موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

التزكية والعمل الاجتماعي
الشيخ هلال حسين العماني



يمكن أن نحصر الآراء والتوجهات حول التزكية وارتباطها بالعمل الاجتماعي في ثلاثة آراء واتجاهات..
- الإتجاه الأول: تفضيل العمل على التزكية
يرى أصحاب هذا الاتجاه، اعطاء الأولوية للعمل الاجتماعي، وإذا كان لابد من التزكية فان لا يكون على حساب العمل لأهميته في بيان ونشر أحكام الثقلين.
وبعبارة أخرى غن هؤلاء يعتقدون أن التزكية غير ضرورية كضرورة النشاط الاجتماعي، وهنا تطرح على أصحاب هذا الاتجاه مجموعة من التساؤلات منها..
أولاً: هل يضمن هؤلاء (خلوص) عملهم ونشاطهم الاجتماعي أم لا يضمنون ذلك؟! وإذا كان الجواب انهم يضمنون ان عملهم خالص لله عزوجل 100% ولا توجد في عملهم ونياتهم أية شائبة يمكن أن تقدح في نشاطهم.
فهل هذا الضمان موجود لمرحلة ما قبل العمل أم بعدها أم في أثنائه؟
ثانياً: مَن يملك حق تقديم أو اعطاء الأولوية للعمل الاجتماعي على التزكية اهل هو العامل أم الثقلان؟!
ثالثاً: هل المطلوب من الانسان إتيان العمل الاجتماعي والغكثار منه كيفما كان أم اشترط فيه الجودة والإتقان، وإذا كان الجواب أن المطلوب في العمل الاجتماعي هو الجودة والإتقان. فهل الجودة والإتقان تكفيان في دفع العمل الاجتماعي إلى مستوى قبوله عنده سبحانه وتعالى أم لابد من ملاحظة الكيف النفساني المشتمل على نظافة الدافع، وشفافية النية وعدم اشتماله على الاحقاد والبغض والعداوة للمؤمنين؟!
إن هؤلاء يشتبهون في تقديم العمل الاجتماعي على التزكية، أو في اعطاء الأولوية له عليها، حيث إن النفس الإنسانية وهي تتحرك في المجتمع، لا تصادف أمامها إكليلاً من الورود الوردية، وتمشي على أرض فرشت بالرياحين، كلا.. فهي تواجه وتصادف حالاتٍ مختلفةً من النفسيات من جهة ومن الممارسات الفردية والاجتماعية من جهة أخرى، ومن الظواهر الحسن وغير الحسنة من جهة ثالث، وتصادف أيضاً أناساً يقفون أمامها بشدة وقسوة، مستخدمين ما أتوا من وسائل لإسقاطها وإهانتها، والتحدث عليها بسوء، وهتك حرمتها، بل وقد يصل الأمر إلى السب والشتم والاتهام، بل وقد يصل الحال أن يصطدم بانسان لَبَّسَ أفعاله القبيحة لباس الشرعية، في هتكه لحرمات المؤمنين أو في تبرير مواقفه! وهذه من أعظم المصائب وأخطرها، والتجارب الاجتماعية المدونة في تاريخ البشرية تثبت أن مثل هذه الأساليب المريضة كثيرة الورود وخاصة بين العاملين الذين تكثر بينهم الاختلافات، وتتحول إلى خلافات، فإذا واجهت النفس الانسانية مثل هذه الحالات المريضة وهي في تحركها للعمل الاجتماعي، فإذا لم تكن متسلحة بسلاح التقى والورع وبعبارة اخرى لم تكن متلبسة بلباس التزكية فإما هي تنعزل عن الساحة، وهذا أمر غير مرغوب في نفسه إلا لأجل أهداف أخرى، وإما أن تنحو منحى المرضى، وتصبح مثلهم شرسة، لا تعرف سوى الفتك..
(مَن لم يكن ذئباً أكلته الذئاب).
والذي يستطيع أن يلجم تمرد النفس وهيجانها، ليس إلا (تزكية النفس)..
(قد أفلح مَن زكاها).
بالحكمة العلمية من جهة، وبالحكمة العملية من جهة أخرى، وما لم تُشكّل التزكية سياجاً على النفس الأمارة، فإن انفلاتها أمر لا مهرب منه، ولأجل ضمان عدم الانفلات، وعدم التعدي على حدود الله عزوجل في الأفراد والمجتمعات، لابد من التزكية المانحة للنفس الرقابة الصارمة، والتذكير الدائم بسطوة الله عزوجل وقدرته على الوقوف أمام مسار ارادةا لانسان المتمردة الطاغيةوبذلك يخسر المرء دنياه وآخرته.
ثم إن القول بتقديم العمل الاجتماعي على التزكية، موحٍ للوهلة الأولى بادعاء أصحاب هذا الاتجاه بالعصمة لسلوكهم وأفعالهم من أي خطأ، ولا أظنّ أنّ هؤلاء يسبغون على أنفسهم هذه الصبغة العليا، وإذا كان إعطاؤهم للعمل الاجتماعي الأولوية على التزكية ناشئاً من اعطائه أهمية أكثر منها، فإن أول ما يمكن أن يرد على هؤلاء: مَن يتحمل تبعات الأخطاء والاشتباهات الصادرة على المؤمنين، الحاملة في طياتها مختلف أشكال وأساليب الأذية؟!
فهل يمكن الاستمرار في عمل قد تبين فيه سخط الله بالمخالفات القطعية لأوامره ونواهيه؟!
فعليه لابد من تصفية الباطن وتزكية النفس، قبل التفكير في العمل الاجتماعي، وإذا ما دخل المرء في هذا الخط الخطير، الذي هلك فيه الكثير من المؤمنين وتاريخ العمل الاجتماعي خير شاهد على ذلك منذ أن التحمت الأفراد وشكلت مجتمعاً، فقدْ فَقَدَ بعضهم كما حصل في كثير من الأزمنة والمواقع مكانتهم الولائية، وماتوا على غيراه.
إن على المرء أن ينتبه إلى نفسه وتمردها، ويراقبها أشد لامراقبة، ولا يعطي لنفسه مجالاً للغفلة، كي لا يفقد أثر عمله الطيب، ويأتي يوم القيامة حاملاً وزره، ووزر غيره، نادماً علىم ا فعل، وحينها لا ينفعه الندم، بل ويرى الذي قد اتخذه عدواً في الدنيا، وحاربه وقاطعه واتهمه بمختلف التهم، واغتابه وشتمه، ونمّ عليه، وبذل كل الجهود لإسقاطه، يمشي بفخر واعتزاز، وفرحة وسرور، نحو حوض الكوثر، ليسقيه سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) شربة الولاية، ويدخله في جنة الخلد التي وعد بها المتقون.
والحق أن العمل الاجتماعي لا يسجل في الصحيفة أبيض إلا إذا اقترن بالتقى، والورع، بل ولا يمكن أن ينجح إلا بهما، وإلا أصبح وبالاً على صاحبه.
إن العمل الاجتماعي رغم جمال لفظه، وانشداد النفس إليه، إلا أنه يحتل من الخطورة العظيمة موقعاً لا يتجاوزه العامل إلا بتقوى الله، فإذا أصبح مَن حوله ذئاباً، فإن عليه التمسك بالتقوى، كي لا يصبح مثلهم فعليه أن يكون ملاكاً بل وأفضل منهم، فيسلك مسلك الأنبياء والمرسلين والأوصياء، الذين كلّما رماهم ذئاب الانس بالقاذورات السلوكية، كانوا لا يرمونهم إلا بالورود القدسية طلباً لهدايتهم.
- الإتجاه الثاني: تفضيل التزكية العالية على العمل
إن أصحاب هذا الإتجاه يرون عدم ضرورة العمل الاجتماعي أصلاً، أو يرون ضرورته إلا انهم يرون انه لا يصلح الدخول فيه إلا بعد إتمام جميع فصول التزكية.
ويرد على القسم الأول من هذا الاتجاه مجموعة من الإيرادات نكتفي بواحدة منها..
إن مَن يرى عدم ضرورة العمل الاجتماعي، فإنه مطالب بتفسير معقول لعمل الأنبياء والمرسلين والأوصياء!
والذي يرى ضرورة إتمام فصول التزكية ثم الدخول إلى العمل الاجتماعي، فإنه أمام عدة تساؤلات..
أولاً: هل يقول هؤلاء أن العمل الاجتماعي مطلوب فيه الوصول إلى درجة العصمة، إذ تعتبر العصمة أعلا مرتبة من مراتب السير والسلوك إلى الله؟!
ثانياً: وأظن ان هؤلاء لا يرون الوصول إلى العصمة علة لممارسة العمل الاجتماعي، إذاً فما معنى ضرورة إتمام جميع المراحل المتعلقة بالتزكية؟!
ثالثاً: وإذا كان هناك حد للتزكية، ثم يؤهل السالك للدخول إلى المجتمع، فمن يحدد هذا الحد، أألله أم غيره؟!
رابعاً: ان مفاد ادعاء هؤلاء أن ينصرف الناس كلهم إلى تزكية نفوسهم، فمن يمسك المجتمع إذا ما عاث فيه الفاسقون فساداً؟!
خامساً: ما موقع الفريضة الإسلامية المفروضة من قبل الله على كلّ مسلم ومسلمة عند هؤلاء، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تأتي في عرض الفرائض الاسلامية، ولربما أهميتها أشد وأكبر من بقية الفرائض الدينية؟!
إن هؤلاء في الحقيقة طلبوا العزلة لتزكية النفس، ولكنهم عزلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قاموس التزكية.
فخرجوا من إشكال ليقعوا في إشكال أشد.
- الإتجاه الثالث: الجامع للاتجاهين
ورغم قلة أصحاب هذا الاتجاه إلا أنه هو الموفق والمؤيد والمهدي منذ بدء مراحل الدعوة إلى الله وإلى يومنا هذا.
يرى أصحاب هذا الاتجاه، إن الذي يحدد الاطار العام والخاص للسلوك الإنساني هو طبيعة السير والسلوك إلى الله، وما يتطلب من الانسان في مسيرته التكاملية، ومن الطبيعي ان الذي يضع برنامج السير والسلوك، والعمل الاجتماعي هو الله سبحانه وتعالى وتكفل الثقلان بيان الأوامر الإلهية، ولا أحد يملك القابلية والقدرة لتحديد ما تريده السماء، وما يريده الله على النحوين التفصيلي والغجمالي إلا هُما.
ولو رجعنا إلى النصوص والخطابات الصادرة من الثقلين، لوجدناهما تؤكدان على أن طريق السير والسلوك والعروج إلى مدارج الكمال يحتاج إلى تنقية الباطن. من كل فطر ضال أو منحرف، ومن كل عقيدة ضالّة أو منحرفة. ومن كل سلوك باطني ضال أو منحرف، ويحتاج أيضاً إلى موافقة السلوك الظاهري والشكلي تعليمات الشريعة المقدسة، بغض النظر عن ضرورة ايجاد قناعة شخصية في الالتزام وعدم ضرورتها.
ومن المعلوم أن السلوك الظاهري والشكلي لا يمكن أن يتم إلا بسلامة الاعتقاد وصفاء الفكر من الشبهات، وبهذا يكون مرجع سلامة السلوك الشكلي الظاهري إلى السلوك الباطني.
ولو نظرنا إلى حقيقة المتطلبات السماوية بالنسبة إلى باطن الانسان، لوجدناها تريد منه أن يعرج إلى الله بخلع كلّ ما ليس لله، وباخلاء البيت القلبي من كلّ ما سوى الله، وبهذا يتحقق الهدف الذي خلق لأجله هذا الكائن وعلى معطيات ذلك يحاسب يوم القيامة، فلاحظ أن مدار كل شيء في هذا الوجود. هو (التوحيد)، هو (الله).
ولأجل أن يتلبس الانسان ثوب التوحيد، ويتحقق بمعارفه الحقة، لابد أن يتم هذا حسب ما رسمه الثقلان وذلك بتزكية النفس بالحكمتين النظرية والعملية معاً.
ولو حاولنا أن نقف قليلاً على الحياة الاجتماعية، ومتطلبات العمل الاجتماعي، لوجدناها لا تنفك عن هذا الطلب السامي.
فلو حللنا الحياة الاجتماعية، لوجدناها ترجع بروحها وحقيقتها إلى الحياة الفردية، فيمكن القول بأن هدف الأفراد كلهم هو الوصول إلى مقام قربه سبحانه وتعالى، والتحقق بأسمائه وصفاته، وبعبارة أخرى إن هدف المجتمع الذي يسير إليه سيراً تكويناً هو (التوحيد)، فالهدف الذي يسير إليه المجتمع يتطلب عملاً من سنخه، ولا عمل من سنخية (التوحيد) إلا طهارة الباطن، وإحلال التزكية فيه.
وأما إذا أردنا التعرف علىط بيعة التفاعل بين التزكية والعمل الاجتماعي، فنقول: إن الله عزوجل يطالب العبد بالعروج إلى عالم الطهارة، ليتحقق حلمه وهو العيش في الدنيا في سعادة، والعيش في الآخرة كذلك، وبمعنى آخر، أن تتحقق له الحياة الحضارية.
ووضع له في عالمه هذا مجموعة من المسائل والقضايا، وبين له أن العروج الحقيقي لا يتحقق إلا بها.
وأكد له أن نظر السماء منصب إلى باطن العمل وليس إلى ظاهره.
(إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ـ وفي خبر آخر ـ ولا إلى أقوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ثم هيّأ له كلّ أسباب العروج، وحذره من كل أسباب التسافلن ثم أمره بالسير والسلوك لتحقيق هدف نشأته وخُلقَته.
فلما أن نظر لامؤمن إلى الحياة، نظر تمعّن وتمحيص، ليختار ما يعود عليه بالسعادة التي يحلمها، وجد نفسه أمام طريقين مهمينن.
الطريق الأول: أن يختار الانعزال عن الناس، ويبتعد عن المغريات التي قد توقعه في مصائد، مما تفقده بعض مراتب العروج أو قد تعرضه للسخط الإلهي للأبد.
ولكنه بحكم ما وضح له الله من معالم دينه، وبين له سبيل سعادته، وجد نفسه أمام مسألة مهمة تشكل خطورة بحيث تعرضه للمحذور الذي يهرب منه؛ وهو..
انّه شاهد في شرع الله أمراً قد صدر من جناب الحق، يأمر المؤمن بالالتزام به، وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي وضعه سبحانه وتعالى في عرض بقية الواجبات والفرائض، وهذا يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة كبقية الفرائض الدينية الشرعية. فلو ترك هذه الفريضة مع وجود موضوع يفرض عليه عدم تركها، فإنه في هذه الحالة سيكون مرتكباً لمخالفة قطعية، وهذه المخالفة تشكل بالنسبة إليه حجاباً من الحجب الظلمانية التي من طبيعتها التكوينية حجب الفيض الإلهي عنه، وهذا يعني أنه في طريقه إلى التسافل ولا يفيده أن يخدع نفسه بواجبات أخرى ظناً منه أنه في عروج إليه سبحانه وتعالى.
وأقصى ما يمكن أن يقال في هذه الحالة، غذا قلنا بعدم ترتب آثار التسافل، هو أن المؤمن يفقد عنصراً أساسياً من عناصر العروج إلى الله عزوجل، وبالتالي يفقد سعادته التي يطمح إليها في الدنيا والآخرة.
وأما الطريق الثاني: إذا وجد الانسان نفسه أمام مسألة يمكن أن تتلخص.. في الآتي..
فلو لم ينعزل، واختار الدخول إلى المجتمع، فهو أمام مجموعة من المطالبات.
الطلب الأول: تزكية نفسه.
الطلب الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الطلب الثالث: تزكية مَن يقدر على تزكيته.
الطلب الرابع: أن يعمل ويكد حتى لا يكون عالة على غيره.
الطلب الخامس: أن يتحمل ويصبر على المشاكل الاجتماعية التي قد تصل به إلى أن يشاهد نفسه نموذجاً مصغراً من حياة الأنبياء والأئمة (ع) والصالحين، من حيث انهم تعرضوا للتكذيب، والاهانات، والسب والشتم، والمقاطعة، والتعيير، والنميمة، والقتل.
فلاحظ الدخول في معترك العمل الاجتماعي ليس بالأمر الهين، إنه يتطلب نفساً عظيمة، وقوية، ومستوعبة لآفاق الحضارة الانسانية ولو بشكل إجمالي، كلّي.
ولما أن نظر إلى خالقه ورازقه، الحكيم العليم، وجد أنه يقدّم له ضمانات إذا ما التزم بالدخول إلى ساحة العمل الاجتماعي.
ومن جملة تلك الضمانات:
1 ـ ضمن له سبحانه وتعالى أن ينصره..
قال تعالى: (ولينصرن الله مَن ينصره) الحج/ 40.
فاعتبرت هداية الناس إلى التوحيد الحقيقي، أمراً حقيقته نصرته عزوجل.
وجاء في كتاب الإمام أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر: ( .. وأن ينصر الله سبحانه وتعالى بيده وقلبه ولسانه فإنه جلّ اسمه قد تكفل بنصر مَن نصره وإعزاز مَن أعزّه).
2 ـ ضمن له أن يهديه الله عزوجل إلى طرق جديدة كلّما انتهت من فكره ومن بين يديه طرق الدعوة والتوعية الاجتماعية..
قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت/ 69.
3 ـ تكفل له أن لا يدع ظالمهُ مهما بلغم ن أمره ما بلغ..
(إن العبد إذا ظلم فلم ينتصر، ولم يكن له مَن ينصره ورفع طرفه إلى السماء فدعا الله، قال الله: لبيك أنا أنصرك عاجلاً وآجلاً).
4 ـ ضمن له على صبره الأجر من غير حساب.
قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع): (.. مَن عمل لله أعطاه الله أجره في الدنيا والآخرة، وكفاه المهم فيهما، وقد قال الله تعالى: (يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحسابهم به في الآخرة).
5 ـ أخبره أنه سبحانه وتعالى يحبّ الصابرين فعلم أنه إذا صبر أصبح حبيب الله عزوجل، قال تعالى: (والله يحب الصابرين) آل عمران/ 146.
6 ـ وعلم أن محبته سبحانه وتعالى لا تنال إلا بسبوق أمة النبي الخاتم (ص) إلى التوحيد، وهذا يعني أن يعمل في المجتمع الانساني وفق معطيات التوحيد. وعلم أن تلك المحبة التي تنال هكذا نوع من العاملين من أعلى جرات الحب (أحب المؤمنين إلى الله مَن نصب نفسه في طاعة الله، ونصح لأمة نبيه، وتفكر في عيوبه، وأبصر وعقل وعمل).
7 ـ وعلم ان الله عزوجل قد ميّز بين العامل في سبيله، والقاعد عن العمل في سبيله.
قال تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدية أجراً عظيماً) النساء/ 95.
هذه بعض الضمانات التي ضمنت للانسان وخاصة العامل في سبيل الله عزوجل.
ولما أن نظر إلى صعوبة الطريق الاجتماعي، وإلىك رة ما أحيط به من الأشواك القاسية، علم وتيقن أن العمل الاجتماعي محفوف بالبلايا حفاً.
فوجد رب العالمين قد وضع البلاء عنصراً من عناصر الاختبار والامتحان، ليميز الخبيث من الطيب.
قال تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) آل عمران/ 19.
ووجد أيضاً أن هذا البلاء ذو آثار عظيمة، بحيث توجب رفع المرء إلى درجة الشهداء على الأعمال والناس..
قال تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) آل عمران/ 140.
وعلم أن الامتحان والاختبار الإلهي أمر حتمي علىك ل الناس من دون أن يستثنى منه أحد.
قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) الكهف/ 7.
ولما وجد ان لا محيص من الاختبار الإلهي، وعلم أن البلاء طريق من طرق العروج إلى الله عزوجل، ووسبلة لتحصيل قربه..
(اعلم أن بلاياه محشوة بكراماته الأبدية ومحنة مورثه رضاه وقربه ولو بعد حين) الإمام الصادق.
فبادر المؤمن إلى العمل الاجتماعي لما وجد فيه ما يطلبه من تزكية نفسه أولاً، ومن ارتفاع قدره وشأنه عند الله عزوجل. ثانياً، ومن تحقيق الحياة الحضارية ثالثاً.
فكان طلبه لتحقيق ذاته محفوفاً بمجموعة طلبات إلهية فسعى إليها سعياً، وبذل لها كل وسعه وجهده، فما كان العمل الاجتماعي بالنسبة إليه إلا طريقاً من طرق الوصول إلى الله عزوجل. وطريقاً من طرق اكتشاف عيوب النفس فيصلح الفاسد، ويقوي عمود الصحيح منها، إذ لو عاش مفرداً لفقد المرآة الكاشفة لعيوبه، المبنية له مفاسده، المعينة له في صراط العبودية.
وعلم المؤمن العامل أن وراء سعيه وعمله الاجتماعي هو الله عزوجل يسدد خطاه، ويأخذه بيده، ويقيل عثرته ويدفع زلته، ويدفع عنه أعداءه، ويدفع كيدهم ومكرهم، ومقاصدهم السيئة، فالعمل الاجتماعي بالنسبة لهؤلاء إذن سبيل المعارج إلى جناب الحق تبارك وتعالى.
وهذا التفاعل بين المعارف والعمل، لن تجده غالباً إلا على سلوك العارفين بحقائق الوجود.
والملحوظ في هذا الطريق وعند أصحابه، إنك تجد بروز وظهور معادلات تثير العجب والاستغراب عند أهل الدنيا، الذين لم يستضيئوا بنور الله عزوجل، فتلاحظ على السالكين صراط العبودية كلما أحاطت بهم المصائب والبلايا، وكلما أحيطوا بالأعداء والحاقدين والحاسدين، كلما ازداد تعلقهم بالله عزوجل، وزادوا توجهاً إليه سبحانه وتعالى، وانسلخت أرواحهم تدريجياً من هذه الدنيا الفانية، وازدادوا صلابة وقوة وعزيمة على المضي في درب الحق، غير مبالين بالسهام الطائشة تريد الفتك بهم، لأنهم دخلوا في حصن التوحيد، والتجأوا إلى طود النور الذي لا يتأثر هو ومن فيه بخدش السهام، فهذا ديدن السالك هذا المسلك، وكلما صعدوا الرتب، وازدادوا معرفة ازدادوا سلوكاً أكثر اتزاناً وخشية وصلابة، إلى أن يصلوا إلى قمة هرم الوجود حيث لا شيء فوقهم إلا الله عزوجل.
والتاريخ يحدثنا عن مواقف هؤلاء القمم، سادة هذا المسلك الرباني ذي التوحيد الخالص.. فقد روي الراوي: (فوالله ما رأيت مكثوراً قط، قد قتل ولده، وأهل بيته واصحابه أربط جأشاً منه (ع)، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا اشتد فيها الذئب ولقد كان يحمل فيهم وقد تكملوا ثلاثين ألفاً. فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ثم يرجع إلى مركزه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
فأي نفس هذه التي تملكها هذه الشخصية العملاقة، إنها تشاهد دماء أحبتها تسيل من أجسادهم، وترى أهل بيتها من دون رجال يحامون عنهم، وهي الوحيدة التي بقيت على أرض الميدان، فلا يهزها الخطب، ولا يروعها المنظر، بل تراهم لم تتغير أبداً، أهي شخصية ملائكية! كلا،
أهي نبي! كلا..
إذن مَن هي؟!
إنها (النفس المطمئنة)..
فلاحظ على هذا الخبر المروي الذي يخبرنا عن بعض حالات النفس المطمئنة، انه يذكر عن تصرفها الذي لا تحتمله معادلات أهل الأرض، الذين إثّاقلوا إليها لأن تلك المعادلات هي معادلة أهل السماء، حيث تجدهم في عروج دائم إليها، فما رأوا محبوباً إلا هو، فأشرقت قلوبهم بنوره، وزالت كل الموجودات عن وجودها، لأنها لا ترى موجوداً إلا هو.
أليس موقف النفس المطمئنة يثير العَجَب، حين تشاهدها وهي تزداد إشراقاً واطمئناناً، بدلاً عن الجزع والفزع!!
أليس حديثها عن الموت في تلك اللحظة أيضاً مثيراً للعجب، فمن لو اكن غيره في مثل ذلك الموقف العصيب من القتال لتوقف عطاءه الفكري وأما النفس المطمئنة فلا تزال في موقع العطاء الفكري، والعقائدي، والتربوي!!
ومَن سلك هذا المسلك، ومشى في صراط العبودية، وبدأ خطوته الأولى بالتزكية، واستمر على السير قدماً، يشق الحياة ومصاعبها، مستصغراً الدنيا وأهلها، كيف يبالي بهذا يسبه، أو بذاك يعاديه وبأولئك يرفضونه، أو بآخرين يريدون الفتك به، انه يسلك طريق الله عزوجل، ومن مشى في هذا الطريق فإن الله ناصره، والمحامى عنه، وقائده، ومرشده.
وهل يهتم السالك للاموجود ويترك (الموجود)!!
إلهي..
(ماذا وجد مَن فقدك، وما الذي فقد مَن وجدك، لقد خاب مَن رضى دونك بدلاً، ولقد خسر مَن بغى عنك متحولاً، كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان، وكيف يُطلب من غيرك، وأنت ما بدلت عادة الامتنان).
وإليك في خاتمة المطاف هذه الرواية:
(روي أن داود (ع) خرج مصحراً منفرداً، فأوحى الله إليه: يا داود ما لي أراك وحدانياً؟
فقال: إلهي اشتدّ الشوق منّي إلى لقائك، وحال بيني وبين خلقك، فأوحى الله إليه: ارجع إليهم فإنكم إن تأتني بعبد آبق أثبتك في اللوح حميداً).
المصدر: التزكية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع