مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر


الفصل التاسع

حاولت نقاء أن تجر حديثها مع إبراهيم إلى ذكر أقاربها ، وانتهى بها القول إلى أن تذكر سعاد ، فقالت :
ـ أما بنت خالتي سعاد فهي سيدة شابة جميلة الوجه ، بديعة التكوين ، ولكنها ليست من الطراز الذي يعجبني أو يرضيني.
وأظهر إبراهيم استغرابه لذلك ، فقد كانت أسرة نقاء طيبة السمعة ، مشهورة بالاعتدال ، وأردفت نقاء قائلة :
ـ إنها ربيت يتيمة ، فقد مات أبوها وهي لا تزال طفلة ، وأفرطت أمها في تدليلها ، ولهذا فقد ركبها الغرور والطيش ، وقد تزوجت وسافرت مع زوجها إلى أوروبا ، على أمل أن يحصل زوجها على شهادة جامعية ، بعد أن فشل في تحصيلها هنا ، ولكنه فشل هنا أيضاً ، وقد رجعا بعد قراننا بأيام ، ولكن سعاد لم تفهم ذلك إلا متأخراً ، فأنا لم أزرها عند عودتها من أوروبا ، وقد جاءت لزيارتي مرتين أو ثلاثة.
وكان إبراهيم ساكتاً يستمع إلى نقاء ، ولكنها قرأت على


( 96 )

وجهه علائم عدم الارتياح .. واستمرت تقول :
ـ إنها متطرفة أكثر مما يجوز بكثير ، فقد أعشت عينيها أنوار أوروبا الخداعة ، فهي دائمة التحدث عن معالم حضارتها.
ـ ومن تكون بنت خالتك هذه أو من يكون زوجها بتعبير أصح ؟!.
ـ إنها سعاد ، ولا أعرف عن زوجها سوى أن اسمه محمود ، وهو مفرط في الثراء.
ـ ثراء وفراغ وجهل ، إن هذه العوامل هي أخطر ما تكون على المرء.
ـ والجمال أيضاً ، فسعاد جميلة جداً يا إبراهيم إنها آية في الرشاقة والإناقة ، وقد كنت أحتفظ لها بصورة عند ، قدمتها لي منذ سنوات.
ثم نهضت وجاءت بـ ( البوم ) التصاوير. وقلبته حتى استخرجت منه صورة سعاد ، وقدمتها لابراهيم قائلة :
ـ هذه صورتها قبل زواجها وقبل سفرها إلى أوروبا.
ثم عادت نقاء تقلب ( ألبومها ) لتنتقي منه بعض صور تذكارية تريها لابراهيم ، ولذلك فقد فاتها ملاحظة الصفرة التي علت وجه إبراهيم عند رؤيته لصورة سعاد وقد عرفها لأول وهلة ، وعرف أنها هي تلك الفتاة اللعوب التي تابعته


( 97 )

بغزلها حيناً من الزمان. وعجب أن تكون هذه الغانية قريبة لنقاء ، وساءه أنها على إتصال بزوجته ، وما يدريه فلعلها سوف لن ترتاح إلى هذه الزوجة السعيدة ، وتعمل على خرابها ، وهم أن يقول لنقاء : إن هذه ليست سوى امرأة مبتذلة نزقة فتجنبيها جهدك يا نقاء !. ولكنه عاد فتذكر أنها الآن زوجة وربة بيت فلعلها قد أقلعت عن الاعيبها الصبيانية ونزواتها الطائشة ، فلا يصح له أن يبعث ماضيها من جديد ، أو ينبش ما لعلها دفنته بين صفحات السنين الماضية. وهكذا حال دافع الخير عنده عن التصريح بما يعرف عن سعاد . ثم أنه لم يكن يريد أن يخبر نقاء بموقف سعاد منه ، لئلا يجعلها في حرج من اتصالها بسعاد . وهو أيضاً يأبى أن يكدر صفاء ذهنها بأمثال هذه الحوادث ، ويود جاهداً أن ينأى بها عن كل ما يخدش روحها ، أو يكدر أفكارها . وبما أن دوافع الخير كانت هي المسيطرة على إبراهيم في تلك اللحظة ، فقد اكتفى بأن أرجع الصورة دون أن يعلق عليها بحرف ، ورفعت نقاء رأسها عن ( الألبوم ) وقالت :
ـ أرأيت كيف أنها جميلة ؟ ليت روحها كانت قد اكتسبت شيئاً من هذه الروعة الخلقية.
فابتسم إبراهيم ابتسامة باهتة ، وقال :
ـ أنا لا أنكر أنها جميلة ، ولكني لا أستسيغ هذا النوع من الجمال المتكلف ، الذي لم تحصل عليه صاحبته إلا بعد جهد جهيد ،


( 98 )

ثم أنه جمال مبطن بالبشاعة يخفي وراءه عوامل كثيرة ، كلها ليست خيرة ولا صالحة ، فالجمال الحقيقي هو الجمال الطبيعي الطاهر ، لا الجمال السطحي الملوث الذي تصنعه محلات التجميل.
وعجبت نقاء من أن إبراهيم قد تمكن من التعرف على شخصية سعاد الواقعية ، على أثر نظرة واحدة لتصوير صغير ، وكانت قد استردت الصورة منه ، فهمت بوضعها في محلها من ( الألبوم ) وهي تقول :
ـ نعم إنها تماماً كما تقول يا إبراهيم !..
لكن إبراهيم سارع فأمسك يدها برفق وهو يقول :
ـ لا ... لا تفعلي هذا يا نقاء ! فإن ( ألبومك ) يضم مجموعة خيرة من الصور الفاضلة ، لا تدعي هذه الصورة تدنسه باندساسها فيه ، أنا لا أريد أن أطلب منك تمزيق الصورة ، ولكني أود أن تحتفظي بها بعيداً عن هذه الصور الثمينة.
ورفعت نقاء وجهها نحو إبراهيم ، وتأملته لحظة قرأت فيها على وجهه المعبر ما لم يرد أن يفوه به ، فمدت يدها نحو الصورة ، وشرعت تمزقها إلى قطع صغيرة ، وهي تقول :
ـ إذا كنت أنت لا تطلب ذلك مني ، فأنا سوف أمزقها بيدي يا إبراهيم ! لكي لا يعود لسعاد عندي أثر...


( 99 )

ـ وتهلل وجه إبراهيم ، وهو يرى نقاء تمزق الصورة بهدوء ، صورة الفتاة التي جعلته يكفر إلى حين بالمرأة . وها هي نقاء تزيده إيماناً بوجود المرأة الصالحة ... وردد وكأنه يحدث نفسه قائلاً : الحمد لله .. وأسعد نقاء أن ترى الفرحة قد شاعت على قسمات وجه زوجها الحبيب ، ولذلك فقد حرصت على أن لا تعود إلى ذكر سعاد مرة أخرى لكي لا تكدر عليه صفوه وهناءه.


( 100 )



( 101 )

الفصل العاشر

كانت سعاد تعيش في دوامة من الانفعالات وكان اهم ما يشغل أفكارها هو تخطيط أساليب الانتقام من ابراهيم ، ومن قيمه ومفاهيمه ، فهي تشعر بنار الحقد والنقمة تنهش صدرها نهشاً فتحرمها من الراحة والاستقرار...
وكان محمود قد تمادى خلال الآونة الأخيرة في تجاهلها ، وبالسير وراء نزواته ونزعاته ولكنها لم تكن تولي ذلك أي أهمية ، فهي واثقة من أنها تتمكن وبسهولة أن تخضعه لها متى شاءت .. فلم يكن انصرافه هذا إلا لاهمالها الكلي له في هذه الأسابيع .. وكانت تستعرض في ذهنها أشكالاً من أساليب الانتقام.
وفي ليلة أرقت ، وهي تفكر في خطة ناجحة تسلك بها طريقاً نحو الانتقام ، فقد كانت شخصية نقاء تقف حائلاً أمامها دون أغلب الخطط ، وفي تلك الليلة ظنت أنها قد توصلت أخيراً إلى أضمن طريقة توصلها إلى ما تريد ، ونامت على أمل راسخ في النجاح ... وفي الصباح كان عليها أن تقوم بأول أدوار خطتها تلك .. وهو الالتفاف مؤقتاً نحو


( 102 )

محمود ... فقرعت الجرس واستدعت سنية لتساعدها على الاستحمام ، وبعد أن أتمت ذلك ، تلفعت بثوب حريري شفاف ، وصففت شعرها باتقان ، واختارت من مجموعة عطورها أعذبه رائحة ، وأقواه تأثيراً ... وكانت سنية لا تزال واقفة في ركن الغرفة تتابع حركاتها باهتمام بالغ ... وأكملت سعاد زينتها ، وألقت على مرآتها نظرة رضاء ... لم يفت سنية ملاحظتها أيضاً .. ثم توجهت نحو باب الغرفة ، فابتدرتها سنية قائلة في دهشة :
ـ هل أن سيدتي تنتظر ضيوفاً في هذا الصباح ؟!
وضحكت سعاد ضحكة قصيرة وقالت :
ـ وهل تظنين أني أستقبل ضيوفي بـ ( الروب ) ؟!
وردت سنية بجرأة قائلة :
ـ إذن فإلى أين أنت ذاهبة ؟
ولم تلتفت نحوها سعاد ، وقالت وهي تفتح باب الغرفة :
ـ أنا ذاهبة إلى محمود ...
ثم أغلقت خلفها الباب ، وخلفت سنية وحدها في الغرفة ، وهي تكاد تنفجر غيرة وحنقاً ... وأحست سعاد بمرارة لا تفوقها مرارة ، إذ وجدت أنها قد أصبحت أخيراً وهي غريمة لسنية ، وصيفتها من قبل ... وكأن لسنية الحق


( 103 )

الأول في محمود ، وودت لو تمكنت من الفرار من هذا الجحيم الذي أضحت تعيشه في بيتها ، ومن الذلة التي أخذت تستشعرها وهي ربة هذا البيت ، ولكنها لم تكن تتمكن من الفرار وبريق الذهب يلمع أمام عينيها فيه ، ورنين المال يشنف أسماعها في أرجائه ، وبلغت غرفة محمود فقرعت الباب بخفة ، ثم أدارت أكرة الباب وهي تقول :
ـ هل تسمح لي بالدخول ...؟
ولم تنتظر جواب محمود ، فدخلت بعد ان طبعت على وجهها بسمتها الكاذبة ... التي طالما استطاعت أن تخدع بها الرجال ... وكان محمود يتهيأ للخروج ولكنه عدل عن ذلك بعد دخول سعاد ، ورنت سعاد نحوه بدلال وهي تقول :
ـ لعلني لم أثقل عليك يا محمود ...؟
ـ آه ... أنت تثقلين عليّ يا سعاد ...؟
ـ أقصد إذا كان لديك أي موعد هام ...
ـ أبداً ... فأنت أهم عندي من كل شيء. ولو لا جفاؤك لما ارتبطت بأية مواعيد ...
ـ شكراً يا محمود ! أنت طيب القلب ... نعم وأنت رحيم.
كانت سعاد جادة فيما تقول ، فهي تعلم أن زوجها رجل طيب في الواقع ، ولكنه كان ضائعاً بين أكداس الثروة ، ولم


( 104 )

يكن يتمكن بينها من تشخيص طريقه في الحياة ، وقد وجهته هي إلى الناحية التي تريدها ، والتي تحقق لها حريتها الكاملة المدعومة بأمواله ... وها هي الآن في طريقها إلى توجيهه وجهة جديدة . تساعدها على تحقيق غايتها الانتقامية.
وأخذت تجاذبه أطراف الحديث ، وتنقل له بعض الحوادث والأخبار ، وجرت الحديث إلى بعض أصدقائهما.. إلى أن قالت :
ـ ... وقد بلغني أن صراعاً عنيفاً قائم الآن ، بين صاحبنا سعيد وبين الممثل سليم ...
وسكتت فلم تتابع ما قالته ، فسألها محمود قائلاً :
ـ حول أي شيء هذ الصراع يا سعاد !
ـ إنه صراع سوف يخسر فيه الممثل سليم بلا ريب ، فإن عند سعيد من المال ما يؤكد له الفوز على غريمه.
وهنا بدأ الاهتمام واضحاً على وجه محمود ، فإن ذكر المال يغريه بمتابعة في الحديث ، وقال في تأكيد :
ـ المال ... نعم ، أنا أعتقد دائماً أن المال يصنع المعجزات ولكنك لم تخبريني عن ماهية الصراع بعد ...
ـ إنه حول امرأة يا محمود !
ـ حول امرأة ! وأي امرأة هي هذه يا سعاد !
ـ إنها آية في الجمال يا محمود ! وكأن خالقها قد أبدع


( 105 )

تكوينها ، لتكون نموذجاً للجمال في العالم ، وهي فتاة لم تتجاوز العشرين بعد ...
ـ آه !...
ـ نعم ، ولكنها بعيدة المنال ...
ـ وكيف !؟
ـ قبل سنتين سبق وأن تخاصم عليها ثلاثة رجال ، كان لكل منهم المال والشباب ، ولكنها تجاهلتهم ، واختارت رابعاً يفوقهم ثراء.
ـ فهي متزوج إذن...
ـ لا ... لم يكن ذاك سوى مجرد صديق ، وقد خاصمته منذ مدة وجيزة.
ـ ولماذا ؟!.
ـ لا أعلم ، لعلها تاقت إلى ثراء أكثر ، ولذلك فأنا واثقة من أن سعيداً هو الذي سوف يفوز بها دون سليم.
هنا سكتت سعاد برهة ، لاحظت فيها أن محمود أخذ يفكر فيما قالته .. وبعد لحظات أردفت قائلة :
ـ ومن المضحك أنهما لا يصرحان لبعضهما عما يعرفان عن الآخر ، فكل منهما يتجاهل سعي الآخر للوصول إلى هذه الفتاة ، كما أن كلاً منهما ينفي معرفته لها على الاطلاق ، لكي لا يثير حوله الشبهات التي تشجع الثاني على تشديد الاغراء.


( 106 )

وخرجت الكلمات متقطعة من فم محمود ، وهو يسأل في لهفة :
ـ أين اتفق لهما أن رأياها يا سعاد ؟!
وفهمت سعاد أنها قد أصابت من زوجها هدفاً ، فأجابته :
ـ لست أدري بالضبط يا محمود ! ولكن الذي أعلمه أن صاحبتهما هذه لها أساليب خاصة في المساومة ... فهي مرة تدعي أنها متزوجة ولها زوج وهي سعيدة به .. ومرة تتلبس بمسوح الدين ، وتتظاهر بالتزام جانب الفضيلة والاحتشام ... ولكنها متى ما وثقت من ثراء صاحبها وتفانيه في حبها ، خلعت عنها أبراد الخداع وبدت على واقعها الساحر.
واستغرق محمود في تفكير عميق .. نهضت على أثره سعاد ، واستأذنت للانصراف ، ولم يشأ محمود أن يستبقيها اكثر من ذلك فقد كان كلامها عن الفاتنة العزيزة المنال قد أخذ عليه جميع أفكاره ولم يفت ذلك على سعاد ، فانصرفت عنه ، وهي واثقة من أن سهمها قد أصاب مرماه من دون جهد.. ثم دخلت غرفتها ، وألقت بنفسها على الكرسي ، وهي تحدث نفسها قائلة : أنا لن أخسر شيئاً من ذلك على كل حال ، فسيان عندي خلف أي غانية ركض محمود ، ولكن الفرق أن غوانيه الآخريات لا يحققن لي غاية ، وأما هذه التي أحاول أن أدفعه نحوها فسوف تحقق لي بانصياعها إليه أسمى


( 107 )

هدف لي ، وهو الانتقام ... نعم ، الانتقام من ابراهيم ومن مثله ومفاهيمه ، وبعد أن تتحقق غايتي الانتقامية سوف استطيع بسهولة ... أن أرده إلي متى شئت ... فلن يخضع كبرياء تلك الفاتنة ... غير أموال محمود ، فليس من الممكن أن توجد امرأة لا يغشى عينيها بريق الذهب ، ولا يطربها رنين المال ، وليست نقاء سوى واحدة من النساء ... إن جميع مفاهيم ابراهيم ومثله لن تتمكن من الوقوف أمام تيار الذهب الذي يتدفق من يد محمود ، أنا لن أتمكن أن أجرها إلى الحفلات ، أو أن أدل عليها الرجال ولكني أتمكن أن أرشد إليها محموداً على الأقل...
واستمرت سعاد تحدث نفسها قائلة :
... ولا يهمني أكانت سنية غريمتي أم نقاء بل أنها لن تكون غريمتي مطلقاً .. فما دامت أموال محمود بين يدي فلن أشعر بغيرة أو مرارة . فشخص محمود لا يعني عندي شيئاً على الاطلاق . ولعلني أتمكن أن أستفيد من شخصه التافه إلى هذا المضمار... إن نقاء فتاة إنطوائية لم يسبق لها أن سمعت كلمة غزل ، أو لاحظت نظرة إعجاب ، ولذلك فأنا على ثقة من أنها سوف تنهار أمام اغراءات محمود ، إنها بدأت تنعدم على زواجها منذ الآن. وكان سكوتها على حديثي في المرة الأخيرة أحسن دليل على ذلك ، لقد نفذت إلى فكرها كلماتي وأفكاري ، وسوف لن أتراجع حتى أسكب فيها جميع


( 108 )

روحياتي ، وادلها على اتجاهاتي في الحياة ، سوف أعرف كيف أرفع عنها هذا القناع الذي ألبسها إياه إبراهيم... ولكن عليّ الآن أن أتعرف إلى الأماكن التي تؤمها ، والرياض التي تتنزه فيها .. نعم عليّ أن أراقب ذلك إلى حين سفر إبراهيم فما دام هو قريباً منها لن أتمكن أن أعمل أي شيء ، فقد استحوذ عليها بسحره ، وهو الساحر المتمكن الذي يخضع له كل قلب حتى قلبي ... نعم حتى قلبي!.

السابق || الفصول || التالي