موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

الشروط الذاتية والموضوعية للنهضة
مبادئ النهوض الاجتماعي ـ 54



ولكي تنهض الاُمّة وتنطلق لابدّ من أن تتوفر الشروط الانسانيّة الاتية :
1 ـ احترام العقل وإعطاءه الدور اللاّئق .
2 ـ المنهج .
3 ـ الوعي .
4 ـ الثقة بالنفس والشعور بدور الاُمّة .
5 ـ إرادة التغيير .
6 ـ الحرِّيّة وإحترام إرادة الانسان وحقّه في الحياة .
7 ـ المبادئ .
8 ـ الطليعة (القادة) .
1 ـ احترام العقل وإعطاءه الدور اللاّئق
ونعني باحترام العقل هنا اسـتخدام العقل في تحصيل العلم وفهم الموجود، فهم الذات والعالم الخارجي، والتعامل مع الاشياء تعاملاً عقليّاً .
فالعقل هو المنطلق الاوّل لحركة النهوض والانعتاق، وهو جوهر الانسانيّة، والقوّة المدركة لعالم الطبيعة والانسان، والاداة الفعّالة في صنع الحضارة والمدنيّة . وعندما ينطلق العقل حرّاً، يفكِّر ويتأمّل، ويتعامل مع الرسالة الإلهيّة والطبيعة والحياة والاشياء، وفق نظام نظري وعملي متقن الأداء، تكون الاُمّة قد وضعت أقدامها على مسار التغيير والانطلاق .
وحين يُقمع العقل، ويتسلط الارهاب الفكري، وتُشلّ حركة الابداع وقوى الانسان العقلية عن ممارسـة دورها الموكول إليها في الحياة، فسوف لن تخرج الاُمّة من كارثة التخلّف وظلمات الجهل والركود .
لذا إنطلق القرآن بالعقل يقوده من نصر إلى نصر، ويفتح به آفاق الوجود من فتح إلى فتح . يدعوه إلى فهم عالم الطبيعة والوجود، كما يدعوه للانفتاح على ما فيه من قيم ومبادئ وعقيدة وأفكار وشريعة :
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ). (محمّد / 24)
( ... إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ). (الزُّمر / 42)
وعلى إمتـداد تأريخ البشريّة كانت المعركة بين العقل والخرافة والتخلّف سجالاً وملاحم متواصلة .
ويُصوِّر إمام العقل، عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قيمة العقل من خلال عرض قصّة الحوار بين آدم وجبرئيل (عليهما السلام) فيقول :
«هبط جبرئيل على آدم ـ صلوات الله عليه ـ فقال : يا آدم ! إنّي أمرت أن أخيّرك في ثلاث، فاختر واحدة ودع إثنتين، فقال له آدم : يا جبرئيل ! وما الثلاث ؟ قال : العقل والحياء والدِّين، فقال آدم : فإنِّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدِّين إنصرفا، ودّعاه فقالا: يا جبرئيل! إنّا اُمِرْنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج».
وروي عنه (عليه السلام) قوله: «صدر العاقل صندوق سرّه، ولا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالادب» .
لقد أسّس القرآن الحياة والحضارة والمدنيّة على أساس العقل، حتّى صحّ أن نقول أنّ الحضـارة الاسلاميّة حضـارة عقليّـة، وأوّل اُسس هذا البناء هو العقيدة الاسلاميّة، فقد خاطب القرآن العقل، ودعا إلى التفكّر والتأمّل والفهم والاستنتاج، ورفض الخرافة والاساطير والتقليد الاعمى .
واعتمد القرآن في كلّ ذلك الدليل والبرهان الحسِّي والعقلي لاثبات وجود الخالق والتعريف به سبحانه .
وإنطلاقاً من هذا المنهج، منهج البرهنة والاستدلال، قال علماء الاسلام بأنّ الايمان بالعقيدة الاسـلاميّة لا تقليد فيه، بل يجب على الانسان أن يؤمن إيمان دليل وبرهان عقلي، وبغضّ النظر عن مستوى هذا الدليل والبرهان .
2 ـ المنهج
ونعني بالمنهج طريقة فهم الاشياء والتعامل معها . أي منهج تحصيل المعرفة، وطريقة فهم الحياة . بكل ما في المعرفة والحياة من مفردات المادّة والطبيعة والفكر والرسالة الالهيّة والمجتمع والتأريخ . وليس بوسع العقل البشري أن يعمل، وتوظّف كلّ طاقاته بشكل منتج ومتنام، إلاّ إذا استخدم منهجاً علميّاً موصلاً إلى نتائج علميّة .
وحين ينتكس الفكر ويسيطر المنهج غير العلمي، سواء في مجال البحث وتحصيل المجهول المعرفي والعلمي، أو في الفهم وطريقة التعامل مع موجودات الحياة، يدخل العقل والجهد والامكانات في متاهات وضياع متناقض، ولا يمكن للانسان أن يحقِّق نتائج علميّة، أو يصنع حياة صحيحة متطوِّرة .
وإذاً فالعنصر الثاني من عناصر النهوض بعد العقل هو المنهج .
المنهج الّذي يستخدمه العقل للوصول إلى أهدافه في فهم الطبيعة والمجتمع والرسالة الإلهيّة، وقيم الحياة .
النهضة ومنهج فهم النصّ الشرعي
في البدء قد يُثار سؤال : ما علاقة فهم النص الشرعي بالنهضة والحركة والتطوّر البشري .
ومن المسلّم أنّ القانون والقيم والاعراف، وطريقة فهم الحياة، لها تأثيرها البالغ، سلباً أو إيجاباً في نهضة الاُمّة أو تخلّفها . وفهم النص الشرعي هو منطلق إيجاد القانون والقيم والاعراف وفهم الحياة .
ولقد سلب الفهم غير السليم للنص الشرعي إرادة الانسان، ودعاه إلى الخضوع للحاكم الظالم، كما دعاه إلى الكسل والاتكالية . فظهر الفكر الجبري، ووجوب الخضوع لارادة الحاكم، مهما يكن جائراً أو ظالماً، كما ظهر عند البعض النداء بإقالة العقل، والتوقّف عن فهم النص الشرعي إلاّ من خلال الفهم السلفي، والّذي لا يفي بمتطلّبات التطوّر والتغيير والتحوّلات الاجتماعيّة الكبرى في الحياة . ممّا يؤكّد أهمية دور منهج فهم النص في النهضة والتطوّر . فدور منهج فهم النص في النهضة كدور منهج فهم الحياة الواقعية في النهضة، وذلك يدعونا إلى تقديم إيضاح موجز عن هذا المنهج .
وقبل الحديث عن كيفيّة التعامل مع (النص الشرعي)، ينبغي لنا أن نعرِّف (النص) كما نعرِّف (الاجتهاد) الذي هو أداة النهضة الفكريّة، كما ينبغي أن نعرِّف بالمرجعيّة الفكريّة في حال التعامل مع النص، ونعدِّد حالات الفهم والاستفادة عن طريق الاجتهاد ومحاولة إسباغ الوصف الاسلامي، أو الشرعي على ما يُستفاد ويُستنبط من النص، وبالتالي تحديد ما هو إلهي، وما هو بشري من القضايا المستفادة من النص أو تفسيره .
النص في الاصطلاح : «هو اللّفظ الدال على معنى غير محتمل للنقيض بحسب الفهم» (1).
«والنص ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، أولا يحتمل التأويل . ومنه قولهم : لا اجتهاد مع النص . وعند الاُصوليين : الكتاب والسنّة»(2).
النص : «هو اللفظ الّذي لايحتمل بحسب نظام اللّغة وأساليب التعبير، سوى إفادة مدلول واحد، إفادة يقينية، أو باعثة على الاطمئنان» (3).
إن دراسة وتحليل المعنى المختزن في الصيغة البنيويّة للنص الديني، هي علم له اُصوله ومناهجه ودراساته الخاصّة في (علم اُصول الفقه) .
وبهذا العلم يسلم النص من العبث والتلاعب والذاتية ليخضع للمنهجية العلميّة، وليعطي النتائج العلميّة المطلوبة .
وإذاً فمصطلح النصّ الشرعي يُطلق على الصيغة البنيويّة للآية القرآنية، وللكلام النبوي . كما يُطلق على الكلام الصادر عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في المعتقد الامامي باعتباره حاكياً عمّا يحمله القرآن، أو الحديث النبوي .
وفي هذا التعريف الموجز بالهيأة البنيويّة (للنصّ الشرعي) وكيفيّة
التعامل مع الخزين المستودع فيه، بغية فهمه، واستجلاء روحه ومقاصده، عن طريق التفسير والتأويل، ووفق المنهج العلمي المحدّد، الّذي يُخرج الدراسـة من التحميل الذاتي للنص، إلى الموضوعية العلميّة الّتي يبرز فيها دور العقل كمكتشف يقوم بمهمّة استنطاق النص، والتعبير عمّا يحمله من غير أن يتصرّف فيه، أو يضيف إليه من خزينه المستودع في منطقة الوعي أو اللاوعي.
فيأتي إلى النص مركّباً من ذاتيتين : ذات الموضوع، وذات العقل الممارس .
ومعنى الاجتهاد «إصطلاحاً كما عن الحاجبي، والعلاّمة : استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي . وعن غيرهما : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلاً أو قوّة» (4).
وإذاً فالاجتهاد في الشريعة، هو بذل الجهد العلمي لاستخراج الاحكام والقوانين الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة . والشخص المؤهّل لاستنباط الاحكام الشرعيّة من أدلّتها (الكتاب والسنّة) هو الفقيه، بما توفّر لديه من إحاطة وأدوات علميّة .
وللاجتهاد دور أساس في نهضة الاُمّة، وحركة وعيها الفكري والسياسي، ذلك لانّ الاجتهاد يساهم في استنباط الاحكام الشرعيّة والمفاهيم الاسلاميّة الّتي يحتاجها الفرد والدولة والمجتمع في شتّى المجالات العباديّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة وغيرها .
وبقدر ما يسير الاجتهاد وفق فهم عصري للموضوعات والقضايا والحاجات الانسانيّة، يساهم هذا العمل في تطوير الحياة، وإيجاد النهضة في الاُمّة . ذلك لانّ القانون المتطوِّر هو أحد أركان نهضة الاُمّة، وهو القانون الّذي يستوعب حركة الحياة ومستجدّاتها، ويعمل على دفع عجلة الحياة إلى الامام .
ويُساهم الاجتهاد مساهمة أساسيّة في استنباط تلك القوانين والاحكام الّتي يحتاجها المجتمع المعاصر، كالعلاقات الدولية، وأحكام البنوك والشركات والمال والنقد وحماية البيئة، ومستجدّات الطب والصحّة، وتنظيم الاُسرة، ونظم الاعلام المعاصر والتكنولوجيا . . . الخ .
3 ـ الوعي
إنّ المشكلة الكبرى الّتي يعاني منها الانسان على إمتداد الاجيال والحقب هو فهمه للحياة ووعيه لحقيقة ما يجري فيها .
إن معظم مشاكله النفسيّة، والشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، متأتية من فهمه الخاطئ للحياة ووعيه السطحي، أو غير السليم لها .
لقد انتهى الفهم المضطرب بالانسان إلى فلسفة اللاّمعنى للحياة وإلى فلسفة الرّفض، والتشاؤم والعبثية والقلق، وكانت كلّ هذه الانعكاسات مصدر الشقاء والعذاب للانسان .
كما فهم آخرون الحياة بأ نّها المغنم الّذي يجب احتكاره وحرمان الاخرين منه، وأنّها منتهى وجود الانسان، ففيها يعيش ويفنى، وليس بعدها من حياة اُخرى، فنشب الصراع والحروب والاستعباد والشقاء البشري نتيجة لهذا الفهم والتعامل مع الحياة .
إنّ وعي الحياة وفهمها على حقيقتها ترتبط به حركة الانسان وموقفه، كما يرتبط به شقاؤه وسعادته .
ولهذا الفهم أثره البالغ في اليقظة والنهوض، ونمط البناء الحياتي والتنموي .
إنّ النهضة البشريّة لا تتم بالعنصر المادّي وحده، بل تسـير على خطّين متوازيين ; هما البُعد المادّي، والبُعد الانساني، وما لم يحدث التغيير في الجانب الانساني من الانسان، ليس بوسع التحوّلات المادّيّة، ولا القانون الشكلي أن يحدثا التغيير في حياة الانسان .
إنّ فهم الحياة، أو وعيها، فهماً ووعياً سليماً، يرتبط بوعي وفهم عدّة عناصر هي :
فهم مبدأ الوجود، فهم المآل والنهاية والغاية الّتي ينتهي إليها الوجود، فهم الذات، فهم الموجود في عالم الحياة .
فما لم يفهم الانسان العالَم، المحيط به، وكيف وُجِدَ، وإلى أين يسير، والغاية من وجوده لا يستطيع أن يفهم ذاته .
وما لم يفهم ذاته لا يفهم الحياة، وما لم يفهم الموجود من المال ومُتع الحياة وخيراتها لا يستطيع أن يتعامل معها تعاملاً سليماً .
إنّ الفهم ذا البُعد الواحـد، البعد المادّي، لا يوفِّر وعيـاً سـليماً للحياة . لقد انتهى هذا الفهم بكارثة الشقاء والعذاب النفسي للانسان، وبالتالي فإنّ النهوض المادّي صاحبه تخلّف مُروِّع في الجانب الانساني.
فإنّ الاحصاءات تفيد أنّ التقدم التقني الهائل صاحبه هبوط مُروِّع في الجانب الانساني، وإن عذاب الانسان وشقاءه ازداد مع هذا التقدّم التقني .
وإذاً ففهم الحياة يرتبط بشكل أساس بالايمان بالله، وعلاقة الوجود به . أوالتنكر لذلك، وإنعكاس هذا الارتباط أو الانفصام على طبيعة الفهم .
الانسان عندما يفهم أنّه يُخاطَب من قبل خالق الوجود، ويتلقّى البيان والتعريف عن وجوده في هذا العالَم، إنّما يتلقّى المعرفة الحقّة، والوعي الحق عن ذلك الخالق العظيم .
وعندما يفهم الانسان ذلك، يُدرك أنّ الحياة الدُّنيا مرحلة في حياة الانسان، وأنّه يعمل لعالم البقاء ; لذا فهو يتعامل مع الحياة وما فيها من مُتع ولذّات ومال وسلطة وجاه وقوّة وعلم ومشاكل على أنّها عرض زائل، ويتعامل مع هذا العرض بقدر ما يحقِّق له البقاء السليم، وأنّه جزء من هذه الانسانيّة، كما أنّه جزء من عالم الطبيعة يحيى على هذه الارض، ليرحل عنها :
(هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الاَْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ). (هود / 61)
4 ـ الثقة بالنفس والشعور بدور الاُمّة
الانسان عندما يفقد ثقته بنفسه إنّما يلغي وجوده، ويخسر قيمته في الحياة، ويتحوّل إلى كم مهمل أمام نفسه، وبهذا الشعور السلبي الهدّام، الشعور بالنقص، يكون قد أخرج نفسه من الحياة، فهو لا يرى نفسه جديراً يتحمّل المسـؤوليّة أو الاعتماد، وغير قادر على إنجاز الاعمال بمفرده، فلا يستطيع أن يفكِّر ويخطِّط ويعمل بالاستقلال، وتلك مشكلة نفسيّة وتربويّة، لها جذورها من النشأة الاُسريّة، وتجربة الطفولة الاُولى، كما لها جذورها الاجتماعيّة والسياسيّة .
وقد حرصت قوى الاستكبار والطاغوت، ودول الاستعمار العالمي على أن تكرِّس هذا المفهوم لدى الشعوب المقهورة، وتكوِّن لديها عقدة الشعور بالنقص، والاعتماد على ما ينتجه المسيطرون والمستعمرون من فكر وثقافة وصناعة وعلوم وتقنيّة ونظم حياة، وتعميق الشعور بالعجز عن التفوّق، واسترداد الذات السليبة .
وقد أغنى القرآن الكريم بشعور روح الانسان المسلم الثقة بالنفس، والاعتزاز بالذات الاسلاميّة وتعميقها في نفس الانسان المسلم ووعيه، لينطلق من قاعدة نفسيّة صلبة في خوض معترك الحياة، ومجابهة التحدِّيات .
وأوضح القرآن للاُمّة المسلمة دورها الحضاري الرائد بقوله :
(وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدَاً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ).(البقرة / 143)
فالقرآن يحدِّد للاُمّة مكانتها في هذه الآية، إنّها اُمّة قائدة وشهيدة على الاُمم بما تحمل إليها من مبادئ، وتدعوها إليه من قيم الحق والعدل والحرِّيّة والاخلاق، وما تنتهجه من منهج العلم والعقلانية، بل ويوضِّح القرآن للاُمّة المسلمة أنّها خير اُمّة اخرجت للناس، وعليها أن تكون في الطليعة من موكب البشريّة تعتزّ بمكانتها الحضاريّة الرائدة، ولا يتسرّب إليها، الشعور بالنقص، أو بتفوّق غيرها عليها ; وإن قُهرت آناً من الزمن وسبقها البعض في فترة من التأريخ .
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ ). (آل عمران / 110)
وعندما يعيش هذا الشـعور في أعماق الاُمّـة، و هذا الاعتزاز بالشخصيّة العقيديّة، تكون الاُمّة قادرة على تجاوز العقبات، ولديها القدرة على النهوض .
5 ـ إرادة التغيير
لكي يمضي الانسان بمشروعه وأهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادة وتصميم وعزيمة لا تلين . ويتجسّد دور الارادة وأهميّتها في الموقف البشري في عمليّة الصِّراع، وعمليّة التحدِّي ومواجهة الصِّعاب والاخفاقات، والانسان الّذي يحمل الارادة القويّة الصادقة يحقِّق أهدافه، ويكرِّس جهده واهتمامه وطاقاته من أجل تحقيق الاهداف .
إنّ مهمّة التغيير في الاُمّة لَهيَ مهمّة صعبة، وتحتاج إلى إرادة وعزيمة، فالاُمّة الّتي لا تحمل إرادة التغيير، ولا تحمل روح الرفض للواقع المتخلِّف، وترضى بالعيش تحت الظروف الّتي ألفتها من الظلم والفساد والفقر، ولا تنزع إلى وضع أفضل، ومستقبل زاهر، لَهيَ اُمّة فقدت إرادة التغيير، ولا يمكن أن تحقِّق النهوض والتحرّر من التخلّف والظلم والفساد السياسي والاجتماعي، ولن تحقق التنمية الاقتصاديّة والتقدّم العلمي .
إنّ التغيير الّذي ينشده الاسلام، هو التغيير الجذري الشامل الّذي يبدأ من أعماق النفس البشريّة، منطلقاً من تغـيير المحتوى الذاتي للانسان، فتغيير الوضع الفكري والروحي والسلوكي للانسان، هو منطلق التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني :
فبإرادة التغيير والعزم عليها يحدث التغيير، وإيجاد هذه الارادة يحتاج إلى عمل متواصل من قِبَل الطليعة ذات الارادة والعزيمة .
إنّ الذين غيَّروا، وأعدّوا للنهضة، هم اُناس يمتازون بإرادة التغيير، وبالقوّة والصمود، ويرفضون الاستكانة للطاغوت .
وقد وصف الله سبحانه إرادة المصلحين والمغيِّرين بالعزيمة، وبذا وصف صفوة الانبياء بأ نّهم اُولو العزم، لا نّهم اُولو إرادة قويّة لا تلين ولا تتراجع . حملوا الرسالات بقوّة، وتحمّلوا مشاق التغيير والصراع بأشدّ صورها . وبذا خاطب سيِّد المرسلين محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال :
(فَاصْبِر كمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُم ). (الاحقاف / 35)
ومن هذا المنطلق خاطب الله نبيّه يحيى بقوله :
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ). (مريم / 12)
إحمل رسالة التغيير بقوّة وعزيمة وإرادة لا تلين .
6 ـ الحرِّيّة واحترام إرادة الانسان
الحرِّيّة : هي القدرة على الاختيار، والبحث في الحرِّيّة يقود إلى تقسيم الحرِّيّة إلى قسمين :
أ ـ الحرِّيّة الداخلية : أو حرِّيّة الارداة والاختيار الباطني عند الانسان : وهي الّتي دار البحث حولها من قِبَل علماء العقيدة (علماء الكلام) والفلاسفة والمفكِّرين الاسلاميين، وغير الاسلاميين، وانتهى البحث فيها إلى مذاهب وآراء شتّى، فذهب فريق أمثال الاشعري وغيره، إلى أن الانسان كائن مُجبَر، لا يملك القدرة على الاختيـار ; فالافعال تجري عليه كما يجري الماء في النهر . فنحن نقول : جرى الماء في النهر، وليس للماء حرِّيّة ولا إرادة في إختيار الجريان في النهر، بل يجري بقوّة قاهرة خارجة على ذات الماء .
وكذا الافعال الّتي ننسبها إلى الانسان، فهي أفعال الله تجري بواسطة الانسان، وليس الانسان هو الفاعل الحقيقي لتلك الافعال، وفسّروا دور الانسان بالكسب .
