مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

هذه ـ قارئي العزيز ـ ليست قصة ، فلست قصاصة ولا كاتبة للقصة ... بل أني لم أحاول قبل الآن أن أكتب قصة. إلا أن هذا الذي أقدمه اليوم إليك ، راجية أن ينال منك الرضا والقبول ، لا يعدو أن يكون صورة من صور المجتمع الذي نعيشه وانموذجاً من واقع الحياة التي نحياها. حيث تتصارع قوى الخير والشر وتلتحم العقيدة بجيشها الفكري والروحي في معركة مع حضارات الاستعمار وأخلاق المستعمرين.
أنا لا أقول أن الخيال لعب دوره في تجسيد صورة محدودة لهذا الصراع لكي يبرزه بطريقة ترضيك وتدفعك إلى متابعته ولكن غايتي الواقعية ، هي إبراز جوهر الصراع لا رتوشاته وهوامشه.. فإذا كنت قد نجحت في الجوهر والصورة معاً فهذا غاية ما أتمناه وإلا فأني على ثقة من قدرة قصتك هذه على إبراز المحتوى العقائدي للصراع الدائر بين دعوتي الفضيلة والرذيلة وجوهر التناقض الذي تعاني منه حياة كل


( 12 )

مسلم ومسلمة في هذا العصر. على أن ما قمت به لا يعدو عن كونه محاولة بنّاءة لفتح الطريق وتعبيده بغية السير في إحياء جهاز إعلامي صامت من أجهزة الاعلام التي تواكب سيرنا ونحن في بداية المنعطف.

بنت الهدى


( 13 )

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول


في شرفة أحد المنازل جلست فتاتان تكبر أحداهما الأخرى ببضع سنين ، وإن كانت كبراهما تبدو أكبر من واقعها ، نظراً لتراكم الأصباغ على وجهها ، وتعقيد تسريحتها ومكياجها الصارخ ... لكن الثانية كانت على العكس منها ؛ فهي تبدو وكأنها في السادسة عشر ، مع أنها تناهز العشرين .. وكان شعرها الذهبي مرسلاً على كتفيها ببساطة محببة ، وقد دل وضعها على أنها هي صاحبة البيت ، وكانت تستمع إلى رفيقتها ... وقد لاحت على ملامحها علامات الاستياء ، فلم يكن كلام صاحبتها بالكلام المهذب ، ولم تكن قد اعتادت على الخوض في مثله أو الاستماع إلى هذا النمط من الحديث ، فمحدثتها هذه هي بنت خالتها وقد رجعت وشيكاً من أوروبا بعد مدة قضتها هناك بأمل أن يحصل زوجها على شهادة جامعية ، وبعد أن يأسا من ذلك عادا دون أن يتمكن زوجها من نيل الشهادة . تلك هي سعاد ... وقد سمعت أخيراً نبأ عقد قران بنت خالتها نقاء فبادرت إلى زيارتها بعد


( 14 )

سماعها للخبر مباشرة وهي مدفوعة إلى ذلك بدوافع عديدة ... وفعلاً فقد كانت تمهد الطريق للدخول في الموضوع فهي مندفعة تحدث بنت خالتها عن أوروبا وعن معالم الحضارة التي سحرتها ، وتحبب إليها السفر إلى هناك ، وتحشو حديثها بكلمات ونكات مبتذلة كان لها تأثير عكسي على نقاء ! فقد كانت تتجهم بدلاً عن الضحك ، وتضيق بالحديث بدلاً من الخوض فيه. فهي فتاة مهذبة نشأت في أحضان أسرة مستقيمة محافظة حريصة على الآداب الدينية. وقد عقد قرانها على شاب عريق الأصل رفيع المنبت حاصل على شهادة ( الليسانس ) يدير محلاً تجارياً يستورد فيه البضائع من الخارج. وعلى هذا فقد استقل بعمله التجاري الذي يدر كان أرباحاً طائلة وهو شاب مسلم واقعي يؤمن بالاسلام كمبدأ وعقيدة ونظام . وقد عجل بالعقد الشرعي ليملك حريته في الاتصال بعروسه. وقد قامت بينهما بعد ذلك علاقة حب وإعجاب متبادل أخذت تتزايد على مر الأيام ، وكانت بعض ظروف الزوج الخاصة تستوجب تأخير الزفاف. وقد ضاعت اتصال نقاء بعريسها من ثبات روحياتها العالية ومن حرصها البالغ على مثل الاسلام وآدابه .. ولهذا فقد كان من حق نقاء أن تستنكر على بنت خالتها أغلب ما كانت تقول ... ولكنها لم تر من اللائق أن ترد عليها أو تعارضها بعنف ـ بما أن سعاد ضيفتها ـ واكتفت بالاستماع. وبعد أن أتمت سعاد كل ما في جعبتها من كلام سكتت برهة ثم أردفت قائلة :


( 15 )

ـ إن أحسن منطقة تقضيان فيها شهر العسل هي إحدى دول أوروبا.
وهنا رأت نقاء أن الواجب يدعوها لكي ترد ، فأجابت :
ـ أوروبا ! لا ، نحن لن نذهب إلى أي بلد أوروبي ... ولكن قد نذهب إلى بعض البلدان الاسلامية...
وضحكت سعاد وهي ترد عليها في شيء من التهكم.
ـ لعلكما تنويان أن تقضيا شهر عسلكما في مكة وفي موسم الحج ..
ـ لا ، قد نذهب إلى الحج ولكن ليس خلال أيام شهر العسل.
ـ ولماذا لا تقترحين على زوجك السفر إلى لندن أو باريس هل تعتقدين أنه يتمكن على ذلك من الناحية المادية ؟
ـ إن المادة ليست كل شيء يا سعاد ! ولكن إبراهيم لن يوافق على ذلك مطلقاً وكذلك أنا أيضاً.
ـ لعله يخشى السفر بالطائرة ، يمكنكما إذن أن تسافرا في السيارة أو على ظهر الباخرة. وعلى فكرة هل يملك زوجك سيارة يا نقاء ؟
ـ السيارة موجودة يا سعاد ، وهو لا يخاف من ركوب الطائرة أبداً ، ولكن ابراهيم شاب مسلم محافظ لا يحلو له أن يقضي شهر العسل في أوروبا.


( 16 )

ـ آه ... هل هو متأخر إلى هذا الحد ؟ إن هذا شيء مخيف ، له ما بعده يا نقاء ...
ـ لا يا سعاد أنه شاب مثقف متنور الأفكار.
ـ إذن فما الذي يمنعه من السفر معك إلى أوروبا ؟
ـ الدين ...
ـ ماذا ! الدين ؟!
ـ نعم ، الدين ... والدين فقط.
ـ هل أتمكن أن أفهم من هذا أن زوجك رجل متدين ؟!
ـ نعم ، والحمد لله.
ـ أنتِ تقولين : والحمد لله ، لأنك تجهلين معنى أن تتزوج فتاة عصرية مثقفة من رجل متدين وتجهلين ما يستوجب ذلك من قيود وحدود وأحكام صارمة.
ـ لا ، أبداً أنا لست كما تظنين غافلة أو جاهلة ، ولكني فتاة مسلمة أعرف أن للاسلام أحكامه وآدابه...
ـ وهل قوانين الاسلام إلا قيود تشدك بأغلالها القاسية ! وهل آدابه سوى أغوار سحيقة تحجبك عن المجتمع تحت سجوفها ؟
أنت تقفين الآن على أبواب الحياة فلا تمكني الأفكار الرجعية أن تشوه مستقبلك السعيد...
أنتِ غلطانة يا سعاد ! إبراهيم قادر على أن يهبني السعادة الواقعية في الحياة ، وأنا لا أهوى غير السعادة التي


( 17 )

يهيأها لي ، فقد أصبح بالنسبة لي كل شيء...
ـ بالرغم من هذا ، فأنك لن تصبحي له كل شيء بل ولن تتمكني أن تكوني عنده شيئاً بل ستكونين على هامش حياته وعلى الهامش دائماً !
ـ سعاد !! إسحبي كلامك بسرعة ، فأن لي لدى إبراهيم المنزلة اللائقة والمحل الرفيع ، الرفيع من الحب والحنان...
ـ ما دمت في دور الخطوبة وما دامت لم يتمتع بك كما يريد ، ولكنه متى اطمأن إلى استيلائه عليك سوف ترين الرجل المسلم كيف يكون !!
ـ وأنت ألست مسملة يا سعاد ؟!
ـ طبعاً أنا مسلمة ولكن ليس على غرار إسلام إبراهيم ، فمن رأيي أن للمرأة الحرية الكاملة بالتمتع في الحياة وبما فيها من بهارج ولذائذ ، ولكن إبراهيم يأبى إلا أن يجعل من المرأة العوبة طيعة وأداة محكومة لا أكثر ولا أقل.
ـ عجيب أمرك يا سعاد ! ما الذي يدفعك إلى هذه النقمة التي تنقمينها على الاسلام وأنت مسلمة !؟ هل خدعتك أوربا ؟!.
ـ أبداً ... لم تخدعني أوروبا ، ولكن حبي لك هو الذي دفعني إلى التصريح بآرائي في هذا الصدد. لقد سررت كثيراً عندما سمعت نبأ خطوبتك يا نقاء ... ولكن الآن ؟!


( 18 )

ـ ولكن الآن ماذا ؟!.
ـ إذا أردت الواقع فأني قد أسفت بل حزنت ، فقد كنت أعدك لمستقبل أفضل...
ـ ما يدريك يا سعاد ، فلعلني سعيدة جداً ، كما أنا في الواقع.
ـ إذا كان زوجك من النفر الذين يتمشدقون بالاسلام ومفاهيمة فهو لن يتمكن من اسعادك مطلقاً.
ـ أنا لا أرتاح إلى تعبيرك هذا يا سعاد ، فمن تعنين بالنفر ؟ ليس الاسلام وقفاً على نفر فحسب ، ألا ترين الملايين المؤمنة بالإسلام في كل مكان ؟
ـ أنا أقصد بالنفر : هؤلاء الذين برزوا علينا بأقاويلهم الجوفاء التي لا يبغون من ورائها سوى سيطرتهم على جنس المرأة ، والتحكم فيها ، بفرض القيود والالتزامات.
ـ ولكن الرجل المسلم ، له أيضاً أحكامه الخاصة والتزاماته المعينة ، وليست الالتزامات وقفاً على النساء فقط.
ـ لكنهم أحرار يفعلون ما يشاؤون بدون رقيب أو حسيب. أو لم يذهب إبراهيم إلى أوروبا من قبل ، ألا يعتزم أن يذهب إليها بعد الآن ؟
ـ أنه سوف يذهب إلى فرنسا بعد مدة وجيزة لأجل


( 19 )

التعاقد مع إحدى الشركات ، ولتقديم أطروحته للحصول على شهادة الدكتوراه.
ـ فهذا إذن حلال ، ولكن ذهابك حرام. أنه في حل من الاسلام مهما دار وسار ولكن قيود الاسلام لا تطوق سوى عنقك يا نقاء.
ـ أنا لست مقيدة يا سعاد ؟ فأنا سعيدة بإبراهيم ، وبكل مثله ومفاهيمه.
ـ أنا آمل أن تكوني سعيدة ولكنك الآن في غفلة وأخشى أن لا تصحي منها إلا بعد فوات الأوان.
ـ ماذا تعنين يا سعاد ؟..
ـ أعني أن الزواج لا يمكن أن يكون زواجاً ناجحاً إذا لم يكن قائماً على أساس من مفاهيم الحضارة الحديثة ، والفتاة لن تحصل على السعادة إلا بزواج ناجح ، ولهذا ترين أن الفتاة العصرية أخذت تتحرر من قيود أهلها وتستقل باختيار الزوج الذي تريده.
ـ أنا وابراهيم على اتفاق تام ولن تزيدنا الأيام إلا ثقة وتفان ووئاماً.
ـ قد تبقين أنت قائمة على إخلاصك يا نقاء ، ولكن الرجال ليسوا كالمرأة أنهم يخدعون زوجاتهم بأساليب وأساليب ، منها الدين ومنها العفة والفضيلة ، فهم يحتجزونها


( 20 )

في الدار بحجة أنها مسلمة ، ويضنون عليها بكل غال ونفيس ببرهان أنها عفيفة فاضلة.
ـ وهل تعتبرين جلوس المرأة في دارها وعشها السعيد احتجازاً ؟!.
ـ نعم ، فالمرأة لا تتمكن من الاحتفاظ بزوجها إلا إذا سايرته ورافقته في رحلاته وسفراته وحفلاته ، ولكن المرأة التي تقبع في عقر دارها وتترك لزوجها الحبل على الغارب لا يمكن لها أن تركن إلى دوام سعادتها في الحياة الزوجية.
ـ وهل تعرفين إبراهيم يا سعاد ؟ ليتك كنت عرفتيه ...
هنا سكتت سعاد لحظة حاولت فيها أن يبدو صوتها طبيعياً وهي تقول :
ـ لم يسبق لي أن رأيته يا عزيزتي.
ـ لو عرفتيه لتبدلت نظرتك نحوه تبدلاً كلياً يا سعاد ! فهو رجل مثالي ، حلم العذارى المؤمنات ...
وبدا الارتباك على سعاد ، وتملمت في جلستها ، ثم قامت وهي تقول :
ـ عليّ الآن أن أذهب فقد طال بي الجلوس ، ثم أني مدعوة إلى حفلة هذه الليلة.
وعجبت نقاء لفورية عزم سعاد على الخروج ، فقد كانت


( 21 )

مندفعة في كلامها وكأنها لا تنوي الانصراف ، وعندما ودعتها ورجعت كان صوت أمها يتناهى إليها وهو يناديها من داخل الدار :
ـ نقاء ... نقاء ... أين أنتِ يا عزيزتي ؟
ـ ها أنا ذي يا اُماه.
ـ منذ ساعة وأنتِ جالسة وحدك في الشرفة.
ـ لا يا ماما ، لم أكن وحدي فقد كانت معي سعاد.
ـ سعاد ! ألم تنصرف سعاد منذ ساعة أو أكثر.
ـ نعم ولكنها اقترحت عليّ أن نجلس قليلاً في الشرفة.
ـ لماذا ؟!.
ـ لا أدري.
ـ ولكن أمك أدرى يا نقاء .. لابد وأنا كانت تحدثك عن أوروبا وحضارتها المزعومة.
ـ تماماً كما قلت يا ماما.
ـ الويل لها من غريرة ، ألم يكفها أنها لوثتها حضارة الغرب لتجيء وتسكب على أذنيك كلماتها السامة ، أنها خشيت أن تخوض في هذا الموضوع أمامي ، فآثرت أن تجتمع بك على حدة . يا لها من شيطانة.
ـ أماه ! إنها بنت أختك فلا يصح لك ان تنعتيها بهذه الأوصاف !
ـ أنا بريئة منها ومن سلوكها المنحرف ، أنها كانت السبب


( 22 )

في التعجيل بموت أختي ، فلم تكن أمها تطيق منها هذا السلوك ، والآن تعالي حدثيني عما كانت تحدثك عنه سعاد ، لأرى أي نوع من الحديث هو ؟
ـ دعي عنك ذلك يا ماما ، فهي لم تقصد من وراء كلامها أي سوء.
ـ ليتها كانت هكذا ، وليتك تعرفينها على حقيقتها لكي لا تغرك بكلماتها المعسولة.
ـ هوني عليك يا ماما ، فأنا لا أتأثر بكلام سعاد وأفكارها ولكني لا أوافق على نعتها بهذه النعوت ، أنها بنت خالتي على كل حال.
ثم ذهبت نقاء إلى غرفتها واستلقت على سريرها ، وهي تحاول أن تصرف أفكارها عن سعاد ، فهي لا تشك لحظة في اخلاص ابراهيم ، وأنه سوف لن يتوانى عن تهيئة جميع أسباب السعادة لها في الحاضر والمستقبل ، ثم أنها بطبعها أيضاً كانت تشعر بخطأ سعاد وانحرافها بأفكارها عن الصواب ... فكرت بالمكسب الذي جنته سعاد من حياتها هذه وهي لم تحصل أخيراً إلا على زوج عاطل ، لم يتمكن حتى من نيل شهادة جامعية أولية ، سواءاً في بلده أو في الخارج.
وقد استعاض عن ذلك بأمواله التي ورثها عن أبيه ينفق منها ما يشاء في مغامراته ولهوه دون أن يتخذ نعمة الله


( 23 )

مصاريف خير وطمأنينة وهناء ، لكن سعاد لم يكن يهمها غير المال ، ولا تعيش إلا لأجله. وصممت نقاء على أن تسأل إبراهيم عن واقع المرأة في الاسلام ، وعن حقيقة نظرته نحوها ، فهي واثقة من أنه كفيل بإيضاح الواقع وتفسير ناحية فرق المرأة عن الرجل في الاسلام.

 

الفصول || التالي