المؤلف: الدكتور محمد جابر الأنصاري
قد يتطلب الأمر إعادة النظر في كل تاريخنا القديم والحديث في ضوء
علم الاجتماع الخلدوني الذي يحاول د. الأنصاري الاستفادة منه ومزجه
بالمناهج المعاصرة في تقديم رؤية جديدة. وقد قيل عن هذا العلم إنه
يقوم على اثنين من أعلام الفكر: كارل ماركس وماكس فيبر. وقد تخيل
البعض الاثنين طالبين نجيبين لدى عبدالرحمن بن خلدون، سمع "ماركس"
منه أن اختلاف الناس إنما هو بسبب اختلافهم في تحصيل معاشهم، فطور
نظريته عن تأثير نمط وعلاقات الإنتاج في حياة البشر، وحضر "فيبر"
محاضرة ثانية حول العصبية فوضع نظريته في الزعامة والهيمنة.
وبرغم اتساع مباحث الكتاب وتشعب اهتمامات الباحث، فإن بعض العناصر
الأساسية تربطها جميعا:
الأول، أن الأزمات السياسية المتلاحقة في الوطن العربي حالة لا
تفسر نفسها بنفسها ويجب أن نخرج من دائرة التفسير المجزأ لكل أزمة
بظروفها المباشرة. والثاني، أن هذه الأزمات المعاصرة استمرار لأزمة
سياسية تاريخية مزمنة منذ الحروب الأهلية في القرن الهجري الأول.
"فعلى عظمة الحضارة العربية الإسلامية في الإنجازات غير السياسية
من قيم وفقه وفكر وعلوم وآداب وفنون، فإن الجانب السياسي - في
الممارسة المؤسسية والواقعية والعملية بالذات - كان أضعف جوانبها.
والثالث، أن التكوينات المجتمعية الراهنة للعرب المعاصرين بصفة
عامة، ليست وريثة عصر التقدم والازدهار في الحضارة العربية
الإسلامية وإنما هي امتداد للموروث المجتمعي المتخلف الذي ترسب
فيما يعرف بعصور الانحطاط المملوكية. والرابع، أن من أهم متطلبات
تصحيح الوعي بالذات وبالواقع المجتمعي والسياسي أن ينضج علم اجتماع
عربي بالمعنى المنهجي والمعرفي، يستطيع تفسير معضلات السياسة
العربية في الماضي والحاضر.
إن كتاب د. الأنصاري في بعض محتوياته نزول حقيقي من البرج العاجي
والعزلة الأكاديمية "العربية" بالذات، إلى الشارع، بعد أن صار من
غير المعقول الاكتفاء بتوزيع التهم وتعليق الأخطاء على مشاجب
الآخرين.
ففي عام 1948م ، يقول الباحث، ساد الانطباع أن مسئولية الهزيمة تقع
على عاتق الأنظمة التقليدية القائمة. وأنه لو تم تغيير تلك الأنظمة
"لعرف الشعب طريقه" ولم يؤد التغيير خلال الخمسينيات إلى تغيير
حقيقي في المسلكية السياسية ومستوى الأداء. ولقد تم تجريب كثير من
الأيديولوجيات والحلول. كما أن معظم الأحزاب والاتجاهات تسلمت
الحكم ولم يتحقق أي هدف قومي يذكر.
ولهذا| يطالب د. الأنصاري بأن "نعترف بحجم الإحباط المتمثل في
ظاهرة تصارح المواطنين العرب فيما بينهم همسا ثم علنا بأن فترة
الحكم الأجنبي أو التقليدي كانت أفضل بالمقارنة مع ما وصلوا إليه
بعد تجاربهم الوطنية أو الثورية"|.
وهذه ظاهرة ليس مردها بالضرورة، في رأيه، قصورا في كفاءة الإنسان
العربي، وإنما في نوعية علاقات وآليات السلوك الجمعي والتعاطي
والتعامل الجمعي العربي الموروث والراهن.. وهي علاقات وآليات
متأتية عن نوعية التركيبة المجتمعية العربية العامة ونسيجها
وإفرازاتها وترسباتها السائدة والمؤثرة بقوة منذ قرون عديدة".
تداول الدول
يعالج القسم الأول من الكتاب إشكالية الدولة ودور الموروث السياسي
في الأزمة الراهنة. ويذهب د. الأنصاري إلى أن مصطلح "دولة" لم يتخذ
في اللغة العربية المفهوم المتعارف عليه في زمننا الحاضر، أي
تحديدا "الكيان السياسي مثلاً، فكانت هذه الكلمة لا تنسب عادة في
الماضي للكيانات الجغرافية بل إلى الأشخاص، فيقال مثلا "دولة
المأمون" و"دولة صلاح الدين".
وفي مطلع العصر الحديث نجد خير الدين التونسي (1810م - 1890م)
يستخدم الكلمة في كتابه "أقوم المسالك" للإشارة إلى معنى الدولة،
فالدولة هنا هي السلطة الحاكمة أو الجهاز الحاكم، لا البلد أو
الوطن.
وعرف قاموس "المنجد" الدولة عام 1927م بأنها "تطلق على الملك
ووزرائه".
ولا يوحي معنى وجذر المصطلح في اللغة بالثبات والديمومة، فأصل
الكلمة دال بمعنى زال ومضارعها يدول بمعنى التحول والتبدل
والانقلاب والتداول من حال إلى حال ومن يد إلى يد. وهذا هو النقيض
المباشر لجذر كلمة State في اللغات الأوربية الذي يعني الثبات
والانتصاب والصمود. ويقال في اللغة العربية "دالت الأيام" أي دارت
وتستخدم كذلك كلمة "دواليك" في صيغة لمعنى التداول. ويستعرض د.
الأنصاري تطور المصطلح عبر التاريخ، ويقف عند رأي معروف لابن خلدون
في أن من عوائد العرب السياسية "الخروج عن ربقة الحكم وعدم
الانقياد للسياسة.. فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم
الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل
وعلى كره من أجل الحياء".
عوامل معرقلة
ويعزو الباحث عدم نمو ونضج مصطلح الدولة في الثقافة والتجربة
العربية إلى وجود عوامل معرقلة. من هذه العوامل الصحارى العربية
الممتدة التي حالت دون التواصل ومنعت الاستقرار الحضري كما كان
الأمر في الصين مثلا. ومنها أيضا عدم وجود الحدود الطبيعية المنيعة
وانعدام المركز السياسي الموحد حيث ظلت العواصم العربية ترحل من
مكان إلى آخر مع تساقط وقيام الدول من المدينة إلى الكوفة فدمشق
وبغداد ثم القاهرة وإسطنبول. ولهذا عاش العرب في واقع الأمر حالة "دولتية"
هلامية كانت دولتهم خلالها في نشوء وتحلل متواصلين دون أن تترسخ
المؤثرات وتنضج المؤسسات السياسية. فقد عاش العالم الإسلامي منذ
الفتح، كما يقول د. برهان غليون، "في إطار إمبراطورية أو سلطنة
كبرى كانت تضم شعوبا متعددة يربط بينهم الولاء للإسلام أكثر من
الولاء للدولة.. إن الأمة الإسلامية وليس الدولة هي مركز الثقل في
تشكيل الوعي الجماعي العربي".
ويقارن د. الأنصاري مفهوم "الدولة" لدى العرب بما هو مستقر في
الثقافة الغربية، فيرى أننا كنا أكثر اقترابا من "ميكيافيلي" و"هوبز"
منا لمفاهيم هيغل وجون لوك. فالمهمة الأساسية للدولة عند المفكر
الإيطالي "هي الأمن لا الأخلاق والحرية". وذلك هو الهم الأساسي
للدولة في المجتمعات العربية قديما وحديثا، "منذ تنازل الحسن
لمعاوية حقنا للدماء".
وقد فلسف "هوبز" وعمق هذا الهاجس الأمني بذهابه إلى حد القول بـ
"إن الحياة في ظل غياب النظام السياسي تكون حالة احتراب دائمة بين
الجميع. وإن الخلاص الوحيد من هذه الحالة هو تسليم السلطة المطلقة
لصاحب السيادة في الدولة. وكان "هوبز" في مذهبه هذا متأثرا بأوضاع
الحرب الأهلية في بريطانيا آنذاك، فيما يشبه حالات "الفتنة"
المتكررة في التاريخ العربي الإسلامي التي دفعت بالفقهاء وعلماء
السياسة الشرعية إلى تفضيل الحكم المستبد وحتى الظالم على "ساعة
فتنة" تؤدي إلى تمزق وحدة الجماعة وترويع الآمنين.
ويعود د. الأنصاري إلى التذكير بالدور السلبي للجغرافيا الصحراوية
في اندماج واتحاد العرب. فمن "الحقائق الأساسية التي تميز المنطقة
العربية كونها منطقة صحراوية ذات مناخ جاف تغطي الصحراء 90 % من
مساحتها.. ولا تحتل الأمة العربية بكل سكانها ومدنها وقراها
وزراعتها وصناعتها غير 10 % من هذه المساحة بما فيها أقطار الزراعة
العريقة والأقطار المنسوبة إلى المعسكر الحضاري في الوطن العربي".
والأسوأ من ذلك، "أن الصحراء ذاتها - وهي جوهر التحدي الجغرافي في
العالم العربي - ما زالت في معظمها دون استصلاح".
ولهذا تمتع سكان الصحراء على دوام التاريخ بنفوذ هائل وأعادوا
تشكيل المدن والحضارات في صراعهم وغزواتهم مع أهل المناطق الحضرية
ومنحوا العرب مصطلحات أساسية ما زالوا يستخدمونها. فمصطلح
"السياسة" ذاته مشتق من فعل السائس، وهناك مصطلح الراعي والرعية
للحاكم والمحكوم، ومنها إعادة الراعي لرعيته إلى الحظيرة.
وقد أدى هذا، فيما يحلل د. الأنصاري، إلى نمو مكانة "القبيلة" في
الحياة العربية، برغم التعاليم الدينية التي حاولت الحد من نفوذها،
فاختصت قريش وفروعها بالقيادة والسلطة على صعيد الحكم والمعارضة
على السواء. ونجحت القبيلة في إعادة تشكيل مفهومها والتفت حول كثير
من المثل العليا. بل "عندما تنحل البداوة بالاستقرار والتحضر تبقى
القبيلة أو عشائرها رابطة حية وعصبية فاعلة. وإذا كانت البداوة لا
تكون دون قبيلة، فإن القبيلة يمكن أن تستمر طويلا دون بداوة". فبعد
ثمانية قرون من عمر الحضارة الإسلامية وانتشار الإسلام، وجد ابن
خلدون في دراسته للتاريخ أن "العصبية القبلية" ما زالت تمثل الركن
الثاني مع "الدعوة الدينية" في كل حركة جديدة للإصلاح وتأسيس
الدول.
وحتى في عدن، حيث جرب العرب الماركسية - اللينينية، انزاحت
الصراعات الأيديولوجية في لمحة عين، كما يقول الأستاذ مطاع صفدي،
لتحل محلها في صراعات عام 1986م الدموية "بدائية الشعائر القبلية".
وفي العراق اليوم، بعد عهود عديدة من الحكم الجمهوري، تأتي القبائل
إلى القصر الجمهوري حاملة راياتها بدلا من علم الدولة المركزي
لتوقع عقدا مكتوبا بالدم.
ويؤكد "الكتاب الأخضر" الذي كتبه الرئيس الليبي معمر القذافي أن
"القبيلة هي الأسرة بعد أن كبرت نتيجة التوالد.. والأمة هي القبيلة
بعد أن كبرت نتيجة التوالد.. إذن الأمة قبيلة كبيرة".
وإذا كان التاريخ السياسي الأوربي والغربي عموما لا تفهم جذوره إلا
من خلال تجربة الدولة - المدينة في بلاد اليونان، فإن التاريخ
السياسي للعرب، يقول د. الأنصاري، لا يمكن تفهمه جيدا إلا بالنظر
الدقيق في ظاهرة الدولة - القبيلة. فالدولة العربية "الحديثة"،
يضيف، إما أن تقمع القبائل الداخلة في تكوينها، وإما أن تتحالف
معها، وإما أن تعمل على تأسيس المجتمع المدني القادر على تذويب
العصبيات القبلية ودمج المواطنين وهذه ستكون دولة المستقبل العربي
ومفاجأة العروبة لنفسها.
موقف الإسلام من البداوة
تقود الأدلة والنصوص الباحث الأنصاري إلى تأكيد أن الإسلام دعا منذ
البداية إلى التحضر والابتعاد عن نمط الحياة الرعوية البدوية.
ويشير إلى أن معظم كتب الأصول التراثية تضمنت دلائل على أن الإسلام
حارب "التعرب" بعد الهجرة، أي العودة إلى الحالة الأعرابية،
واعتبرها في عداد الكبائر. واعتبر المهاجر إلى المدينة أو الحاضرة
الذي يعود إلى حياة البادية ويقيم في الأعراب من غير عذر كالمرتد.
ذلك أن "الأعراب أشد كفرا ونفاقا"، أي أنهم بالمقارنة أشد كفرا
ونفاقا من كفار الحاضرة أو البيئة الحضرية، كما أجمع على هذا ثقاة
المفسرين.
وكان المسلمون في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يستعيذون بالله
من التعرب بعد الهجرة لما في ذلك من ابتعاد عن مصادر تلقي الدين
والبيئة الإسلامية. فالمعيار إذن معيار معيشي حضاري وليس معيارا
موجها ضد الأعراب من حيث هم أعراب كجنس أو عرق.
غير أن في التراث الإسلامي عموما ما يمكن الاستشهاد به لصالح أهل
البادية. بل إن ابن خلدون نفسه، على شدة نقده لعرب البادية، يقول:
"إن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.. فهم أقرب إلى الفطرة
الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات وكثرة العوائد
المذمومة.. وهم أسرع الناس قبولا للحق والهدى".
ويستخلص د. الأنصاري من هذا التعارض، أن الموقف الإسلامي كان في
التحليل النهائي موقفا ضد البداوة لا البدو. فقد أراد الإسلام
البدو أنصارا وأتباعا بعد تخلصهم من بداوتهم، فالحكومة والسلطة لا
تترسخان إلا بترسخ المجتمع الحضري، وليس كالبداوة وعصبياتها - يقول
الباحث - ناقضا للدولة وهادما لنظامها.
ويعالج د. الأنصاري في القسم الثالث من الكتاب قضية التباس مفهوم
"الحكم" و "الحاكمية" و"الحكومة" في التداول المعاصر مع تنامي
الحركات الدينية الجماهيرية. إذ لا يخفى أن مصطلح "الحكم"، الذي
ورد في القرآن الكريم أكثر من مائتي مرة، قد تعرض عبر التطور
التاريخي إلى تغيرات دلالية بين المعنى اللغوي والشرعي والاصطلاحي
المتداول.
ويقول د. الأنصاري إن كلمات "الحكم" بمعنى تولي وممارسة السلطة
السياسية، و"الحاكم" بمعنى القائم بالأمر السياسي، و "الحكومة"
بمعنى السلطة التنفيذية، لم تدخل اللغة العربية إلا حوالي منتصف
القرن التاسع عشر فاستخدم بعضها بهذا المعنى في بيانات حملة
نابليون. ولم يستخدم عرب الجاهلية مصطلح "الحكم" بمعنى تولي
وممارسة السلطة السياسية. وتعود بداية صياغة كلمة الحاكمية إلى
الداعية الباكستاني المودودي، ولغته الأم والأولى لم تكن العربية،
ولا أصل للكلمة في القواميس العربية القديمة. وقد أحاط بالمصطلح
لغط واسع منذ ظهوره فقال الشيخ حسن الهضيبي، المرشد العام الأسبق
لجماعة الإخوان المسلمين في كتابه (دعاة.. لا قضاة): "إن لفظة
الحاكمية لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم ولا في حديث من أحاديث
الرسول عليه الصلاة والسلام.. والغالبية العظمى (من مردديها) تنطق
بالمصطلح وهي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلا عبارات مبهمة
سمعتها عفوا هنا وهناك، أو ألقاها إليهم من لا يحسن الفهم أو يجيد
النقل والتعبير.. وهكذا يجعل بعض الناس أساسا لمعتقدهم مصطلحا لم
يرد له نص من كتاب الله أو سنة الرسول.. أساسا من كلام بشر غير
معصوم وارد عليه الخطأ والوهم".
ويقول د. عبدالقادر عودة، أحد أبرز مفكري الإخوان المسلمين: "إن
الحكومة الإسلامية لا تستمد سلطانها من الله وإنما تستمده من
الجماعة، وهي لا تصل إلى الحكم ولا تنزل عنه إلا برأي الجماعة، وهي
مقيدة في كل أعمالها وتصرفاتها برأي الجماعة". ويرى مؤسس حزب
التحرير الإسلامي تقي الدين النبهاني ضرورة التمييز بين نبوة النبي
(صلى الله عليه وسلم) وقيادته السياسية، "وأما عصمة الرسول صلى
الله عليه وسلم فهي آتية من حيث كونه نبيا، لا من حيث كونه حاكما..
فالعصمة للنبوة والرسالة وليست للحكم".
أما الآيات الكريمة التي تكفر من لم يحكم بما أنزل الله، سورة
المائدة: 44. 45. 47 يقول د. الأنصاري، "فمفهوم الآيات يختص بتحقيق
أحكام الشريعة الإلهية في المجال القضائي - تحقيقا للعدل الشرعي
بين الناس - ولا يتناول كيفية ممارسة السلطة السياسية وأساليبها
وتنظيماتها وخياراتها واختلاف الاجتهادات والمصالح بشأنها - كما
يستفاد من لفظ "يحكم" في استعمالنا المعاصر - إذ إن الإسلام وضع
مبادئ عامة للغاية بالنسبة للأمر السياسي وتركه شورى بين المسلمين
بعد أن قرر أحكاما شرعية بعينها لأوضاع وحالات محددة منصوص عليها".
الماضي... والحاضر
وكان الرأي السائد أن تاريخنا القديم بحاجة إلى إعادة نظر وصياغة.
ويتبين لنا الآن أننا في حاجة ماسة، في ضوء دراسات د. الأنصاري
والآخرين، إلى النظر أيضا في تاريخنا الحديث والمعاصر الذي شوهته
الصراعات العقائدية والحرب العربية الباردة، فننظر مرة أخرى في
مساهمات وعطاءات رجالات ومفكري وأحزاب عصرنا، وفي ظاهرة البداوة
والتحضر، وفي علاقات الاتحاد والانفصال، وفي واقعية الكثير من
الأهداف المعلنة في حياتنا السياسية. وإذا كانت البادية والبداوة
والصحراء بهذه الدرجة من التأثير في تشكيل الماضي والحاضر، بل وفي
صياغة مصطلحات حياتنا السياسية، فلا بد من أن ندرسها دراسة مقارنة
عميقة.
القبيلة.. والديمقراطية
فيبدو مما يطرح د. الأنصاري أن الإسلام قد حارب القبلية وشجع
التحضر بشكل مطلق وأخشى أن يكون هذا انطباعا متعجلا. فقد جاء في
مقدمة ابن خلدون نفسه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استاء من رؤية
أداة زراعية في بعض دور الأنصار وقال محذرا: ما دخلت هذه دار قوم
إلا دخله الذل . وقد استفاد الإسلام كذلك من الولاءات القبلية في
إعداد الجيوش والفتوحات وبناء المساجد. وقد جاء في "الموسوعة
الإسلامية الميسرة" التي ترجمها د. راشد البراوي مثلا أنه كان
للقبائل مساجدها، وكان المسجد القبلي علامة على أن القبيلة ما زالت
تحتفظ باستقلالها في ظل الإسلام. وقد أقيمت حول المدينة المنورة
مساجد لكل من بني قريظة وبني حارثة وبني ظفر وبني وائل وبني زريق.
وكان للقبائل مساجدها في مصر حول مسجد عمر وفي الفسطاط. وفي أثناء
الحروب كانت المساجد القبلية النقاط الطبيعية التي تتجمع فيها
القبائل. ومن هذه الشواهد أخيرا تلك المكانة المتميزة التي أعطيت
لقبيلة قريش والتي لا تزال تثار في مسألة مؤهلات الخليفة.
وهناك، ثانيا، نقطة تتعلق في كتابات د. الأنصاري بموقفه من العلاقة
بين الدولة والحرية. فهو، بتأثر واضح فيما أعتقد بالتجربة القومية
الأوربية، يؤجل قضية الديمقراطية والتعددية لحين قيام الدولة
والمؤسسات المدنية الناضجة ووجود "رحم دولة سليمة معافاة تنمو
فيه". وهذه مثالية لا تنسجم في رأيي مع الإطار العام لأفكار د.
الأنصاري وما فيها من زخم كبير من الواقعية النقدية والدعوة إلى
تحمل المسئولية التنموية من قبل كل فرد. ولا يبين لنا في عملية
التأجيل هذه كيف يمكن للعرب أن يتعلموا المشي دون أن يسقطوا هنا
ويتعثروا هناك، مما تستلزمه مسيرة الأمم. بل إن الباحث الفاضل يكاد
يذكرنا من جديد بعلاقة الحرية والديمقراطية بالوحدة، بأيهما نبدأ
وبأيهما نضحي. وأخشى أن تكون المخايرة بين بناء الدولة
والديمقراطية السياسية مخايرة بين اليد اليمنى والرجل اليسرى.
---------------------------------------
المصدر : مجلة العربي 450 / 1 ـ 5 ـ 1996