وهكذا جرّدت هذه النظريّة الانسان من الحرِّيّة والاختيار، في حين ردّت آراء إسلاميّة اُخرى على هذا الاتّجاه، واعتبرته معارضاً لعقيدة التوحيد الّتي تؤمن بعدل الله سبحانه، وتنزِّهه عن الظّلم، فكيف يُجرِّد الخالق سبحانه الانسان من الاختيار، ويُجري عليه أفعاله، ثمّ يُحاسبه عليها، وهو لا يملك القدرة على الفعل والترك فيما فرض عليه، بل ما قيمة الامر والنهي من قِبَل الله تعالى إذا كان الانسان لا يملك القدرة على الاختيار .
فالانسان وفق الرؤية القرآنية، ومنطق العقل الاسلامي، يجب أن يكون مختاراً وحرّاً، ليكون مسؤولاً، وليجري عالم الانسان وفق عدل الله تعالى، فلا مسؤوليّة بلا حرِّيّة، قال تعالى :
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ). (البلد / 10)
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ). (الانسان / 3)
(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَسْؤُولُونَ ). (الصّافات / 24)
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ). (الاعراف / 6)
وهكذا تتلازم الحرِّيّة والمسؤوليّة في العقيدة الاسلاميّة، وفي الفكر الاسلامي . وهكذا تكون قيمه الانسانيّة في كونه حرّاً مسؤولاً .
ب ـ الحرِّيّة الاجتماعيّة : وإذا كانت الحرِّيّة الداخليّة أو الذاتيّة تتمثّل في القدرة على الاختيار والترك، فإنّ القسم الثاني من الحرِّيّة، هو الحرِّيّة الاجتماعيّة .
وهي الحرِّيّة الّتي يمنحها القانون والاخلاق والمجتمع للفرد، ويُعطى حق ممارستها في المجتمع. ويجب أن تتعامل معه السلطة والمجتمع وفقها، ومثالها حرِّيّة الفكر والسياسة والتملّك وغيرها .
والحرِّيّة هي منطلق النهضة والتنمية والتقدّم لدى الفرد والمجتمع، فالانسان الّذي لا يملك الحرِّيّة لا يستطيع أن يصنع الحياة، والانسان الّذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيّته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدّم .
وإنّ من أخطر أسباب تخلُّف عالمنا هو مصادرة إرادة الانسان، وكبت حرِّيّته المشروعة، الحرِّيّة المسؤولة الّتي لا تنفك عن الالتزام والمسؤوليّة .
ولكي تنهض الاُمّة، فهي بحاجة إلى الحرِّيّة، بحاجة إلى حرِّيّة الفكر، بحاجة إلى أن يُحرّر العقل من الارهاب الفكري، ويُفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق، وليفكِّر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار فإنّ الانسان المكبوت الحرِّيّة هو إنسان مشلول القدرة والارادة، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته وإمكاناته .
7 ـ المبادئ
النهضة هي حركة انتقال من وضع حضاري وإجتماعي إلى آخر، فهي حركة تغيريّة، والتغيير لابدّ له من أن يستند إلى مبادئ واُسس فكريّة حضاريّة تسلك كدليل للمغيِّرين يوضِّح أهدافهم، ويشخِّص معالم مسيرتهم، ويحدث التغيير على أساسها .
فلا تحدث نهضة في الاُمّة، ولا يحصل تغيير أو انتقال في مسارها، ولا تتوفّر دواعي النهوض والانطلاق، إلاّ إذا كانت لتلك الاُمّة مبادئ وقيم وأفكار تقود نهضتها، ويتحقق الانتقال النوعي فيها على أساسها .
إنّ الثورات الاصلاحيّة، والنهضات التغيّرية، إنّما قادتها مبادئ وأفكار ومفاهيم، كما قادها، رجال طليعيون، وقادة مبدئيون . وذلك هو سرّ بعث الانبياء وإرسال الرُّسل .
فقد حمل الانبياء والمرسلون الرسالات والمبادئ الّتي دعوا شعبوهم واُمّمهم إليها لإحداث عمليّة الاصلاح والنهوض من التخلّف والفساد .
وكم تحدّث القرآن عن أنّ رسالته هي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من التخلّف العقيدي والعلمي والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى العلم والهدى وعدل
السلطة والسياسة واستقرار الحياة.
وتلك المبادئ ما لم يؤمن بها أصحابها، ويعتنقوها بوعي وإخلاص لاتستطيع أن تُحدِث التغيير في نفوسهم، ولاتبعثهم على الحركة والنهوض. إنّ الاُمّة الاسلاميّة بين يديها رسالة القرآن، دليل النهضة، ومشعل النور والهداية، بُعث به الهادي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لانقاذ البشريّة، ولتحقيق النهوض الحضاري على أساس العلم والايمان وقيم الاخلاق .
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ). (إبراهيم / 1)
إنّ الرسالة الاسلاميّة، هي رسالة العلم والحضارة، وقد استوعبت حاجة الانسان الفكريّة التشريعيّة والتربويّة . واستطاعت أن تبعث في البشريّة بأسرها روح النهضـة والوعي .
8 ـ الطليعة (القادة)
إنّ نقطة البداية، ومنطلق النهضة والتغيير في الاُمّة هم الطليعـة، والقيادة الرائدة الّتي تتحسّس محنة التخلّف، وتشعر بآلام الانسان، وتكرِّس همّها وجهدها للاصلاح .. لقد كان طليعة الرّواد والقادة هم الانبياء والمرسلون (عليهم السلام)، كانوا نقطة البداية، ومنطلق التغيير .
ويبدأ الانسان الفرد النبيّ أو القائد الحركة، ثمّ ينطلق نحو الاخرين فيختار، وينتقي من يراه مؤهّلاً للمشاركة في عمليّة التغيير، وتحدِّي الواقع المختلِّف ; ليكوِّن النواة الاُولى . بادئاً بالتوعية على فساد الواقع وضرورة تغـييره، وإيضاح صورة التغيير والمنهج الّذي يدعو إليه المغيِّر .
وهكذا بدأ الانبياء (عليهم السلام)، فكان مع كلّ نبي طليعـة هي النـواة الاُولى للتغيير والبناء، ثمّ تبدأ عمليّة التعميم والانتشار، حتّى تصبح الدعوة إلى النهوض والتغيير والاصلاح تيّاراً إجتماعيّاً تحرِّكه وتقوده الطليعة الرائدة .
وقد ثبّت القرآن تلك الحقيقة من خلال عرضه لقصص الانبياء، وصراعهم ضدّ الطواغيت، وثبات الفئة المؤمنة الرائدة، مثالها :
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَيء رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّـلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (الممتحنة / 4)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآمَنَت طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ).(الصف / 14)
ـــــــــــــــــ
(1) الطريحي / مجمع البحرين .
(2) المعجم الوسيط .
(3) يراجع الشهيد الصدر / دروس في علم الاُصول / الحلقة الثانية / ص 209.
(4) الاخوند الخراساني / كفاية الاُصول / ص 528 .
الخلاصة
لابد لكل أمة ترنو الى النهوض أن تتوفر فيها عناصر معينة تعتمد عليها لتحقيق غرضها ذلك، وفي خصوص الشروط المطلوب توفرها للأمة الإسلامية لكي تنهض وتواكب المسيرة الحضارية أن تتوفر فيها العناصر التالية:
1 ـ احترام العقل: أي استخدامه في تحصيل العلم وفهم الوجود.
2 ـ المنهج: وهو الطريقة المخصوصة لفهم الأشياء للتعامل معها.
3 ـ الوعي: وهي فهم حقيقة الحياة وارتباطها بحركة الإنسان وموقفه الذي يحدد شقاؤه وسعادته.
4 ـ الثقة بالنفس والشعور بدور الأمة: حيث بفقدانه يحدث الشعور بالنقض مما يكبح النهضة والاعتماد على النفس.
5 ـ إرادة التغيير: الذي عنده تحمل الأمة روح الرفض للواقع المتخلف.
6 ـ الحرية واحترام إرادة الإنسان: بشقيها الداخلية وهي حرية الاختيار والاجتماعية وهي التي يمنحها القانون والأخلاق والمجتمع للفرد.
7 ـ المبادئ: فلا تحدث نهضة الأمة ما لم تعتمد على مبادئ وقيم تقود لنهضتها.
8 ـ الطليعة: حيث تنطلق المبادئ من الإنسان الفرد النبيّ أو القائد الحركة الى الآخرين بادئاً بالتوعية على فساد الواقع وضرورة تغييره.
مصطلح
الحرية: هي القدرة على الاختيار


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع