مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الباحثة عن الحقيقة

وفي الصباح اليوم الثاني وبينما كنت أبحث عن سندس بين مجموع الطالبات تقدم مني احد الطلاب الجدد وسلمني رسالة ثم اختفى بين المجموع ، فانتحيت جانباً وقد ارتابت نفسي مما فيها وفتحتها فوجدت فيها ما يلي ...
( أترا كما تحسبان انني لن اتمكن من تحطيم صروح بنيتماها على أنقاض آمالي ؟ ان لدي ما يمكنني من القيام بأي عمل فأما أن تنسحب عن حياتها وتتركها لي من حديد ، وأما ان أقدم على أي شيء ، نعم على أي شيء ، واول عمل أقوم به هو اخبار اهلها بما اتفقتما عليه ، نعم اخبارهم بأنها بدأت تقضي لياليها بين بيوت المستعوذين من المسلمين وبيتك الخالي وارتج عليّ ولم أعرف كيف اتصرف ، فتركت محاولة البحث عن سندس وجلست في زاوية منعزلة أفكر فيما يجب عليّ أن افعل ، ولكن ماذا كان عساي أن افعل ؟ وهل كان من الممكن لن أن انسحب عن سندس وهي حياتي التي لا غنى لي عنها ولكن وجودي في حياتها سوف يعرضها للبلاء وهذا مالا


( 30 )

اريده لها بأي وجه من الوجوه ، فعلي أن ادبر الأمر بشكل يجنبها من كل سوء ولا يدع ثغرة ينفذ منها الى أغراضه وذلك لا يتم لا اذا عقدنا زواجنا في أقرب وقت ولهذا فقد صممت ان لا ادع سندس تعرف بأمر هذه الرسالة وان اتعجل العالم الديني في انجاز مهمته ليتم عقد زواجنا قبل ان يتخذ باسم اي اجراء ، ثم وبعد ذلك لي يستطيع أهلها القيام بأي مبادرة ما دمنا قد اجتمعنا بشكل رسمي معترف به ، وفعلا فقد أخفيت أمر الرسالة وكان وقت المحاضرة التالية قد بدأ منذ دقائق فالتحقت بها وأنا أحاول أن أبعد عن فكري أمر الرسالة وصاحبها ، ثم التقيت مع سندس بعد الدرس وشعرت أنها غير مرتاحة نفسياً لما صادفته من متاعب عند الصباح من المسؤولة عن دار الطالبات لتغيبها في الليل فطيبت خاطرها وقلت لها : اننا سوف نذهب عصر اليوم الى العالم وفي غد يعقد زواجنا بشكل رسمي وتنتهي بذلك متاعبنا ، فهزت رأسها بشيء من الريب وقالت :
لا احسب أن الموضوع ينتهي اليوم يا فؤاد قلت :
أرجو أن ينتهي وسوف استعجله قدر جهدي فقالت لي شبه مؤنبة :
كلا ، ارجوك ان لا تفعل وان لا تنسى ان حاجتك مهما كانت مستعجلة لا تخوله الحق بالتهاون في مسؤوليته يا فؤاد .


( 31 )

نعم انك على حق ، وعلى كل حال سوف نرى ، قالت
نعم سوف نرى ، قلت :
انني سوف أمر عليك قبل الساعة الخامسة لنكون هناك في تمام الساعة الخامسة فكوني على استعداد .


( 32 )


( 33 )

وذهبت اليها عصرا فوجدتها تقف امام الباب وقد ارتسم على وجهها شيء من الشحوب ، وعندما اخذت يدها وجدتها باردة كالثلج فرابني منها ذلك وقلت : ماذا بك يا حبيبتي ؟ فابتسمت وقالت :

لا شيء قلت :
ارجوك ان تخبرني بما لديك ، فانت لست على ما يرام ، فعادت لتقول بشيء من الأصرار : لا شيء ، نعم لا شيء ، فنظرت الى عينيها الصافيتين المشعتين بالنقاء والسناء ، فوجدت مسحة من ألم لونت لالائها الاخاذ فألمني ذلك وقلت :
انك تغالطين يا سندس فلماذا ؟ الست انا وانت وحدة لا تتجزأ فلماذا تنفردي دوني بتحمل ألم أو سقم ، قالت :
نعم انك انت روحي المنفصلة عني ولكنني لا أشكو شيئاً ، قلت :


( 34 )

ولكن عينيك وشحوب وجهك يخالفان ما يقوله لسانك ، قالت :
ارجوك ان لا تعرضنا للتأخير هيا بنا لنذهب قبل ان يسبقنا الوقت ، فلم يسعني سوى ان اسير معها والفكار تتقاذفني يمنة ويسرة وكان اخشى ما اخشاه ان تكون سندس قد استلمت رسالة تهديد على غرار رسالتي ، وكنت احاول خلال الطريق ان اتحدث اليها بكل ما من حقه ان يريحها ، وفعلا فقد اندمجت معي الى حد ما وتظاهرت بالمرح والانطلاق ، ولكنني عندما نظرت الى عينيها وجدت ان مسحة الألم ما زالت منطبعة على صفحة تلك العين الخضراء وطرقنا الباب ففتحت لنا على الفور وذهبنا الى الغرفة حيث كان يجلس العالم الديني وكنا في هذه المرة نستشعر في تحركاتنا بشيء من الحرية افتقدناها في المرة السابقة ، واستقبلنا العالم الديني بالترحاب المصحوب بشيء من التحفظ ، وبعد ان استقر بنا الجلوس طلبت منه أن يبدأ بالحديث وقلت بشيء من الخجل بأننا نود لو اسرعنا بالعودة لان تأخرنا البارحة قد سبب لنا بعض المتاعب ، فاظهر الاستاذ شيئاً من الاهتمام ثم قال :
اني اسف اذا كان حديثي امس سبباً في تأخيركما فاجبته بلهجة صادقة قائلاً :
كلا ، كلا ، لقد كنا مرتاحين لحديثك ولهذا فقد غفلنا


( 35 )

عن الوقت وعلى كل حال فإن ما حدث ليس بهمم ، فابتسم وقال :
لولا التعب ما عرف الإنسان معنى الراحة يا ولدي ، ولولا الشدة لما ميزنا نعمة الرخاء اليس كذلك ؟ قلت :
نعم لعله كذلك ، قال انت تقول لعله وكأنك غير واثق مما تقول ولكن الم يصدف لك ان شربت كأساً من الماء بعد ساعات تعب وعطش طويلة ، ثم وفي مرة اخرى تشرب نفس الماء ومن نفس الكأس ولكن بعد دقائق قصار من شرب كأس روية فهل وجدت الفرق بين الكأسين لذة وطعماً ، وثمناً وقيمة ، ثم الم تسير في الشمس مسافة طويلة وانت تبحث لك عن ظل تستظل فيه من وهجها المحرق ثم وأخيراً تجد ذلك الظل المنشود فتلوذ به وتركن اليه ، فهل ان هذا الظل يعني لديك نفس ما يعنيه الظل المستمر الذي تعيشه في بيتك ، وكذلك عندما يمرض الإنسان فيعقده المرض عن الحركة ويحرمه من ملاذ الحياة ثم يقدر له ان يشفى ، فهو ومما لا ريب فيه سوف يكون سعيدا بصحته اكثر مما كان سعيداً بها قبل مرضه ، انه وبعد ان يشفى سوف يعرف ان الصحة كنز لا مثيل له فيبدأ بالحفاظ على ذلك الكنز وبالفرحة لتملكه ، وكنت استمع اليه واتصور كل دور من الأدوار التي كان يتحدث عنها فاجدها مطابقة لواقع احاسيسنا فقلت له مقتنعا :


( 36 )

تماماً كما تقول ، قال :
ولهذا نجد ان بعض المتاعب بل بعض المحن تكن من صالحنا نحن البشر وان من نعم الله علينا ان خلق في نفوسنا الاحساس بالألم والتعب والسقم والحمد لله ، وهنا لم يسعني الا ان اردد معه قائلاً باخلاص :
الحمد لله ، قال :
والآن فلنعد لكي نبدأ من حيث انتهينا بالأمس ، قلت :
نعم فكلنا اذان صاغية ، قال :
لقد سبق ان عرفنا حاجة الإنسان الى الدين ، وعرفنا اوصاف الدين الذي هو صالح للأنسان في كل مجال من مجالات الحياة وكيف انه ينبغي ان يكون منسجما مع الفطرة ، وملائماً للعقل ، ومحتوياً على القيم التي تنشئ الإنسان الصالح وتمكنه من تقديم المثل الاعلى اي وسيلة الإيضاح ، ثم قلنا ايضاً ان الإسلام هو الدين الذي يتكفل بكل هذا وان اطروحته التي املاها الله تبارك وتعالى عن طريق النبوة تحتوي في مضمونها على كل متطلبات النفس الإنسانية مع انسجام كامل لمطاليبها ، فالإيمان بالغيب مثلا ، وهو مما يدعو اليه الدين ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما انزل اليك


( 37 )

وما انزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون ) هذا الإيمان بالغيب نجده منسجما تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية ، فالإنسان وأي انسان على اختلاف ميوله وافكاره ومعتقداته يشعر دائماً وابداً بأن هناك قوة خارج حدود ما يسمع ويرى ، وهو وبدون أن يقصد يركن الى هذا الشعور ويطمئن اليه ويلوذ به عند الشدائد والمحن ، ومثله . ذلك المسافر الذي يركب طائرة تحلق به على ارتفاع عال جداً ثم وفجأة يعلن الطيار عن عطب قد اصاب الطائرة وانه عجز عن اصلاحها ولهذا فهي مهددة بالسقوط بين لحظة ولحظة ، وعلى الركاب ان يستعدوا لشد احزمة النجاة ، محاولة الهبوط من باب الطوارئ ، عند ذلك يتوجه كل الى ما يتمكن عليه من محاولة اساليب النجاة ، اما الراكب الذي يعجز عن ذلك ولا يتمكن من القيام بأية محاولة فماذا عسى ان يصنع وهو يجد الموت منه قاب قوسين أو أدنى ؟ اتراه سوف يستسلم وييأس ! كلا ، انه سوف يبقى يأمل بالنجاة وينتظرها ولكن من أين ؟ وعن أي طريق وجميع الطرق مغلقة امامه ؟ أنه سوف يشعر بالحاجة الى الإيمان بالغيب وبضرورة وجود قوة عليا هي فوق قوى العلم والتكنلوجيا ، ولذا فهو سوف يبقى ينتظر حدوث معجزة عن طريق الغيب حتى اللحظة الأخيرة ، ومثل اخر عن حاجة الإنسان للإيمان بالغيب هو تلك الأم التي تحمل بيدها طفلها المريض بعد ان عجز الطب عن علاجه ولكنها لا تبرح تتابع انفاسه وتنتظر له طريقاً


( 38 )

للشفاء ، نعم طريقاً لا تتمكن أن تعرف مصدره لأن الطرق التي تعرفها قد سدت امامها ولكنها ما زالت تتلفت وتنتظر ان يوجد ما يفتح امامها طريقاً جديداً تحت تأثير قوة تفوق هذه القوى العاجزة ، هذا هو مصداق الحاجة الكاملة للإيمان بالغيب ، وانسجام الإيمان بالغيب مع الفطرة الإنسانية ، ثم ربان السفينة الذي يضل طريقه بين امواج البحر المتلاطم ويفتقد كل مؤشر للطريق ، هذا الربان التائه ما الذي سوف يستشعره في ذلك الموقف العصيب ؟ لا شيء سوى الحاجة الى هداية من جهة عليا هي فوق امكانياته الخاصة وخارج حدود المعالم والمؤشرات ، أو ليس في هذا دليل على حاجة الإنسان للإيمان بالغيب وانسجام هذا الإيمان مع طبيعة فطرته الإنسانية ؟ كما جاء في معجم ( لا روس ) للقرن العشرين = ان الغريزة الدينية مشتركة بين كل الإجناس البشرية حتى اشدها همجية واقربها الى الحياة الحيوانية وان الاهتمام بالمعنى الالهي وبما فوق الطبيعة هو احدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية = ولهذا فنحن نجد ان هذه النزعة ، نزعة الرغبة الى الإيمان بالغيب موجودة حتى عند الأطفال ، فهذا الطفل الذي يبقى يتسائل عن الاسباب وعن اسباب هذه الأسباب ، انه في تساؤله هذا يبحث عن مصدر اعلى يستشعره بفطرته البدائية دون أن يتمكن من التعبير عن ذلك الشعور ، وما ذلك المصدر الأعلى الذي يسعى للتوصل اليه سوى الغيب ، وبهذا نجد ان فكرة الإيمان بالغيب التي


( 39 )

ضرورة من ضرورات الدين تنسجم تمام الانسجام مع فطرة الإنسان وهذا الايمان بالغيب الذي هو غريزة فطرية لدى الإنسان ليس الا صورة عن الإيمان بالله ، وضرورة هذا يقتضي ضرورة ذاك مع اختلاف وضوح الصورة وشحوبها ، ثم ومن امثلة انسجام نظريات هذا الدين مع الفطرة هو وحدة هذا الكون واتحاده وارتباطه ، وهنا نظرت الى ساعتي خشية أن يسبقنا الوقت وحينما وجدت ان لدينا قليلاً منه سألته قائلاً :
ما الذي تعنيه يا استاذ في فكرة الاتحاد والارتباط في الكون ، قال :
أن الحديث عن ذلك قد يطول يا ولدي ويبدو انك تتعجل العودة ولهذا فمن الممكن تأجيله الى جلسة قادمة ، فنظرت الى سندس اسألها رأيها في التأجيل ، فقالت :
نعم ان ذلك هو الأصلح لكي لا نقع بما وقعنا فيه امس سيما بعد ان . وسكتت ، فقلت لها :
بعد ان ماذا ؟ قالت :
لا شيء وليس هذا وقت الحديث ولكن حاول ان تأخذ منه موعداً على ان لا يكون قبل يوم الأربعاء القادم لانني سوف اكون خلال هذه الأيام مشغولة بالامتحان ، قلت لها :


( 40 )

ان اليوم هو الاحد وهذا يعني ان يكون الموعد بعد ثلاثة ايام ، قالت :
نعم وهو كذلك ، فاستدرت نحو الاستاذ وطلبت منه ذلك فقال :
يؤسفني ان لا اتمكن من اعطاء موعد لكما في يوم الأربعاء لأن لدي مواعيد مسبقة وساعات فراغي فيه محجوزة ! ، قلت :
اذن في يوم الخميس ، فابتسم بلطف وقال :
وكذلك الخميس والجمعة يا ولدي فإنه عطلة آخر الأسبوع بالنسبة لنا وعلينا ان نتفرغ فيه لقضاء حوائج المؤمنين ورد اسئلتهم وحل مشاكلهم ولهذا فإن موعدنا سوف يكون عصر يوم السبت الساعة الرابعة من بعد الظهر ، فتصورت كل هذه الأيام وهي تمر دون ان نحصل على النتيجة المطلوبة فشق علي ذلك ولهذا قلت له مستعطفاً :
ولكن الا يمكنك ان تتفرغ لنا ولو ساعة او ساعتين ؟ قال بودي لو كنت اتمكن من ذلك ولكن ما دامت أوقاتي مشغولة بين دروس وعمل خلال هذه الأيام فكيف يسعني أن أحدد لكما موعداً فيها ؟ قلت :
ألا يمكن تأجيل بعض الدروس ؟ فابتسم من جديد وقال :


( 41 )

أراك قد اقتنعت قبل قليل أن وجود الامتحان سببا كافياً للتأجيل لاهميته بالنسبة لها ، فلماذا لا تقتنع ان الدروس التي لدي مهمة عندي بشكل يوجب التفرغ لها ؟
فافحمني جوابه واخجلني في الوقت نفسه فسكت برهة وأنا لا أعرف كيف أجيب ثم قلت متعلثماً :
الحقيقة انني لم اكن اخمن أنك ما زلت مشغول في الدراسة ، قال :
ولكن كلمة الدروس هي أعم من الدراسة والتدريس ثم ان العلم بحر لا يمكن النفاذ الى اعماقه الا بعد جهد متواصل وطويل ، وقد يواكب ذلك الجهد عمر الإنسان كله ، لأنه كلما انفتح له باب من العلم تطلع الى أبواب وأبواب ، قلت :
آه وهل انت أيضاً كذلك ؟ فضحك ضحكة قصيرة ثم قال :
وهل نحن فئة خاصة تختلف عن الآخرين يا ولدي ؟ ان أحدنا كأي باحث من الباحثين يبحث في علوم الدين وما يدور حول تلك العلوم وما يمت اليها بصلة او يؤثر عليها من قريب أو بعيد ، ثم يبقى دائباً في بحثه وتنقيبه يفتش عن الفكرة البناءة والرأي العملاق مهما طال به العمر ، قلت :


( 42 )

اذن فانكم لا تكتفون بدراسة الحلال والحرام فقط ؟ قال :
ان معرفة الحلال والحرام هي الجوهر الرئيسي في دراستنا ولكن هذه المعرفة بمفهومها الصحيح وبأبعادها الحقيقية تتطلب معرفة العديد من العلوم الأخرى قلت :
ارجو ان اعرف ماذا تعني من مفهوم الحلال والحرام الحقيقي وأبعاده الصحيحة ؟ قال :
ان معرفة الحلال والحرام تتطلب أولا معرفة العديد من العلوم التي تؤدي الى صحة تلك المعرفة مثل علم المنطق ، وعلم الاصول ، وعلم الكلام ، وعلم الحديث هذا بالاضافة الى التمكن من معرفة أسباب التحريم والتحليل ومصادرهما وغاياتهما لأن المعرفة المجردة لا تكفي للعطاء الموجه ولهذا فإن على كل من يجعل نفسه في مصاف الهادين أن يعرف مسبقاً أسباب الهداية وحقيقة الهدى والهداة ومن ثم يعرف الله عز وجل الذي هو مصدر الهداية في الوجود ومعرفة كل هذا ليس بالشيء السهل اليسير فهو يتطلب الكثير من الجهد والعناء ويتطلب الطويل من البحث والاستقصاء ، قلت :
ولكنني لم أكن اتصور هذا يا استاذ فقد كنت أحسب ان العالم الديني هو اخف الناس مؤنة وأنعمهم عيشاً وأقلهم مسؤولية ، فابتسم الاستاذ ابتسامة جريحة وقال :


( 43 )

وهذا مما يؤسف له يا ولدي لأن هذا التصور كفيل بايجاد هوة بين العالم الديني والشاب المثقف ، بينما نجد أن كلا منهما محتاج للثاني في سبيل اكمال رسالته في الحياة ، ولعل المستقبل يكشف لك ما تجهله من هذا الباب ؟ قلت :
نعم أرجو ذلك من صميم قلبي ، قال الاستاذ :
ومن أجل أن لا نخسر الاستفادة من هذه الأيام اليكما هذا الكتاب لتقرآ فيه . ثم قدم لنا كتاب ـ الدين ـ لمحمد عبد الله دراز وكتاب ـ نشأة الدين ـ لعلي النشار .


( 44 )


( 45 )

مرت الأيام بطيئة وثقيلة ونحن بين اللهفة لأن نسمع عن الأستاذ من جديد ، وبين الخوف أن يسبقنا الوقت قبل تكامل خطتنا بالشكل المطلوب وحاولنا خلال تلك الأيام ان نقرأ الكتاب الذي أعطاه الاستاذ لنا وفي اليوم الذي يسبق موعدنا مع الاستاذ استلمت رسالة تهديد جديدة من باسم وكانت عبارتها أقسى من الرسالة الأولى ، ولا انكر بأنها ارقتني في ليلتي تلك وخشيت أن تكون لها عواقب وخيمة حقيقية ، وفي الصباح وعندما لقيت سندس في الجامعة جبنت عن اخبارها بأمر الرسالة خشية ان يقلقها ذلك كما أقلقتني سيما وقد وجدتها متلهفة الى موعدنا عصر ذلك اليوم ، وقد عادت الى وضعها الطبيعي من الناحية النفسية فخمنت أن كآبتها السابقة كانت وليدة حالة طارئة وليس لها أي ارتباط مع تهديد باسم ، إذن فلماذا أثير أمامها ما يكدرها ولماذا ألون أفكارها بهذه الظلال القاتمة ، وحان العصر فذهبنا الى بيت الأستاذ ، ولكن فوجئنا اذا وجدناه منحرف الصحة طريح


( 46 )

الفراش ، فجلسنا دقائق ثم رأينا أن علينا أن ننصرف لكي لا نثقل عليه ولكنه أبي علينا ذلك وقال : انه على استعداد للحديث ، فقلت له باننا لا نرضى أن تكون فائدتنا على حساب صحته ، فابتسم قائلاً :
ان صحتي هي من أجل فائدتكم يا ولدي ، قال هذا ثم اعتدل في جلسته وبدأ بالحديث قائلاً :
لقد انتهى بنا الحديث في جلستنا السابقة الى ذكر ترابط الموجودات ووحدتها وشعور الإنسان تجاه احساسه بهذا الترابط وبهذه الوحدة ، فاعلما يا ولدي أن الإنسان عندما يحس انه جزء لا يتجزأ من هذا الوجود الرحب ، نعم جزء قد شد الى الأجزاء الباقية كما شدت الاجزاء الباقية اليه ، هذا الشعور ، شعوره بالانسجام الكامل مع ما حوله يجعله يستشعر السعادة نتيجة احساسه بأنه مسنود من قوة هائلة هيأت له كل هذه الاسباب وشدته الى جميع هذه الموجودات كما شدت جميع هذه الموجودات اليه ، ولهذا فهو لن يشعر بالغربة ولن يحس الضيعة والوحدة ما دام قد عرف حقيقة وأسباب الاتحاد في المخلوقات التي حوله ، وعلى العكس منه ذلك الذي لا يعلم لماذا جاء ؟ ولماذا هو موجود ؟ وما هي أبعاد علاقته مع هذا الوجود الواسع الذي لا يكاد يساوي هو ذرة من ذراته ، انه عندما يعلم مثلا ان هذه الشمس الهائلة


( 47 )

بكل ما فيها من عظمة وشموخ انما هي مسخرة للحفاظ على مصلحته ، وهو عندما يعرف أن هذا الثبات الدائم في مستوى حرارتها البالغ ( اثني عشر الف درجة فهرنهايت ) انما كان من أجل الحفاظ على الحياة التي يحياها هو وسط هذا الكوكب الحي ، وهو عندما يجد ان هذا البعد الذي يفصل أرضه عن الشمس والذي يقدر بما يقرب من ( 000 ، 000 ، 39 ) ميلا ، لم ولن يدخل عليه أي زيادة أو نقصان حرصاً على سلامة حياة كرته الأرضية التي يعيش عليها لأنه لو نقص هذا البعد بمقدار النصف لاحترق جميع ما على هذه الأرض من شجر أو مدر ، ولو تصاعد هذا الفاصل الذي بين الشمس والأرض فصار ضعف ما عليه الان لكانت البرودة التي تنتج عن ذلك كفيلة بالقضاء على الحياة في الأرض ، أنه حينما يعرف هذا يشعر بالسعادة لتحسس أهمية وجوده في الحياة ، وكذلك حينما يجد أن هذه الأرض التي تدور حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، ان دورتها العظيمة هذه انما صممت خصيصاً بشكل يمكنه من الحياة ، لأنه لو فرض أن هذه السرعة كانت قد انخفضت الى مائتي ميل في الساعة لكان معنى ذلك هو أن يطول الليل ويطول النهار عشر مرات بالنسبة لما هو عليه الآن ، فما الذي كان ينتج عن ذلك ؟


( 48 )

الناتج هو ان تحرق حرارة الشمس كل شيء فوق سطح الأرض ، حتى ولو تبقى شيء لم يحترق فإن برودة الليل الطويلة كفيلة بالقضاء عليه اذن فإن توقيت حركة الأرض وتحديد زمان دورتها ما نظم بهذا الشكل الا من اجل الإنسان ، فما هو شعور الإنسان تجاه معرفته لجميع مقدمات الحياة الجبارة التي وضعت من أجله ؟
ثم ، البحار ، هذه البحار التي تملأ ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، لو حدث وكانت أعمق مما هي عليه الان ولو بضعة أقدام فماذا كان سيحدث ؟
لا نجذب ثاني أوكسيد الكاربون والأوكسجين نتيجة امتصاص الماء لهما ، وماذا يعني انجذاب ثاني أوكسيد الكاربون والاوكسجين ؟
أنه يعني الاختناق للأنسان والحيوان ، اذن فان هذه البحار الجبارة حدد عمقها من أجله هو ومن أجل سلامة وجوده في الحياة ، ثم هذه الأرض التي يعيش عليها الانسان ولا يكاد يحس بها سوى أنها أرض حجرية أو ترابية صلبة ولكنه عندما يدرس أبعادها ويتابع خطوطها الجغرافية يأخذه العجب لسعتها وقوة تحملها لما يرسو عليها من جبال شامخات وهضاب راكنات ولصمودها أمام جميع ما أمتلأت به رقعتها من ماء البحار والانهار ، ثم ماذا ؟ لا شيء سوى ان ينصرف عن هذا التفكير الى سواه وقد امتلأت نفسه بالهيبة والاعظام ، فكيف به اذا علم


( 49 )

ان هذه الارض التي بهرته بعظمتها وصمود قشرتها قد صممت قشرتها خصيصا بشكل يلائم مصلحته هو ، فهو محتاج الى نسبة معينة من الاوكسجين الموجود في الهواء فلو كانت قشرة الأرض أكثر سمكا بمقدار عشرة أقدام مثلا لانعدم الاوكسجين من الهواء إذ ان القشرة الارضية كانت ستمصه كله ، ومثلا آخر ، عندما يرفع الأنسان رأسه إلى أعلى ماذا سوف يرى ؟
لا شيء سوى الغلاف الهوائي الذي يحيط بالارض فتسحره الزرقة الهادئة التي يعكسها هذا الغلاف في النهار وتبهره الروعة المنيرة التي تبرز من خلال الكواكب في الليل فكيف به لو علم أن كثافة هذا الغلاف الهوائي حددت طبقاً لمصلحته هو كأنسان يراد له أن يعيش فلو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن لا حرقت النيازك كل يوم غلاف الارض الخارجي ، ولسقطت على مختلف بقاع الارض واحرقتها لان هذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة اربعين ميلا في الثانية ولهذا ومن نتائج هذه السرعة الهائلة سوف يحترق كل شيء يمكن احتراقة على الارض حتى تصبح الارض هشيما في وقت ليس ببعيد ... والهواء ونسب أجزاء الهواء المحددة التي لا تختلف بأي حال من الأحول لو علم الانسان ان هذه الاجزاء انما وزعت بهذه النسب الثابتة من اجله هو ومن اجل البقاء عليه وكذلك لو نظر الى هذا القمر المنير في عليائه وعرف ان بعده وقربه انما جاء لمصلحة الانسان ، لمصلحته هو فان بعد القمر عن الارض يبلغ حوالي (240 ) ألف ميل وهذا هو الحد المناسب للأبقاء على الحياة الطبيعية فوق الكرة الارضية وذلك لما يعرف من تأثيره على حركة المد في الماء ولكن لو فرضنا أن هذا


( 50 )

البعد كان بمقدار (50) ألف ميل مثلا لتصاعدت نسبة المد ، تصاعدا هائلا بشكل يغمر فيه الماء الدنيا كلها ، والهواء ، وما تحمله النسب التي فيه من أوكسجين ، ونيتروجين ، وثاني أوكسيد الكاربون ، ما تحمله هذه النسب الدقيقة من مصلحة لاستمرار حياة الانسان بشكل لو زادت فيه أو قلت لتعذرت الحياة ، وشيء اخر يقدمه الهواء للانسان ألا وهو هذا النور المنتشر في الكون نور الشمس المشرق الذي يغمرنا منذ الصباح حتى المساء وهذه الزرقة الساحرة التي نلاحظها في أعالىي الجو فلولا الهواء أو لولا جزئيات الهواء لرأينا الشمس كالقرص الأبيض في صحيفة سوداء لا أكثر ولا أقل ، ولكن اشعاع الشمس حينما يصطدم مع جزئيات الهواء تبعثره هذه الجزئيات وتشتته في الكون فينتشر على هذا الشكل الذي نراه . ثم كان من حكمة الخالق ان يكون للشمس موجات مختلفة الالوان وان يكون اللون الازرق منها أقصر موجة من الالوان الاخرى ، اذن فهو أكثر تشتتا بالهواء من الالوان الأخرى ، ومن أجل هذا ظهرت السماء لنا نهارا وفي الصحو زرقاء تبعث في النفس الراحة والاطمئنان ، .. لو علم الانسان هذا وعلم غير هذا مما أعد خصيصا لاستقباله وصيانة وجوده لعرف أنه جزء لا يتجزأ من هذا الكون الرحيب ... عند هذا سكت الاستاذ وكأنه يريد ان يرتاح قليلا بعد أن ظهر عليه التعب ، وعز علينا سكوته لاننا كنا نتابع ما يقول من حقائق طالما عرفناها من قل معرفة باهتة وقد أبرزها لنا داخل اطار جديد جذاب ولم تمض دقائق حتى عاد يتحدث من جديد قائلا :
والآن ، ألا ترون مدى انسجام هذا الواقع من فطرة


( 51 )

الإنسان الاجتماعية التي تأبى له الانعزال ثم ، ان ايجاد هذه الغرائز في نفس الإنسان ، ( غريزة الإيمان بالغيب وغريزة النظرة الوحدوية ) هذه الغرائز لم توجد بدون هدف فهما بوجودهما يشكلان السبب الرئيس الذي يقود الإنسان الى تتبع الحقائق واستقصاء الواقع ، فهذه الغريزة التي تدعو الى الإيمان بالغيب تفرض على الإنسان التطلع الى أسرار الغيب ومعرفة ما وراء الغيب ، وهذه الغريزة التي تفرض على الإنسان الرغبة في الشعور الوحدوي وتدعوه الى نبذ مشاعر العزلة هذه الغريزة تجره لأن يعرف ارتباطه مع الكون بكل أبعاد ذلك الارتباط ، وبما أن جميع ما في الكون قد وضع لأجله أليس من حقه أن يعرف الواضع والسبب في ذلك لكي يذكر فيشكر ؟ ثم أنها تدفعه بالضمن الى تتبع أبعاد هذا الاتحاد والتضامن ، ودراسة النظم التي قامت عليه تلك الأبعاد ، ثم أنه ايضا عندما يتعرف على دقة تلك النظم وانسجامها ، وترابطها يقف ليتساءل :
إذن فما دام ان لكل شيء نظام ، وما دام هذا الوجود الرحب بما فيه من ذرة صغيرة إلى نجمة كبيرة يخضع لنظام دقيق لا يتحول ولا يتبدل وما دام الإنسان هو افضل المخلوقات واجدرها بالوصول الى رحلة الكمال ، فهل من المعقول ان يترك الإنسان هو وحده دون جميع هذه المخلوقات بدون نظام ؟ هل يمكن أن تنظم حياة النملة والنحلة ولا


( 51 )

تنظيم حياة الإنسان ؟ وعندما يصل في افكاره الى هنا يعود ليتساءل قائلاً :
ولكن ما هو النظام الكامل الصالح لهذا الإنسان ؟
والأن هل لي ان اسألكما هل طالعتما الكتاب الذي اعطيتكما اياه ؟ فاجبناه بصوت واحد قائلين نعم لقد استقصيناه كله ، قال :
إذن هاكما هذا الكتاب فهو يعطيكما شرحا واسعا عما ذكرته لكما الأن ، ثم اعطانا كتابا جديداً وسكت لحظات قال بعدها :
لقد اعطيتكما يا ولدي صورة مختصرة عن هذا الجانب ، اما ما سبق ان ذكرته لكما من ضرورة ان يكون الدين الذي يؤخذ به ملائماً للفكر وغير منافر للعقل مهما تقدم به العلم والرقي فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا توجد فيه ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها ما يمكن ادعاء منافرته للعقل ، ويمكننا ان نستدل على ذلك بعدة نقاط ، وكان صوت الاستاذ قد اخذ يتهدج وقد ضايقه نوبة من السعال لاحظت انه يحاول التغلب عليها للاسترسال بالحديث ، فشعرت بعطف بالغ نحوه ونسيت كل ما يدعوني للتعجل في انهاء الموضوع ، فبادرته قائلاً :
ارجوك ان ترتاح يا استاذ ، ان التعب يبدو واضحاً


( 52 )

عليك ، نحن على استعداد لأن ننتظر بضعة أيام حتى تشفى فابتسم بلطف وقال :
ولكنك كنت تتعجل الأمر قبل ايام ؟ قلت :
نعم أنني أرغب في التعجيل ولكن ليس على حساب صحتك يا استاذ ، قال :
ولكن دور الانفلونزا كما تعلم غير محدد الابعاد فكيف يمكنني ان احدد لكما موعداً قادماً يا ترى ؟ قلت :
أنني سوف امر عليك للاطمئنان على صحتك بعد يومين او ثلاثة ، قال :
إذن سوف نحدد الموعد حسب وضعي الصحي بعد ثلاثة أيام ان شاء الله ويمكنكما خلال هذه المدة مطالعة هذا الكتاب ثم قدم لنا كتابا باسم ـ قضية الالوهية ـ لعبد الكريم الخطيب .

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها