مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

ليتني كنت اعلم

الايام الاخيرة



( 258 )


( 259 )

واحسرتاه ، لم أكن أعلم أن تلك كانت هي أيامها الأخيرة وان ذلك اللقاء كان هو اللقاء الأخير ، ليتني علمت ذلك... نطقت ( سراء ) بهذه الكلمات التي خنقت العبرات بعض حروفها وشاركت الشهقات البعض الآخر واستمرت تردد في يأس : ليتني علمت ذلك ... وكانت صالحة لا تزال تقف أمامها بصمودها الذي ساعدها على حمل هذا الخبر المشؤوم . فما كان منها إلا أن مدت إليها يداً حاولت أن تجعلها ثابتة ولكنها كانت ترتجف وودت لو أنها دافئة وهي باردة كالصقيع ، مدت إليها هذه اليد وهي تقول ما الذي كان يجديك يا ( سراء ) أنها جنبتنا جميعاً معرفة أنها سوف تنتهي وآلام ذلك واستقبلت حكم انتظار الموت بصمود وانطوت وحدها أهوال ذلك الانتظار ، فماذا كان يجديك معرفة ذلك يا سرّاء ؟ قالت : لو كنت أعلم لتزودت منها زاداً يرشدني ويساعدني على شق طريقي في الحياة ، ثم لألقيت


( 260 )

نظرة أخيرة أُودعها جميع ما أكنه لها من حب وأحكي لها من خلالها قصة الود الصادق والوفاء الذي لا يزول. آه يا لضيعتي ببعدك يا أختاه ؟ ما أراني إلا تائهة بعدك بين أمواج الحياة ؟ وهنا عادت صالحة لتقول :
أنها كانت تعرف مكانتها لديك ولهذا فقد أوصت إليك بكتاباتها الاخيرة.
فانتفضت ( سراء ) ومسحت دموعها لتتطلع إلى صالحة وهي تتساءل :
كتاباتها الأخيرة ؟
قالت صالحة :
نعم يبدو أنها كانت تكتب مذكرات ... وها أنا قد سافرت اليك لأحمل لك هذه الوديعة الغالية.
قالت صالحة هذا ثم أخرجت من محفظتها دفتراً وقدمته إلى سرّاء . فمدت سرّاء يدها نحوه وهي ترتجف وسرعان ما طالعتها ورقة بيضاء قد ألصقت على غلاف الدفتر وهي تحمل هذه الآية المباركة ـ فرددت قائلة : إنا لله وإنا إليه راجعون ثم فتحت الدفتر لتقرأ على صفحته الأولى هذا العنوان ( الايام الاخيرة ).


( 361 )

« الأيام الأخيرة »
بسم الله الرحمن الرحيم

بالأمس عرفت أنني سوف انتهي وبسرعة ! عرفتُ أن حياتي أصبحت تعد بالأيام ، فما هي إلا مسألة وقت فقط ، وأنها النهاية على كل حال من الأحوال ، نعم النهاية ، ولكنني الآن لا افكر بالنهاية كما أُفكر في البداية وفيما يفصل بينهما من أحداث فإن ذلك يرتبط في الصميم مع الوضع الذي سوف تكون عليه النهاية ، كما تقول الآية المباركة : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) إذن عليّ أن أُراجع نفسي وأُحاسبها لأعرف ما الذي ينتظرني هناك ؟ النور أم الظلمة ؟ السرور أم الوحشة ، القيود أم الانطلاق ؟ ولهذا ، فأنا الآن لا أُفكر في النهاية كما أُفكر في البداية ولكن ما هي البداية ومتى يحق لي أن أُوقّت بداية حياتي ؟ هل يكون ذلك من زمن


( 262 )

الطفولة ؟ ولكن كلا ... فأنا لا أريد أن أكتب هنا قصة حياتي فأشغل بها الآخرين ولكنني احاول أن أُصور مشاعري ، مشاعر الانسان عندما يقف على مفترق طريقين. الحياة الأولى ، والحياة الثانية. ولهذا فلا دخل لطفولتي في ذلك ولا ارتباط لها مع تحديد ما ينتظرني الآن ... لأن الطفولة هي فترة المهلة التي أعطاها الله للانسان قبل توجيه التكليف إليه ، ثم أن للطفولة بعض المعاني التي لم أتعرف عليها ، فقد سمعت كثيراً عن الطفولة كما وقد قرأت الكثير عنها ، قيل : أنها عالم زاخر بالمرح والانطلاق ، عامر بالأماني والآمال ، وقيل عنها أيضاً : أنها فرصة تتوفر خلالها أسباب السعادة للطفل لأنه سوف يكون سعيداً بما لديه راضياً عن حياته ، نعم قيل هذا وقيل عنها ما هو أكثر من هذا وقد سمعت ما قيل وقرأتُ ما كتب ولكنني شخصياً لم أتعرف على معنى الطفولة كما يصورها الآخرون فلم تكن طفولتي بالنسبة لي سوى فترة من حياة خضتها بدون سلاح من تفكير أو


( 263 )

شد من إيمان فأرهقتني بآلامها وأربقتني بإحكامها وحيرتني بالصراع الذي كنت أُعانيه بين نفسي الكبيرة وجسمي الصغير وبين مسؤوليتي الخطيرة وتفكيري الضعيف ولهذا فان الطفولة لا تعني بالنسبة لي إلا فترة زمنية جامدة غير معطاء ، فلأدع محاسبة أيام الطفولة لأبدأ بدارسة ومحاسبة أيام الصبا والشباب...
الصبا ؟ أنه شريط يمر أمامي وهو مثقل بالصور ينوء تحت وطأة ثقلها تارة ويتراقص لخفة حملها أُخرى ، أنه مسرح يحكي قصة النفس التي تاقت إلى التكامل فتلفتت حولها تفتش عن الخيط الذي يصل بها إليه ثم أردت أن أفهم ، فلم أكن أرضى من فهم الحياة مجرد ظاهرها وإنما كنت أغور في الأعماق لأصل إلى ما أهدف إليه وأنشده ، فهمتُ من الكون أن هناك يداً عظيمة تسيره وقوانين ثابتة تقدره فإذا به على هذا النسق وهذا الجمال ... ثم سبرت أغوار النفوس ... فكانت الحيرة وكان التردد بل وكانت التعاسة والخيبة في كثير من الأحيان كنتُ أبحث


( 264 )

عندهم عن الحب لا الرياء ، والصداقة لا الرفقة ، والصدق لا الزيف ، فكثيرا ما كنتُ أعود كليمة الفؤاد دامية القلب صريعة الدمعة. نعم كثيراً ما كنت أعود كليمة الفؤاد دامية القلب صريعة الدمعة. نعم كثيراً ما كنت أعود هكذا وليس دائماً والحمد لله. ولكنني في كل تجربة كنت استمد منها مزيداً من العلم ومزيداً من المعرفة بتلك الطبائع وتلك الخفايا... ومن ثم بقيت وأنا أطلب المزيد من الفهم والمزيد من المعرفة. فأين وجدتها يا ترى ؟ وجدتها في معرفة اسلامي الذي به أدين ووجدتها في قرآني الذي أعرف أنه رسالتي السماوية في الحياة... فهرعت إلى هذا الرواء وأنا على لهفة الظمأ والحرمان ، كانت هذه هي بداية فترة الصبا التي أحاول أن استعيد ذكرى أيامها في كتابة هذه السطور... نعم وساعاتها بكل ما زخرت به من سعادة وشقاء وسخط ورضاء لأرى مدى مسايرتي لكل ذلك دون أن انحرف عما رسمه الله لي في الحياة ، وما أراني الآن وأنا واقفة على


( 265 )

أبواب الآخرة إلا مدفوعة إلى إقرار الحقيقة مهما كانت ، حقيقة موقفي من الأحداث وواقع تفاعلي معها على أساس الايمان ، لأن اللف والدوران ومحاولة تغطية الحقائق سوف لن يجديني نفعاً وأنا في طريقي إلى المثول أمام الحاكم العادل حيث لا إنكار ولا إصرار ، لا مغالطة ولا مواربة : ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) إذن فلأكن صريحة في محاسبة نفسي ودراستها ولأكن واقعية في تلك المحاسبة ! ولكن ألم أكن أعلم أن الموت خط على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ؟ ألم أكن سمعت من قبل قول إمامنا عليه السلام : « أيها الناس أنكم طرد الموت » إذن فلست وحدي من ينبغي أن يتوخى جانب الصراحة في محاسبة النفس ولكنه كل إنسان !! نعم كل انسان عرف أنه وجد ليتكامل عن طريق العبادة ثم ليموت بعد ذلك فيجني حصاد ما قدمت يداه.

يا آمن الأيام بادر صرفها*واعلم بأن الطالبين حثاث

التالي  || الفصول || السابق

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها