مقام العلماء عند الله تعالى


لقد بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل مُبشرين ومنذرين إلى الناس أجمعين لطفاً منه ورحمة لُيمَثِلوا بذلك وسيلة الاتصال وقناة الهداية والمعرفة بين الخالق والخلق أجمعين ولكي لا تكون هنالك حُجَّة للناس على الله مِنْ بعد الرسل وبعد إتمام مرحلة النبوة بخاتم الأنبياء وأعظم المخلوقات سيد الأنبياء والأكوان والخلق أجمعين محمد(ص) ابتدأت مرحلة الإمامة التي تؤدي دور المعلم والمُفَسِّر والشارح لمناهج الرسالة الإسلامية الخالدة التي جاء بها الرسول الأعظم(ص)لتمثل الإمامة بذلك النبع الصافي الذي من خلاله يمكن للبشرية أن تستقي وتنهل كل معارفها منه باطمئنان لا يشوبه الشك .
وبعد أن قدم الله سبحانه وتعالى أحد عشر إماماً من الأئمة المعصومين كتضحيات ابتداءاً من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وحتى الإمام الحسن العسكري (ع) قدمهم جل وعلا كمنارات تستدل بها البشرية لينقذهم من الضياع وما أكرم ربي إذ هو بذلك ومثلاً مع قياس الفارق ، إذ ليس كمثله شيء ، فأقول أنه بذلك كمن أنشأ مدرسة للطلاب وألزمهم بالتعليم ليأخذ بأيديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ثم هيأ لهم المناهج الدراسية التي يسيرون عليها ، وهي الرسالات السماوية ، ثم هَّيأ لهم الكادر التدريسي ، وهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين ، ثم ادخلهم في الامتحان وهي الدنيا وابتلاءاتها ، ثم أعطى لهم الأسئلة التي ستأتي في الامتحان مسبقاً وما عليهم سوى البحث عن الإجابة بل أنه جل وعلا أعطى الأسئلة والأجوبة معاً مسبقاً وما علينا إلا أن ننقل ونكتب الإجابة فقط في الامتحان ومع ذلك اختلفت الدرجات التي حصل عليها الطلبة بسبب تقصير الطلبة وتكاسلهم في نقل الإجابة فقط وتجسيدها على الورق وهنا أعني تجسيد التعاليم الإسلامية المباركة على أرض الواقع من قبل المجتمع ، ومن هذا المثال يكون واضحاً جداً أن الله سبحانه وتعالى كان وما زال وسيبقى رؤوفاً رحيماً بالخلق أجمعين إلا أنه وبحسب تعبير المنطق يكون النقص في قابلية القابل وليس في فاعلية الفاعل أي أن الناس هي التي لا تستقبل ولا تستوعب فيض الله وعطائه ورحمته وكرمه ولهذا وطيلة أربعة عشر قرناً مر على بدأ الرسالة المحمدية الخالدة نرى أنَّ الإنسانيَّة لم ترتقي إلى المستوى الذي يؤهلها لاستيعاب المفاهيم الحَقَّة للإسلام الكريم وتجسيدها على أرض الواقع ولذلك كانت إحدى فلسفات غياب الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام هو المستوى المتدني الذي وصلت إليه البشرية من التكامل، إذ يمكنني وعلى نحو الاختصار والعجالة وبعد نظرة خاطفة على أهم الروايات المحققة وبعد الاطلاع على أهم ما كتب حول الإمام المهدي(عج)في تاريخ التصنيف الشيعي وأعني بذلك(موسوعة الإمام المهدي) للسيد الشهيد محمد الصدر الثاني(قدس الله خَفِيُّه)والمطبوع منها أربعة مجلدات فقط هذه الموسوعة التي ظُلِمَت إعلامياً كما ظُلِمَ صاحبها ، وفي هذا المقام يخطر لي ما اُشيع من شبهات حول انتساب كتاب نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين (ع) وشكك بعضهم بذلك فرد عليهم أحد الشعراء بقوله :

لَوْ كان النَهْجُ لغير أبا حسنٍ لذاع
صيته ولكن علياً على الدنيُّ ثقيلُ
وأنا أقول :
لو كانت الموسوعة لغير الصدر لَعَلا
نَجْمُها ولكن الصدر على الدُناةِ ثقيلُ
 

وهذه الموسوعة التي قال عنها السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس الله خَفِيُّه) في مقدمتها التي طُبِعَتْ فيما بعد بعنوان مستقل سمي بـ(بحث حول المهدي) إذ قال(قدس الله خَفِيُّه) في نهاية البحث و المقدمة((وسأقتصر على هذا الموجز من الأفكار تاركاً التوسع فيها وما يرتبط بها من تفاصيل إلى الكتاب القيم الذي أمامنا فإننا بين يدي موسوعة جليلة في الإمام المهدي((عليه السلام)) وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحاثة السيد محمد الصدر (حفظه الله تعالى) وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي((عليه السلام))في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام المنتظر من كل جوانبها وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يعبر عن الجهود الجليلة الذي بذلها المؤلف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة وإني لأحُس بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ وما تعبر عنه من فضلٍ ونباهة وألمعية وأسأل المولى (سبحانه وتعالى) أن يقر عيني به ويريني فيه علماً من أعلام الدين))(تاريخ الغيبة الصغرى/ص89-90) .
كانت هذه الإشارة حول الموسوعة وصاحبها هي محاولة لتقديم بعض الوفاء للشهيد الصدر الثاني ومحاولة لرفع الظلم والتعتيم الذي جرى على الشهيد الصدر الثاني وعلى إحدى نتاجاته الفكرية العملاقة ، وأرجع وأقول بعد الإطلاع على هذا السفر الخالد تكونت عندي رؤية حول عِلّة وفلسفة غياب الإمام المهدي(عج) وعلى نحو الاختصار والعجالة يمكنني أن أجيب بمستويين هما :

المستوى الأول /هو ما قاله الإمام الصادق (ع)فقد أخرج النعماني في الغَيْبة بسنده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع) أنه قال((ما يكون هذا الأمر حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوّا من الناس حتى لا يقول قائل:إنا لو ولينا لعدلنا ثم يقوم القائم بالحق والعدل))(الغيبة/ ص146)(تاريخ ما بعد الظهور/ص335)،أي أن البشرية يجب أن تجرب كل النظريات والقوانين الوضعية القاصرة كما هي الآن تتخبط بين المعسكر الغربي وفكره الرأسمالي الديمقراطي الذي بني على الأساس الفلسفي لنظرية العقد الاجتماعي التي أسس ونظّر لها كل من الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز والفيلسوف الانكليزي جون لوك والمفكر الفرنسي جان جاك روسو وبين المعسكر الشرقي وفكره الماركسي الشيوعي الذي أسس له كارل ماركس وفريدريك انجلز القائم على أساس نظرية المادية التاريخية وما ترتكز عليه والمعروف بالديالكتيك والذي يعني إجمالاً الصراع الدائم للمتناقضين والتي بها يطغى التفسير الاقتصادي على كل العلاقات الاجتماعية والسياسية وهناك الكثير من النظريات الأخرى كنظريات سيكمن فرويد الذي يفسر كل شيء على أساس العامل الجنسي وغيرها من النظريات المتداخلة والإلتقاطية الأخرى والقوانين الوضعية التي ما تلبث أن تستقر لعقد من الزمن حتى يجري عليها تعديلات كثيرة لأنها من صنع البشر القاصر الذي سيبقى يتخبط ويجرب كل هذه الأطروحات حتى يعجز ويصل إلى قناعة تامة بأنه لا ملاذ ولا عاصم له إلا الإسلام وأن النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يطرحها الإسلام هي كفيلة في أن تحقق وتلبي كل طموحات وآمال المجتمع وعند ذلك تتهيأ الأرض الخصبة لإستقبال الأطروحة الآلهية العادلة التي سيأتي الإمام المهدي المنتظر لتجسيدها على أرض الواقع بعد أن تتوفر الظروف الموضوعية لذلك .

المستوى الثاني/ هو تخاذل المجتمع عن تأدية دوره وتخليه وتكاسله عن تأدية تكليفه الشرعي في الارتقاء نحو التكامل إذْ أن العلة الأساسية والعقبة الرئيسية لتأخر ظهور الإمام هو عدم وجود القواعد الشعبية الكافية التي يمكن أن تستقبل وتستوعب وتستجيب للأطروحة الإلهية العادلة إذ يجب أن ترتقي الأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل نحو التكامل بحيث تمتلك مستوى من العلم ومن ثم مستوى من الإخلاص وأخيراً مستوى من الإستعداد للتضحية يؤهلها لتجسيد الأطروحة المهدوية العادلة على أرض الواقع ومن هذا نفهم أننا واقعاً نحن السبب في تأخر ظهور الإمام وعذاباته وغربته وبالتالي يكون الإمام المهدي هو منتظِر لنا ولتكاملنا ولذلك يجب على المجتمع الإسلامي أن يتولد لديه شعور بالترقب اليومي والفوري للظهور وأن يحث الخطى جاهداً ويستنفر كل مكامن طاقاته ليرتقي إلى المستوى المطلوب الذي ذكرناه وهذا ما يُسَمَّى بالانتظار الايجابي ،

كان لابد من أن أذكر هذه المقدمة وبإشارات موجزة وخاطفة لكي يتضح مدى عظمة الدور الملقى على عاتق العلماء الذين يمثلون الآن نيابة الإمام المهدي (عج) خصوصاً بعد انتهاء الغيبة الصغرى وانتهاء السفارة الرابعة للقائم المنتظر (عج) وبالتالي أصبح واضحاً صلة هذه المقدمة بصلب البحث والموضوع وخصوصاً فقرة مقام العلماء عند الله تعالى إذ أن العلماء الآن هم حملة أعباء هذه النهضة الإسلامية الشاملة الواجبة على الأمة لتكون بمستوى يؤهلها لإستقبال الإمام القائم وأطروحته الآلهية العادلة ،
والآن انعطف على ما ذكره الباري عز وجل من وصف للعلماء ووصف لعلاقة العلماء به عز وجل وعلا وذلك بقوله تعالى(( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )) (فاطر/ 28) إذ يحدد سبحانه وتعالى ويقتصر بمفهوم الخشية على العلماء ويؤكد على ذلك بأحد أدوات أسلوب التوكيد بالقصر والأداة(( إنما )) وقد ورد في تفسير هذه الآية (( أي ليس يخاف الله حق خوفه إلا العلماء )) (التفسير المعين للواعظين والمتعظين/ ص437) ،

وورد في تفسير الميزان للطباطبائي في قوله تعالى (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )) إستئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الآيات إنما يؤثر أثره ويورث الإيمان بالله حقيقة والخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال وقد مَرَّ أن الإنذار إنما ينجح فيهم حيث قال (( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ))( فاطر/ من الآية18) فهذه الآية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء، والمراد بالعلماء العلماء بالله وهم الذين يعرفون الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم وتزيل وصمة الشك والقلق عن نفوسهم وتظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم والمراد بالخشية حينئذ حق الخشية ويتبعها خشوع في باطنهم وخضوع في ظاهرهم ،هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية ،
وقوله (( إن الله عزيز غفور )) يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى وكونه قاهراً غير مقهور وغالباً غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون ولكونه غفوراً كثير المغفرة للأثام والخطيئات يؤمنون به ويتقربون إليه ويشتاقون إلى لقائه )) ( الميزان في تفسير القرآن/ ج17 ص43) ،
وورد في تفسير عبد الله شبر(( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) العارفون به لا الجهال وفي الحديث(( أعلمكم بالله أخوفكم له )) وقصد حصر الفاعلية فقدم المفعول (( إن الله عزيز )) في انتقامه من أعدائه (( غفور )) لزلات أوليائه))( تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبر /ص437) ،
واستضيء بآية أخرى من القرآن الكريم لتكون شاهداً على مقام العلماء عند الله تعالى وذلك بقوله تعالى(( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ))(العنكبوت /43) وهذا أسلوب آخر من أساليب التوكيد بالقصر وهذه المرة جاء بأداة النفي( ما ) وأداة الاستثناء ( إلا ) أي أقتصر سبحانه وتعالى عملية فهم وتدبر الآيات على العلماء وقد جاء في التفسير المعين لمحمد هويدي( إلا العالمون ) الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي ( التفسير المعين للواعظين والمتعظين/ص401) ،
وجاء في تفسير الميزان للطباطبائي قوله تعالى (( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ))( العنكبوت/43 ) يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس لكنَّ الإشراف على حقيقة معانيها ولب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور ولا ينجمد على ظواهرها والدليل على هذا المعنى قوله (( ولا يعقلها )) دون أن يقول وما يؤمن بها أو ما في معناه فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لاحظ له منها إلا تلقي ألفاظها وتصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها وسبر لأغوارها ومن سامع يتلقى بسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة ويعقل حقائقها الأنيقة))( الميزان في تفسير القرآن/ ج16 ص136) ،
وجاء في تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبر لنفس الآية (( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ )) تفهيماً لهم(( وما يعقلها )) يعقل فائدتها (( إلا العالمون )) المتدبرون))( تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبر/ ص401) .

 

              

 

الرئيسية