مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

ليتني كنت اعلم

الفاقة المالية


( 268 )

( 269 )
والآن ، فلأقرار الحقيقة ، لقد مررت في بداية عهد الصبا بضائقة مالية خانقة امتدت خيوطها نحو المأكل والمشرب والمسكن والملبس والفقر حالة قاسية يجر معه اشكالاً وأشكالاً من المآسي والآلام فماذا كان شعوري حين ذاك ؟ هل ضعفت أمام الأزمة أم قويت حتى جعلتها تضعف أمامي ؟ الواقع أنها كانت تجربة أشعرتني بأهمية الايمان في حياة الانسان وعلمتني مفهوم كلمة الرسول الأعظم التي تقول : ( ليس منا من لم يتغنى بالقران ) فالانسان وأي انسان مهدد لأن يتعرض لأزمة مالية أو فاقة مادية فأي حال سوف يكون عليه إذا لم يكن لديه غناء روحي واكتفاء ذاتي ، وكلاهما لا يوجدان إلا عن طريق الايمان الذي يرتفع بالفرد المؤمن عن المواد الأرضية ويعلمه كيف يكون سيد نفسه وسيد الآخرين.
هب الدنيا تساق إليك قسراً*أليس مصير ذاك إلى الزوال


( 270 )

إذن فليس عجيباً أن أقول أنني خلال تلك الفترة كنتُ سعيدة ! ولم يخطر ببالي أبداً أن الفقر أحد أنواع الخيبة بل على العكس من ذلك تماماً فقد كنت أحاول أن افتش عن الطاقات الروحية الكامنة في وجودي لاستثمرها في عمل كل ما هو صالح وكل ما هو خير فما دمت قد افتقدت المواد الزائلة التي أستند إليها في مسيرة الحياة فقد كان عليّ أن أسند خطواتي على دعائم جوهرية ثابتة منطلقة من المثل البناءة والمفاهيم الخلاقة ، وهذه المثل وهذه المفاهيم هي وحدها الكفيلة ببناء شخصية الانسان وصقل أبعاد وجوده في الحياة ، ومن هنا عرفت معنى الفقر ومعنى الغنى ، عرفت أن الفقير هو ذلك الذي يتأرجح كيانه الاجتماعي على كفة ميزان المادة فهو يرتفع مع ارتفاع ارقام ما يملك وهو ينزل مع هبوط العدد في رصيده الخاص ، ولهذا فهو فقير! فقير إلى الدنانير التي تستند وجوده فقير إلى العمارات التي تشير إليه ، فقير إلى الأثاث والرياش الذي يحببه إلى الناس ويشجعهم على الالتفات حلوه ، أنه فقير إلى المادة لأنها عنوان عزه وحريص عليها لأنها محور تبادر وجوده ، وهو يخشى من زوالها لأن زوالها يعني زواله هو ، أو ليس هذا هو الفقير بعينه ؟ ولما كنت أعرف من الفقر معناه الحقيقي فقد كان من حقي أن لا أدع للفاقة المالية مجالاً لأن تسمني بسمة الضعف أو الحيرة أو تلون نظرتي إلى الحياة بمنظار الحسرة والحرمان كنت خلال تلك


( 271 )

الفترة سعيدة وسعيدة جداً وكان فكري خالياً من كل شائبة بعيداً عن كل نائبة لا يهمني سوى بناء شخصي على أساس من الدين ولا أسعى إلا إلى وراء المعرفة ، نعم المعرفة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وقد كنت أجد من قليل ما أناله من آثار المعرفة الكثير الكثير من النشوة الروحية والراحة النفسية لأنني كنت أسعى إلى ذلك القليل بجهد كثير وجناح قليل ولهذا فقد كان للفوز عندي معنى الانتصار ، وهكذا كنت والحمد لله غنية وسعيدة وهذه هي الروعة الربانية في حياة الفرد المؤمن.

التالي || الفصول || السابق

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها