تلك البلاد يقولون؟ إنهم يصطادون كل ما يمكن أكله في البحر أو البر
أو الجو كل شيء حتى الدود والحشرات والنمل و.. ومع هذا فلا تُسد حاجة المجتمع إلى
البروتين. ومن جهة أخرى يقول الأطباء العلماء: إذا لم يعط الناس هناك ما يكفيهم من
البروتين فسيصابون بأمراض عديدة خطيرة.
فلو قال الآن ولي المسلمين: كل شيء حلال، حتى إشعار آخر، فهل نستطيع الإدعاء بأن
الإسلام يجيب على كل مسألة؟! هذا ما يفعله المسؤولون في الصين، وحتى لو لم يفعلوه.
فإن الناس تفعله.
3 ـ المطلعون على الفقه الإسلامي يعلمون كم هو صعب على الفقيه أن يغير حكماً ما،
حتى لو كان متعلقاً بمسألة إجتماعية. ومع ذلك فإن للأمر سوابق بين الفقهاء. وموارده
ليست قليلة. حيث كان للفقهاء في مسألة معينة حكم حتى زمن معين وبعد ذلك تغير الحكم
بفتوى أخرى. مثلاً، مسألة النزوح من البئر كانت مورد إجماع حتى زمان العلامة رضوان
الله عليه.
حيث كان الجميع يفتي بنجاسة ماء البئر بملاقاته للنجاسة. وقد وردت روايات مختلفة عن
الأئمة(ع) حول تطهيره. وقد ادعى الكثير من الفقهاء الإجماع على هذه المسألة، وقد
كانت مسألة محكمة واضحة لما كانت عليه من حيث شدة الإبتلاء بها، ولدينا حوالي
الخمسين مورداً يسأل فيها عن كيفية التطهير إذا لاقت نوعاً من الحيوانات أو
النجاسات ولكل نوع كيفية تطهير مختلفة. فإذا ما وقع الفأر فيه يجب إزالة كذا دلو
ماء منه حتى يطهر، وإذا تفتت جسده فكمية أخرى وإلا فدلو واحد.
أما المرحوم العلامة فقال: بئر الماء لا ينجس وحمل الروايات الآمرة بالنزح على
الإستحباب وكانت النتيجة أن اشتهرت هذه الفتوى وصارت محل إجماع فكان الإجماع على
نجاسة البئر مع الملاقاة قبل العلامة، ثم تحول عند المتأخرين إلى الطهارة مع
الملاقاة، وفي هذه الحالة صار لدينا إجماعين متضادين. أي كانت كل أحكام الأئمة قبل
العلامة واجبة الطاعة وصارت بعده غير واجبة الطاعة بحمل هذه الروايات على
الإستحباب، حيث تمسك العلامة بروايات من قبيل: (ماء البئر واسع لا يفسده شيء). وكان
الفقهاء القدماء قد شاهدوا هذه الروايات أيضاً.
يقول أحد الفقهاء المعاصرين: لقد حل العلامة معضلة المسلمين حيث لم تكن رواية نجاسة
البئر قابلة للخدش. وقد كانت هذه المسألة موضع ابتلاء جميع المسلمين آنذاك حيث كان
يسقط يومياً فأر أو عقرب أو كلب أو هرة في آبار مياههم. مما كان يوجب عليهم إخراج
كمية من الماء بالدلو ورميها خارجاً. وإضافة إلى قيمة الماء بحد ذاته لم يكن بمقدور
المرء القيام بهذا العمل لما يتطلبه من جهد وعناء فجاء العلامة وحل المعضلة، وقال:
ليس من الواجب إخراج شيء من الماء لا يتنجس في الفرض المذكور.
لقد طرح الإمام في زماننا الحاضر مسائل من هذا القبيل
إنّ هذه الفتاوى كانت معرض استهزاء البعض، ولكنها كانت تحكي عن نظرة جديدة في كل
الموضوعات. كلنا يعلم أن للقاضي في الإسلام حرية تامة في إصدار الحكم. فلو ارتكب
مثلاً أحد ما جرماً في تبريز فأصدر قاضي تبريز حكماً يتلاءم مع جرمه، ثم لو قام
بهذا الجرم شخص آخر في بندر عباس ولنفس الهدف وأصدر القاضي حكماً آخر. كان هذا
الحكم ساري المفعول ولا يحق لحد رده.
ولكن إذا طرحت مسألة أساسية في نظمنا الإسلامية وهي وحدة الرؤية في الحكم. لتصل إلى
الإمام فيمضيها. هل يحق لنا أن نقول إن حكم الإمام هذا سببه الضرورة والظروف
الإجتماعية والسياسية الخاصة فيجب العمل إلى أن تعود الظروف إلى عهدها السابق أو أن
تستجد لدينا شروط جديدة؟ مع أننا نعرف أن الظروف تزداد كل يوم تعقيداً ولا تعود
أبداً لسابق عهدها، وإن إمكانية الوصول إلى الشرائط الضرورية بعيد ويحتاج إلى سنين
وسنين. ونفس الأمر ينطبق على الأحكام الأخرى، مثلاً: التراضي بين العامل وصاحب
العمل من الأصول الإسلامية المسلم بها. فهل يمكننا أن نقول إذا كان أرباب العمل
يأكلون حق العمال فعلى أصحاب العمل أن يقبلوا بهذه الشروط.
مع أنه من المحتمل أن يكون العامل راضياً بالعمل دون تحقق تلك الشروط. فنقول أيضاً
هذا الحكم ضروري حتى يصلح أرباب العمل. أوضاع وأحوال العالم تشير لنا أنه إذا كان
البناء أن يحصل إصلاح فسيحصل في الظاهر فقط.
إذاً, إذا كان بناؤنا أن نضع قوانين جديدة مكان قوانيننا الأصلية وأن نزينها جميعاً
بعنوان الضرورة والإضطرار وما يشبه ذلك، فكيف يحق لنا الإعتراض على الذين يقولون
بإن الإسلام غير قادر على إدارة العالم؟!
4ـ كلنا يعلم أنه إذا حصل تغيير أساسي داخلي في موضوع ما، كان له حكم جديد، كالكلب
إذا تحول إلى ملح أو الخمر إلى خل. فإذا حصل تغير داخلي أساسي في الموضوع وصار
شيئاً جديداً كان له حكم جديد، وكان الحكم الجديد حكماً أولياً له أيضاً.
بحثي الأساس يبدأ من هنا. فكيف يكون الحال لو كان التغير ظاهرياً وليس داخلياً؟
فلو تغيرت الظروف الإجتماعية في مجتمع ما أو تغيرت الأوضاع الاقتصادية، بحيث تغيرت
جميع العلاقات الإجتماعية والسياسية الحاكمة على المجتمع هل أن المواضيع توجد حكماً
جديداً بدون أدنى تغيير أم لا؟!
طبعاً أنا أطرح المسألة هنا بصورة عامة ولكني أشير إلى مورد جزئي. نحن نعلم أنه إذا
تحول الشراب إلى خل طهرت كل الآنية والأوعية المرتبطة به دون أن يكون قد حصل لها
أدنى تغيير. إذا أفرغنا الشراب في وعاء آخر. وتركنا الوعاء السابق وغيره من الآنية
في غرفة ثانية بقيت هذه الآنية نجسة. ولكن هذه الأوعية تطهر لوحدها إذا تحول الشراب
في داخلها إلى خل دون أن نطهرها. كان هذا مثال أحببت ذكره.
والآن فلنعد إلى أصل البحث. يقول الإمام.
(وحول الدروس والتحصيل والتحقيق في الحوزات فأنا معتقد بالفقه المتعارف، والإجتهاد
الجواهري، ولا أجيز التخلف عنه. الإجتهاد صحيح بهذه الطريقة، ولكن هذا لا يعني أن
الفقه الإسلامي جامد، فالزمان والمكان عنصران أساسيان في الإجتهاد، والمسألة التي
كان لها حكم قديماً والتي يبدو أنها نفس المسألة في الروابط الحاكمة على السياسة
والمجتمع والاقتصاد لنظام ما يمكن أن ينشأ لها حكم جديد. بمعنى أنه مع معرفتنا
الدقيقة للروابط الاقتصادية والإجتماعية والسياسية يمكن أن يظهر لنا ظاهرياً أن هذا
الموضوع لم يختلف عن الموضوع الأول، ولكنه يكون قد أصبح موضوعاً جديداً في الواقع
وبذلك لابد له من حكم جديد).
الإمام يقول: (الزمان والمكان عنصران أساسيان في الإجتهاد) طبعاً ليس مراد الإمام
من ذلك مثلاً أن لحم الكلب حرام في الزمن العادي ولكنه حلال في زمن الجوع حتى لا
يموت الإنسان وهكذا. فهذا الأمر قد قال به الجميع، ولا يمكن أن يكون قصد الإمام أن
يوضح هذه المسألة في بيان سياسي عقائدي هام.
المسألة شيء آخر والإمام أراد أن يثير هذا الموضوع حين يقول: يمكن أن يستجد لمسألة
ما حكم جديد دون أن يكون قد حصل فيها أدنى تغيير ظاهرياً عن الزمن الماضي حين كان
لها حكم آخر.
نفس الموضوع لا يتغير أبداً، ولكن لم تعد الروابط الإجتماعية هي نفس الروابط
الإجتماعية السابقة، أو أن الروابط الاقتصادية تغيرت وصارت أكثر تعقيداً، بحيث لم
تعد الروابط الاقتصادية السابقة عموماً حاكمة على المجتمع. كما أنه لم تعد الروابط
السياسية هي نفس الروابط السياسية السابقة. لهذا، فالأمر الذي كان حراماً حتى الأمس
يصبح حلالاً اليوم دون حصول أدنى تغيير فيه لأن الروابط الحاكمة على السياسية
والاقتصاد والمجتمع تغيرت.
الروابط الإجتماعية الحاكمة على مجتمع تتغير، المعدن الذي كان تابعاً للملك الشخصي
حتى الأمس أصبح تابعاً للدولة وملكها، وليس هذا حكماً ثانوياً، بل هو حكم أولي.
لماذا يكون الحكم أولياً في الإستحالة ولا يكون هنا كذلك، فنحن نعلم أن الحكم
الأولي للكلب النجاسة، والحكم الأولي للملح طاهراً وهذا حكم أولي له.
وهكذا في التغييرات الخارجية فمع أن الموضوع لم يتغير ولكن كان الحكم الأولي للمعدن
تبعيته للمالك، ولكن الحكم الأولي للمعدن في الروابط الجديدة يسقط هذه التبعية.
الموضوع لم يتغير بحسب الظاهر ولكنه تغير بالواقع. ولكن بالنسبة إلى التغييرات
الخارجية مرة جديدة ألفت انتباهكم إلى كلام الإمام: (المسألة التي كان لها حكماً
سابقاً، نفس هذه المسألة في الروابط الحاكمة على السياسة والمجتمع والاقتصاد يمكن
أن يصير لها حكم جديد، بمعنى أنه ومع المعرفة الدقيقة للروابط الاقتصادية
والإجتماعية والسياسية للموضوع الأول الذي لايبدو أنه تغير بحسب الظاهر عن القديم،
لكنه يكون قد صار في الواقع موضوعاً جديداً ويحتاج إلى حكم جديد).
لهذا ومع كون الإمام قد أفتى بتبعية المعدن في الروابط الحاكمة في المجتمع القديم.
فإنه وحين يُسأل من قبل هيئة المحافظة على الدستور عن أنكم سبق أن أفتيتم بتبعية
المعدن للمالك وهذا من المسلمات، ولكن ما هو الحال في مسألة النفط هل النفط تابع
للمالك الشخصي كسائر المعادن أم لا؟ وفي قسم من جوابه يقول (رض):
(لو افترضنا أن المعادن والنفط والغاز موجودة ضمن الأملاك الشخصية ولكون هذه
المعادن وطنية وترتبط بالأجيال الحالية والقادمة التي ستظهر على مر الزمان لذلك
تستثنى من الأملاك الشخصية).
ليس هذا الحكم حكماً ثانوياً واضطرارياً. بل هو الحكم الأولي للمعادن بحسب الروابط
الجديدة.
قد يخال الإنسان أن الإمام يبحث في مسألة وسائل الإنتاج، ففي السابق كان الإنسان
يحمل فأساً أو أية وسيلة بدائية أخرى ويعمل بها لكي يحصل على قوت يومه. وإذا أنتج
أكثر من حاجته فلم يكن يترتب على ذلك ضرر عام بل كان يدفع خمس ذلك الناتج، حيث أن
مسألة الخمس في المعادن مسألة مجمع عليها: ولكن عندما تقلب وسائل الإنتاج كل
الروابط الاقتصادية رأساً على عقب، يخرج المعدن عن تبعيته للمالك، فكيف إذا كان
البحث يرتبط بمسألة هل في المعادن خمس أو لا. مع أن المعدن معدن وذهب وفضة ونحاس،
فما الذي حدث حتى يكون الفرد مالكاً له ثم يصبح من ضمن الثروات الوطنية. هذا هو
المراد من كلام الإمام حيث يقول: مع أن الموضوع لم يتغير أبداً، ولكنه يصبح مع
الروابط الجديدة موضوعاً جديداً ويحتاج إلى حكم جديد، وبناءً على قول الإمام: (يدفع
لصاحب الأرض قيمة الأملاك أو إجارتها(الأرض التي فيها معدن) تماماً كسائر الأراضي
دون احتساب المعادن في القيمة أو الإجارة ولا يستطيع المالك أن يرفض ذلك).
يجب علينا أن نلتفت أنه لم تزد قيمة الأرض أو الإجارة لصاحب الأرض التي فيها معدن
عن الحد العادي المتعارف. هذا هو حكم الروابط الجديدة. إلتفتوا إلى جملة الإمام هذه
أيضاً: يقول الإمام ضمن جوابه على رسالة السيد قديري: (بناءاً على ما كتبتموه.. من
كون الأنفال قد حللت للشيعة، يصبح بإمكان الشيعة إذن أن يقضوا على الغابات بالآلات
الحديثة دون أن يمنعهم أحد ليقضوا بذلك على كل ما يساعد على نظافة البيئة والمحيط
والسلامة العامة، مهددين أرواح الملايين من البشر بالخطر، ولا يحق لأحد أن
يمنعهم!!..).
كلام الإمام واضح. كانت وسائل الإنتاج في السابق بدائية، حيث كان أقصى ما يقوم به
الفرد هو قطع مجموعة أغصان لتجهيز الحطب اللازم للشتاء أو لصناعة باب أو نافذة
لمنزله. ولم يكن هذا يسبب أي ضرر لا للبيئة ولا لأي فرد.
أما اليوم فيمكن لأي رأسمالي مع الروابط الحاكمة على السياسة والاقتصاد أن يقضي
ببضع الآلات على عشرات الهكتارات من الغابات يومياً. ويمكنه أن يصدرها إلى الخارج
بناء على سياسة إقتصاد السوق وحريته، ويجني أموالاً إضافية، لينتج في اليوم الثاني
أكثر مما أنتجه في اليوم الأول ويأكل حق الناس الواضح، دون أن يكون لأحد الحق في
الإعتراض عليه.
الموضوع هو الغابات، والغابات في الماضي لا تختلف عن غابات اليوم، إذن لماذا حُللت
في الروابط الاقتصادية والسياسية الإجتماعية السابقة ولم تحلل في الروابط الحاكمة
على الاقتصاد والسياسة والمجتمع الجديد.
ليس هذا إلا لأن التغييرات التي طرأت خارج الموضوع توجب أن يطرأ حكم جديد على
الموضوع دون أن يحصل فيه تغيير باطني(بحسب الظاهر) وليست التغييرات الخارجية إلا
الروابط الجديدة الحاكمة على السياسة والمجتمع والاقتصاد العالمي.
لهذا وبعد أن أعتبر الإمام أن الحكومة لدى المجتهد الواقعي فلسفة عملية لكل الفقه
في كل زوايا حياة البشر يقول: (الهدف الأساسي هو كيف يمكننا تنفيذ الأصول الفقهية
المحكمة في عمل الفرد والمجتمع، وأن نتمكن من إيجاد الأجوبة للمعضلات، وكل خوف
الإستكبار يمكن في هذه المسألة وهي أن يصبح للفقه والإجتهاد جهة عينية وعملية ويصبح
المسلمون قادرين على المواجهة).
بناءً على وجه نظر الإمام، الهدف الأساسي هو حل معضلات المجتمع والناس في إطار
الأصول الفقهية المحكمة. ولو أريد حل المعضلات من خلال قوانين تحمل العنوان
الثانوي، فما هي الأصول الفقهية المحكمة؟ ولو جاء الجواب أن الأحكام الثانوية هي من
الأصول الفقهية فهنا يمكن الإجابة أنه يمكن حل معضلات الناس والنظام من خلال
القوانين التي يضعها مجموعة من الأخصائيين. فما دور الإسلام إذاً؟ ولكن لو أوجبت
الظروف الخارجية تغيير الحكم، كان كل حكم هو حكم الإسلام، وبذلك لا نكون قد حقرنا
أحكام الإسلام.
ويبقى موضوع أخير: ما هو مستند الإمام في الآيات والروايات حتى استطاع استنباط هذا
الأمر؟.
هذا الموضوع يبقى على عاتق المدرسين المحترمين في قم حيث يجب عليهم من خلال الوقت
الذي يمتلكونه، أو أنهم ليس لديهم المشاغل الحكومية أن يبحثوا عنه في إطار الآيات
والروايات. أليس لهذا البحث قيمة في الحوزات العلمية توازي بحث الطهارة أو الصلاة
الذي كرر مرات ومرات وقالوا فيه آراءهم ويقولون؟
طبعاً هو كلام جديد يستحق ذلك. وقد قال الإمام:
(علينا أن نسعى لكسر حصار الجهل والخرافة حتى نصل إلى النبع الزلال للإسلام المحمدي
الأصيل(صلى الله عليه وآله). وأغرب شيء اليوم في هذه الدنيا هو هذا الإسلام، ونجاته
تحتاج إلى التضحية، أدعوا لي لكي أكون أحد فدائييه المضحين...).
الملحق الثاني: دور الإمام الخميني في تجديد نظام الإمامة
آية الله جوادي آملي*
لقد أنسانا الحزن على فراق الإمام جميع المصائب: (لقد خصّصْت حتى صرت مسلّياً عمن
سواك)، وأجلس الجميع في عزاء ومأتم (وعمّمْتَ حتى صار الناس فيك سواء)، فحري بنا أن
يعزي بعضنا بعضاً، ويشكر بعضنا البعض.
في بحثنا هذا سنتناول قبساً من فكر الإمام، فقد شدَّ إليه قلوب الملايين من
المسلمين بقلبه وفكره، والتحول الذي أحدثه الإمام في روح الأمة الإسلامية نابع من
التحول الكبير الذي أوجده في النظام الإجتماعي للإسلام، وهو تحول قائم على عنصر
جذري وثورة فكرية. ونحن في هذا البحث نحاول الخوض في هذا العنصر الجذري الذي يعتبر
الحجر الأساس في حركته وفي نهجه.
العنصر الجذري في كيان الثورات:
أقام إمام الأمة ثورته على قاعدة فكرية متينة، ذلك أن الثورة لا يمكن أن تقوم دون
قاعدة فكرية، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ
تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[1]، وإذا كانت الآية تتحدث عن أهل الكتاب،
فإن مضمونها يؤدي قانوناً عاماً. فالأمة الإسلامية إذا أرادت أن تعمل بالقرآن، لابد
أن تكون قائمة لله ليكون لها القدرة على الإقامة. والإنسان القائم لله يحتاج إلى
قاعدة صلبة يستقر عليها، فإذا لم يكن مستقراً( على شيء) فليس هو بقائم، وإذا لم يكن
قائماً لله لا يكون له القدرة على الإقامة.
وإذا كان الأئمة المعصومين(ع) قد أقاموا القرآن وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة،
فلأنهم كانوا (على شيء)، ولأنهم ارتكزوا على قاعدة فكرية صلبة لا تتزلزل. وإذا أراد
شخص القيام بثورة فكرية ودينية، فلن يتسنى له ذلك ما لم يكن لديه قاعدة فكرية عميقة
يرتكز عليها هو وأتباعه.
فما هي القاعدة الفكرية الحصينة التي انطلق منها إمام الأمة وأقر أصحابه معه؟
إنطلق في حركته من الحوزة، لأن قاعدته الفكرية نشأت من الفقه، فقد درس مواد الفقه
الأولية، وصنفها، وخلص منها إلى نتيجة كانت هي العنصر الجذري في حركته. ولاشك أن
النتيجة التي توصل إليها الإمام كانت قد مرّت بمراحل عدة في تاريخ فقه علماء
الإسلام السالفين وفكرهم، إلا أنها تبلورت وتكاملت على يد الإمام.
المرحلة الأولى: قوّم الإمام في البداية الجهود المضنية التي بذلها العلماء
المتقدمون، ثم بنى حركته الفكرية على أساسها.
لقد كانت علاقة الفقه بالناس على امتداد زمن طويل لا تتجاوز علاقة المحدث بالمستمع.
فقد كان جمود الإخباريين ومنعهم الإجتهاد سبباً في حصر نشاط الفقيه بنقل الحديث
والترجمة وبيان المعنى الصوري للحديث.
حتى جاء الأصوليون المقتدرون ـ وخصوصاً الأستاذ الأبر المرحوم الوحيد البهبهاني
(رضوان الله عليه) ـ فقضوا على هذا التحجر الفكري وبعثوا الروح في الإجتهاد، ومن
ذلك الحين تحولت علاقة الفقيه بالناس إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين، إذ ينتظر
الناس الإستنباط الفكري للمراجع، ويقوم المرجع بعض اجتهاده عليهم، ويكون حكمه
نافذاً إلى حد ما، وفتواه ملزمة.
المرحلة الثانية: استمر الأمر على هذا الحال أمداً طويلاً، حتى أخذت تطرح ولاية
الفقيه بالتدريج في الكتب، ولكن ليس إلى الحد الذي تظهر بصورة واضحة، أو تتفتح في
المكان الذي دفنت فيه لتجد موقعها الأساسي.
فولاية الفقيه أخرجت من علم الكلام لتدفن في الفقه، ومن ثم لم تجد النمو الكافي
الذي يجعل(أصلها ثابت وفرعها في السماء) لأنها لم تجد مكانها الحقيقي، بل بقيت في
إطارها الفقهي.
المرحلة الثالثة: أخرج الإمام بحث ولاية الفقيه المظلوم من دائرة الفقه إلى موقعه
الأصلي في علم الكلام، ثم أخذ يتوسع به بالبراهين العقلية والكلامية، وقرنه بالبحوث
الفقهية، فظهرت النتائج.
ولاية الفقيه بحث كلامي، لا فقهي:
قبل أن نبيّن أن ولاية الفقيه مبحث كلامي، وليس مبحثاً فقهياً، يجدر بنا أن نلقي
نظرة على آراء الإمامية وأهل السنة بهذا الشأن:
لماذا تعتبر الفرقة الإمامية الإمامة من الأصول وهي عند السنة من الفروع؟ ولماذا
نبحثها نحن في علم الكلام، ويبحثها أهل السنة في الفقه؟
نحن نقول أن الإمامة استمرار للنبوة، والنبوة شأن إلهي لا دخل للإنسان فيه. وإذا
كان الأمر شأناً إلهياً، فالبحث فيه يكون اعتقادياً وكلامياً. فكما يجب من
الله(وليس على الله) أن يرسل رسولاً كذلك يجب منه(وليس عليه) أن يعيّن خليفة
معصوماً للنبي.
ونقول أيضاً: ما دام الإنسان مخلوقاً من قبل الله، والله هو ربه، فلا بد أن يكون
الله هو من يضع القوانين. من هنا فالإمامة شأن من شؤون الله، والعلم الذي يبحث في
شؤون الله هو علم الكلام، ولما كانت الإمامة من شؤون الله، وليست من شؤون البشر،
كان البحث فيها يتعلق بعلم الكلام.
أما الذين عيّنوا الإمام في السقيفة، واعتمدوا رأي الناس فيه، ورأوا أن الإمامة
انتخاب وليس تنصيباً، فقد نقلوا الإمامة من شأن إلهي إلى شأن بشري. والعلم الذي
يبحث في شؤون البشر هو علم الفقه. والفقه علم شريف يتعلق بفعل المكلّف، فكل مسألة
يكون موضوعها فعل المكلف فهي مسألة فقهية، سواء كان دليلها عقلياً أو نقلياً.
فلو قيل إن العدل واجب على المكلّف، فهذا القول هو مسألة فقهية، حتى لو كان الدليل
فيه عقلياً. والقول أن الصلاة واجبة على المكلف، هو مسألة فقهية، حتى لو كان الدليل
فيها نقلياً.
يرى بعض علماء السنة أن الإمامة واجب عقلي، ويرى غيرهم أنه واجب نقلي. فالمعتزلة
يقولون يجب على الناس عقلاً أن يعينوا إمامهم.
ويقول الأشاعرة: يجب على الناس نقلاً أن يعينوا إمامهم. وعلماء السنّة يعتبرون
الإمامة مسألة فقهية وجزءاً من فروع الدين.
وإذا كنا نرى بعضاً من بحوث الإمامة قد وردت ضمن المسائل الإعتقادية، وبعضها الآخر
قد ورد في الفقه، فنجد الإمامة مع بحوث الصلاة والصوم والزكاة والحج ومع النبوة
أيضاً، فإنما ذلك لأن أحد جانبيها شأن من شؤون الله ـ يجب من الله ـ وجانبها الآخر
شأن من شؤون الناس، إذ يجب على الناس أن يقبلوا ولاية الإمام.
وحين نرى الولاية إلى جانب الصلاة فهي متصلة بشأن الإنسان، وحين نراها إلى جانب
النبوة فهي متصلة بالشأن الإلهي. وفي الأصول أيضاً نجد الإمامة إلى جانب النبوة،
والى جانب الفروع في الوقت ذاته. وحين يقال إن الإمامة تختلف عن سائر ما عداها،
فلأنها محدودة بالأصل شرقاً وبالفرع غرباً، بينما نجد الصلاة أو الصوم محدوداً من
جميع جهاته بالفقه والفرع، وهذا هو الأمر البارز الذي يميز الإمامة في رأي الإمامية
عنها في رأي أهل السنة.
الصلة بين ولاية الفقيه والإمامة:
ولاية الفقيه هي استمرار لإمامة المعصوم، وكل ما هو موجود من أدلة عقلية بشأن
النبوة العامة والإمامة العامة، موجود أيضاً، في زمن الغيبة، بشأن ولاية الفقيه.
وهذا أمر يدخل في علم الكلام. وحين تبحث الولاية في علم الكلام، فإن هذا العلم يلقي
بظله على الفقه، فتصبح النظرة إلى عموم الفقه منطلقة من علم الكلام.
وما نراه في كثير من كتابات الإمام الخميني(رضوان الله تعالى عليه) وأحاديثه من
تأكيد على أن النظرة الشمولية للدين تبيّن عدم فصل الدين عن السياسة، ناتج في
الحقيقة من رؤيته الكلامية للفقه، فهو يدرس الفقه من خلال هذا المستوى الرفيع.
إنّ معرفة الفقه مسألة كلامية، وليست مسألة فقهية، فنحن لا نرى في الفقه مسألة تبين
الغرض منه.. فمعرفة الفقه، والبحث بالشؤون الإلهية، ودراسة القانون الإلهي هي أمور
يختص بها علم الكلام، وليس للفقه صلة بها.
لقد أنجز إمام الأمة عدة أمور، هي،
أولاً: جعل ولاية الفقيه استمراراً للإمامة.
ثانياً: وضع الإمامة والولاية في موضعهما الحقيقي في علم الكلام.
ثالثاً: أسهم في تفتح شجرة الإمامة.
رابعاً: جعلهما يلقيان بظلهما على جميع أبواب الفقه.
فلنرَ الآن ما خلص إليه في بحثه، لا سيما وأن الآخرين يقولون إن ولاية الفقيه
قائمة، ولكن شروطها جميعاً هي شروط حصولية وليست تحصيلية.
الشروط الحصولية والتحصيلية لولاية الفقيه.
من يرى الولاية كالإمامة، يقول إن شروط إعمال الولاية على قسمين:
قسم حصولي وقسم تحصلي وهو الأهم، فيجب تحصيل هذه الشروط لتكون العلاقة بين المرجع
والأمة كعلاقة الإمام بها.
وقد حدث هذا الأمر على يد إمام الأمة، بمعنى أنه إذا كان الوحيد البهبهاني قد أخرج
علاقة الفقيه بالناس من علاقة المستمع بالمحدّث إلى المقلّد بمرجع التقليد، فإن
الإمام قد أحدث ثورة في الفقه والثقافة، وجعل علاقة الفقيه بالناس كعلاقة الإمام
المعصوم بها، وليس كعلاقة المرجع بالمقلدين أو المفتي بالمستفتي وحسب.
ولكي يصبح هذا الأمر عملياً، قال:
أولاً: أنا ولي أمر المسلمين.
ثانياً: جلس ولي أمر المسلمين مجلس الإمام الأصيل.
وثالثاً: الإمام الأصيل هو الثقل الأصغر.
رابعاً: الثقل الأصغر هو فداء للثقل الأكبر.
وقال: حينما يكون الثقل الأكبر في خطر، تتوجب الثورة مهما كانت النتيجة، بمعنى:
أنني خليفة الثقل الأصغر ومعنى الأصغر هو أن يضحي لنفسه حين يكون الأكبر في خطر،
ليبقى الأخير حياً.
وقام الإمام بجمع هذه الشروط الحصولية إلى الشروط التحصيلية، وجهد في ذلك، حتى أدرك
الناس أنهم أمة وأنه إمامهم.
ولا يمكن أن يتأتى هذا الأمر إلا بالنفي والتشريد وليس بتدريس الصرف والنحو، وليس
بالسجن والتعذيب وسماع التهم والإفتراءات وتحمل المصائب.
إنّ هذه البينة الفقهية لم تكن لتستقر لولا اليد الكفوءة للقائد المعظم. إنها أخذت
تثمر منذ (15 خرداد)[2]. إنكم ترون كيف أخذ الأدب يؤتي ثماره اليوم. ولكن لو عدنا
إلى الوراء لرأيتم كيف كان أمير البيان علي بن أبي طالب(عليه السلام) يجمع هذه
المواد الأولية، ويؤلف بينها في بنية أدبية، ثم يقول للناس هذا هو نهجكم الفكري
فاتبعوه.
يقول ابن سينا: بيني وبين أرسطو ألف وثلاثمائة عام، لم يقع في يدي منها كتاب
مقنع،فكل من أتى كان يكتفي بنصح الناس وحسب، فيقول لهم: طريق الفكر صعب، فكونوا على
حذر، وفكروا بدقة، كمثل الذي يعظ الناس في صحراء مليئة بالشوك أن يتقوا الشوك في
مسيرهم، دون أن يضع الحل بين أيديهم.
ويضيف ابن سينا: جاء أرسطو ووضع الأسس التي يعتمدها من يرد حياض الفكر، فدله على
القضية الصغرى والقضية الكبرى، فحين تكون (أ) مساوية لـ(ب) و(ب) مساوية لـ(ج) فمعنى
هذا أن (أ) مساوية لـ(ج)، هذا أساس فسِر عليه لتصل إلى غايتك، ثم يقول ابن سينا:
إني لأنظر لأرسطو بعين الإحترام: لأنه أوضح الطريق، ولم يكتف بالنصيحة.
وإذ ننظر إلى الإمام نظرة إجلال وإكبار، فلأنه طبق الأحكام، ولم يكتف بطرحها،
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر سهل، بينما تحويل علاقة الفقيه بالناس إلى
علاقة إمام بأمة، أمر في غاية العسر؛ لأنه يتطلب تضحية بالأرواح كي يفهم الناس أنهم
أمة ووليهم الإمام. ثم أن الإمام ثقل أصغر، يجب أن يضحي في سبيل الثقل الأكبر، وهذا
ما حدث، فما صدر من فتاوى ومن أحكام، وما برز من مقاومة إنما ارتكز على هذه القاعدة
الفكرية.
من هنا (يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل) ولكن حين
تكونوا(على شيء) فإنكم قد وجدتم قاعدتكم الفقهية والفكرية، ومن ثم أخذتم بسبيل
السمو والإرتقاء.
ينقل الشيخ المفيد(قدس الله روحه الزكية) عن الإمام علي(ع)، أنه قال بما مضمونه"
كنا في سفر، فرأيت رسول الله ينظر إلى الشمس ليعرف وقت الظهر، ثم قال لي: يا علي من
اهتم بمواقيت الصلاة ضمنت له الروح عند الموت، ثم قال: يا علي كنا مرة رعاة الإبل،
وصرنا اليوم رعاة الشمس"، أي إنا انتقلنا من أرض الجاهلية إلى سماء الحضارة، وكنا
أرضيين فأصبحنا سماويين، كنا نهتم بالإبل فصرنا نهتم بالشمس. وليس المراد من ذلك
ظاهر الشمس وحسب، فلو قرأنا(والشمس وضحاها) لرأينا حديثاً عن النبوة والإمامة،
فالأمر لا يقتصر على شمس الظاهر فقط، بل يتعداها إلى شمس السيرة أيضاً.
كنا بالأمس مرغمين أن نسمي الشخصيات المزيفة(أصحاباً) واليوم نسميهم شياطيناً، أي
كنا في عهد الظلم الشاهنشاهي(رعاة إبل)، وصرنا ببركة ولي أمر المسلمين(رعاة الشمس)
وانتقلنا إلى السماء، ونعلم أن الإنتقال إلى السماء هو شأن من يرتدي جلباب العروج.
وحين حضرت الوفاة رسول الله(ص). دفع لعلي براحلته وسيفه ولوازم صلاته، ثم قال له(ما
مضمونه): (يا علي) هذا قميصي الذي خرجت فيه إلى السماء، أدفعه اليك لتعرج به، يا
علي(خذ ما آتاك الله بقوة). فأنت من أهل العروج، وأنت من أهل الأرض، ومن أهل
السماء، ومن أهل العرش، وأنت في أهل الأرض منهم، وفي أهل العرش منهم. وما أعطيك
إياه قد رافقني في سفري الغيبي، فـ(خذ ما أتاك الله بقوة)، فما بين يديك الآن هو
القميص الذي عرج به ولي المسلمين، وقد آل إليك مقام القيادة، وهو مقام (العروج).
وسئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن (خذوا ما آتاكم الله بقوة): أبقوة القلوب هي أم
بقوة الأبدان؟ فأجابهم: (بقوة القلوب بأن تفكروا وتفهموا وتؤمنوا، وبقوة الأبدان
بأن تعدوا ما استطعتم من قوة).
وينقل عن رسول الله أنه قال: (إسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر فإنه نظام
الإسلام).. أطيعوا من يتولى أمور المسلمين ويدير نظامهم بالأصالة أو النيابة؛ لأن
الأمور لا تنتظم إلا بإتباع نظام القيادة المقدس، وهذا قول رسول الله (ص)، أن إذا
أردتم الإنتقال من رعي الإبل إلى رعي الشمس، فاهتموا بالنظام.
والنبي(ص) في أواخر حياته يصف شخصيته بأنها ذات بعدين: بعد حقيقي، وبعد حقوقي، فأما
البعد الحقيقي فهو مشمول بالآية الكريمة{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ}[3]، وأما البعد الحقوقي فهو الذي لا يفنى على مر الزمن.
وفي نهج البلاغة كلام عن النبي(ص): " إنه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلي
منا وليس ببال".
إنّ كثيراً من شارحي (نهج البلاغة) حين يعجزون عن درك عمق الكلام العلوي، يلجأون
إلى حمله على المجاز.
يقول ابن أبي الحديد في خطبة أمير المؤمنين المشهورة التي صدرها بآية (ألهاكم
التكاثر) والتي يقول فيها: " أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً)، يقول: (
قرأت هذه الخطبة أكثر من ألف مرة خلال خمسين سنة، وكلما قرأتها أحدثت فيّ رهبة
وروعاً، وأرباب الأدب يعلمون أن لو قُرئت هذه الخطبة في بعض محافل العلم والأدب
لاستحقّت أن يُسَجد لها).
وقد ذكرت قول ابن الحديد هذا للعلامة الطباطبائي(ره) في جلس خاص، وقلت له إنه يقول:
كما في القرآن سور العزائم، كذلك في (نهج البلاغة) خطب العزائم، وهو قول في غاية
الرفعة.
فقال الأستاذ: لم يأت قول ابن أبي الحديد هذا جزافاً، لأن كلام الله في عزائمه
تجلّى في كلام علي، فالسجود الذي يقصده ابن أبي الحديد، هو في الحقيقة سجود لكلام
الله الذي تجلى على لسان الناطق بالوحي.
وليس من الصواب أن نقف من معارف القرآن والصحيفة السجادية ونهج البلاغة عند حدود
فكر ما، أو أن نحملها على المجاز، أو نفسرها بالحد المضاف، فلو ارتقينا في هذه
المعارف لرأيناها قابلة للفهم دون مجاز، سواء كان مجازاً في الإسناد، أو مجازاً في
الكلمة.
يقول أمير المؤمنين للرسول(ص) بعد وفاته: بأبي أنت وأمي، والفداء يكون عادة في زمن
الحياة وليس بعد الموت، ومن هنا حمل البعض هذه العبارة على المجاز غافلين أن هذه
الكلمة لا تتعلق بشخص النبي، بل بشخصيته (إنه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من
بلي منا وليس ببال). فأمير المؤمنين إنما يفتدي بأبيه وأمه هدف الرسول السامي
وشخصيته الرفيعة ووحيه ورسالته وقرآنه، حتى لو كان الرسول ميتاً يغسّل.
وفي عصرنا هذا نقول إن هدف الإمام سيبقى حتى ظهور صاحب الثورة الأصيل بقية
الله(عج). إنّ خط الإمام سيبقى حياً وماثلاً أمام الجميع، وعلى العارفين بمنزلة
الإمام والمعتقدين بخطه أن يحرسوا الأساس الذي انطلقت منه حركة الإمام.
لم يحدث أن أعتزل علي(ع) في بيته قبل إمامته إلى أن قيل: ( منا أمير ومنكم أمير)
حيث جُعلت الإمامة من شؤون البشر. فقد أنزلت الإمامة من العرش إلى الأرض، ومن
التنصيب إلى الإنتخاب، ومن النص إلى السقيفة، وحينها دُفع عليّ إلى إلتزام داره.
وإذا كان إمام الأمة يصر على إتباع فقه الجواهر، فلأن صاحب الجواهر يقول: (من أنكر
ولاية الفقيه فكأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً).
ثم هو يورد مسألة كلامية في رهانه على ولاية الفقيه في الجزء الحادي والعشرين،
فيقول:
(يحتاج المجتمع إلى النظام، والنظام إلهي، فلابد أن يعّين الله شخصاً لهذا النظام).
وفي هذا الكلام تظهر صبغة المباحث الكلامية، ولكن على لسان أحد الفقهاء، وهكذا نجد
أن الإمام قام في حركته الفكرية بعدة أمور:
أولاً: أرسى دعائم القاعدة الكلامية.
ثانياً: وضع أساس الفقه على هذه القاعدة.
ثالثاً: قسَّم الشروط إلى حصولية وتحصيلية.
رابعاً: حوَّل علاقة المرجع بالناس إلى علاقة الإمام بالأمة.
خامساً: جعل إمامة الفقيه استمراراً لإمامة الإمام المعصوم.
سادساً: طرح الإمام باعتبارها الثقل الأصغر، وجعل الثقل الأصغر فداء للثقل الأكبر.
وبعد حادثة الفيضية، قال: يجب أن يستمر هذا الأمر ولو بلغ ما بلغ: لأنه كان (على
شيء)، كان مرتكزاً على أساس متين من الفقه والفكر، واستمر على قوله هذا حتى آخر
حياته، أخذاً بيد الناس من رعي الإبل إلى رعي الشمس.. بأبي أنت وأمي يا أبن رسول
الله.
قلما سمعنا أن أحد ذرية الرسول بمثل هذه العظمة. ولقد سمعتم حين زار شيخ الفقهاء
والمجتهدين[4] ( دامت بركاته) إمام الأمة، وقال له: السلام عليك يا بن رسول الله.
فرد عليه: أنت بقية السلف الصالح.. إنهما يعدوان إلى أصل واحد.
الإمام الوارث الحقيقي لرسول الله(ص):
أوصى الرسول(ص) في آخر حياته بالثقلين، فقال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي)، وأوصى أمير المؤمنين في أواخر حياته بالثقلين أيضاً: (أقيموا هذين
العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين).
ومن خلف رسول الله(ص) كانت وصيته كوصية الرسول، وكانت وصية إمام الأمة الذي هو
خليفة الإمام المعصوم الوصية بعينها، فكل ما ورد في وصيته(ره) كان شرحاً لمقدمة
وردت في البداية، شرح لحديث الثقلين، حديث حول القرآن والولاية.
وإذا كان الإمام قد دعا الناس للحضور في الساحة، فلأن القرآن والعترة دعيا الناس
إلى ذلك. وإذا كان قد دعا إلى الوحدة، فلأن القرآن والعترة قد دعيا إليها. وإذا كان
قد حث الناس على حفظ النظام، فهو إنما يبين حديث القرآن والعترة. وإذا كان قد تحدث
في وصيته عن اللاشرقية واللاغربية، وعن الدفاع عن المستضعفين، وحول الفقر والغنى
ومئات الأمور الأخرى فهو في الحقيقة إنما يشرح المتن، فالمقدمة بمثابة المتن
والبقية شرح له.
وأما ما قاله في ختام وصيته: (بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة.. أودعكم لأرحل
إلى مقري الأبدي)، فقد تعلمه من رسول الله (ص) وأمير المؤمنين(ع).
فقد سئل رسول الله(ص) عن أجله؟ فقال: (دنا الأجل، والمنقلب إلى الله).
والإنقلاب له معنى يختلف عن معنى الرجوع، فالرسول(ص) لم يقل: (إنا لله وإنا إليه
راجعون)، بل قال: والمنقلب إلى الله، أي أسافر إلى الله.. إلى سدرة المنتهى، والى
العرش الأعلى والكائن الأوفى..
كان الرسول يحن إلى حياة الآخرة الهنيئة، وكان يطيل الأنين، فسئل: ألم يغفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ فالإنسان جدير بالبكاء،
إذ لا سلاح له إلا البكاء، ولكن حين يرى الوعد الحق، يقول: أذهب إلى العرش، وهذه هي
كلمة الرسول(ص).
وحين آل الأمر إلى أمير المؤمنين، ودنا أجله رأى إبنته أم كلثوم تبكي، فقال: ما
يبكيكِ؟ قالت: أرى السم قد أثر فيك، قال لها: لو رأيت ما أرى ما بكيت.
وهنا يتضح لنا ما دفع الإمام إلى قوله هذا، ألا وهو الإيمان الكامل برسالته وخطه،
واطمئنانه إلى الوعد الإلهي، إذ كان يسمع بكل كيانه هذه الحقيقة{يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[5].
لقد سلك درب الرسول الأكرم وأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم أفضل الصلاة
والتسليم)، ومع حلول ذكرى رحيله لا نملك إلا أن نقول ما قاله أمير المؤمنين(ع) وهو
يغسل جسد الرسول الطاهر: (بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك..
خصّصت حتى صرت مسلياً عمن سواك وعممت حتى صار الناس فيك سواء).
* ولد آية الله جوادي الآملي في عام 1933، وأنهى المرحلة الإبتدائية ثم دخل الحوزة
العلمية في آمل، فدرس خمس سنوات فيها، وفي عام 1950 إنتقل إلى طهران فدرس في مدرسة
مروي، وتتلمذ على أساتذة كبار، مثل: آية الله الشعراني، وآية الله قمشه اى، وآية
الله محمد تقي آملي. ثم انتقل عام 1955 إلى الحوزة العلمية في قم فدرس على يد
الآيات العظام: البروجردي، والإمام الخميني، والمحقق الداماد، والعلامة الطباطبائي.
صدر له عدة مؤلفات أهمها: تقريرات الحج والصلاة والصوم والإعتكاف لآية الله
الداماد، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم(7 مجلدات)، الهداية في القرآن، علي بن
موسى الرضا والفلسفة الإلهية، المبدأ والمعاد، الحكمة النظرية والعملية في نهج
البلاغة، ولاية الفقيه، دروس في شرح الأسفار وغيرها، وهو يعد الآن من أكبر أساتذة
العلوم المعقولة والمنقولة المعرفين في الحوزة العلمية بقم.
[1] المائدة: 68.
[2] 15خرداد: في سنة 1342 ش, 1383هـ , [1963م], قام أزلام الشاه باعتقال الإمام
(قدس) وعدد من العلماء مما أدى لقيام ثورة شعبية عارمة قادها العلماء في العديد من
المدن الإيرانية, فاستشهد الآلاف من المواطنين.
[3] الزمر: 31.
[4] هو آية الله الأراكي
[5] الفجر: 27 ـ 30.