يحتل البحث العلمي مكانة متميزة في عصرنا الحاضر، ويرجع ذلك لا إلى
ضرورة المعرفة بل إلى تقدم العلم نفسه. فالمعرفة تحتل مكانة بارزة
عبر تاريخ البشرية، ولكن التقدم العلمي الراهن، جعل العلم كأداة
للمعرفة، يحقق إنجازات ملموسة، مما أضاف له أهمية خاصة. لذلك، فإن
الحديث عن التقدم، يرتبط بالاهتمام بالعلم، من حيث الممارسة
والتطبيق.
ولكن الاهتمام العلمي، يثير قضية مهمة، بين مثقفينا، حيث يغلب الظن
لدى البعض، أن العلم يرتبط بالعقلانية، والأخيرة لا توجد إلا في
الحضارة الغربية. ودلالة ذلك، افتراض وجود خلاف بين ممارسة العلم
وبين الحضارة العربية الإسلامية. وفي ذلك الكثير من الخلط. فالعلم
كان له شأن كبير في الحضارة العربية الإسلامية، وإنجازات العرب
العلمية كانت هي القاعدة التي قام عليها العلم الغربي.
والأهم، أن نحاول معرفة سر الصدام بين العلم والتراث، في ذهن
البعض. فعلى مستوى ممارسة العلم الغربي، سنلاحظ أن هناك صداماً
بالفعل. وعلى مستوى النزعات التقليدية المحافظة، يوجد قدر من
الصدام. وكذلك بالنسبة للميول التراثية المتطرفة، حيث تفرز أيضاً
قدراً من الصدام مع العلم. وفي ذلك، يظهر الصدام بين العلم
والتراث، بالنسبة لوكلاء الغرب (تيار التفريط)، ووكلاء التراث
التقليديين (تيار الجمود) ووكلاء التراث الجذريين (تيار الإفراط).
والصدام هنا يمل معنى مهماً، لأنه في الواقع صدام ليس مع العلم
كوسيلة للمعرفة، ولكن بين العلم الغربي والتراث. فتيار التفريط،
يواجه الصدام مع التراث، لأنه ينتمي للعلم الغربي، وتيار الجمود
وكذلك تيار الإفراط، يصطدمان بالعلم الغربي، حفاظاً على التراث.
فالصراع إذن، بين العلم الغربي والتراث، هو صراع بين الحضارة
الغربية والحضارة العربية الإسلامية، لأن كليهما يقوم على منظمة من
القيم والمسلمات والأفكار، تختلف عن منظومة الآخر. ولكن الصراع
يأخذ بعداً مختلفاً، لأنه في كثير من الأحيان، يبنى على أساس
الصدام بين العلم والتراث، دون محاولة كشف سبب هذا الصدام. وفي
هذا، يفترض أن العلم هنا، مطلق غير متحيز، عابر للحضارات. وعندما
تمارس النخبة المتغربة، هذا العلم العالمي، والذي يأتي بأفكار
غربية في الحقيقة، فإنها تحاول أن تتهم التراث بالتخلف، للتخلص من
قيمه ومسلماته. وكذلك فإن المدافعين عن التراث، يرفضون هذا العلم،
دون محاولة كشف أسباب عدم الاتفاق.
والأزمة في جوهرها، بسبب إعلان عالمية العلم، وموضوعيته المطلقة.
وهو جزء من فكر وكلاء الغرب، حيث يقدمون لنا الحضارة الغربية
نفسها، بكل جوانبها بوصفها حضارة عالمية تخص كل البشر. وتفيد
الجميع، وتصلح للكل. وهو تفكير يفترض أن هناك سياقاً عالمياً غير
متميز، وأن العلم ضمن هذا السياق. وهذا الصورة المثالية عن العلم،
تحتوي على خداع، قد يكون بعضه بسبب انبهار المثقف العربي بما أنتجه
الغرب، وعدم قدرته على منافسة ذلك، ولكن بعضه الآخر، بسبب انهزام
المثقف أمام التقدم الغربي، وتبينه لما لدى الغرب، واعتبار بضاعة
الغرب هي السبب وراء كونه مثقفاً. وهي حالة من الهزيمة والفقر
المعرفي، التي حدثت من خلال تلقي العلم الغربي، وفتح الباب أمام من
تلقى هذا العلم ليصل إلى مكانة مرموقة. مما جعل البضاعة الغربية،
هي وسيلة الترقي والمكانة، لدى مَن نسميهم بوكلاء الغرب. لهذا
علينا أن نناقش مقولة العلم المطلق. فالعلم، أي علمن هو نظرية في
المعرفة، يبدأ بأفكار أساسية، تنظم المعرفة وطريقة الوصول لها. أي
أن العلم هو وسيلة للمعرفة، تستند إلى فكر محدد. وتحيز العلم يأتي
من الفكر الذي ينبع منه. لذلك فكل علم يعبر عن الحضارة التي ينبع
منها، بأن يتبنى قيمها الأساسية، ثم يترجم ذلك إلى وسائل معرفية
موضوعية، يستخدمها للوصول للمعرفة التي تخدم القيم التي التزم بها.
من هنا، تتضح موضوعية العلم، فهي تقنين لوسائل المعرفة، داخل إطار
التحيز العام للعلم. بمعنى أن العلم يتبنى نظرية وفكراً يعبران عن
حضارته، ثم يبتكر الأساليب الملائمة التي تمكن من تحقيق معارف داخل
الإطار النظري يمكن إعادة إنتاجها. فالموضوعية هي سمة لأسلوب
المعرفة، الذي يمكن استخدامه من أكثر من شخص، فتكون النتيجة الوصول
إلى نفس النتائج. ولكن التحيز يظهر في سؤال البحث نفسه، أي في
مقدماته. ففي علم النفس مثلاً، يبدأ الباحث الغربي، أو المتغرب من
مقدمات تؤكد على فدرية الإنسان، وأن الإنسان كائن فردي، ثم يحاول
أن يعرف سمات شخصيته. والأسلوب المستخدم في موضوعيته، يساعد على
وصول أكثر من باحث، لنفس سمات الشخصية للفرد المحدد. ولكن التحيز
هنا، يكمن في المسلمة الأولى، وهي الفردية. فالحضارة الغربية،
حضارة فردية، تعتبر الإنسان كياناً منفصلاً، له وجده في حد ذاته.
أما في الحضارة العربية الإسلامية، فالجماعة هي الكيان البشري الذي
له وجود في حد ذاته، أما الفرد فهو جزء لا يعرف إلا من خلال
جماعته. وبالتالي، فإن وحدة الدراسة في فكرنا، هي الجماعة وأجزاؤها
الأفراد، ووحدة الدراسة في الفهم الغربي هي الفرد، وأجزاؤها هي
مكونات الفرد من شخصية وتفكير وهكذا.
والمشكلة التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية، أنها في عصور
تراجعها انفتحت على التقدم الغربي ونهلت منه، وهو أمر إيجابي في
البداية، ولكن هذا الاستيراد المعرفي، أصبح نظاماً يفرض، من خلال
التحالفات الحاكمة. وأي شعب يتقدم عندما يدرك إنجاز الآخر، ثم يبدع
لحساب نفسه. ولكن أمتنا تعاني لا من عدم القدرة على الإبداع، بل
تعاني من تحول الإبداع إلى معركة. وهي حقيقة على جانب كبير من
الأهمية.
فالمؤسسات العلمية والتعليمية لدينا، تفرض النموذج الغربي، بقوة
نظام الحكم، ووكلاء الغرب، وقيادات هذه المؤسسات التي لا تملك إلا
بضاعة الغرب. وبالتالي، فإن الجهود الذاتية للإبداع، لا تجد مكانة
في مؤسساتنا. بل إن الإبداع النابع من الحضارة العربية الإسلامية،
يواجه بالرفض من مؤسساتنا العلمية والتعليمية. وأكثر من هذا، أصبح
العلم الأصيل، يمثل تمرداً سياسياً، أو هكذا ينظر له.
وفي المقابل، فإن وكلاء الغرب، يشكون من عدم إتاحة الفرصة كامل
لحرية البحث العلمي. ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا، قيود على البحث
العلمي. والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من
الخطورة، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعدياً على
كل مقدسات الأمة. ولذلك فإنه يواجه من جموع الأمة، ومن هنا يشكو
وكلاء الغرب بسبب أن حرية البحث العلمي مقيدة، والحقيقة أن التعدي
على مقدسات الأمة مقيد.
ولنأخذ مثلاً من العلوم الاجتماعية، فهذه العلوم في الغرب تقوم على
أساس أن الإنسان ـ وبالتالي المجتمع ـ كيان مادي. ولأن الإنسان
يختزل إلى حدود المادة، فإن التطلع الإيماني، لا يفسر إلا بوصفه
سلوكاً مادياً. وبالتالي، فإن الدين عموماً يصبح مرحلة متخلفة من
التفكير البشري. وبهذا فإن تطبيق العلم الغربي المعاصر، يتعدى على
قداسة الدين، ويحاول أن يرسم صورة لأمتنا، ويشيع فهماً جديداً
عنها، يجعل التخلص من الدين ضروري.
ومثال آخر، في دراسة السلوك الجنسي، حيث يميل الفهم الغربي إلى
اعتبار السلوك الجنسي غريزة بيولوجية، ويحررها بالتالي من كونها
دافعاً اجتماعياً، وسلوكاً أسرياً. مما يؤدي إلى تحرير السلوك
الجنسي من سياقه الاجتماعي، وتحويله إلى نطاق الممارسة الفردية
الحرة، المسببة بأسباب بيولوجية غريزية، مثل الدوافع البيولوجية
الأخرى.
ووكلاء الغرب، يعلنون أن المحرمات في ثقافتنا تعيق البحث العلمي.
والحقيقة أن المقدسات في ثقافتنا مستهدفة من عملية إعادة إنتاج
العلم الغربي.
ولنا أن نلاحظ أن العلم الغربي له مقدساته أيضاً، فهو يبنى على
أساس الفهم المادي الميكانيكي الآلي، ويختزل الإنسان نفسه إلى مجرد
مادة، فيما يسمى بما وراء الحداثة. والمشكلة إذن، أن ممارسة العلم
الغربي، تتعارض مع مقدسات الأمة العربية الإسلامية، وتلتزم بمقدسات
الحضارة الغربية.
فإذا كانت المشكلة بالنسبة لوكلاء العلم الغربي، أنه لا يتاح لهم
(الحرية) لممارسة البحث العلمي خارج نطاق مقدسات الأمة، فإن هذه
الحرية التي يطلبونها، ليست حقاً لهم، بل هي حق للأمة. حتى في
الغرب، سنجد أن القيم العليا هي اختيار الشعوب الغربية، ومن خلال
اتفاق هذه الشعوب على الفكر المادي، أصبح العلم الغربي مادياً،
وأصبح العالم الغربي يمارس هذا العلم بحرية الالتزام بالمبادئ
العامة التي تم الاتفاق عليها.
فالأمة هي مصدر الاتفاق على نطاق المقدس، وعندما نتكلم عن القيم
العليا، نتكلم عن نطاق ممارسة الحرية الجماعية للأمة. نعني بذلك،
أنه من خلال اتفاق الأمة على قيمها، يأتي دور العلماء في تأسيس
العلم وممارسته، مع الالتزام باتفاق الأمة. فالمقدس مساحة لحرية
الأمة، التي تختار ما تؤمن به، والممارسة داخل هذا الإطار مساحة
لحرية الأفراد والجماعات.
والمشكلة في أمتنا أن ما تفرضه المؤسسات العلمية والتعليمية ليس
منا، بل مستورد من الخارج. ومعنى ذلك أن النخبة المتغربة، والسلطة
الحاكمة، مارستا حرية تحديد مقدسات الأمة، رغماً عنها، وهي ممارسة
لطغيان، واعتداء على حقوق الأمة، وهدم لمقدساتها.
بجانب هذا، فالعلم يمثل وظيفة اجتماعية، من خلال جماعة العلماء،
ومؤسسات العلم والتعليم. حيث يفترض في الكيان العلمي، أن يمارس
دوره في نهضة الأمة وتحقيق تقدمها، من خلال تعميق المعرفة، وتحقيق
قيم الأمة وغايتها السامية. لذلك فالكيان العلمي، يمارس حريته في
نطاق ما ترسمه الأمة من قيم وغايات عليا، ولا يفترض أن يمارس
الكيان العلمي حريته، بأن يشكل الأمة على نسق القيم التي يريدها
هو، أياً كانت ارادة الأمة، وخاصة عندما تكون هذه القيم مستوردة.
مما يعني أن الكيان العلمي، يريد من الأمة أن تعطي له الحرية
المطلقة، ليمارس العلم، حتى يقضي على قيم الأمة، ويحل محلها القيم
الغربية المستوردة، فتفقد الأمة هويتها، ويعلن وفاة أمة العرب
والمسلمين. فهل هذا يعقل؟!!
*المصدر : المقدس والحرية