موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

المقدس: حق القبول والرفض
د. رفيق حبيب



إذا كنا نرى أن المقدس والثابت في أمة ما، هو ما حاز على اتفاق الأمة وإجماعها، فإن أحد القضايا المهمة في هذا الشأن، هو موقف كل فرد من هذا المقدس، وبمعنى أدق موقف بعض الأفراد، الذين قد يكون لهم موقف مختلف عن الأمة. فقد تتفق الأمة على ثوابتها الأساسية، لكن بعض أبناء هذه الأمة، قد يختلفون مع ما هو شائع وسائد. وبهذا يبقى موقفهم وموقف الأمة منهم، في حاجة للمعالجة والمناقشة.
بداية، نظن أن كل أمة، بوصفها كذلك، تتفق على ثوابتها ومبادئها الأساسية. فهناك جوهر من القيم والأفكار والمبادئ، تتفق عليه الأمة كلها، أو أغلبيتها الساحقة والمطلقة. وفي تصورنا، أن هذا الفرض صحيح، لأن الاتفاق هو مصدر وجود الأمة نفسها فالقيم المشتركة، والعادات والتقاليد، والأفكار السائدة، كلها عناصر تجعل وجود الأمة حقيقياً. فالاتفاق حول رؤى مشتركة، هو ما يجعل من الناس أمة، لها كيانها المتماسك، ووحدتها، وتصوراتها المشتركة.
وفي قلب هذا التصور، اللغة؛ لأن الكلمات المستخدمة هي في جوهرها معانٍ تم الاتفاق عليها. فالكلمة ليست معنى معجمياً، بل هي معنى اجتماعي وحضاري. وبذلك فإن وجود اللغة الواحدة بين أبناء الأمة، في حد ذاته، دليل على وجود المشترك بينهم. ويتأكد ذلك من استخدامنا للكلمات، وكيف نستخدم كلمة ما، فنحقق من خلال استخدامها، تواصلاً لمعانٍ كثيرة. وبذلك يتحقق للأمة رابطها المعنوي، والذي يجسد بعد ذلك، رابطها الواقعي. ويمكن أن نضيف لذلك، كل معايير السلوك، ودلالة السلوك نفسه. فالملاحظ في أية أمة، أنها قد اتفقت على نمط متكامل في الحياة، نمط من المعاني المجردة والسلوك الفعلي.
وبناء على هذا التصور، تصبح المقدسات والثوابت، هي جوهر ما تمّ الاتفاق عليه بين أبناء الأمة. إنها أمة، ولذلك لها مقدسات وثوابت، لأن ذلك يعني أن الاتفاق على مسلمات وبديهيات يؤمن بها الجميع، شرط لتحقيق الأمة في الواقع والتاريخ.
ولكن المتوقع، كفرض طبيعي، أن داخل كل أمة العديد من التنويعات، داخل إطار الثابت والمقدس والمتفق عليه. ولكن داخل كل أمة قدر أو آخر، من الاختلاف حول الثابت والمقدس. فمن الصعب أن نفترض أن الاتفاق تام، وأن الإجماع بلا استثناء. وبهذا نتوقع أن داخل أمتنا، مَن لا يؤمن بمقدساتها وثوابتها، بعضها في الأغلب، وكلها نادراً. وهذا البعض نتصوره قلة، ذات تأثير محدود، لأن تكوّن الأمة، والاتفاق على مقدساتها وثوابتها، يعني ضمناً أن الأغلبية في صف واحد.
فماذا عن الأقلية التي تختلف عن الأمة في ثوابتها ومقدساتها؟! وأيضاً ماذا عن عملية الاختلاف في حد ذاتها؟! نعني بذلك، ما يخص صاحب رأي مثلاً، يرى وجهة نظر تختلف عما هو سائد لدى الأمة. وأيضاً، ما يخص مَن يريد أن يناقض ويجادل في ثوابت الأمة ومقدساتها. باختصار، ماذا عن هذه الأقلية ودورها وحقوقها؟!
وحتى نصل إلى تصور، علينا أن نتذكر أن المقدس، هو في جانب منه حضاري، وفي جانب آخر ديني. أي أن ما تتفق عليه الأمة، بوصفه من ثوابتها، جزء منه هو نتاج الاجتهاد البشري والتجربة التاريخية، وجزء منه هو نص ديني مقدس. وأيضاً فإن التمسك بالدين في حد ذاته، يكون أحد ثوابت الأمة، كما في أمتنا العربية الاسلامية.
وهذا لا يعني أن المقدس الديني يختلف عن المقدس الحضاري. كما قد يظن البعض؛ لأن الفكرة الأساسية، هي في إيمان الأمة، في عقيدتها الدينية والحضارية. لذلك، فإن الأمة من خلال إيمانها، تطرح ثوابتها الدينية والحضارية، حسب رؤيتها وفهمها المشترك. وتصبح القداسة للديني والحضاري معاً، لأن كليهما عقيدة، وكلاهما يمثل الإيمان بالفكرة المجردة، التي من خلالها تتشكل الأمة وتوجد، وتحقق وحدتها. ولكن الفرق بين الدين والحضاري، يكمن في أن الدين يتحدد جوهره من خلال نصوص مقدسة، أما الحضاري فإن جوهره يتحدد من خلال فكرة مجردة. فمثلاً، يتحدد وجود الله من خلال النصوص الدينية، أما قيمة الأسرة فتتحدد من خلال فكرة أن الأسرة قيمة في حد ذاتها. وبهذا فإن الاجتهاد البشري في المقدس الديني، يأخذ طريقه بعد النص، أما في المقدس الحضاري، فيبدأ من الفكر في جوهرها. وبذلك، فإن دور الاجتهاد يتزايد مع المقدس الحضاري عن الديني. وأكثر من ذلك، فإن الاجتهاد البشري فيما يخص المقدس الديني، يصبح ضمن الجانب الحضاري، أي يتحول إلى رؤى تاريخية، يتم تطورها وتغييرها عبر الزمن، ولكن من جملة الاجتهاد، تخرج الأمة بقيم أساسية، تتواصل عبر التاريخ، تمثل جوهر ما يتم الاتفاق عليه، وينتقل من جيل لآخر.
وبين الديني والحضاري اختلاف آخر، فالتدين والإيمان اختيار، أي أن الفرد يؤمن بقراره الخاص، وهذا ما يجعل لإيمانه قيمة. أما الانتماء الحضاري، فليس اختياراً، لأنه نتاج التربية والتنشئة الاجتماعية. فالإنسان يكتسب قيم المجتمع من خلال التربية، دون أن يختار ذلك. وهو شأن لا يعارض الحرية، لأنه طبيعة البشرية وقانونها. فانتقال الوعي الجمعي من جيل للتالي له، جزء أصيل من استمرار البشرية، وقانونها الطبيعي.
وعندما يكون الدين من مقدسات الأمة، فإن التدين لا يكون قهراً. فالدين أحد مقدسات الأمة العربية والاسلامية، فهي أمة متدينة. ولكن الإيمان بالدين، حرية اختيار لكل فرد؛ لأن قهر الفرد وإرغامه على الإيمان، يفقد معنى الدين نفسه، ومعنى الثواب والعقاب.
أما بالنسبة للانتماء الحضاري، فإن الفرد يكتسبه عبر حياته. ولكن يمكن لشخص ما، نتيجة ظروف معيشية وتربوية، أو نتيجة اختيارات عقلية، أن يرفض قيم الحضارة التي ينتمى لها. وما قيل عن الدين، يقال عن الحضاري، لن الانتماء لقيم الحضارة لا يجوز قهراً. بل الأصل في القيم الحضارية، هو الطواعية، والالتزام الشخصي، والاقتناع. فالمقدس الحضاري، هو في مجال الأخلاق، لا القانون، والالتزام بالأخلاق يحدث بإرادة الفرد، وحث وتشجيع الجماعة.
بهذا نؤكد أن التزام الأمة بمقدساتها، يعني أنها تشجع أبناءها على هذا الالتزام، وتحثهم عليه، وترفض اجتماعياً الخروج عن ذلك، أي تمارس الضبط الاجتماعي، كما تمارس التربية والتنشئة، لتأكيد مقدساتها وثوابتها. والحق أن في الأمة العربية خاصة والاسلامية عامة، سنجد أن الديني والحضاري، كلاهما شأن يخص التربية والتنشئة، والأغلب أن الانتماء الديني للفرد، ليس نتيجة قرار يأخذه في سن الرشد، بل هو نتيجة التربية والتنشئة الاجتماعية.
والخلاصة، أن المقدس الثابت في حضارة الأمة، ينتشر عن اقتناع الأمة، وبالتربية والدعوة والتنشئة، ويسود من خلال تفضيل الأمة له، وتشجيعها عليه. ولكن المقدس لا يفرض بالقانون، ولا بالسلاح، ولا يجوز فيه القهر والإرغام، ولا يصح معه الترغيب والترهيب، بل التشجيع والنصح والإرشاد. وقوة الأمة الحقيقية، وسبب أصالة الأمة العربية والاسلامية، أنها تقوم على وحدة حول المقدس من اختيارها تستمر بإرادتها وتنمو بفطرتها. وعندما يتحول المقدس إلى سلطة تقهر الأمة، تسلم الأمة نفسها للتدهور والتخلف، وتتحول مصادر قوتها إلى أسباب للضعف.
بهذا، فإن نهضة الأمة المنشودة، تعنى إحياء وعيها بمقدساتها وثوابتها، وإعادة نشر هذه المرجعية، لتصبح حاكمة لسلوك الأفراد والجماعات. والأهم من ذلك، أن هذه المرجعية التي تكتسب شرعيتها من اتفاق الأمة، بمحض اختيارها، تصبح المرجعية المفروضة على نظام الحكم. وهنا، فإن الحاكم مطالب بإتباع المرجعية، كجزء أصيل من شروط شرعيته وكأحد أهم مبررات بيعته. أي أن المرجعية، بما فيها من نظام القيم، بمقدساتها وثوابتها، لا تفرض على الأمة، بل تفرضها الأمة على الحاكم. ولذلك فلا يجوز أن نتصور، أن المرجعية تفرض من الحاكم على الأمة، أو أن الدعوة لإحياء المرجعية، يمكن أن تتحقق من خلال فرضها بالسلطة. فالمرجعية هي أصل وجود الأمة واختيارها، وبالتالي يجب أن نجد طريقها من خلال وعي الأمة بها، ثم إلزام الحاكم بها.
كذلك، فإن فرض الحاكم لمرجعية منافية لمرجعية الأمة، غير جائز، وغير شرعي. فلا يحق للحاكم أن يختار المرجعية التي يرى، ولا يحق له أن يبدل بقرار منه مرجعية الأمة. ونفس الأمر بالنسبة لمن يرفض المقدس الذي تختاره الأمة. فالإيمان بالمقدس اختيار، تحث عليه الأمة، ولكن المشكلة الحقيقية ليست في القبول أو الرفض، بل في العداء.
نعني بذلك أن مَن يرفض الإيمان بمقدسات الأمة، لا يجوز أن يعاقب لأن الإيمان والانتماء اختيار. ولذلك، يصبح لحرية الرأي مساحة كبيرة، تجعل مناقشة المقدسات ممكنة، من حيث هي عملية يراد بها الفهم والاقتناع، ويبقى للأمة أن تقبل أو ترفض ما يقال، وقرارها حاكم ونهائي. ولكن العداء لمقدسات الأمة، غير جائز. والعمل على هدم المقدسات، غير جائز أيضاً. والعداء في ظني، هو التشويه والتحقير، وهو أيضاً الدعوة لمناهضة النظام العام للأمة، أي مقدساتها وثوابتها. فمثلاً، مَن يدعو الناس لعدم ممارسة العبادة، أو مَن يدعو لهدم الكيان الأسري، كل ذلك غير جائز، لأنه عداء للأمة. فحرية الفرد لا يمكن أن تتجاوز حرية الأمة، وحقوق الفرد لا تتجاوز حقوق الأمة.
*المصدر : المقدس والحرية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع