مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

الفصل الحادي عشر

كان يوم سفر ابراهيم قد أخذ يقترب بل يكاد أن يحدد ، فقد تهيأ أخيراً إلى تقديم موعد سفره حرصاً منه على تقديم موعد الزفاف.
وفي أحد الأيام صحب إبراهيم نقاء إلى ربوع دمشق ، وانتهى بهما المطاف إلى الجامع الكبير ، فاعتزلا فيه ركناً قصياً ، واتخذا لهما مقعداً فوق بعض الأحجار ... وقد أخذ المسجد يحتشد بالمصلين كعادته في كل يوم ... ولذ لنقاء أن تتابع بنظرها المصلين المتنقلين في أنحاء الجامع بين الأماكن المباركة التي في رحابه ، وشعرت بنشوة روحية وهي ترى الوحدة الاسلامية تتمثل في صفوف المصلين. فالتفتت نحو إبراهيم قائلة :
ـ حقاً إن العبادات الاسلامية توحي بالرضا والاطمئنان.
ـ نعم ، تماماً كما تقولين يا نقاء ! وقد كان هذا الجامع منذ عهده الأول قاعة لاجتماع المسلمين ومصدراً لأحكام الدولة الاسلامية. كانت قوانين الاسلام تنطلق من هذا الجامع أيام


( 109 )

كانت دولة الاسلام تحكم نصف المعمورة ، وأيام كان صوت المؤذن يتردد على منابر العشرات من الدول هاتفاً بهتافه الخالد « الله أكبر ».
ـ ما أحلى تلك الأيام يا إبراهيم ليتنا كنا في ذلك العهد.
ـ نعم ما أسعد تلك الايام ، ولكننا ما دمنا نعيش فكرة الاسلام ـ ونحيا على صعيد مثله وتعاليمه فنحن لا نزال سعداء يا نقاء ! إن سعادتنا في الصمود أمام التيار المنحرف تعني الكثير وفرحتنا عند كل انتصار لتغلبنا على نفسنا الأمارة بسلاح النفس اللواق لا تعادلها فرحة ، ثم ألم تسمعني كلمة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) « من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد ».
ـ إن المسلمين في صدر الاسلام كانوا سادات العالم يا إبراهيم.
ـ إنهم كانوا قادة للعالم لا سادة ، فالاسلام لا يعترف بقانون السادة والعبيد ، ولا يسود الرجل المسلم إلا بتدينه وتقواه ، ولم يكن المسلمون في طريقهم للسيادة على العالم ، بل كانوا في سبيل إرشاد العالم وتوجيهه وتهذيب آفاقه وتعقيم أفكاره . فالاسلام مبدأ عالمي يصلح لكل عصر ومصر ، ولا يمكن الخلود لمبدأ ورسالة تقوم على السيادة. بهذه الروح والفكرة تمكن المسلمون أن يصلوا برسالتهم إلى كسرى في


( 111 )

إيوانه ، وإلى قيصر في أبراجه وحصونه ، وأن يطهروا بإسلامهم جميع الحضارات غير الاسلامية.
ـ وهل كان للمرأة المسلمة دور في صدر الاسلام ؟
ـ طبعاً .. فإن للمرأة المسلمة مواقف خالدة في تاريخ الاسلام وبطولاته ، وقد أثبتت جدارتها كمسلمة ، وشخصيتها كصاحبة رسالة ، فلم تكن المرأة المسلمة تقل عن الرجل المسلم ممارسة واندفاعاً.
ـ وما أكثر الفرق بين المرأة المسلمة في صدر الاسلام وبين المرأة المسلمة في عصرنا هذا !.
ـ إن المرأة المسلمة في عصرنا هذا مخدوعة يا نقاء ! والذنب في ذلك كله يرجع إلى الرجل الذي عمل على استغفالها حتى نزل بها إلى هذا المستوى الذي انحدرت إليه ، ولهذا فإن علينا محاولة إيقاظها من غفلتها . وانتشالها من الوهدة التي تردت فيها دون أن تدري أو تعلم.
ـ إنني أخشى أن يكون إصلاح المرأة المسلمة ليس بالشيء السهل يا إبراهيم ، بعد أن تشبعت روحياتها بمفاهيم الغرب.
ـ لا تقولي المرأة المسلمة يا نقاء ، ولكن قولي المخدوعات من النساء المسلمات ، فالمرأة المسلمة لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تتشبع بروحيات الغرب ، أو تخدعها أفكاره


( 112 )

وآراؤه ، فالمرأة المسلمة التي تعرف حقيقة دينها وواقع رسالتها تعلم واثقة أن لها في مبدئها أعذب معين ترد منه لتنعم بحقوقها كاملة في الحياة وحتى المخدوعات من المسلمات لم يفت الوقت في إصلاحهن بعد ... فالمرأة المسلمة عنصر طيب سوف ترجع إلى الطريق السوي متى ما رفعت الغشاوة عن عينها ، وسوف ترفع في أقرب فرصة.
ـ وكيف ؟!.
ـ إن فشل النساء المتفرنجات قد أخذ يبدو واضحاً في حياتهن ، كما أن نسبة الفشل في الزيجات التي تقوم على أساس هذا التفرنج قد أخذ يتزايد تزايداً مطرداً في جميع الأقطار الاسلامية ، فإن زواجاً يقوم على أسس غير اسلامية لا يمكن أن يكون زواجاً سعيداً لائقاً للاستمرار.
ـ تصور يا إبراهيم ! أن بعض المخدوعات من فتياتنا يقدمن الدليل على إجحاف حق المرأة المسلمة بموضوع الحجاب ، وبفرضه عليها هي وحدها دون الرجل.
ـ ليست هذه الأقاويل سوى ترجيع للدعايات الأجنبية ، والواقع أن الحجاب ليس وقفاً على المرأة دون الرجل في الشريعة الاسلامية ، ولكن نظراً لكون المرأة أقوى سحراً وأعمق تأثيراً كان حجابها أعم وأشمل من حجاب الرجل.
ـ هل حقاً ما تقوله يا إبراهيم؟!


( 113 )

ـ إنه الحق بعينه يا نقاء ، فإن المرأة والرجل بما أنهما بشر يتساويان في نظر الاسلام ولم يفرض الحجاب على المرأة المسلمة لحساب كونها بشراً ولكن لحساب كونها أنثى ، وصيانة لأنوثتها الطاهرة ، فكما أن على الأنثى أن تتستر بأنوثتها ، على الرجل أيضاً أن لا يظهر للمجتمع بدعوة كونه ذكراً ، بل لكونه بشراً فقط وبما أن معالم أنوثة المرأة أعم وأوسع من معالم ذكورة الرجل كان حجاب المرأة أشمل وأعم من حجاب الرجل ، فالاسلام لم يجعل من الحجاب أداة لتقييد المرأة أو حبسها عن المجتمع ، ولكنه جاء به كوسيلة لوقايتها من مفاسد المجتمع ومضاره ، فالمرأة المسلمة في صدر الإسلام كانت تشهد الحروب ، لتطبب وتداوي وتشجع وتحرض وهي في الوقت نفسه متلفعة بأزارها . ونقابها لم يثنها عن أن تقوم بدورها الفعال في المجتمع المسلم.
ـ ليتنا كنا كذلك يا إبراهيم !
ـ إن في وسع كل امرأة أن تكون كذلك.
ـ وكيف ؟
ـ إن الجهاد لأجل العقيدة درجات وألوان يا نقاء ! ولا يمكن أن تتعذر بعض درجاته وأشكاله على المرأة المسلمة في كل وقت وحين.
ـ أتظن مثلاً أني أتمكن أن أجاهد في سبيل عقيدتي وإيماني ؟


( 114 )

ـ نعم ... وتتمكنين بسهولة ، فإن صمودك عن الاغراءات ، وثباتك أمام التيارات ، ودفعك كلام الباطل بالحق ، أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر ، يعتبر جهاداً عند عجزك عن القيام بما هو أكثر من ذلك ، بل أن جهاد النفس هو من أقدس وأكمل ألوان الجهاد كما قال بذلك الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تطهير النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد.
وهنا ارتفع صوت المؤذن يتردد في أنحاء الجامع هاتفاً هتافه الخالد : « الله أكبر ... ».


( 115 )

الفصل الثاني عشر

كان موعد سفر إبراهيم قد تحدد في صباح يوم الأربعاء ، ولم يكن قد بقي على رحيله سوى يومين ، ومنذ أيام مضت لم تعد سعاد تتصل بنقاء ، لكنها في صباح ذلك اليوم اتصلت بها تلفونياً بحجة أنها كانت عند الخياطة ، وقد كلفتها أن تخبر نقاء بطلب حضورها لعمل ( البروفة ) فشكرتها نقاء ولم تزد على ذلك ، ولكن سعاد قالت لها أنها سوف تذهب مبكرة للخياطة ، وهي مستعدة لاصطحابها معها ، فلم يسع نقاء إلا أن ترد عليها بأنها لا تتمكن أن تذهب خلال هذين اليومين لأجل قرب موعد سفر إبراهيم . واهتمت سعاد بالخبر واستفهمت منها عن موعد السفر وساعته.. ثم كررت عليها استعدادها لايصالها إلى الخياطة في أي وقت رغبت ، وأنهت المكالمة... انتبهت نقاء إلى أن حكاية الخياطة لم تكن سوى ذريعة لاتصال سعاد بها ، فقد كانت الخياطة تتصل بها تلفونياً في كل مرة لتطلب حضورها عندها ، ولكنها كانت في شغل عن التفكير في سعاد وما يدور حولها.. وفي صباح يوم الأربعاء استيقظت نقاء بعد ليلة لم تنم منها إلا القليل ،


( 116 )

وتناولت فطورها على عجل ، وأخذت تستعد للذهاب إلى المطار ، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف وصل إبراهيم ليصحبها معه إلى المطار ، فقد اتفقوا على أن تذهب إلى المطار بصحبة إبراهيم ، ويلتحق بها أبوها هناك ، لتعود معه إلى البيت . وركبت السيارة إلى جوار إبراهيم ، وهي ساكتة مطرقة تتحاشى نظرات إبراهيم كي لا يقرأ ما يعتلج في قلبها من أحاسيس ولم تشأ أن تتكلم لئلا يخرج صوتها متهدجاً... وشعرت أن إبراهيم يلتفت إليها بين حين وحين... ويحاول تسليتها بأحاديث عن المستقبل وعهد اللقاء السعيد... وفي المطار كانت تبذل جهداً كبيراً كي تخفي عن إبراهيم ما تعانيه من آلام الوداع ، وظنت أنها نجحت في ذلك ، إلا أن إبراهيم لم يغب عنه ما تقاسي منه نقاء ، فقد قال لها بعد الوداع :
ـ أنا أعرف أنك تبذلين جهداً كبيراً لأجلي يا نقاء ، وهذا ما سوف يجعلني وجلاً عليك ، ولكن تصبري واجهدي في الدعاء لنا بالتوفيق ، وتذكري عودتي ، وافرحي لساعة اللقاء. تصوري أن لديك عزيزاً طال به السفر ، وسوف يعود بعد أشهر ثلاث ، لا تفكري أن هذا بداية الفراق ، بل فكري أن اللقاء سوف يكون قريباً بإذن الله.
شعرت نقاء وهي ترى إبراهيم يصعد سلم الطائرة... إنها سوف تضعف أمام ضغط انفعالاتها ، وكادت أن تسقط


( 117 )

لولا أن يداً رحيمة قد أسندتها من الخلف ، ولم تحاول أن تلتفت لترى من يكون هذا الذي أسندها إلى صدره ، فقد عرفت أنه أبوها لا أحد غيره... وأجلسها أبوها على أحد الكراسي لمدة وجيزة ، ثم صحبها إلى خارج المطار ، وكانت تستند على ساعد أبيها ، وهي تسحب قدميها بتعب وإعياء... ساعدها أبوها على ركوب السيارة وتوجه معها نحو الدار ، وفي الطريق شعر أبوها أنها تعاني الكثير من سفر إبراهيم ، فحاول أن يتكلم في أي شيء ، لكي يخرج بها عن بعض أفكارها وانفعالاتها ، فقال :
ـ كان هناك في خارج المطار رجل فضولي وكان همه منحصراً في إلقاء النظرات على الرائحين والغادرين ، وقد لاحظت أنه كان يطيل النظر الى السيدات.
ولم تتمكن نقاء أن تتجاهل كلام أبيها فردت عليه قائلة :
ـ إن الدنيا تزخر بأمثال هذا الرجل من التافهين الفضوليين وما الذي يعنينا منه يا أبتاه ؟.
ـ لا شيء مطلقاً ولكن نظراته أزعجتني كثيراً.
ـ إن نظراته لم ولن تؤثر علينا يا أبتاه ، فمن حقه أن نرثي لأجله ، لا أن ننزعج منه ، فأمثال هذا من الرجال هم أجدر البشر بالرثاء ، إذ يحرمون شبابهم ويبددون طاقاتهم بأفعالهم الصبيانية.


( 118 )

ولكنهم لا يشعرون بالهاوية التي يجرهم إليها هذا السلوك.
ـ نعم أنه مخدوعون.
واكتفت نقاء بهذا القدر من الكلام ، فلم تزد شيئاً. وفي البيت كانت أمها تنتظرها بفارغ صبر ، فألقت بنفسها في أحضان أمها ، وهناك فقد أطلقت لدموعها العنان...

السابق || الفصول || التالي