إنّ العصبية تشكل شخصية المسكون بها، فينشأ شخصية هاجسية، وسواسية،
متسلطة، حسود، تمييزية، مترعة بالخوف من السلطة، وبالشوق إليها، لا
حرة، ولا تكاملية، ولا واثقة بنفسها، تخشى القوة ولا تحترم إلا
الأقوياء، يكمن في أعماقها الدكتاتور والعبد. بالدكتاتور تستبد بمن
هم دونها في المرتبة، وبالعبد تخضع وتخنع لمن هم فوقها. فهي، في
السلطة السياسية، شديدة الوطأة على الضعيف تنتهك حقوق الانسان
وتقسو على الحيوان، هي غالباً منغلقة على ذاتها، فئوية، تابعة،
عنيفة، خجولة، حيية، متعصبة، سريعة الانفعال والغضب، سريعة الرضى،
مواقفها ردود فعل غالباً، محدودة الوعي بقئويتها، هي شخصية ((قال))
لا شخصية ((أقول))، تفاخر بإنتاج غيرها لانعدام إنتاجها، سهل
التلاعب بها، وتحريكها، وتوجيهها الوجهة المرادة. لا مبادرة ولا
مغامرة. إمعية، متطيرة، تؤمن بالخرافات والسحر واللامعقول، تحركها
الإيحاءات والنكايات والأوهام والتصورات لا الحقائق. شخصية مريضة
بمقاييس مجتمع الديمقراطية ووفق معايير طبه النفسي، ولكنها ليست
كذلك وفق مقاييس مجتمعها، عاطفية المنطق، لا تعرف كيف تستفيد من
تجاربها. تخلط بين صديقها وعدوها، وتنقاد إلى أهداف غالباً ما تكون
مناقضة لمصالحها. لا عقلانية، محدودة الرؤية. انفعالية إن أحبت تحب
بمرض، أي بتطرف شهواني، وإن كرهت تكره بمرض، لا تعرف الوسطية
لانعدام عقلانيتها. شديدة التملق والمداهنة، سريعة التقلب. تبحث عن
الحقيقة من خلال المشاعر لا من خلال منطق العقل والتجربة. سريعة
التأليه والتقديس. حججها مسلمات، وقناعاتها مقررات. منشدة إلى
الماضي والمجهول، يشغلها الغالب أكثر مما يشغلها الحاضر، يشغلها
كما لو كان حاضراً. خاملة، تتجنب بذل الجهد وتختار الأسهل، تكذب
كما تتنفس لرغبتها في الظهور بما ترضى عنه قيم المجتمع، وفي الستر
تمارس عكس ما تظهر به. إن أخطر ما في هذه الشخصية امتزاج العصبية
فيها بالدين.
تحكم سلوكها، وتطغى على اهتمامها وأحلامها، فتشكل هاجسها وطموحها،
قيم أربع هي: 1 ـ السلطة وفي طليعتها السلطة السياسية. 2 ـ المال.
3 ـ الجنس. 4 ـ التعصب بمختلف أنواعه الديني والعرقي والحزبي...
وهي عبر هذه القيم تتسلط، وتحقق إرادة الحياة فيها عبر تحقيقها
مصالحها وأهدافها. وقد استغل المستعمر فيها، استناداً إلى دراسات
وأبحاث علمائه في نفسيات الشعوب وقيمها ومراكز تحريكها، هذه
القيم... السلبيات، هذه القيم ـ الضعف، فسيطر بها، عبر إشباعها أو
الوعد بإشباعها أو عبر استغلال نتائجها كالتعصب، على القيادات،
وعبرها، على الشعوب، فاستعملها مسخراً إياها لخدمة مصالحه
واستراتيجياته السياسية والاقتصادية والعسكرية، على حساب مصالحها
وأهدافها ومطامحها الوطنية والقومية في النهوض والتقدم المادي
والمعرفي وإنتاج الحضارة طلباً للاستقلال الحقيقي.
والقيادات تستغل بدورها خصائص هذه الشخصية، ولا سيما، الحياء
والخجل في مجتمع العصبية، وهما قيمتان من قيم هذا المجتمع مرتبطتان
بالعيب، فلا يجوز مخالفة من هو أكبر سناً، أو أكثر سلطة، أو أعلى
مقاماً، كما لا يجوز مخالفة الصديق والرفيق لما في هذه المخالفة من
عيب، ومن وجوب للخجل، من هنا، فإذا قالت القيادات ((لا))، قال
الناس خجلاً لا قناعة: ((لا)).
وقد كونت التجربة، عبر التاريخ العربي الاسلامي وقبله، قيماً،
حتّمتها الوشاية في عهود الظلم، وما كانت تؤدي إليه من سفك دماء
وأذى. من هذه القيم كتمان السر خشية وشاية الواشين.
ـ فكان يقال: ((سرك من دمك، فانظر أين تجعله)).
ـ ويقال أيضاً: ((ما كتمته من عدوك، فلا تطلع عليه صديقك)).
(ما قيمة الصداقة في هذه الحالة، إلا إذا كانت بمعنى التبعية غير
المؤتمنة، وعندها لا تبقى صداقة).
ـ وقال المهلب بن أبي صفرة: ((من ضاق قلبه اتسع لسانه)).
ـ وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: ((استعينوا على قضاء حوائجكم
بكتمان السر)).
ـ وكان حفظ السر قيمة كبيرة. فقيل لأعرابي: كيف حفظك للسر؟ فقال:
أنا لحده.
من هذا، يتبين أن قيمة كتمان السر كانت تحفظ الشخص وتصونه، وتصون
مصالحه، بينما كانت قيمة اطلاع الآخرين عليه، حتى وإن كانوا من
((الأصدقاء))، تعرض للأذى والمخاطرة. ومن هنا قيمة حفظ السر،
والافتخار بها.
ومن القيم التي تغنى بها العرب، ما جاء في الموشى: ((اعلم أن عماد
الظرف، عند الظرفاء وأهل المعرفة والأدباء، حفظ الجوار، والوفاء
بالذمار، والأنفة ن العار، وطلب السلامة من الأوزار، ولن يكون
الظريف ظريفاً، حتى تجتمع فيه خصال أربع: الفصاحة، والبلاغة،
والعفة، والنزاهة.
وسألت بعض الظرفاء عن الظرف فقال: التودد إلى الإخوان، وكف الأذى
عن الجيران.
((وقال آخر: الظرف ظلف النفس (أي الترفع عن الدنايا) وسخاء الكف،
وعفة الفرج)). انتهى.
فصفة الظريف تنطوي على معان كثيرة مترعة بالنبل والأخلاق العالية،
والسلوك المميز، إلا أنها محصورة بفئة معينة هي فئة الظرفاء.
وعذرية الحب ظهرت في بيئة العصبية. إذ في هذه البيئة يتعايش
التطرف، إما حب عذري وإما حب شهواني. وهذا الأخير أبعد عن معنى
الحب وأقرب إلى العلاقة الجسدية الشهوانية، التي تشبعها الممارسة،
وتحملها على الملل إلى غيرها استجابة للذائقة الجنسية التي تستوجب
التنقل والتبدل. وهذا لا يمنع الاستثناء.
جاء في الموشى، ((ودخلت بثينة على عبدالملك بن مروان فقال لها:
((والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقول جميل! قالت: يا
أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك. قال: وكيف
صادفته في عفته؟ قالت: كما وصف نفسه حيث يقول:
لا والذي تسجد الجباه له ما لي بما دون ثوبها خـبرُ
ولا بفيها، ولا هممت بها ما كان إلا الحديث، والنظرُ
قال أعرابي من فزارة: عشقت جارية من الحي، فحادثتها سنين كثيرة،
والله ما حدثت نفسي بريبة قط، سوى إن خلوت بها، فرأيت بياض كفها في
سواد الليل، فوضعت كفي على كفها، فقالت: مه! لا تفسد ما صلح.
فارفضّ جبيني عرقاً، ولم أعُد)). انتهى.
وعذرية الحب، وعفته، متفرعة من وطأة قيمة العيب أو الحرام
وصرامتهما الملزمة. وإلى عذرية الحب كان التنسك والترهب استجابة
إلى الكبت القاسي لنوازع النفس الأولية.
وعلى الرغم من ذلك، فلم تكن العرب ترى في مثل هذا العشق بأساً. فقد
جاء في الموشى، في الصفحة/ 75/ منه:
((وروينا عن الهزنادي عن هشام عن ابن سيرين قال: كانوا لا يرون
بالعشق بأساً في غير ريبة. وقيل لبعض البصريين: إن ابنك قد عشق،
فقال: وما بأس به، إنه إذا عشقت نُظف وظرُف ولطف)). انتهى.
وكانت العرب تمدح الضمر وتذم السمن. فقد جاء في الموشى، في الصفحة/
79/ :
((فالعرب تمدح بالضمر وتذم بالسمن، وتنسب أهل النحول إلى الأدب
والمعرفة، وأهل السمن إلى الفدامة (أي العي عن الكلام في رخاوة
وقلة فهم، والحمق) وقله الفهم.
ومن أمثال العرب: البطنة تذهب الفطنة.
وكانت العرب ترى أن الغدر في النساء أكثر منه في الرجال. فجاء في
الموشى، ص119 الآتي:
((إن الغدر في النساء طبع، والمطل منهن غريزة، وهو في النساء أكثر
منه في الرجال... واعلم أنهن لا عهود لهن، ولا وفاء لحبهن، ولا
دوام لودهن...)). انتهى.
إلا إنه جاء في الصفحة/ 123/ من الموشى الآتي:
((وإن الوفاء فيهن عزيز، غير موجود، ووالله لئن كان كذاك وعُرفن
بذاك، ففي الرجال من هو أكثر منهن غدراً، وأسرع منهن ختراً، وأسمح
منهن تنقلاً، وأقبح منهن تبدلاً)). انتهى.
وكان الحث على صحبة الإخوان، والإغراء على مودة الخلان، والرغبة في
أهل الصلاح والإيمان من القيم المرغوبة، المطلوبة والمفتخر بها.
فقد روي عن أبي عمرو العوفي قال:
((كان يقال إصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك
خصاصة مانك (أي أعطاك مونة)، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك
سقطة سترها، ومن إن قلت صدق قولك، وإن أصبت سدد صوابك، ومَن لا
يأتيك بالبوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق)). انتهى. (الموشى
ص29).
ومن القيم المحببة إلى النفوس البشاشة بالإخوان. فقد ورد في
الموشى، في الصفحة/ 38/ منه الآتي:
((وقال المنصور: إذا أحببت المحمدة من الناس بلا مؤونة، فالقهم
ببشر حسن)). انتهى.
وقال ابن عمر: ما حمل رجل حملاً أثقل من المروة. فقال له أصحابه:
صف لنا ذلك. فقال: ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء
قط علانية، إلا استحييت منه سراً.
وأقبح ما قبحه العرب خلف المواعيد، وكان ظاهرة فاشية، فوردت فيه
أقوال كثيرة، مثل قول المثنى بن خارجة: لأن أموت عطشاً أحب إليّ من
أن أخلف موعداً. وقد رُوي عن النبي (ص) أنه قال: ثلاث علامات في
المنافق، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن
خان، وإذا وعد أخلف. (الموشى ـ ص56).
إن مَن ينافق يكذب ولا يؤتمن ولا يوثق بوعده، لأن نفاقه يجرده من
الثقة عامة. ولكي يتدخل النبي (ص) بحديثه، ويقبح النفاق في صوره
الثلاث، الكذب وخيانة الأمانة وخلف الوعد، معنى ذلك أنها كانت من
القيم الفاشية في المجتمع في الجاهلية واستمرت في ظل الاسلام،
وكانت أضرارها بالغة، وأذاها كبير.
والمطل شكل من أشكال الكذب، وخلف الوعد. وفي وصية عبدالملك بن
مروان لبنيه:
((يا بنيّ، لا تعدوا الناس بما لا تناله أيديكم. ويقال: إذا وعدت
الرجل نائلاً ثم مطلته به، فقد أوفاك ثمن معروفك عنده.
((ولدعبل بن علي الخزاعي: (الموشى ص57، 58):
وأرى النوال يزينه تعجيله والمطل آفة نائل الوهاب
ومن خصائص العصبية حب المظهر، وهذا ما حمل بعض الحكماء على تسفيه
حب المظهر بقوله: ((أحي معروفك بإماتة ذكره، وعظمه بتصغيرك له)).