كل مسلم بحاجة إلى التوجيه والقيادة من أجل الوصول إلى أهدافه
الانسانية الأصيلة، وفي هذا المجال، فان (الوحي الإلهي) المتمثل في
تعاليم دين الاسلام قام بتبيين كيفية هذا التوجيه وهذه القيادة،
وجعل على عاتق الرسل والأئمة ومن بعدهم الفقهاء المطلعين على جميع
نواحي الدين ومجالاته؛ مسؤولية التوجيه والقيادة..
وعلى هذا الأساس، فان (الحكومة الاسلامية) تتولى على عاتقها قيادة
المجتمع وتوجيهه نحو بلوغ الأهداف والمُثل الانسانية، وبتعبير آخر،
إنها تتولى بناء المجتمع، والمثال الملهم لها في ذلك هو المجتمع
النموذجي المثالي في عصر ظهور الإمام صاحب الزمان (عج) والحكومة
الاسلامية المهدوية..
وينبغي أن تقوم الحكومات الاسلامية قبل ظهور الإمام المهدي (عج)
لتنهض بدورها القيادي الهادف لايصال الفرد والمجتمع إلى مستوى عال
من التكامل، بحيث يكون مهيأً للاشتراك في الثورة والنهضة العالمية
التي سيعلنها الإمام (عج)، ويشارك بدور فعال في مجتمع عصر الظهور،
وليس معنى (الانتظار) سوى الحصول علىه ذا الاستعداد والوصول إلى
هذا التهيؤ.
وإن الوصول إلى ذلك المجتمع النموذجي المثالي لا يتيسر إلا من خلال
السير المتكامل نحوه، وهو السير الذي يكون منطلقه رغبة بني الانسان
وإرادتهم، والدولة المهدوية هي ثمرة ذلك السير المتكامل نفسه، وليس
من قبيل الانفجار التاريخي الماركسي، الذي هو حصيلة الصراع الطبقي!
وإن حديث الإمام الخميني عن اتصال الحكومة الاسلامية بالدولة
المهدوية الكريمة، هو ثمرة لهذا الفهم والتصور عن الحكومة
الاسلامية التي تقام قبل عصر الظهور، والتصور الشامل عن المجتمع
النموذجي المثالي لعصر الظهور، ومن هنا فقد كان يفسر ـ بصراحة ـ
معنى (السياسة والحكومة) بـ(القيادة)، فيقول: (إن مهمة السياسة هي
أن تقوم بتوجيه المجتمع وقيادته، وأن تأخذ بنظر الاعتبار جميع
مصالحه وتنظر نظرة شمولية إلى جميع نواحي الانسان والمجتمع وتقوم
بتوجيهها باتجاه ذلك الأمر الذي فيه صلاحهم، وهذا مختص بالأنبياء،
فليس بمستطاع الآخرين أن يديروا هذه السياسة، ولذا فإن هذا النمط
من السياسة مختص بالأنبياء والأولياء وتبعاً لهم علماء الاسلام
الواعين).
وثمة نقطة لا تخلو الاشارة إليها من الفائدة، وهي:
فيما يخص مفهوم (السياسة) و(الحكومة) هناك العديد من التعاريف
المختلفة طرحت في هذا المضمار. ولكن المؤاخذة الأساس عليها هي
كونها (انفعالية) بمعنى ان معظمها قد طرح للمجتمعات البشرية، تحت
تأثير الصيغ والانظمة السياسية الحاكمة..
ولكن يمكن القول باختصار: انه لما كانت السياسة تهتم بالجانب
الاجتماعي للانسان فانها ـ شأنها شأن سائر العلوم الانسانية
والاجتماعية ـ تخضع للتأثير المباشر للانسان العالم، بحيث انه ما
لم يتم الحصول على مفهوم جامع وكامل لهما لا يمكن تقديم تعريف صحيح
لـ(السياسة) ولبقية المصطلحات والمقولات الموجودة في العلوم
الانسانية..
ومن هنا، يمكن الحصول على نتيجة مفادها: ان تعريف (السياسة)
و(الحكومة) يختلف باختلاف المناهج والنظريات المختلفة، ولم يعد
بالامكان الاقتناع بهذه التعريفات لمرحلة انتقالية، واقتراضها من
الآخرين..
وعلى هذا الأساس، ونظراً للنظرة الاسلامية المتعمقة في معرفة
الانسان، والتي استعرضنا منظراً عاماً لها في هذه المقالة وقمنا
بإلقاء نظرة إجمالية عليها في طيات البحث؛ يمكن القول ان السياسة
هي (فن ممارسة الحكومة) من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن تفسير الحكومة
بـ(التوجيه والقيادة).
- النظرية الليبرالية في الحكم:
تعرّف الليبرالية الانسان بأنه كائن حرّ، و(الليبرالية)
(Liberalism) كلمة مشتقة من الجذر (Liber) وهو يعني بدوره (الحر)،
والليبرالية ـ في جميع نواحيها ـ تعني الحرية المطلقة.
ونظراً لكون هذه الحرية تغاير مفهومها المصطلح المتعارف ـ الذي يعد
قيمة وكمالاً اجتماعياً ـ ومن أجل الحيلولة دون الوقوع في الخلط
والخطأ، ينبغي التعبير عن (الحرية الليبرالية) بـ(الاباحية).
أي بمعنى أن يكون للانسان مطلق الحرية في القيام بأي عمل ولا يكون
مقيداً في أي مكان وعلى يد أي أحد يذكر بأي قيد أو التزام، وفي هذا
السياق، يعد أي أمر مقدس يسعى لغرض (التحديد) أو (التضييق) على هذه
الحرية أمراً مذموماً بغيضاً.
وقد وصف أحد الكتّاب أصول الفكر الليبرالي، فقال: إن الصورة
المبسطة لليبرالية تتمثل في كونها تعني التحرر من قيد المقدسات، أي
انه ليس هناك أي شيء أو أي شخص يحمل صفة القداسة، ولسان حال
الليبراليين يقول: اريحونا من شر المقدسات.
إن معرفة الانسان في الليبرالية هي الأخرى ذات طابع يتصف بالسمة
الطبيعية والواقعية! أي أنها ترى الانسان هو هذا الشخص الموجود
بالفعل، والذي أبدى نفسه حتى الآن، وهي طبعاً تمتلك له المثال
والهدف لكنه لا يتجاوز ـ في أي حين من الأحيان ـ حدود الانسان
الموجود ومواصفاته الحالية، وهي لا تبحث عن انسانها المطلوب، في
السماء.
ومثلما يلاحظ، فان من الخصائص البارزة لعصبة الليبرالية معاداة كل
واحدة من المثل. وطبعاً، فإن مثل هذه النظرة الكونية الخاصة تقتضي
وجود برنامج حكومي وحياتي يتناسب مع تلك الرؤية، وهذا هو سر
مخالفتهم (الولاية الدينية) لكونها تنطوي على هذا المنهج المثالي
وتبعاته.
ويركّز كارل بوبر في كتابه (نقد نظرية أفلاطون في الحكم) على محور
مخالفته للمنهج المثالي فيها، ويوحي هجومه الشديد على تلك النظرية
بأن ثبوت كون أي نظرية لديهم أنها نظرية ذات نهج مثالي بمثابة ثبوت
تهمة تكفي ـ في نظرهم ـ لاسقاط تلك النظرية من الاعتبار والسعي
لتفنيدها تماماً.
يقول بوبر: (ان أفلاطون كان فيلسوفاً يتحدث فيما يتصل بالعالم
الإلهي، ويذكر أولاً ان هذا الفيلسوف يودع العنان تماماً في يد
الحافز كي يتحقق اكتشافه السماوي في نطاق الفرد، وعلى صعيد
المدينة، تلك المدينة التي لن ترى وجه السعادة إلا أن يكون فنانوها
من النمط الذي يعتبر العالم الإلهي قدوة لهم ومثلاً أعلى).
ويتضح مبعث خلافه مع أفلاطون من خلال هذه الأسطر القليلة التي
نقلناهام ن نظريته، فأفلاطون ـ بالدرجة الأولى ـ يعتبر فيلسوفاً
يقف على رأس حكومته، ومن خصائصه انه ـ أولاً ـ أودع عنانه في يد
الحوافز والمثل. و ـ ثانياً ـ انه اعتبر العالم الإلهي قدوته ومثله
الأعلى. ومن وجهة نظر الليبرالية، فان كل واحدة من هاتين
الخصوصيتين كافية ـ وحدها ـ لكي تسعى الليبرالية من أجل اسقاط
الاعتبار عن نظريته وبذل الجهود لتفنيدها.
- خصائص الحكومة المثالية من وجهة نظر كارل بوبر:
يمكن التعرف ـ بشكل عام ـ على خصائص الحكومة المثالية من وجهة نظر
بوبر وتشخيصها كالتالي:
1 ـ تعيين الهدف النهائي، وفي هذا الشأن يوضح بوبر بأن (المراد من
الهدف النهائي هو ليس الأهداف الجزئية والمتوسطة المدى التي هي
ليست سوى خطوات موصلة نحو الهدف النهائي فحسب).
وهذا النهج الهادف مما تبغضه الليبرالية وتنزعج منه بشدة، إذ
تعتبره بمثابة استناد إلى أمر لا يقع في متناول اليد واعتماد على
قضية تقع خارج نطاق الأ/ور الممكن الحصول عليها، ولذلك فهي تعبر
عنه بصيغ لفظية مختلفة من قبيل (المدينة الفاضلة) و(أحلام البحث عن
الكمال) و(الخيار الشاعري الوردي) و(الحلم غير العقلاني) و(الأسلوب
الرومانطيقي) و... الخ.
2 ـ الخصوصية الأخرى للحكومة الهادفة؛ توظيف كل القوى وحشد كل
الامكانات من أجل الوصول إلى الهدف النهائي، وكما تصرح هي نفسها،
فان كل الأعمال السياسية تسخر في خدمة الوصول إلى الهدف النهائي.
وبناء على ذلك، فانا لحكومة الهادفة والمثالية لا يمكن أن تكون
سياستها ـ في أي حين من الأحيان ـ مبنية على أساس (الأبواب
المفتوحة) في مختلف النواحي الداخلية والخارجية، الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية وغيرها، خلافاً لما تطمع فيه الليبرالية
وترغب به، لأن (الهدفية) تستتبع (الأصولية) على أثرها، وهذه تقوم
بفرض القيود والالتزامات والتحديدات وتوجب التحرك طبقاً لأطر
محددة، وهذه ـ بالضبط ـ النقطة المواجهة والرأي المخالف لسياسة
(الأبواب المفتوحة) بالمفهوم الذي تحمله الليبرالية.
وفي هذا الصدد، يقول بوبر: (ان المدينة الفاضلة متشوقة للتضحية
بالزمن الحاضر من أجل الحصول على المستقبل الزاهر).
وعلى الرغم من عدم صحة هذا الفهم والتصور بشكل مطلق، ولكن مما لا
يقبل الإنكار هو ان الحكومة الهادفة تضطر ـ أحياناً ـ في سبيل
المحافظة على لامثل والقيم والأصول الأساسية من أجل بلوغ هدفها
المقدس، تضطر للتضحية بـ(الحاضر) سعياً لضمان (المستقبل الزاهر)،
وكما سوف يقال فان سر كل ذلك التلهف للاستشهاد وكل تلك التضحيات
وصور الايثار وغيرها، يكمن في هذه القضية.
3 ـ الخصوصية الثالثة للحكومة المثالية ـ من وجهة نظر بوبر ـ
الكفاح الجذري المتواصل ضد المفاسد الاجتماعية، والتي يعبّر عنها
بأنها مبدأ (الراديكالية) ـ بمعنى التعمق والتوغل في جذور الأمور ـ
في المدينة الفاضلة، ويوضح ذلك بالقول: (انه يعني التلهف لبناء
عالم ليس فقط أفضل من عالمنا وأكثر عقلانية منه، بل ومبرّأ من كل
قبائحه وأدوائه، وطبعاً ذلك لا يعني انه سيكون لحافاً ذا أربعين
قطعة، أو قطعة قماش مرقعة قديمة، بل مجتمعاً جديداً من قمة رأسه
إلى أخمص قدميه، وعالماً شاباً وجميل حقاً).
4 ـ والخصوصية الرابعة التي يتحدث عنها كارل بوبر، ويبدي حساسية
مفرطة منها هي: انعدام الأنانية أو (تحطيم الذات والانكسار الذاتي)
عند الحكومة المثالية. فالامبريالية تعتبر عقل الانسان، محور كل
البرامج والخطط والأفكار التي لديها.
وطبعاً فان المقصود بالانسان هو الانسان الذي يقصدونه هم، وهو
الشخص المادي، ذو الكيان الواحد، ومن هنا فانه يرفض رفضاً تاماً أن
يكون نموذج الانسان ومثاله أبعد من ذات الانسان، وهو يؤكد ان مهمة
المثال هي حفظ وجود الانسان، ولكن المثال المرسوم من قبل المذاهب
والنظريات والحكومات الإلهية يمكنه أن يكون بدرجة من القداسة، بحيث
غن على المرء أن يسعى هو لحماية المثل ـ وليس مثلما تريد
الليبرالية ـ بمقتضى ميله الفطري ونزعته الفطرية، فهو يضحي بنفسه
إذن من أجل المثل التي يعتبرون مهمتها في تحليلاتهم حفظ وجود
الانسان.
وبناء على ذلك، فانهم يعتبرون الأعمال الفدائية، والسعي نحو
الاستشهاد، والأعمال البطولية الاستبسالية، يعتبرونها من باب
(الانتحار).
والخلاصة، أن بوبر يعتبر مثل تلك الحكومة التي تحمل مثل تلك
الخصوصيات (طريقة هندسية من نمط المدينة الفاضلة) ويتكلم عنها
بأسلوب معاد، وفي المقابل فانه يقترح طريقة هندسية تدريجية أو
سياسة (الجزء فالجزء) أو (الخطوة خطوة)، وهي في الواقع الطريقة
العلمية والعقلانية نفسها في مجال الادارة، والتي وردت في كلام
الآخرين، وهي تخلو من أي هدف ومثال مقدس.
وحسبما يصرّح بوبر، فان الحكومة الليبرالية عبر اتخاذها سياسة
(الخطوة خطوة) لن تقطع أدنى عهد على نفسها بأن تقوم بمكافحة
المفاسد الاجتماعية ولا تحس بأي التزام في هذا المضمار، وكل ما
تطمح إليه وترجو تحقيقه هواتخاذ أسلوب يستهدف مواجهة أعظم المساوئ
التي ابتلي بها المجتمع وأكثرها فورية.
ومن المعروف طبعاً ان تلك المساوئ الأكثر فورية والأعظم حجماً لا
يمكن أن تكون من نمط المساوئ والمفاسد الأخلاقية والعقائدية
الموجودة على مستوى المجتمع، لأنه إذا تقرر أن يكون كل انسان حراً
في أعماله مهما كان معتقده ـ من وجهة نظر الليبرالية طبعاً ـ دون
أن يكون لأحد الحق في أدنى تعرض له واعتراض عليه، فان أعظم المساوئ
التي تحظى باهتمام كبير في ضرورة مكافحتها، هي قبل غيرها، مكافحة
الموانع التي تحدّ من هذه الحرية المطلقة في جميع النواحي، ومن
جملتها العقائد والمقدسات الدينية، التي تضع أصولاً وقواعد معينة
لتنظيم سلوك الناس وأعمالهم، وترسم اطاراً مشخصاً لهم في سياق
الوصول إلى الهدف النهائي.
كما أن الحكومة الليبرالية ـ وخلافاً للحكومة الإلهية ـ لا تمتلك
دور الهادي والموجّه والمرشد، لأنه لا وجود للهدف ـ أولاً ـ حتى
يتم توجيه الناس وارشادهم نحوه، ولأن الحكومة ـ ثانياً ـ منتخبة من
قبل الأكثرية، وهي الأكثرية الليبرالية ـ طبعاً المؤمنة بالحرية
المطلقة! ومن هنا ـ وبناءً على قول بعض مؤيدي هذه النظرية ـ فان
الحكومة الليبرالية تمتلك حق التدخل بمستوى تدخل (رجل شرطة) وحسب
ليس إلا.
وبهذا الشكل، فان أقوالاً من قبل (طب خاطراً ولا تفكر بشيء) و(إن
كنت تريد لا تفتضح فكن موافقاً للمجموع دوماً) و(عيسى بدينه، وموسى
بدينه) وأمثالها تمثل شعارات الليبرالية.
ومن هنا تتضح معاني (انعدام الصفة الأنانية) و(تحطيم الذات
والانكسار الذاتي) التي تتصف بها الحكومة المثالية، والتي يعتبرها
بوبر نقاط ضعف في تلك الحكومة.
*المصدر: مجلة التوحيد-العدد68-1993م