بالرغم من كل ذلك الحشد الهائل من النصوص التي امتلأ بها الخطاب
الديني، والتي تثبط الانسان المسلم عن الجري وراء الآخرين بلا وعي
وبصيرة، وتشجب بصورة قوية حالة التقليد، بل وتحث بصورة أقوى منها
نحو إعمال العقل والتفكير ... بالرغم من ذلك، إلا أن المتتبع
للأوضاع النفسية والثقافية والمظاهر الاجتماعية في مجتمعاتنا،
يكتشف بما لا يحتمل الريب، صوراً عديدة للتقليد تمارس بخفاء غير
متعمد، أي بلا شعور، وقد تكون شعورية في بعض صورها إذا دعمت
بمقولات تخديرية.
وهذا يُطلعنا على أزمة خطيرة جداً، ينبغي التعامل معها بحذر شديد،
إذ لو كان التقليد ظاهرياً، لهان الخطب على الدعاة والمغيرين، لكنه
إذا كان مخفياً فإن معنى ذلك أن التقليد متجذر في النفوس، وما يصل
إلى هذه الدرجة يصعب اقتلاعه ... نعم قد تؤثر فيه المنعطفات
الكبرى، لكنها لا تحدث إلا في حالات وأزمنة نادرة ... لهذا فإن
حالات التقليد قد تتسبب في قتل الحركة والتطور عند المجتمع لمئات
السنين، كما ظهر ذلك في الحركة العلمية المقلدة للشيخ الطوسي،
وكذلك الحركة العلمية في أوروبا التي لم تراوح مكانها مئات السنين
عندما كانت مبتلية بالتبعية المقيتة للكنيسة، والتي ترجمها
(فولتير) في قوله: ((لا يعلم قسّيسونا شيئاً سوى أننا سريعو
التصديق لما يقولون)).
إننا مبتلون ـ كمجتمع ـ بخفيات كثيرة لحالة التقليد، يمكن أن نستدل
عليها من تجليات كثيرة من المستويين الاجتماعي والثقافي ...
ففي المستوى الاجتماعي، نلحظ التقليد بارزاً في السعي للتماثل
المظهري مع الشعوب الأخرى، سواء في العادات العامة ـ كالمناسبات أو
أشكال التزين بل وحتى الأقوال ... فمجرد أن يطلع المجتمع على عادة
لمجتمع آخر متقدم، تراه يندفع بسرعة لتمثيلها في حياته، معتبراً
ذلك ضرباً من ضروب التقدم، كما لوحظ ذلك في عادات الزواج والخطوبة.
أو حينما يبزغ في الأفق الآخر اسم لأي من الكفاءات الفنية أو
غيرها، ترى الجيل المحاكي له يتسابق على تقليده في اللباس وفي
طريقة تزيين الشعر، وقد يصل الأمر إلى تقليده حتى في طريقة مشيه
وكلامه.
ويبدو أن الجزء الأكبر من مشاكل الجيل المراهق في مجتمعاتنا، يرتبط
بهذا الشق من الإشكالية، فهو جيل يستذوق التقليد وتمثيل حياة
الآخرين في كل شيء، وبلا ضوابط أو حدود ... فكل ما يستجد في الخارج
يعتبره قابلاً للاحترام والمماثلة، وهذا ما سهّل انتشار حتى بعض
السلوكيات والأفعال المحرمة دينياً أو اجتماعياً.
هذا وجه من الوجوه الاجتماعية التي تنبئ عن عمق تقليدي، أو قابلية
للتبعية للغير.
ويمكن لنا رؤية وجه آخر من وجوه التبعية في المجال الاجتماعي، وهو
يبدو في حالة الانفعال اللامحدود بتجارب الغير، والسعي لتمثيلها
وإظهار الترضي عنها إلى حد التقديس ... كالأجواء الثورية التقدسية
التي غطّت الساحة بعد نجاح التجربة الناصرية في العدوان الثلاثي
... ولا شك أن قسماً من تلك الأجواء كانت سليمة ولها ما يبررها،
لكن جانب الإشكال فيها وصول الأمر إلى حد التقديس الأعمى، بحيث
يتعذر على الناقد إبداء تصور معاكس أو الكشف عن بعض الأغطية التي
يجهل حقيقتها العامة.
وهذا الأمر لا يقتصر على التجربة الناصرية، وإنما يشمل كل التجارب
الأخرى، التي تحقق نجاحاً ما بغض النظر عن عمقها الفكري، دينية
كانت أم قومية أم غير ذلك. فكلما حدثت انعطافة في الساحة السياسية
والاجتماعية، تجد لها أصداء ليست تأييدية فحسب ـ ولو كانت عند هذا
الحد لما كان ثمة اعتراض، وإنما أصداء تطفح منها رائحة العبودية
... لهذا فإن أصحاب الرأي والمقالة تتوقف عطاءاتهم، إلى حد أن
الكثير منهم يفضل الممالأة للحالة العامة، بل المجاهرة بآرائه، حتى
يجد سنحة بعد زمن فيتدرج في الإبداء.
وأما على المستوى الثقافي، فيلحظ التقليد متجلياً بوضوح في حالات
تكبيل العقل أمام الإبداعات والمقولات الفكرية لمن هم خارج حدودنا،
بلا تمييز بين مناخ وآخر ...
فتجد المتهم بالعلوم الشرعية، يشيع وبقناعة تامة أجواء القداسة لمن
هم من جنسه من العلماء القاطنين خارج محيطه، وفي نفس الزمان تجده
ينظر بدونية مطلقة إلى مَن يعايشهم في محيطه القريب ويدفع باتجاه
ذلك بقوة ... لهذا لا نجد أي غرابة فيما وصل إلى مسامعنا من صدامات
محلية كان هدفها المنع من الرجوع في الفتوى إلى العلماء المحليين
ممن تأهل للاجتهاد.
وأما المتهم بالثقافة العامة، والذي اعتاد ـ على الأقل بعض منهم ـ
على إشاعة أجواء الرفض لحالات التقليد، تظهر منه أفعال تكشف أنه من
أكثر الناس ابتلاء بالتبعية للغير ... فهو نعم ينقد بعض ما حوله من
تصورات وممارسات، لكنه عندما يصل إلى مَن هم خارج حدوده من
المفكرين عرباً وأجانب، تتوقف عنده حركة النقد والتفكير، ويتعامل
مع المقولات الصادرة من أولئك كالتعامل مع المسلمات ... وهذا ما
جعل المثقف في محيطنا الاجتماعي نافذة جيدة لترويج الفكر الآخر.
وما إلى ذلك من الصور الاجتماعية والثقافية، التي تختفي وراء
أسوارها أمراض التقليد والتبعية ... وما ذكرته ما هو إلا تمثيل
للحالة لا أكثر ... ولو جمعنا أغلب تلك الصور فإننا سنتوصل إلى
حقيقة مهمة، تتلخص في أن التقليد أشبه بطابع متجذر في النفسية
الاجتماعية، يصعب اقتلاعه، وهو ما يجعل حتى الانسان الواعي من
العلماء والمثقفين يمارسه من حيث يشعر أو لا يشعر، فتراه يهرب من
تقليد لكنه يقع في آخر وهكذا ... فهو حالة نفسية عميقة، وليس مجرد
ظواهر سطحية.
وهذا ما يدفعنا للإجابة على سؤال مهم وهو: لماذا يتجه المجتمع نحو
التقليد عادة؟ ... ما هي الجذور الحقيقية التي تؤدي بالطبيعة إلى
جنوح مختلف الشرائح الاجتماعية لممارسة التبعية؟
أجد أن وراء هذا العمق التقليدي أموراً ثلاثة:
1 ـ ضحالة المستوى العلمي ... فلاعتبار أن الانفتاح على العلم حديث
شيئاً ما في مجتمعاتنا، فإن ذلك قد تسبب في تدني المستوى العلمي
عند الغالبية، وتعمق الحالة العلمية على عموم المساحة الاجتماعية
يحتاج إلى زمن طويل.
وقد قابل هذا المناخ مناخ آخر معاكس، حيث ظهرت بعض الصور التقدمية
العلمية في بعض المجتمعات، فكان لابد من تقليد في هذا المقام، لأن
الأدنى لابد أن يتمثل حياة الأعلى ... وهذا يعني أن المستوى العلمي
لو كان متقدماً ومجارياً للآخر، لانكسرت مثل تلك الحالة.
وعلى ما يظهر أن المثال المتعلق بحيل المقلِّد، للشيخ الطوسي، فيه
إشارة ما لمثل هذا السبب، لا أقل حسب تحليل بعض المتتبعين ... فقد
نظر البعض ـ كالسيد الصدر ـ إلى أن الجذر الذي دفع اللاحقين للشيخ
الطوسي لتقليده، كان الضعف العلمي الملحوظ عندهم.
فقد رأى بأن هجرة الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف بسبب الصراع
السني - الشيعي سنة (448هـ)، تسببت في انقطاعه عن جوّه العلمي
المتجذر في بغداد، مما حدا به لتشكيل حوزة جدّ فتية في موطنه
الجديد، وحيث إنه لم يشع فيها إلا 12 عاماً، لم يتسن لتلك الحوزة
الفتية بلوغ درجة من العلم يمكنها مجاراة إبداعات الشيخ العلمية،
فما وسعها إلا تقليده ...
فبعد تحليل تاريخي مفصل لتداعيات الحركة العلمية للشيخ خلص إلى
القول بأن ((الصورة التي تكتمل لدينا على هذا الأساس هي أن الشيخ
الطوسي بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الأساسية في بغداد، وأنشأ
حوزة جديدة حوله في النجف وتفرغ في مهجره للبحث وتنمية العلم، وإذا
صدقت هذه الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن بصدد تعليلها، فإن
الحوزة الجديدة التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الممكن أن لا
ترقى إلى مستوى التفاعل المبدع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في
الفكر العلمي، لحداثتها ... ولهذا كان لابد ـ لكي يتحقق ذلك
التفاعل الفكري الخلاق ـ أن يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول
الشيخ في النجف حتى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية
العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى
ذلك المستوى ... )).
2 ـ انعدام التجارب الحية والتقوقع على الذات ... فمجتمعاتنا تعد
من المجتمعات الحديثة جداً، فهي بعد ما تزال مغلّفة في كراتينها،
لم تتكون لديها التجارب السياسية والثقافية والاجتماعية، ولم
تمارسها بشكل كثيف ... فالتجربة عندها ما تزال حديثة وفي طور
النشوء والتكوّن. يضاف إلى ذلك أنها كانت ـ ولعلها ما زالت ـ
مجتمعات منغلقة، لم تفتح أعينها على حقيقة المجتمعات الأخرى.
فلأنها من جانب مجتمعات بسيطة المعرفة والتجربة، ومن جانب آخر
منغلقة،ف إنها بمجرد أن فتحت أعينها على بعض الإنتاجات للشعوب
الأخرى، تصورت أنها كل شيء، كالطفل الذي يفتح عينه لأول مرة على
حياة والديه، حيث يعتقد بأن الحياة كلها متجسدة فيهما.
هكذا هو شأن المجتمعات أيضاً، فهي خرجت من قوقعة متدنية المستوى،
وإذا بها تفاجأ بصور أكثر منها تقدماً، فدفعها ذلك إلى التقليد،
معتقدة أن الآخر هو الأنموذج الأصح ... ولكنها إذا تعددت تجاربها
واتضحت لها حقيقة الآخر، فإنها ستكتشف ذاتها وقدراتها، وستجد لا
محالة أن الآخر لا يميزه عنها شيء، حينها يمكن أن تتوازن في
تعاطيها معه.
وقد اتضح هذا التحول الإيجابي في السنوات الأخيرة، عند الكثير من
أهل الرأي، فهم بعد أن عايشوا الآخر عن قرب، ومارسوا الإبداع، بدأت
علائم الثقة بالذات والتعقل في التعامل مع الآخر تظهر عليهم بوضوح،
حتى أن أحد الأصدقاء من الأساتذة وأصحاب الرأي كشف لي عن هذا الحس
يوماً، بقوله إننا عندما كنا بعيدين كنا نتصور أن بينا وبين غيرنا
مسافات شاسعة، ولكن عندما اقتربنا وأنتجنا اكتشفنا أن غيرنا لا
يفوقنا بشيء، بل قد نفوقه في أشياء.
3 ـ طبيعة النفسية الاجتماعية ... وأقصد بها التربية الاجتماعية
العامة التي تستهوي الآخر، وتُرمِّز له باستمرار، بلا أدنى عناية
بالذات.
فهناك جهات وأرقام كثيرة في المجتمع، تكرس حالة التبعية للقوى
العلمية والرمزية البعيدة عنها، وهذا قد يكون في حد ذاته غير
مستهجن، فاحترام الطاقات أنى كانت أمر حسن، لكنه إذا كان بملاحظة
الإشكالية السابقة فإنه لا يكون مستهجناً فقط وإنما أقرب إلى الذل
والصغار.
فإذا كان ترميز الآخر يؤدي إلى العبودية له وتصغير الذات، فإنه
يُعدُّ من نوع التقليد المستقبح.
وجانب الإشكال هنا أن هذه الطريقة السلبية من الترميز يُربى عليها
المجتمع، وبإصرار من قبل العديد من الوجوه المتنفذة ... والمجتمع
ينمو في الأوساط العلمية، سواء كانت دينية بحتة أو ثقافية عامة،
وهو يسمع ذلك باستمرار، فيتكرس في داخله شعور بغلبة الآخر عليه،
ودونيته هو أمام ذلك الآخر.
فهذه الأمور الثلاثة، عندما نضعها في صف واحد، وننظر للمجتمع من
خلالها، تلوح أمامنا جذور التقليد الراسخ في أوساطنا الاجتماعية،
فضعف القدرة العلمية وحداثتها، وشيوع حالة الانغلاق وانعدام
التجارب، وبالتالي سوء العرض للآخر، كلها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى
التقليد والتبعية.
بعد كل ذلك المشوار نتواصل إلى نتيجة هامة، تنسحب من المستوى
الفردي إلى المستوى الاجتماعي، وهي عدم صحة انتهاج التقليد في
الحياة الثقافية ـ خصوصاً ـ والاجتماعية ... ويكفي مبرراً لذلك أن
الدين لم يرتضه، وإنما وضع لنا خياراً آخر وهو التفكير ... وحتى
نفهم حقيقة هذا الخيار وتداعياته في حياتنا الفكرية والاجتماعية،
لابد من قراءته من خلال الخطاب الديني.
* المصدر : عن ثقافة النهضة