مركز الصدرين للدراسات السياسية

العناصر الاساسية للسياسة الاسلامية -2-
آية الله جوادي الآملي

الحقوق في الإسلام إنما هي للصالحين من عباد الله

إذا اتّضح أنّ نهج الحكومة وشكل النظام السياسي في الإسلام إنما هو نظام الإمام والأمة، واتّضح أنّ لكل واحد منهما حقّاً يتبع, يلزم الإشارة إلى أنّ العناصر الإنسانية في هذه الحكومة لابد وأن يكونوا عباداً صالحين لله، كما قد عيّن القرآن الكريم خطوطها الأساسية بقوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[1]
والمنّة هي النعمة العظمى، والمنحة الكبرى التي يعسر حملها، ولقد جعل القرآن لبعض النِعَم المهمة. خصيصة لا توجد في غيرها، كالرسالة التي عبّر عنها بقوله تعالى:
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً}[2]
وكالإمامة كما في الآية السالفة الذكر، وكذا في الهداية إلى الحق كما قال:
{ لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ..}[3]
فنعمة الإمامة منحة عظيمة يعزّ فيها الحق وأهله، ويذلّ فيها الباطل وأهله، ويحيى فيها العدل ويموت فيها الظلم، ويحيى فيها التوحيد، ويموت فيها الشرك، ويعيش فيها المستضعف المضطهد، ويفنى فيها المستكبر المترف كما قال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[4]
ولقد صرّح سبحانه بأن صُرح السياسة الإسلامية مبني على الكرامة البالغة، وهي الخشية من الله تعالى التي لا ينالها إلاّ العلماء:
{... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..}[5]
لأنها خشية مقام الرب تعالى وخوف وعيده سبحانه. فلو لم تكن هذه الفضيلة في الولاة لما صاروا حكّاماً إلهيين، ولما أمكن لهم أن يطردوا الطغاة، ولما قَدِروا على أن يروا فرعون كل عصر وهامان كل دورة ما كانوا يحذرون. فإذا خافوا مقام ربّهم، وخافوا وعيده، ونهوا أنفسهم عن الهوى، ولم يؤثروا الحياة الدنيا، نَجَز وعد الحق سبحانه لهم، وتنجّز وعيده سبحانه على أعدائهم؛ لأن رسول الله(ص) قال:
(من خاف الله عزوجل خاف منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء)[6]
ومن أروع مصاديقه ما قال سبحانه في عزّة المستضعفين من بني إسرائيل وذلّة الطغاة الحاكمة عليهم:
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}[7]
ولا ريب في أنّ صلاح العباد، وخوفهم مقام ربّهم، وخوفهم وعيده تعالى، ليس هو بالإكتفاء بالعبادة من الصلاة والصوم ونحو ذلك مما يتوهّم أنها كافية في امتثال ما أمر الله به، وفي حصول التهذيب، بل إنما هو بامتثال جميع ما أمر الله تعالى عباده الصالحين به من الجهادين الأكبر والأصغر، والهجرتين؛ الهجرة الكبرى، وهي الهجرة من أي رجس ورجز: {والرجز فاهجر}[8]
والهجرة الصغرى وهي الهجرة من أرض الشرك والظلم، ثم تحصيل العدّة والأهبة لإرغام أنوف الطغاة، وتطهير الأرض من رجسهم، وتخليص الضعاف والمستضعفين الذين لا يجدون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً من أيدي ذوي الأوتاد. كما قال سبحانه مشيراً إلى وظائف أئمة المسلمين والحكام الإلهيين على الأرض:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[9]
فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء أهل الجهاد والمجاهدة، أهل العبادة والتهذيب والإصلاح لأنفسهم ـ بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ـ ولغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعدما ثاروا على الطغاة وطردوهم ونجّوا بيوتاً أذن الله أن تُرفع من أيدي من أراد هدمها وتخريبها ـ وهؤلاء هم الذين يقولون:
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[10]
وبالتالي هؤلاء هم أهل الكرامة الذين إذا قتلوا في سبيل الله بعدما قاتلوا وجاهدوا، يدخلون الجنة، ويلحقون بالمكرمين من عباده سبحانه، كما قال:
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[11]
لأنه جاهد بكلمة عدل عند أئمة الجور.
وحيث إنّ الكرامة تأبى الذل كما تتحاشى الضيم؛ لأن كل واحد منهما نقص يتجنّبه الكريم، فلذا أمروا بالهجرة ورفض الذل والهوان. كما قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}[12]
فإنه سبحانه لا يرضى لعباده الذل ولا يمنع الضيم الذليلُ.
ومن المقدّر الإلهي، المقرر في الإسلام، هو أنه؛ لو صبرت الأمة الإسلامية على الطاعة، وصبرت عن المعصية وعند المصيبة، وصابرت في البأساء والضراء وعند لقاء الأعداء، ورابطت مع إمامها القائم بالقسط، ترث الأرض وتحكم فيها حكماً إلهياً لا حيف فيه ولا جور، لقوله تعالى:
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[13]
لأن الكرامة السائسة المناسبة لإرث الأرض هو ما ذكر.
ولَمّا كانت الحياة هي حقيقة تنشأ منها المعرفة والحركة، فمن لا وعي ولا معرفة له بما يصلحه ويفسده، أو لا إرادة ولا حركة له بها يخرج من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام، فلا حياة له. إذ الحي هو الدراك الفعال.
فلذا قال سبحانه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[14]
ومما يلزم التنبيه له هو أنّ جميع ما جاء به الوحي الكريم موجب للحياة إلاّ أنّ بين أحكامه وأوامره امتيازاً يفضّل بعضها على البعض الآخر، ومن ذلك: الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن حرم الله، والذبّ عن كيان الإسلام, حيث إنه تعالى بعدما أمر في سورة الأنفال في عدة آيات خاصة تحثّ على الجهاد وتبعث صوب الدفاع وتهدي إلى الذبّ عن الكيان الديني. قال:
{ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[15]
مشيراً إلى أنّ حياة الأمة رهن جهادها، ومعيشتها مرهونة بدفاعها ودوامها وبقاءها في ضوء ذبّها عن كيانها الإسلامي. فكما أنّ القصاص وإنْ كان قتلاً وإماتة في الظاهر، ولكنه عامل لحياة الأمة، وموجب لبقائها. حيث قال تعالى:
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}[16]
كذلك القتال في سبيل الله، وإنْ كان مصحوباً بالموت، ومشفوعاً بالشهادة في الظاهر، ولكنه عامل لحياة الأمة وموجب لدوامها. فمن لا نفر له إلى المعركة، ولا ثبات قدم له عند لقاء العدو، لا حياة له. كما أنّ من يفرّ من الزحف، ويجبن من العدو، ويرضى بأن يكون مع الخوالف كالمترف فلا حياة له، فهل الكرامة إلاّ هذه السياسة التي ترفض ذلّ الاستعباد وتأنف من هوان الاستعمار وتأبى الضيم والاستغلال علّمها الإسلام حين ما يعلم الناس الكتاب والحكمة ويزكيهم. فتعال يا صاح واقرأ قوله تعالى:
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}[17]
فتدبر فيه حتى يتبيّن لك كيف أثّرت الكرامة السائسة في نفوس أبيّة، وأُنوف حمية، حيث تفيض أعنيهم من الدمع حين لم يوفقوا لأن تراق دماؤهم بالقتل في سبيل الله. فهل هذه إلا كرامة تطلب الاستقلال الإسلامي، وتهرب من الاستعباد والاستثمار كائناً ما كان:
{ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[18]
لأن مقالهم هو الله فقط ويذرون المبطلين لاعبين. وترى أيها الباحث الدقيق روح الكرامة قد نفخت في برامج المسلمين، آناء الليل وأطراف النهار، حيث إنه يجب على كل بالغ عاقل أن يقيم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل بالظهرين والمغربين، وكذا صلاة الصبح المُعبّر عنها بقرآن الفجر (الإسراء:78) ويجب عليه أن يقرأ في كل صلاة فاتحة الكتاب مرّتين إذ لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ومن آياته قوله تعالى: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } ثم فسّر الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم ـ وأما من هو المنعم عليه، وما هو سيرته وسريرته وسنّته وطريقته، فقد بيّنه الله في مواضع عديدة من كتابه الكريم. ومن تلك المواضع قوله تعالى:
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}[19]
يعني أنّ مقال موسى الكليم (ع) الذي نهض يكافح الطاغي ذا الأوتاد هو أن قال لربّه: إنّ شكر نعمة النبوة(وحمد منحة الرسالة، والثناء على موهبة الإمامة التي أنعمتها عليَّ) أن لا أكون ظهيراً للمجرمين فهذه هي الكرامة المتبلورة في القهر على المجرمين المقررة في برنامج المسلم في صلواته. فصلاة كل مسلم دارسة النهضة على الطغيان، والثورة على الظلم، والجهاد ضد الضيم، وبالتالي دراسة الوعي والحرية والثورة على كل من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، ولا ينال هذه الكرامة إلاّ المطهّرون من أدناس الجاهلية، والمنزّهون عن معالمها، وأما من ابتلى بها فتضرب عليه الذلّة والمسكنة لما أُشرب في قلبه حب عجل الدنيا، ولذا تهاجمه كلاب الاستعمار فتقطعه إرباً إرباً، وتمثل به مثلة شنيعة، ولا تغني الكثرة الظاهر عنه. كما قال رسول الله (ص) لثوبان:
(كيف أنت يا ثوبان؛ إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ أمن قلة بنا؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن يُلقى في قلوبكم الوهن. قال: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبكم الدنيا وكراهيتكم القتال)[20]
فتدبر أيها الباحث المتفكر في قول رسول الله(ص) حيث قرر أنّ عامل الإنهزام هو الوهن، وأنّ الوهن هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، ثم أنظر فلسطين والقدس العزيزة الأسيرة بأيدي الطغاة اللئام مع الكثرة البالغة للمسلمين في أقطار الأرض، حتى يتضح لك أنْ لا سياسة إلا الكرامة التي تأبى الذل والضيم، ولا كرامة إلا في الجهاد والمجاهدة في سبيله تعالى حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ويكون الدين كله لله تعالى، كما أنه يكون لله تعالى خالصاً، ولا جهاد ولا نهضة إلا بالوعي والحزم والعزم والجزم؛ لأن أصل المرء لبّه، ونِعْمَ ما قال جعفر بن محمد الصادق(ع):
(ما ضعف بدن عما قويت عليه النيّة)[21]
لقد أوصى مولانا علي بن أبي طالب(ع) أهل مصر حين ولّى مالكاً عليهم بأن قال في رسالته المكتوبة إليهم:
(ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، والى أمصاركم قد افتتحت، والى ممالككم تزوى، والى بلادكم تغزى؟ انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف وتبوؤوا بالذل، ويكون نصيبكم الأخسَّ. وإن أخا الحرب الأرق، ومن نام لم ينم عنه والسلام)[22].
وقال (ع) لجيشه:
(لاَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً)
فأين تذهبون يا طالبي الكرامة؟ وأين يتاه بكم ياساسة؟ تدبروا قول الكريم السائس حيث يوصي ابنه الحسن بن علي (عليه السلام) بقوله...
(..وأكرم نفسك عن كل دنيَّةٍ وإنْ ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حُراً، وما خيرُ خيرٍ لا ينال إلا بشرٍ، ويسرٍ لا ينال إلاّ بعسرٍ؟!)[23]
ولقد كتب عليه السلام إلى معاوية فقال:
(.. ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيّة، وولاة أمر الأمة؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء، وأحذرك أن تكون متمادياً في غرة الأمنية، مختلف العلانية والسريرة)[24]
حيث يقول(ع): إنّ النكْراء ليست سياسة، وأنّ الماكر المخادع ليس سائساً, وأنّ النفاق واختلاف السرّ والعلن لا يلائم السياسة الدائرة مدار الكرامة المختصّة بعباد الله الصالحين الذين بها يستحقون الحكومة على الأرض وميراثها ويشتاقون لأكرم الموت[25]وهو القتل في سبيل الله؛ لأنهم الذين لم يختلف سرّهم عن علنهم، ولا فعلهم عن قولهم، ومن كان كذلك فقد أدّى الأمانة، وأخلص العبادة[26]. ومن كان مخلصاً في عبادته لله تعالى يورثه الله الأرض، ويجعله إماماً يحكم عليها.
{إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء}[27]
لقد شاء أن يورثها إلى من أخلص لله في عبادته الجامعة.
السياسة الإسلامية تقتضي الإحسان إلى الجميع ما عدا المفسدين:
تبيّن أنّ السياسة الإسلامية تدور مع الكرامة حيثما دارت، والكرامة توجب الإحسان إلى كل واحد إلا من سعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل، فإنّ لسيئته جزاءً مثلها. فالأصل الأولي في السياسة الإسلامية مبني على الإحسان، كما أنه مبني على العدل، حيث إنّ علياً (ع) أوصى مالك بن الحارث الأشتر حين ولاّه مصر بقوله:
(ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان؛ إمّا أخّ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق)[28]
فأمر بلزوم رعاية العدل، وعدم التجاوز عنه بالنسبة إلى أي إنسان ـ مسلماً كان أو غير مسلم ـ ومنشأ ذلك كله قوله تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[29]
حيث خصّ النهي عن التولّي والارتباط بما قاتل المسلمين وآذاهم، أما من لم يقاتلهم ولم يؤذهم، ولم يصدّهم عن سبيل الله، ولم يبغها عوجاً فلا نهي عن البرّ والإحسان والإقساط إليهم، بل هو أمرٌ محمود ليروا عدل الإسلام وإحسانه، ويعيشوا في ضوء قسطه وبرّه.
نعم, لكل شيءٍ في الإسلام حدٌّ، ومن تعدّاه فله حدٌ مُبيّن في الفقه، ولا تعطيل في الحدود، ولا شفاعة ولا تأخير فيها؛ لأن ذلك هو مقتضى النظام الإلهي، وعلى المسؤولين أن يجدّوا في تنفيذه؛ لأنهم الحافظون لحدود الله، وإلاّ لما أتيحت لهم فرصة السياسة، إذ لا كرامة في تعطيل الحدود وجعلها بئراً معطّلة، كما أنه لا مجال للتساهل في الذبّ عن الكيان الإسلامي؛ لأن التواني والتهاون والتراخي والجمود والسكوت عن الحق وما إلى ذلك هي من سيئات القوة الدافعة، وعجزها وتفريطها الذي لا يجتمع شيء منها مع الكرم السائس، وإن صححه الخيال تارة وسدّده الوهم أخرى, وحَسَبَ الإنسان المبتلى بذلك أنه احتياط وحزم حسن يرى الجبناء أنّ الجبن حزم وتلك خديعة النفس ألئيمة وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ولكنه ليس في الحقيقة كذلك. والأصل في ذلك كله قوله تعالى لموسى وهارون الذاهبين إلى طاغي العصر:
{ وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[30]
إذ التواني في ذكر الله يوهن العزم، ومن المعلوم أنْ لا ثمرة للعزم الواهي إلا الانهزام، ولذا قال علي بن أبي طالب(ع):
(ما عَليَّ من قتال من خالف الحقَّ، وخابط الغيَّ من إدهانٍ ولا إيهانٍ)[31]
لأن هؤلاء ودّوا لو يُدهِن والى المسلمين فيدهنون, كما قال تعالى لرسوله:
{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[32]
والسرّ في ذلك أنّ المداهنة شفير وادي الذل والهزيمة، وأنّ المقاومة سُلَّّم صرح العزة والغلبة. فتحصّل أنّ الكرامة التي هي السياسة تقتضي الإحسان إلى كل أحد إلاّ من خالف الحق، وطلب البغي، وسعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل، فحينذاك يجب على الإمام والأمة أن ينهضوا وينتصروا عالِمين بأن الله كتب الغلبة له تعالى ولرسله. وقال علي(ع):
(من أحدَّ سنان الغضب لله قَوِيَ على قتل اشدَّاء الباطل)[33]
ومما لابُدَّ من التنبيه له هو أنّ السياسة الإسلامية لا تفعل باطلاً، ولا تصححه ولا تغمض عنه؛ لأنها تدور مدار الحق. والحق كما قال تعالى:
{ قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}[34]
لا يُجوَّز الباطل سواء كان ذا سابقة أم كان باطلاً جديداً.
السياسة الإسلامية تقتضي الاستقلال والحرية والاكتفاء الذاتي والاتكال على الله وحده، وحصر الاتكال.
إنّ الكرامة التي تناط بها السياسة تقتضي أن لا يحتاج الإنسان إلى محتاج آخر مثله، وأن لا يذل له بل يستقل بحوله وقوّته مستعيناً بالله تعالى، ولقد مَثَلَ القرآن الكريم هذه الكرامة المصحوبة بالحرية والكفاية بقوله تعالى:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[35]
وهذه الآية الكريمة ـ بعد ما بيَّنت توحيد الأمة الإسلامية في العبادة والعقيدة وأنه ليس في عقيدتهم إلا الخضوع لله، وأنّ الركوع والسجود له تعالى كان دأباً وسيرة مستمرة لهم، ولذا لا يخافون في الله لومة لائم ولا يداهنون الكفار المنحرفين عن صراط التوحيد، بل يكونون أشدّاء عليهم، كما يكونون رحماء بين أنفسهم؛ لأنّ الجامع بينهم هو عقيدة القلب فحسب ـ أفادت أنهم مستقلون أحرار أغنياء عن الأغيار، ويتعجب منهم من يشاهد كفايتهم، ويغاظ بهم من لا يرضى باستقلالهم وحريتهم، حيث قال:
{... مثلهم ... كزرع أخرج.. الخ}.
أي أنهم أهل النمو والحركة والرشد والتسامي، لا أهل الخمول والسكون والذبول والانحطاط، ثم إنهم بعدما كانوا أهل التحرك والتحرر يكونون أهل الوعي والاستنباط والتبديل والاحتراف والصناعة وما إلى ذلك, حيث إنهم يعرفون ذخائرهم وموادّهم الأولية ويبدّلونها بما هو صالح للإغتذاء، ويصرفونها في التغذية بالمعنى الوسيع الجامع لجميع شؤونها بلا احتياج في شيء من ذلك إلى وزير من خارج أو نحو ذلك، بل يستقلون في الوزارة والإعانة، وكذا في التغليظ والتحكيم كالبنيان المرصوص إذ لو لم يكن لهم ساق غليظ لما أمكن لهم أن يقوموا عليه؛ لأن الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض لا قرار لها، وهكذا الزرع الذي لا ساق غليظ له ـ بأن يكون غلظه بسبب أصله الثابت الموجب لغلظة الساق وضخامته ـ لا قرار لهن فكيف يمكن للزرع أن يستقر على مثل ذاك الساق؛ وهكذا الأمة الإسلامية ما لم تكن كشجرة طيبة أصلها ثابت كيف يمكن الاعتماد عليها، وكيف يمكن أن تؤتي ثمرها وأكلها كل حين، إذ لا يأذن الله بذلك لمن لا أصل له، أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها ـ وأهم سبب يوجب الاستقلال هو الاتكال على الله تعالى لقوله تعالى:
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[36].
حيث يدل على أنّ الله تعالى وحده كافٍ، وإنّ الاعتماد على الله الذي هو معتمد عباده موجب للكفاية، وعلى أنّ تهديد الكفار وإرعاب المنافقين، وتخويف الذين في قلوبهم مرض، وإنذار المرجّفين، لا جدوى منه، إذ لله جنود السماوات والأرض فلا ينبغي أن يخاف إلا من الله، كما لا ينبغي أن يتوكل إلاَّ على الله تعالى:
{... قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[37]
ثم إنّ الاستقلال والحرية وما إلى ذلك مما هو من خصائص الكرامة التي تسوس الأمة الإسلامية، ليس بالأماني كما قال علي(ع):
(إياك والإتكال على الأماني فإنها بضائع النوكى، وتثبيط عن الآخرة)[38]
بل لابُدَّ له من سبب خاص يجب به ويمتنع بدونه، وذاك السبب هو أن يتصدى لكل شأن من شؤون النظام الإسلامي مَنْ هو كامل في أمرين:
أحدهما: الإطلاع والمعرفة والتخصص بالنسبة إلى ذلك الشأن.
وثانيهما؛ التعهّد والإلتزام الديني، والتقوى الإلهي بحيث لا يخون في شأنه، ولا يختلس منه، ولا يسامح فيه. فمن كان فاقداً لأحدهما لم يصح له التصدي لذلك الشأن فضلاً عمّن كان فاقداً لهما معاً. والأصل في أنّ كمال النظام في أنّ المتصدّي لأي شأن كان لابُدَّ وأن يجمع وصفي العلم والعدل, وكمالي التخصص والتقوى وهو ما أشار إليه سبحانه في كتابه الكريم من بيان شأنين: أحدهما: في غاية الأهمية والتعقيد، والآخر: في غاية البساطة والإبتذال.
الأول: تولّي وزارة الاقتصاد في أصعب عصر، والتصدي للأمور المالية في أحرج وضع.
الثاني: رعي عدة أغنام وسقيها.
أما الأول؛ فقوله تعالى حاكياً عن يوسف الصدّيق (ع) بعد خروجه من السجن، وابتلاء مصر بالقحط والغلاء والمجاعة ونقص الزرع:
{... اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[39]
يعني أنّ يوسف(ع) ادّعى صلاحه للوزارة وإدارة الأمور المالية في أعسر وضع؛ لأنه كان حفيظاً أميناً لا يفرط ولا يخون. وعليماً بذلك الشأن الخاص مع تقدم الحفظ والتقوى المالي في هذا الموضع على العلم، فيلزم أن يكون الوزير متّقياً في شأنه، وعالماً به، فلا التقوى بدون المعرفة بذاك الفن كافية، ولا الاطلاع الفني بدون التقوى مُجدٍ، بل لابُدَّ للوزير من الجمع بين التخصص والتقوى.
وأما الثاني؛ فقوله تعالى حاكياً عن إحدى بنتي شعيب (ع) في استيجار موسى(ع):
{.... يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[40]
يعني أنّ خير العمال والمتصدّين لأي أمر هو القوي على إنجازه والعارف به وبشؤونه والأمين عليه، فخير الرعاة والسقاة هو الراعي القوي الأمين والساقي الخبير الثقة.
والحاصل؛ إنّ منطق القرآن الكريم هو لزوم المعرفة والأمانة في كل من يتصدى لأمر عالٍ أو دانٍ، معقد أو بسيط، وزارة كان أو رعياً للأغنام وسقياً للدواب ونحو ذلك، فإذا أعطي في نظام كل ذي حق حقه، وتصدى لكل شأن من يليق به تعهّداً وتخصصاً، فذاك النظام هو الحري بالاستقلال والحرية.
ثم إنّ من أهم موارد لزوم الاستقلال هو الاقتصاد المالي والنظام الاقتصادي؛ لأن المال قوام الأمة وقيامها ولا اقتدار لمن لا قوام له، ولا حول لمن لا قيام له. قال تعالى.
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً}[41]
حيث وصف الله تعالى المال بكونه قياماً. فمن لا مال له لا قوام له، ولعله لهذا السبب يقال لفاقد المال(الفقير) لأن الفقير هو من انكسر عظم ظهره وفقراته، ومن المعلوم أنّ من انكسر عظم فقرات ظهره لا قوام له ولا قيام له فبينهما تلازم؛ يعني أنّ من انكسرت فقرات ظهره فهو فقير لا قيام له، ومن لا قوام له ولا قيام له فهو فقير. وحيث إنّ المال قوام، ومن لا مال له لا قوام له فهو فقير، كذلك يقال لمن لا مال له أنه فقير. فالأمة الفاقدة للنظام الاقتصادي الصحيح هي ممن لا قوام لها، فلا تستطيع الثورة على الطغاة، ومن لا قيام له فهو فقير؛ فهذه الأمة العاجزة عن القيام المالي فقيرة, فحينئذ ليس في وسعها أن تقوم لله وتتعظ بما وعظها الله تعالى, حيث قال في قرآنه الكريم:
{.... إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}[42].
إذ المراد من القيام هنا ليس هو القيام الصوري العمودي، بل المراد منه المقاومة تجاه الظالمين, ومن الواضح أنّ المقاومة إنما تجدي مع النظام الاقتصادي الرائع، وبدونه لا قيام ولا مقاومة ولا صبر ولا مصابرة ولا مرابطة. ولقد أشار إليه رسول الله(ص) في قوله:
("اللهم" بارك لنا في الخبز، ولا تفرق بينا "وبين الخبز" وبينه فلولا الخبز ما صلّينا ولا صمنا، ولا أدّينا فرائض ربّنا)[43].
وليس ذلك بالنسبة إلى شخصه(ص) أو الكُمَّلين من صحبه بل بالنسبة إلى الشعب.
والسر في ذلك كله هو أنّ فاقد المال فقير بمعناه المقرر له آنفاً، والفقير غير قادر على القيام فضلاً عن الإقامة, وهو ـ أي القيام للدين وإقامته ـ إنما يتمّ في النظام الاقتصادي السالم، وذلك بالإنتاج والتوزيع وكل ذلك فن معقد لا يتصدى له إلاّ الخبير الثقة فمن لا خبرة أولا وثوق به لن يجدي شيئاً:
{ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ}[44]
فحينئذ يصير كلاَّ على غيره، وقد قال رسول الله(ص):
(ملعون من ألقى كلّه على الناس)[45]
فمعه تصير الأمة التي ألقت كَلَّها على الأمم الأخرى ملعونة محرومة من العناية الإلهية، كما قال (ص):
(لا خير في من لا يحب جمع المال من حلال يكفُّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه)[46]
لأن جمع المال المتكاثر به وإنْ كان مذموماً إلاّ أنّ جَمْعَه بمقدار يصان به العرض، ويقضي به الدين، ويوصل به الرحم، وما إلى ذلك من الحوائج ممدوح.
كما قال علي بن أبي طالب(ع) في دعائه:
(اللهم صُنْ وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار)[47]
وللاهتمام بالنظام الاقتصادي الصحيح قال علي(ع):
(من وجد ماءً وترابا ثم افتقر فأبعده الله)[48]
حيث إنه (ع) هّدد العاطل، وتوعّد الكسلان، ورهّب الفارغ، مع التمكن من الإنتاج من الغرس والزرع ونحو ذلك، فلا يباح للأمة الإسلامية الكسل والفشل والضجر والعجز في المشي في مناكب الأرض، واستخراج ما في بطونها مما أودعه الله فيها. قال علي(ع):
(إنّ الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر)[49]
وهكذا قال (ع):
(إنّ الله عز وجل يحب المحترف الأمين)[50]
ولعله إشارة إلى لزوم اجتماع وصفي العلم والأمانة في الصانع؛ لأن الحرفة صناعة لابُدَّ فيها من مهارة وتخصص، ومع انضمام وصف الأمانة إلى ذلك يتمّ الأمر كما تقدم.
وحيث إنّ النظام الاقتصادي إنما يصحّ إذا كان جامعاً بين الحرف الزراعية والحرف الصناعية الدارجة اليوم ندب السياسة الإسلامية من بُعدها الاقتصادي إليها أيضاً. قال الثمالي: مررت مع أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع) في سوق النحاس فقلت جُعلت فداك هذا النحاس أي شيء أصله؟ فقال (ع):
(فضة إلاّ أن الأرض أفسدتها، فمن قدر على أن يخرج الفساد منها انتفع بها)[51]
فهو (ع) قد رغّب الناس في التعرّف على تلك المعادن، وكيفية امتزاجها، وكيفية تخليصها، وحضّهم على الاصطناع والاحتراف الخاص بذلك، كما أنه (ع) حذّر الناس من جمع المال وادخاره وعدم صرفه في الإنتاج والتصنيع، قال(ع):
(ما يخلّف الرجل بعده شيئاً أشدُّ عليه من المال الصامت. قال: قلت له كيف يصنع؟ قال(ع): يضعه في الحائط والبستان والدار).[52]
إذ المال إنما هو موضوع لأن تتبادل فيه الأجناس لا لأن يدخر في مكان واحد، وبيد شخص أو أشخاص مخصوصين، قال تعالى:
{... كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ..}[53]
فعليه يلزم أن يصرف المال في التصنيع والإنتاج أولاً، وفي التوزيع بين الناس لأنهم سواسية كأسنان المشط ثانياً، حتى يُحمى من الإكتناز، ويصان من التكاثر، وتُجتنب الفاقة إلى غير الأمة الإسلامية في مواد المعيشة، ويحترز من سيئات هذه الفاقة. إذ الاحتياج إلى أمة غير إسلامية سواء كان في النظام الاقتصادي أو العلمي أو العسكري أو غير ذلك يوجب تولّيهم والركون إليهم، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك كله، وحذّر الأمة الإسلامية منه، والسر في هذا الأمر هو أنّ الإفتقار إلى دولة غير إسلامية يوجب سدّ الخلّة ورفع الحاجة بهم، ومعلوم أنّ سدّ الخلّة ولَمَّ الشعث ورفع الفاقة من الأمة الإسلامية إحسان إليهم، والإحسان يوجب انجذاب قلوب المحتاجين إلى مَنْ أحسن إليهم، كما قال رسول الله:
(جبلت القلوب على حُبِّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)[54]
ومحبة الكفار الطغاة ركون إليهم، وتولٍّ لهم، وحنين نحوهم. وقد قال سبحانه وتعالى:
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}[55]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[56]
حيث إنه تعالى حذّر الأمة الإسلامية من الركون إليهم. والركون؛ هو الميل القليل والحنين اليسير.
أضف إلى أنّ القلب مجبول على حبّ من أحسن إليه.
إنَّ هؤلاء الكفار لا يرضون بمجرد الركون والحب القلبي، بل يسعون لأن يصيروا أولياء على المسلمين ويجعلونهم تحت ولايتهم، ويملكون رقابهم ويستبدّوا بهم كما هو المعروف من شيمهم المشؤومة وسيرتهم السيئة، والإسلام لا يرضى بذلك؛ هيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والأئمة من ولده؛ لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، والإسلام يوجب السيادة، وينزّه المسلمين عن عبودية غير الله كما قال رسول الله(ص) حيث إنّ أبا جهل وجماعة من أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب وشكوا إليه النبي(ص) وقالوا: قد سفَّه أحلامنا وشتم الإله، فدعاه أبو طالب وقال له: ما لأهلك يشكونك؟ فقال النبي(ص) أدعوهم إلى كلمتين خفيفتين يسودون على العرب بهما، ويؤدي الخراج إليهم بهما العجم. فقال أبو جهل وغيره ما هما؟ فقال (ص): (تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله) فقال أبو جهل (أتجعل الإلة إلهاً واحداً؟)[57].
فهل ترى أيها الباحث في السياسة الإسلامية إنّ الإسلام لا يرضى بأن يكون هؤلاء الكفرة أولياء المسلمين وساداتهم، مضافاً إلى أنّ المراودة معهم إذا كانت مراودة الفقير والغني، ومرابطة الرق والحر، ومعاملة المقهور والسلطان توجب تخلّق المسلمين بأخلاق هؤلاء الكفار، وانخراطهم في سلكهم كما هو الشاهد بين الأمم الضعيفة والقوية، مع أنّ القرآن الكريم ينادي ببراءة الله ورسوله من المشركين ما لم يتوبوا؛ لأنهم إنْ يظهروا على المسلمين لا يرقبوا فيهم إلّاً ولا ذمة، يرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم وأولئك هم المعتدون, ولذا أمر المسلمين بقتالهم حيث قال سبحانه:
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[58].
فتحصّل أنّ الكرامة السائسة تأبى افتقار المسلمين إلى غيرهم في شيء من شؤونهم الدنيوية، بل توجب أن يكونوا مستقلّين في ذلك كله وأحراراً.
وإنَّ من أهم تلك الشؤون هو النظام الاقتصادي الصحيح الطارد للفقر الذي هو كما قال علي(ع):
(... منقصةٌ للدين، مدهشةٌ للعقل، داعية للمقتِ).[59]
وقال أيضاً:
(الفقرُ الموتُ الأكبر)[60]
وأنها (أي السياسة التي تدور مدار الكرامة) تقتضي الإحسان والأدب الصالح، إلا ما خرج بالنص. قال مولانا جعفر بن محمد الصادق(ع):
(وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته)[61]
السياسة الإسلامية توحّد المسلمين وتمنع من تفرّقهم:
إنّ الكرامة تمنع من الميل إلى الهوى المُردي، وتحذّر من الجهل المهلك, ومن أي سبب يوجب الاختلاف والتفرّق بين المسلمين وجعلهم أيادي سبأ متفرّقين؛ لأن ذلك كلّه من الدناءة التي لا تجوّزها الكرامة السائسة.
ولذا ترى الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله(ص) في أمته لن يضلّوا ما تمسّكوا بهما وهما كتاب الله وعترته الطاهرة، يدعوان الأمة الإسلامية إلى الوحدة، وينهيانها عن الإختلاف والتفرقة.
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}[62]
{ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[63]
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[64]
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[65]
حيث يدل على أنّ التفرّق في الدين، والحياد عن الصراط المستقيم الذي لا تخلّف فيه ولا اختلاف، سيّئة كبيرة موبقة، سيّما حال القتال مع أعداء المسلمين، حيث قال سبحانه:
{ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}[66]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}[67]
حيث نهى عن الإستدبار والانفضاض من حول إمامهم الذي لا تحركه العواصف، كرار غير فرار وهو رسول الله(ص) ومن هو بمنزلته.
وبالجملة؛ فإن الإختلاف والتفرّق يوجبان الوهن والفشل المستلزم للإنهزام، والإنظلام وتسلط الكفار. كما قال سبحانه:
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[68]
لأن النزاع هو خلع القوة ونزع القدرة من الجانبين، هذا يصرف همّه وقدرته في نزع القدرة عن ذاك، وذاك يهمّ ويسعى في إزالة القدرة عن هذا. فلذا اتفقا على نزع القدرة. والإتفاق غالب ومؤثّر، فلذا تنزع القدرة عن الطرفين، فيبدو فيهما الفشل، وإذا بدا الفشل ذهبت الريح والعزة، فإذا ذهبت العزة جاءت الإستكانة والذل(أعاذ الله الإسلام والمسلمين منهما) إذ لا ريب في أنّ الكفار إنْ أظهروا على المسلمين لم يبقوا شيئاً من كيانهم، كما قال سبحانه:
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}[69]
فحينئذ يصيب المسلمين الملق والخضوع. وقد قال رسول الله(ص):
(من مدح سلطاناً جائراً، وتخفف وتضعضع له طمعاً فيه كان قرينه في النار).
وقال أيضاً:
(من ولّى جائراً على جوره كان قرين هامان في جهنم)[70]
وذلك لأن الذليل يضطر إلى الملق والمدح والتولّي والخضوع للكفار، ولكن هذا الأمر الاضطراري اختياري في الواقع؛ لأن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الاختيار.
والحاصل؛ إنّ العزة التي لله ولرسوله وللمؤمنين منوطة باتّحادهم وتآخيهم وكونهم يداً واحدة على مَنْ سواهم، وإلاّ تحتّم لهم الفشل، وتعيَّن لهم ذهاب الريح ونفاد روح العزة، وكتبت عليهم الذلّة والمسكنة، بعدما وعدهم الله العزّة والنصرة.
وليعلم أنّ مناط الوحدة هو العقيدة، كما أنّ مدار السياسة الإسلامية عليها حسبما تقدم سالفاً بيان أصالة العقيدة دون اللغة والقومية والمكان وغير ذلك.
وليعلم أيضاً أنّ موطن العقيدة هو القلب الذي زمامه بِيَد مقلّب القلوب لا غير، ولذا قال علي(ع):
(عَرفتُ الله سبحانه بفسخ العزائم، وحلِّ العقود، ونقض الهمم)[71].
وحيث إنّ القلب بيده تعالى، فما لم يصِر سالماً لم يتيّسر له أن ينزع منه الغلّ والحقد والضغينة وما إلى ذلك من أدواء الصدور، ولهذه الخصيصة قال سبحانه لرسوله:
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[72]
يعني أنّ القلب لكونه خارجاً عن منطقة الطبيعة والمادة لا يمتلكه شيء من الذخائر المادية، حتى يعتقد به الحق ويتحد به مع القلب الآخر، بل إنما أمره بيد الله سبحانه، وهو ينظر إلى القلوب والسِيَر لا إلى الصور[73] فإذا وجد القلب سالماً من المرض نوّره بالوحدة والألفة، وإذا وجده مريضاً يسارع في الكفر يقول:
أخشى وأخاف أن تصيبني دائرة، وأخاف أن الإسلام ينهزم، وأن الكفر ينتصر ويغلب، أمسك الله فيضه عنه، ووكله إلى نفسه، ومن وكله الله إلى نفسه فلا عماد له، ولا ملاذ له، لأنه لن تجد من دونه ملتحداً.
قال جل جلاله:
(أيما عبد أطاعني لم أُكلّه إلى غيري، وأيما عبد عصاني وكّلته إلى نفسه ثم لم أبال في أي واد سلك)[74].
وكذا قال تعالى:
(إذا عصاني من خلقي من يعرفني، سلطت عليه من خلقي من لا يعرفني)[75].
وبالجملة فالعزّة حليفة الوحدة، كما أنّ الذلّة قرينة الفرقة. فمن اتحد عزَّ ومن تفرّق ذلّ. وقد قال علي بن أبي طالب (ع):
(إن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه)[76]
وقال أيضاً:
(ولا تباغضوا فإنها الحالقة،)[77]
وحيث إنّ الوحدة عزة، والعزة كرامة، والكرامة بالتقوى، فمن كان أتقى كان أكرم وأعز، ومن كان أعز كان أدعى إلى الوحدة والتآخي كما كان علي (ع) كذلك، وهو يقول:
(وليس رجل ـ فاعلم ـ أحرص على جماعة أمة محمد (ص) وألفتها مني أبتغي بذلك حسن الثواب وكرم المآب)[78]
ثم إنّ الوحدة الموجبة للإنتصار والعزّة ليست بمعنى الإدهان ولا الإيهان في حكم الله تعالى بل هي بمعنى عدم الميل إلى الهوى وكل ما يوجب التفرّق عن الإسلام، لا ما يوجب الاتحاد وتأكيده وتقويته، ومنه يظهر لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرائطه المقررة في الفقه؛ لأنه الموجب لعزّ الإسلام، وبعزّته يعزّ المسلمون وبنجاته ينجو المؤمنون.
روى البخاري في صحيحه ج2 ص 6 عن رسول الله(ص) أنه قال:
(كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته).
وهذه المسؤولية العامة هي التي تحفظ الوحدة الإسلامية وتحرسها من الضياع ولقد مثّلها رسول الله بأروع تمثيل، حيث قال(ص):
(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم تؤذٍ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)[79]
تأمل جيداً في هذا المثل واعقله؛ لأن الأمثال مضروبة للناس ولكن لا يعقلها إلاّ العالمون، وتدبّر فيه حتى يتضح لك أنّ المسلمين هم ركّاب سفينة مهددة بالخرق والغرق؛ فإن أخذت الأمم الإسلامية أيادي حكوماتها ومنعتها من خرق سفينة الإسلام بتولّي الطغاة المسؤولين الذين لا يبقون ولا يذرون الإسلام والمسلمين معاً، وإن نامت الأمم ـ ومن نام لم ينم عنه ـ وسبتت عقولها(نعوذ بالله من سبات العقل) وتركت الحكومات وشأنها ولم تأخذ على أيديها وأهملتها حتى باعت الإسلام والمسلمين بثمن بخس، هلكوا جميعاً.
والخلاصة: فإن كرامة الأمة الإسلامية منوطة بوحدتها وتآخيه
ولا تحصل الوحدة والأخوة إلاّ بصيانة بعضها البعض الآخر في الشؤون الدينية والاجتماعية وغيرها. قال رسول الله(ص):
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً)[80].
وقال (ص):
(مثل المؤمن في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)[81].
وقال (ص) أيضاً:
(المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كلّه، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)[82]
ولا مرية في أنه لولا تعاضد الأعضاء وتعاونها لما برئ العضو المريض، ولما زال داؤه، وإذا لم يبرأ المريض ولم يزل داؤه لم يجد الراحة ولم يحصل على الأمان والصحة. أي النعمتين المجهولتين.
ومن هذا الباب ما أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى..، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان كما في سورة المائدة آية 2 ـ لأن التعاون على التقوى يورث الإتحاد والأخوة، وأما التعاون على الإثم فيوجب التفرقة والنفرة المنافية للإيمان. إذ الإيمان يقتضي الأخوة في الله. كما قال سبحانه:
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[83].
ولنختم المقال بكلمة خاتم الأنبياء الذي أوتي جوامع الكلم وهي من غرر كلماته(ص) التي لم يسبق إليها، وهي قوله(ص): (الآن حَمي الوطيس).
(من لا يحضره الفقيه ج4 ص 272) و(تاريخ الخميس ج1 ص 406) قالها (ص) في حُنين، أي اشتدت الحرب وقامت على ساق.
والوطيس، موقد النار شبه التنور، والمراد به أنّ الشجاعة تنفع الآن. ويجب على كل أحد أن يبذل جهده حينئذ ولو وقع بعض الفتور أو الاحتياط وقعت المغلوبية، وفيها خسران الدنيا والآخرة. وحينما يكون التنور حارّاً يجب انتهاز الفرصة بالاختباز؛ لأنه لو برد لما أمكن ذلك.
واعلموا أيها المسلمون إنّ الثورة الإسلامية في إيران ـ بزعامة قائدها المرجع الديني الإمام الخميني أيّده الله لِما يحب ويرضى ـ وطيس حار مشتعل بالوعي والحرية والاستقلال والحركة والكفاح والقتال والجهاد والمجاهدة؛ لأن الشعب الإيراني المسلم قد هاجر الهجرتين اللتين أشار إليها رسول الله(ص) في قوله:
(إنّ الهجرة خصلتان؛ إحداهما أن تهجر الشر، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله).[84]
وسارع إلى المغفرة من ربّه، وسابق إلى الخيرات بتحمّل أعباء الاضطهاد والنهب والقتل والسبي، وتخريب البيوت، وهدم الشوارع والمخازن والمزارع والمصانع والمدارس والمستشفيات ونحوها، وكل ذلك لله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله(ص)، قطعاً لأيادي الامبريالية والصهيونية وكل باغ وطاغ، طلباً للإصلاح في الجامعة الإنسانية بأن لا تعبد إلاّ ربّها الذي هو ربّ العالمين، ولا تشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
فهذا الوطيس حار بحرارة الإيمان والشهادة:
معاشر المسلمين: استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام. وأكملوا اللاّمة، وقلقوا السيوف في أغمادها قبل سلَّها. والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبا، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله، ومع ابن عمِّ رسول الله. فعاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرِّ، فإنه عارٌ في الأعقاب، ونارُ يوم الحساب. وطيبوا عن أنفسكمُ نفساً، وامشوا إلى الموت مشياً سُجُحاً، وعليكم بهذا السّواد الأعظم، والرِّواق المُطنَّب، فاضربوا ثبجة فإن الشيطان كامنٌ في كسره، وقد قدم للوثبة يداً، وأخّر للنكوص رجلاً، فصمداً صمداً! حتى ينجلي لكم عمودُ الحق{وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.[85]
واعلموا عباد الله أنّ الله سبحانه لن يَترِ عمل قوم أخلصوا له في تحمّل الاضطهاد والشوق نحو الشهادة، غذ العمل الإلهي مشفوع بالنتيجة وليس موتوراً عنها؛ لأن الباطل موتور ويذهب جفاءً، وأما الحق فيمكث في الأرض، ولهذا نهى الله سبحانه عن الوهن، وعن الدعوة إلى السِلْم والحال هذه, أي إذا اشتدّ وطيس الحرب بأبدان قطعت في سبيله ارباً ارباً، ورؤوس أطيح بها في طريقه وبمصائب أخر لا يقدر البيان والبنان على شرحها فلا مجال للسِلْم، بل الأمر منحصر في الشهادة أو الانتصار.
قال سبحانه:
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}[86]
أي لا تهنوا ولا تدعوا إلى المسالمة، واعلموا أنكم أنتم الأعلون؛ لأن الله القاهر فوق عباده معكم، ولن يقطع أعمالكم الصالحة عن الإنتاج، ولن يتركم عن ثمرات مجاهداتكم، ولا يجعلها وتراً فرداً بل يجعلها شفعاً وزوجاً بالإنتاج؛ لأن العمل المنتج شفع، والعمل العقيم وتر، وحاشا الله سبحانه أن يَعِدَ عباده الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالنصر ويقول لهم: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ويقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ويقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ويقول: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ويقول: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ}.. ثم لا يفي به سبحانه الذي لا يخلف وعده ولا يطقع رجاء من رجاه، ولا أمل من أمّله سبحانه الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض...
نسأل الله تعالى منازل الشهداء، ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء.[87]
________________________________
[1] القصص:5 ـ6.
[2] آل عمران : 164.
[3] الحجرات:17.
[4] إبراهيم: 13 ـ 14.
[5] فاطر: 28. ولا ينافيه قول السجادع: إنّ أعطيت لم تشب عطاءك بمن ـ دعاء 45 ـ فتدبر ـ.
[6] من لا يحضره الفقيه ج4 ص 258.
[7] الأعراف: 136 ـ 137.
[8] المدثر:5.
[9] 39 ـ 41.
[10] البقرة: 250.
[11] يس:26 ـ27.
[12] النساء:97 ـ 98.
[13] الأعراف: 128.
[14] الأنفال:24.
[15] الأنفال:24.
[16] البقرة: 179.
[17] التوبة:91 ـ 92.
[18] الأنعام:91.
[19] القصص:17.
[20] البداية والنهاية لأبي الفداء ج1، ص: 54.
[21] من لا يحضرهُ الفقيه ج 4 ص: 286.
[22] نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص 452.
[23] نهج البلاغة الكتاب 31.
[24] نهج البلاغة الكتاب 10.
[25] الخطبة 123.
[26] نهج البلاغة الكتاب24.
[27] الأعراف:128.
[28] نهج البلاغة الكتاب53.
[29] الممتحنة:8 ـ9.
[30] طه:42.
[31] الخطبة :24.
[32] سورة القلم:9.
[33] نهج البلاغة، الكلمات القصار، ص: 501.
[34] سبأ:49.
[35] الفتح:29.
[36] الزمر:36.
[37] الزمر:38.
[38] من لا يحضره الفقيه: ج4 ص 275.
[39] يوسف:55.
[40] القصص:26.
[41] النساء:5.
[42] سبأ:46.
[43] الكافي ج5 كتاب المعيشة باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة.
[44] النحل:76.
[45] الكافي؛ باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة.
[46] الكافي ـ الباب السابق.
[47] نهج البلاغة ص 347 صبحي الصالح الخطبة: 225.
[48] الوسائل؛ كتاب التجارة باب:9.
[49] الكافي ؛ كتاب المعيشة؛ باب كراهية الكسل.
[50] الكافي باب الصناعات.
[51] الكافي: كتاب المعيشة: باب النوادر ح 15.
[52] من لا يحضره الفقيه: ج3، ص 104.
[53] الحشر:7.
[54] من لا يحضره الفقيه ج4 ص 273.
[55] هود:113.
[56] المائدة:51 ـ52.
[57] التبيان للطوسي ج8 ص: 497.
[58] التوبة:12.
[59] نهج البلاغة، الكلمات القصار ص 531 ـ صبحي الصالح.
[60] وسائل الشيعة:ج12 ص:39
[61] من لا يحضره الفقيه، ج4 ص: 289 ح 48.
[62] آل عمران:103.
[63] الشورى:13.
[64] الأنعام:153.
[65] آل عمران:105.
[66] الأنفال:15.
[67] الأنفال:45.
[68] الأنفال:46.
[69] الممتحنة:2.
[70] من لا يحضره الفقيه ج4، ص 6.
[71] نهج البلاغة، صبحي الصالح ص :511.
[72] الأنفال:63.
[73] قال النبي ص: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكمسنن ابن ماجة ـ كتاب الزهد ـ باب القناعة.
[74] وسائل الشيعة:ج15 ص235
[75] وسائل الشيعة:ج15 ص307
[76] نهج البلاغة الخطبة127.
[77] نهج البلاغة الخطبة86.
[78] نهج البلاغة؛ الكتاب 78.
[79] مناهل العرفان ج1، ص 299 عن البخاري.
[80] مسند احمد:ج4 ص404
[81] مسند احمد:ج4 ص770
[82] صحيح مسلم الجزء الثامن ص 20 باب تراحم المؤمنين
[83] الحجرات:10.
[84] البداية والنهاية لأبي الفداء، ج1 ص 202.
[85] نهج البلاغة الخطبة 66.
[86] محمد ص:35.
[87] نهج البلاغة الخطبة 23.

السابق

مركز الصدرين للدراسات السياسية