يقف الاسلام من أيّ مفهوم أحد مواقف ثلاثة :
1 ـ إمّا أن يرفضه تماماً كـ (الدعارة) .
2 ـ وإمّا أن يجري عليه تعديلاً حتى يغدو متناسباً مع المفاهيم
الاسلامية كـ (الحريّة) .
3 ـ وإمّا أن يقرّه كما هو كـ (المروءة) لأ نّه من صلب مفاهيمه .
فالدعارة وهي الفحش في القول وفي العمل مرفوضة إسلامياً لأ نّها
تتعارض مع المنهج الأخلاقي الإسلامي الذي يقوم على عفّة اللسان كما
يؤكّد على عفّة الفرج لدى الجنسين .
والحريّة في الاسلام ليست كالحريّة في الغرب ، فهي هنا منفلتة وإن
وضعت لها بعض الحدود والضوابط البسيطة ، لكنّها في الاسلام حريّة
ملتزمة ومسؤولة ، ومدافعٌ عنها من قبل الاسلام نفسه في تحرير
الانسان من جميع القيود التي تكبّله .
فالاسلام يمنع الانسان من تناول المخدرات لأنّ في ذلك إساءة
لشخصيته وصحّته ولعلاقته بالآخرين ، وهذا المنع ليس قيداً ضدّ
الحريّة ، وإنّما هو إجراء احترازي لحماية الحريّة ، فالإدمان سواء
على المخدرات أو على غيرها قيد يأسر الانسان ، ويحدّ من فعالياته
الإيجابية ، وأيّ ضعف يبديه الانسان أمام رغبة جامحة ، أو حاجة
مذلّة أو قوّة ضاغطة ، يجعله مقيداً ويقلص من مساحة عزّته وكرامته
واستقلاله وحريّته ، وقد أراد الله له أن يكون عبداً له فقط ولا
عبودية أخرى أياً كان شكلها .
وبمعنى آخر ، فإنّ الحريّة في الاسلام هي الفسحة الفسيحة التي
تتحرّك فيها دون أن تجرّ حركتك أيّ أذى نفسي أو جسدي ، شخصي أو
اجتماعي ، وبالتالي فما يسمّى بـ (الخطوط الحمر) أو الممنوعات أو
المحرّمات في الاسلام ليست كوابح للحريّة ، وإنّما كوابح للعدوان
على الذات وعلى الغير .
وأمّا إقرار (المروءة) وهي تعبير مرن وواسع عن إنسانية الانسان ،
فلأنّ الاسلام هو دين المروءة ، وحينما جاء النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) إلى الجزيرة العربية بالدين الجديد ، كانت هناك أمثلة
رائعة للمروءة فأقرّها وحافظ عليها ونمّـاها كإكرام الضيف ، ورعاية
حقوق الجار ، وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم .
لكنّ المفاهيم لا تبقى على حالها دائماً .
فهي تتعرّض إلى التشويه والتشويش بين حين وآخر ، فتبدو تارة غائمة
، وتارة قلقة ، وتارة تلبس لباساً مغايراً للأصل ، وهو ما نسمّيه
بـ (المفاهيم المغلوطة) أو (المفاهيم الخاطئة) ، ولذلك أسبابه :
فقد يكون الجو الاجتماعي أو السياسي الحاكم ضاغطاً في تحريف
المفاهيم وقلبها عن مواضعها الصحيحة فتلتبس على الناس ، حتى أنّ
شخصاً جاء إلى الإمام علي (عليه السلام) في إحدى المعارك التي وقعت
بين فئتين من المسلمين ، وقد اختلطت عليه الأمور وصعب الفرز
والتمييز بين مَنْ هم أهل الحقّ ؟ ومَنْ هم أهل الباطل ؟ فقال له :
يا هذا ! إنّك لملبوسٌ عليك ـ أي انّ الأمور ملتبسة عندك ـ اعرف
الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف أهله !
وقال في موضع آخر : يُعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحقّ بالرجال ،
وهذا يعني أنّ مفهوم الحق إذا كان واضحاً في ذهني عرفت مَنْ هم أهل
الحق وإن قلّوا ، وعرفت جماعة الباطل وإن زاد حجمها وتكاثر عددها .
فإذا تحدّد مفهوم (الحق) في أنّ الله هو الحق وأنّ كلّ ما أنزله
علينا هو الحق وكلّ مَنْ أرسله إلينا هو الحق ، كان كل ما هو خارج
ذلك ليس بحقّ .
وقد تكون النصوص قلقة في أذهان الناس فيفسِّرونها بحسب أهوائهم
ووفق أمزجتهم ، فيأتي التطبيق منحرفاً ، لأنّ الفهم كان مشوشاً ولم
يقم على دليل قاطع ، وإن استند إلى النصّ .
فذاك الذي كان يسرق ليطعم الجياع والفقراء ، يجيب السائل المعترض
على فعلته : أنا أتماشى مع منطق القرآن ، فالقرآن يقول : (مَنْ جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها ومَنْ جاء بالسّيِّئة فلا يجزى إلاّ مثلها
)(1) .
فأنا حينما أسرق أرتكبُ سيِّئة ، وحين أتصدّق على الفقراء
والمساكين أحصل على عشر حسنات ، فإذا طرحت الواحد من العشرة بقي
تسعة ، وبالنتيجة أنا الرابح !
فهذا تشويه صريح لمفهوم الحسنة القرآني ، فالله إنّما يتقبّل من
المتّقين المحسنين الصالحين الذين لا يخلطون عملاً صالحاً وآخر
سيِّئاً ، والاسلام يرفض الشعار الميكافيلي «الغاية تبرّر الوسيلة»
إلاّ في حالات استثنائية نادرة ومحدودة تقتضيها الضرورة أو المصلحة
الاسلامية ، فعندما ينقلب العنوان أو يتغير فإنّ الحكم يتغير أيضاً
، فالكذب حرام لكنه في حالات الاصلاح بين الأخوين أو الزوجين مباح
ولأنّ المصلحة في الكذب هنا أكبر من المفسدة .
وهناك مَنْ يشوّه المفهوم ليعتاش من خلال ذلك ، لأ نّه لو بقي
المفهوم سالماً معافى من التشويه لما استطاع أن يرتزق منه ، كمن
يعتبر (الشطارة) والذكاء والدهاء هو أن يتلاعب بعقول ومشاعر الناس
، ويستدرجهم إلى حيث ما تهوى مآربه ، ويبتزهم بالخداع والمكر
والتمويه .
وربّما يشوّه المفهوم من خلال تجريده عن التطبيق ، أي أن تكون
صورته في الذهن غير صورته التي في الواقع . فـ (العدل) مفهوم
إسلامي اصيل ، ولكنّ البعض من الناس يرى انّه المساواة ، والحال
أنّ كلّ مساواة عدل ، وليس كلّ عدل مساواة . فالعدل أن لا يتساوى
عندك المحسن والمسيء ، فإذا وجد المحسن عندك المكافأة ، والمسيء
العقوبة ، فأنت عادل ، أمّا إذا ساويت بينهما في المكافأة ، أو في
العقوبة فقد ظلمت أحدهما في الحالين .
المصدر : البلاغ