أما سعاد فقد استقلت سيارتها ، وانطلقت بأقصى
سرعة ، وكأنها كانت تحاول أن تصب جام غضبها على هذه
الآلات المتحركة ، وعندما وصلت الدار توجهت إلى غرفتها
دون أن تعرج على الصالون ، لترى زوجها هل رجع أم لا ؟
وألقت بنفسها على الكرسي وهي في حالة انفعال عصيب.
وتمتمت قائلة :
ـ الويل له من عنيد ، ألم يكفه أنه ردني عن نفسه ذلك
الرد القاسي حتى جاء لينكث جراحي ، فخطب نقاء ، فهو
يظن أن نقاء تنسجم مع مفاهيمه ومثله ، وهي التي لا ميزة لها
عليّ إلا لتوهمه أنها فتاة فاضلة ... أنا التي سعيت إليه بنفسي
قبل أربع سنوات ، لم يستجب لتوسلاتي بحجة أني طائشة
ومنحرفة عن آداب الاسلام ، الاسلام الذي يؤمن بمفاهيمه ،
ولكنه سوف يعلم أن نقاء هذه لن تكون غير غانية لعوب ،
سوف أعرف كيف أنفث فيها السم الذي تجرعته من قبل ،
والذي أدى إلى ما أنا عليه من ضيعة وتفاهة في الحياة ، سوف
أسدد نحوها نفس السهم الذي أرداني وحرمني من إبراهيم ،
( 26 )
سهم الحضارة الحديثة ، سوف أجعلها واحدة من آلاف
الفتيات المخدوعات اللواتي سرن وراء النفير الأجنبي
فتحطمت حياتهن من جراء ذلك ، أو لست واحدة
منهن ؟ ... ألم أضطر أخيراً إلى الزواج من هذا الرجل التافه
على أمل أن أشبع نهمي إلى المال وأتمتع بما تصبو إليه نفسي
من متعه ولهو ؟ ... ألم أخضع لسلطان ماله فتجرعت مجونه
وتبذله لكي أبقي على الذهب بين يدي ؟ .. سوف أحرم نقاء
من إبراهيم كما حرمني نفسه من قبل. سوف لن أمكنه من
الحصول على غايته المنشودة ، فهو كان يسعى خلف زوجة
مثالية مسلمة مستقيمة ... وسوف أريه أن ذلك محال ، سوف
يعرف أن نقاء لا تختلف عن سعاد لو أتيحت لها الفرصة ،
أنه يذهب للحصول على شهادة الدكتوراه في الوقت الذي لم
يحصل زوجي حتى على شهادة جامعية أولية. محال أن أدع
نقاء تنعم بزوج كإبراهيم ، أنا كنت أعرف أنه رجل عبقري
صلب العقيدة ولكنه عنيد رجعي مغرور.
وهنا شعرت سعاد أن باب غرفتها يفتح ببطىء ،
فتطلعت نحوها لترى زوجها محمود وقد ارتسمت على وجهه
ابتسامة تخابث ثم قال :
لقد ظننتك مريضة يا سعاد وأنت تتجهين إلى غرفتك
دون أن تعرجي عليّ ، والان هل لي أن أدخل ؟ ...
ـ وحاولت سعاد أن تبدو طبيعية ، وهي ترد عليه قائلة :
( 27 )
ـ كنت أشعر بصداع شديد منعني أن أعرج على الصالون.
ـ ولكنك الآن في صحة جيدة ، ثم هل أن جلوسك على
هذا الكرسي وأنت في كامل ملابسك شيء مريح ؟ أم أن
مجرد رؤيتي بالخصوص كانت تتعبك يا سعاد ؟
ـ أرجوك يا محمود ... أراك لا تتوانى عن إثارتي في كل
مناسبة ، أنا لم أكن أعرف وجودك في البيت.
ـ شكراً .. ألم تلاحظي وقوف السيارة في الباب ؟!..
ـ أبداً ... فقد فاتني ذلك.
ـ لابد أنك كنت في شغل شاغل عن ذلك.
ـ قلت لك : أنني كنت أشعر بصداع شديد.
ـ ولكنك الآن على ما يبدو في أحسن صحة والحمد لله ؟
ـ محمود ... ما لي أراك تأبى إلا أن تغيظني بأية طريقة ؟
ـ معاذ الله يا سعاد ، فما أنا سوى واحد من عشرات
الراكعين على قدميك ، قدميك ، و...
ـ يكفي يا محمود ، أنا أعرف كلماتك وأقاويلك مقدماً
( 28 )
فلا داعي لتكرارها ، فأنا أصبحت أتمكن أن أخمن ما الذي
سوف تتحفني به من حكم وآيات.
ـ وهل تروقك الحكم يا سعاد ؟ أو هل تتمكني أن
تفهمي حكمة واحدة لو كنت حكيماً ؟ إن من حسن طالعك
أن ساقني الحظ إليك ، فأنت لا تكوني تصلحي لزوج سواي.
ـ وأنت ، هل أن هناك امرأة كانت تطيقك غيري وأنت
على ما عليه من تفاهة في الحياة ؟ أنت تتكلم عني وتنسى نفسك.
ـ وكيف ؟ هل أنا سيء إلى هذه الدرجة ؟.
ـ المهم أن تعرف أني لو لم أكن زوجة ممتازة لما تحملتك
يوماً واحداً فليس لديك ما يحببك إلى المرأة.
ـ فلماذا إذن رضيت بي زوجاً ؟ ولماذا طلبت مني ذلك
ودعوتني إليه ؟!.
ـ يا لك من رجل وضيع ...
ـ لا بأس يا سعاد ، أنا أعلم أن عندي ما
يشدك إليّ ، أنت تعبدين المال وعندي منه الشيء الكثير ،
وعندك أيضاً ما يشدني إليك فأنا أعبد اللذة والجمال وعندك
( 29 )
منهما الشيء الكثير ، ثم أني أريد أن أعيش حراً ، فلابد وأن
تكون زوجتي حرة أيضاً ، وعلى هذا فإن كلاً منّا مشدود لصاحبه.
ـ هل انتهيت يا محمود ؟
ـ لا ... فمنذ يومين لم أتمكن أن أراك لحظة واحدة ،
لياليك في الحفلات ... وساعات نهارك في محلات
التجميل ... وكأنك قد نسيت أن لك زوجاً وبيتاً ... لا
أدري ماذا كنا سنصنع لو كان لدينا طفل ؟
نطق محمود بكلمته الأخيرة بمرارة وكأنه ينتزعها من فمه
انتزاعاً ، ولكن سعاد لم تهمله لكي يكمل هجومها عليها ، فقد
وقفت وهي تقول : أرجوك أن تتركني وحدي يا محمود أنا
تعبانة ومريضة أيضاً ، ولابد لي أن أنام.
ـ إذن فأنتِ لا تريدين أن تتناولي معي طعام العشاء.
ـ لا ، مطلقاً ، إذهب عني يا محمود فإن حالي ليس على ما يرام.
ـ أهكذا تطردينني يا سعاد ، ماذا لو ذهبت إلى غير رجعة ؟.
وكادت سعاد أن ترد عليه قائلة : إذهب لا أرجعك
الله ... ولكنها سرعان ما تمالكت عواطفها ، فمحمود بالنسبة
( 30 )
لها رصيد ضخم من المال ، فهل يصح أن تتنازل عن هذا
الرصيد ؟ أنها لا تحب محمود ، بل أنها تحتقره وتنفر منه ، فهو
لا يعدو عن كونه وجوداً تافهاً في الحياة ، لا يملك غير المال ،
وحتى أساليب لهوه ومجونه هي التي علمته إياها ودلته عليها ،
لكي يتسنى لها أن تعيش معه وهي حرة كما تريد ، ولكن
أمواله وبريق الذهب المكدس في صناديقه ، وداره الفخمة
الشاهقة ، وسيارته الفارهة ، لم يكن في مقدورها التنازل عن
كل هذه الأمور ، ولهذا فقد حاولت أن تطبع على وجهها
ابتسامة كانت قد اعتادت أن تأتي بأمثالها متى شاءت ولمن
شاءت ، ثم قالت :
ـ أنت تعلم يا محمود أنك إذا ذهبت عني فلن تطيب لي
الحياة بدونك ، ولكن الصداع ـ وفي نفسها تقول الصراع ـ هو
الذي يدعوني إلى الانفراد بنفسي والركون إلى الراحة.
ـ ليتك لم تكوني جميلة ، أو ليتني لم اكن عبداً لملذاتي ،
إذن لعرفت كيف أتصرف معك ، وكيف أميت فيك هذا
الغرور ، لابد أنك تودين لو تقولين لي : ليتك لم تكن غنياً ،
فدعيني أنا أقولها بدلاً عنك : ليتني لم أكن غنياً ، إذن لما
وقعت في أحابيلك الشائكة.
ـ يا عزيزي ! أنت تتجنى عليّ كثيراً فأنا لا أحب فيك إلا
شخصك الكريم.
( 31 )
ـ شكراً .. شكراً. وأخيراً أما زلت تصرين على إقصائي ؟
ـ إن جل ما أرجوه أن تكون قريباً مني دائماً ولكن الآن
أرجوك أن تنصرف فأنا في حاجة إلى النوم.
ـ هكذا أنت دائماً ، كلماتك معسولة ، وأفعالك جارحة ،
وها أنا ذاهب فإطمإني.
ثم نهض محمود وغادر الغرفة دون أن يلقي عليها كلمة
وداع ، وساء سعاد أن يتركها محمود غاضباً ، وخشيت إلى
لحظة أن تكون قد فرطت فيه. ولكنها عادت إلى ثقتها
بجمالها وباستحواذها عليه فرددت في نفسها قائلة :
ـ إن هذا لا يهم فهو رهن إشارتي حين الطلب ، لا
يكلفني إرضاؤه سوى بسمة واحدة أو كلمة عذبة ، فلأدعه
يغضب حتى أنهي فكري من ناحية إبراهيم ، ذلك الرجل
العنيد الذي احتقرني وازدراني بحجة المثل والمفاهيم ، والذي
استهان بجمالي وفتوتي ولكوني سافرة ، ولكوني على حد تعبيره منحرفة.
واستلقت في سريرها ، وقد نسيت كل شيء عن محمود ،
وخصامها معه ، فلم يكن هذا بالنسبة لها الشيء الجديد ،
وقد درجا عليه منذ اليوم الأول لزواجهما ، ولكن أفكارها
كانت متجهة إلى ناحية واحدة ، ومتركزة في اتجاه واحد ، وهو
( 32 )
كيفية الانتقام من إبراهيم ، ومن معتقداته وآرائه التي حالت
به دونها ، فهي تسعى إلى أن تنتقم من إبراهيم في شخص
نقاء ، وأن لا تدع نقاء تفوز به دونها ، أنها لن تترك نقاء
تسعد وزوجاً كإبراهيم ، في الوقت الذي تعيش فيه هي مع
زوج مثل محمود ، وسهرت سعاد ليلتها تفكر في أحسن طريقة للانتقام.