موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

ويبقى الخيار قائماً ...
تركي الحمد



عندما صاح الخوارج (أو الشراة وفق مفاهيم مريديهم) في وجه علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: (لا حكم إلا لله) ، كان رد أمير المؤمنين عليهم هو القول: كلمة حق يراد بها باطل. نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير بَرٍّ أو فارج يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيه الكافر، ويبلغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بَرٌّ ويستراح من فاجر.
وفي مكان آخر: إنا لم نحكّم الرجال وإنما حكّمنا القرآن. وهذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال. المصدر: نهج البلاغة
لقد كفّر الخوارج علياً بعد حادثة التحكيم، برغم أنهم هم مَن أجبروه عليها، بمثل ما كفروا عثمان في سنوات حكمه الأخيرة، وكل مَن جاء بعد عثمان. وبرغم خروج (الشراة) على علي، إلا أنه لم يكفرهم لمجرد آرائهم، بل قال لهم إنه لا يمنعهم من المساجد وحقهم من الفيء، ولن يبادئهم بالقتال ما داموا لم يقطعوا طريقاً، أو يروعوا آمناً، أو يسفكوا دماً حراماً.
المراد قوله هنا هو أنه برغم الاختلاف الشاسع والجذري بين فهم علي بن أبي طالب لنصوص القرآن الكريم عموماً، وفهم الخوارج، إلا أنه لم يكفرهم، ولم يقاتلهم لأنهم كانوا من الكفار، بل لأنهم كانوا من البغاة والمعتدين، وهو نفسه ما حدث بين الخوارج وعمر بن عبدالعزيز، الذي كان يناظرهم ويحاججهم في مجلسه، وهم الخارجون على الدولة. وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى، هي المرجعية الواحدة لكل من علي والخوارج، والشيء نفسه ينطبق على فِرَق الاسلام الأخرى، وهو ما يجعلهم جميعاً من المسلمين، يمكن أن يختلفوا، ما دام (النص) عبارة عن (خط مستور بين دفتين)، ولابد من أن يكون له من الرجال ترجمان. فالنص، سواء أكان مقدساً أم غير مقدس، ينتمي في النهاية إلى عالم التجريد، أي أنه لا يتعلق بزمان معين، ولا بمكان معين، ومن هنا تكون عظمته وإشكالاته في الوقت نفسه. فالتاريخ هو الذي يمنح النص معنىً معيناً، والجماعة، أو النخب في الجماعة الواحدة، هي مَن يفسر النص وفق ظروف الزمان والمكان.
فالخوارج كان لهم تفسيرهم الخاص لنص (إن الحكم إلا الله)، وكان لعلي بن أبي طالب تفسيره الخاص. وكلا الطرفين يستند إلى النص والمرجعية نفسيهما، وبالتالي فكلهم من المسلمين، ولا يجوز تكفير أحد منهم. ولكن السلوك النابع من هذا التفسير أو ذاك التفسير هو مَن يحدد في النهاية صحة التفسير من عدمه. فالقضية في البداية والنهاية قضية عملية، قبل أن تكون نصية بحتة. وعندما نقول إن القضية عملية، فذاك لا يعني إغفال النص، بقدر ما هو حديث عن تلك العلاقة بين النص والعمل، في إطار المقاصد العامة للدين، أو النسق النظري العام الذي ينتمي إليه هذا الدين أو ذاك، وهذا المذهب أو ذاك. فجوهر الأديان السماوية مثلاً، هو أنها جاءت لتحقيق إرادة الرب الأزلية وهي عمارة الأرض، وتعارف الشعوب، وفي ذلك يكمن المعنى العميق للعبادة. ولعمارة الأرض، وتعارف خليفة الرحمن على أرضه، كان لابد من أن تكون مبادئ التسامح والسلام والمحبة، وغير ذلك من قيم أخلاقية، هي الأساس الذي تقوم عليه هذه الأديان. ومن هنا، فإن أي تفسير للنص يخالف القاعدة العامة التي ينتمي إليها النص، هو تفسير لا يستقيم في النهاية، من حيث نتائجه العملية تحديداً، وإن كان يبدو وكأنه لا يخالف ظاهر النص ومنطوقه. فصحة التفسير نسبية في نهاية المطاف، تعتمد على النص نفسه من ناحية، وعلى النتائج العملية لمثل هذا التفسير من ناحية ثانية. والخلل يكون حين تتخلخل العلاقة بين جانب النظر وجانب العمل في هذا المجال.
فالمسيحية، مجردةً مثلاً، تُعتبر من أكثر الأديان دعوة إلى مكارم الأخلاق، إلى درجة التطرف أحياناً، كما قد يرى البعض. بل إن المسيحية هي دين يقوم على نسق أخلاق خالص: فـ(مَن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر)، و(مَن كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بأول حجر)، و(أحبوا مبغضيكم، وباركوا أعداءكم)، وغير ذلك من أخلاقيات. بل إن المسيح نفسه كان يقول إن مملكته ليست على هذه الأرض، تعبيراً عن المعاني الأخلاقية السامية في الديانة المسيحية. ولكن، برغم كل ذلك، فإن (تاريخ المسيحية)، وليس المسيحية نفسها، مليء بالدم والقتل والسحل والسمل والتعذيب، كما هو حاصل في (تاريخ الاسلام) أيضاً، وليس في الاسلام ذاته. فمحاكم التفتيش، والحروب الصليبية، والحروب الدينية بين المسيحيين أنفسهم، وحرق العلماء والمبدعين، واستعباد شعوب كثيرة، وجرائم تاريخية أخرى، إنما جرت باسم المسيح، وتحت راية الصليب، برغم كل أخلاقيات المسيح، وبرغم كل ما قاله المسيح. وفي ذلك يقول هروود في كتاب تاريخ التعذيب: (ليس فقط أن روما قد تبنت عقيدة أتباع المسيح، بل إنهم هم -أي المسيحيين- تبنوا روما)، و(على الرغم من أننا لا نحب أن نعترف بالأمر، إلا أن أسوأ الفظاعات التي ارتكبها أسلافنا الأوروبيون إنما ارتكبت باسم الرب والوطن والصالح العام).
لماذا كان ذلك؟ بكل بساطة لأن النص أخضع لطموحات نُخَب معينة، ومصالح جماعات معينة، كما في حالة الحروب الصليبية، أو أنه فُسر وفق نظرة أحادية لجماعة معينة، كما في حالة الحروب الطائفية ومحاكم التفتيش. فالمقصود بالقول (نظرة أحادية)، هو أخذ النص بمعزل عن سياقه العام، وبمعزل عن الأساس الذي تنتمي إليه المنظومة كلها، أو النسق كله، مما ينتج عنه احتكار المرجعية بعمومها لفئة معينة من دون أخرى، وما يؤدي إليه ذلك من عمليات إقصاء وانتقاء. والمراد قوله بإيجاز هو أن النص، برغم تجرده المطلق، إلا أنه يُعاد تشكيله بإعادة إنتاجه عن طريق أفعال معينة تتحول في النهاية إلى نصوص مساندة، ثم تصبح هي الأصل في الخاتمة، ويغيب الأصل نفسه. وللسلطة السياسية دور كبير في مثل هذا التحول. فتفسير الباب لمقولة المسيح مثلاً (لا يجتمع سيفان في غمد واحد)، كان هو الأساس النظري لصراعه مع الملوك والأباطرة في أوروبا لاحتكار السلطة السياسية (نظرية السيفين)، بغضّ النظر السياق العام الذي قال فيه المسيح هذه المقولة، وأن مملكته ليست على هذه الأرض. وما اعتذار الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة عن كثير من الجرائم التاريخية التي ارتكبت باسم المسيح، إلا دليل على أن تفسير النص في هذا الوقت أو ذاك، وفي هذا المكان أو ذاك، ليس من الضروري أن يكون متوافقاً مع النص نفسه، وإنما هو أفعال بشرية، مرتبطة بظروف بشرية، أعطيت صفة القداسة، نتيجة احتكار المقدس.
والحقيقة أن إشكالية النص ليست قاصرة على الأديان والنصوص المقدسة، بل هي شاملة لأي نص مجرد كان. فلو أخذنا الماركسية مثلاً، بصفتها نسقاً فلسفياً وأيديولوجياً، لوجدنا أن الشيء نفسه ينطبق عليها. فمما يؤثر عن كارل ماركس في أخريات أيامه أنه كان يقول: (إذا كانت هذه هي الماركسية، فأنا لست بماركسي)، وذلك تعليقاً على الأحزاب الاشتراكية التي كانت تقول بأفكاره. والماركسية بعد مارسك تفرقت أحزاباً وجماعات، كل يدعي أنه صاحب الفهم الأصح لماركس، ويتهم غيره بالردة، كما فعل لينين حين كتب كتاباً كاملاً لإثبات (ردّة) الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي. فماركسية لينين كانت مهووسة بكيفية الثورة في بلد لا تجتمع فيه مقومات الثورة كما وصفها ماركس، ولذلك كان عليه إعادة إنتاج النص بنصوص أخرى، تتوافق والهدف الذي يريد. وماركسية ماو تسي تونغ قائمة على العنصر الفلاحي، الذي لم يكن عنصراً ثورياً لدى ماركس. وماركسية روزا لوكسمبورغ كانت تنتمي إلى مجتمع ألماني متقدم. وهكذا، فإن النص، برغم تجريده ليس منفصل العرى عن المجتمع وما يمور في بطن التاريخ. ومن أجل وضوح أكثر، فإن النص غير منفصل العرى عن طموحات هذه الجماعة أو تلك، وبيئة هذه الجماعة أو تلك، والدرجة الحضارية التي يتمتع بها هذا المجتمع أو ذاك. وعلى ذلك يمكن القياس. فالخوارج مثلاً في تاريخنا العربي الاسلامي، كانوا، اجتماعياً وبيئياً، ينتمون في غالبيتهم إلى قبائل غير حجازية، وهي من (الأعراب) في الغالب الأعم، وإلى بيئة أقل تحضراً من البيئة الحجازية في السنوات الأولى لظهور الاسلام وانتشاره. ومن هنا، كان فهمهم للنص القرآني منطلقاً من العلاقة مع قريش، القبيلة النخبة، ومن البيئة التي يعيشون فيها، ونمط الثقافة السائد في تلك البيئة. ومن أجل ذلك كان علي بن أبي طالب يحاججهم بالسنة لا بالنص القرآني، الذي هو (حمال أوجه). فالسنة ـ من قول أو فعل أو تقرير ـ ، هي أقل تجريداً من القرآن، ولا نقول إنها خالية تماماً من التجريد.
لذا، لا حركة من دون مرجعية، ولا فعل من دون أساس نظري غالباً، ولكن ذلك لا يلغي حرية الاختيار. ففي إطار المرجعية الواحدة، والنص الواحد، يمكن مثلاً أن نختار طريق العنف أو طريق السلام، وطريق التعصب أو طريق التسامح، وطريق الدمار أو طريق البناء. فالمرجعية الواحدة، والنص المجرد الواحد، قادران على منح كل هذه الخيارات، كما رأينا في حالة الخوارج وعلي بن أبي طالب. فلا حكم إلا لله، هكذا تقول المرجعية، وهكذا يقول النص، ولكن كيف يكون ذلك؟ وفي هذه (الكيف) يكمن الاختيار بين احتمالات عدة، ومناهج مختلفة. فالنص يحكمنا بلا شك في ذلك، ولكننا لسنا أسرى النص بقدر ما نحن من المتفاعلين معه. والسؤال هو: كيف نتعامل مع النص؟ فكما نكن يكن تعاملنا مع النص. هذا، والأمر لمن له الأمر في نهاية الأمر.
*المصدر : من هنا يبدأ التغيير/دار الساقي/2004م


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع