موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

الموانع الأساسية للوحدة الحضارية
حسن جابر



لعل أبرز أهم الموانع التي حالت وقد تحول لوقت طويل دون إنجاز أي مشروع حضاري عالمي أو مشروع توحيدي عالمي، هو تطور الوعي عند البشرية، وصعوبة خروج الإمكانيات والاستعدادات المذخورة عند الناس كلهم للتوحد في إطار مجتمع انساني ينسجم مع الفطرة. فالمجموعات الإنسانية في حركة تطور وعيها المستمر تبدأ عادة ـ وبمقتضى التطور التاريخي ـ بالتفاعل والتأثر بالدائرة القريبة منها ثم لا تلبث أن تتجاوزها إلى ما هي أوسع، حتى تصل في نهاية المطاف إلى الدائرة الأشمل وهي دائرة الإنسانية كلها.
وعملية الانتقال في الانتماء والتأثر من دائرة إلى أخرى تحتاج إلى عهود متطاولة تعد ضرورية لمعايشة مختلف هموم وانعكاسات ومؤثرات ونتائج التعاطي المزمن مع تلك الدائرة، وقد يكون للتكوين المادي والنفسي للإنسان علاقة أساسية في هذا التدرج الطويل في مسألة الوعي، فالإنسان أكثر ما ينفعل بالقريب والمباشر والذي هو على ممارسة معه دون البعيد وغير المباشر والمنفصل عنه، ويبقى كذلك حتى يشعر بعد طول تأمل ودراسة وملامسة للآثار، أن العلاقة التي كانت قائمة ومؤسسة على أصول معينة مع تلك الدائرة لم تكن مثمرة وصالحة من الأساس، فيشرع الإنسان بعد ذلك بترميم علاقات وبالتالي حالات شعورية جديدة مع دائرة أوسع، وكذلك الأمر تحتاج الحالة الجديدة مع ما يستتبعها من علاقات ونشاطات وغيرها إلى الوقت الكافي ويتعاطى معها الإنسان بالكثير من الحماس إلى أن ينكشف خطأ العلاقة والتعاطي والاتصال معها، وهكذا … إلى أن يتحول تدريجاً إلى انسان قابل ومجهز لأداء دوره في الدائرة العالمية، وكلما تطورت وسائل وأدوات التفاعل بين الناس كلما كانت إمكانية القفز عن المعوق الموضوعي السائد أكبر بكثير، هذا كله فيما إذا تركت مسألة تطور الوعي ووتيرتها على نسق طبيعي، أما إذا زود الانسان بفكر ورؤية فلسفية وحضارية، فلا شك أن سلطة الوعي والفهم الحضاري والانساني تبقى أقوى بكثير من المعوقات الثانوية في إطار الدوائر الكثيرة، وهذا الكلام لا يساق بالمطلق، بل قد يتفاوت على مستوى التطبيق بين فرد وآخر ومجتمع وآخر.
وسنسوق بعض الأدلة على عوائق التوحد الحضاري من تجربة الرسول محمد (ص) والمسلمين في صدر الإسلام، حيث جهد النبي محمد (ص) طيلة مسيرة الدعوة لرفع الإنسان المسلم إلى مستوى الشخصية الحضارية العالمية التي تضطلع بمهمات ومسؤوليات كبيرة تفوق تصور الأفراد الغارقين بالأنوية والمشدودين نحو الذات الخاصة.
(ومن الطبيعي في الدور الأول، التكويني أن يكون أهم التوترات وأشدها فعلاً ذلك الذي قام بين الجديد والقديم، بين ما أنزل على النبي محمد (ص) وما بشر به من تعاليم وبين المعتقدات والممارسات العربية السابقة. إن ظهور الإسلام أدى إلى صراع بين طائفتين من المثل والعقائد والآداب.
فمع أن الدين الجديد، شأن غيره من الأديان العالمية احتضن تقاليد عريقة واحتفظ بصلات بالماضي فإنه ـ شأن هذه الأديان أيضاً ـ جاء بقدر أجل وبمعنى أعمق وثورة على تلك التقاليد ونبذاً لذلك الماضي).
وهناك توترات أخرى ناتجة عن عوامل ظهرت، هي متفرعة عن النزعة الأصل، أي التطلع إلى القريب الذي يشعر بوحدة شعورية معه، ومن تلك التوترات ما حصل من جراء محاولة الولاء الجديد أو الدين الجديد أن يربط الفرد أو المجتمع بمشروع أكبر وأوسع من عشيرته أو قبيلته، فحصل توتر بين الولاء القديم والولاء الجديد، وقد استطال هذا التوتر ولا تزال بعض آثاره حتى يومنا هذا. وكان لهذا التوتر الإسلامي ـ الاثني أثر سلبي في تعطيل توحد العالم الإسلامي سياسياً وعسكرياً.
ومنشأ مثل هذه التوترات يعود إلى أن (الإنسان بطبعه مفطور على المحافظة على الموروث والتخوف من كل تغيير أو جديد، لأنه يطمئن إلى ما يعرفه وإن كان لا يرضيه، ويتخوف مما لا يعرف وإن كانت فيه احتمالات كثيرة واضحة للخير)).
انطلاقاً من هذه المشاعر والمخاطر، يستوقفنا المنهج التربوي الإسلامي الذي استند ((ويستند إلى خصائص النوعية التي يمتاز بها الكائن الحي الذي يخضع لهذا المنهج، ومن هنا شاد الإسلام صرحه التربوي على أساس (التعقل) لا على أساس المشاعر العاطفية، واتجه في الدعوة إلى مجموعة من العقائد النزيهة والأخلاق الفاضلة والقوانين العملية التي يستطيع الإنسان الفطري بما يمتلكه من تعقل خال من الشوائب والخرافات أن يتقبلها ويؤمن بصحتها).
ومع ذلك لا تزول المؤثرات المجتمعية الضيقة والمفاهيم المنحرفة بالكامل، ذلك لأن ((الدغدغات المادية، وايحاءات الغرائز، تتراكم في النفس البشرية فتملأ شعور الإنسان لتسوقه نحو الابتعاد عن العقل السليم، ويبدأ عندها الإنسان بذم جميع المعنويات)).
و ((الجماعة المؤمنة)) في حركتها الرسالية ـ الجهادية الراهنة تواجه عدداً لا باس به من التحديات الداخلية والخارجية، وهي بتعقيداتها تكاد تتجاوز من حيث الكم والنوع مجموع التحديات التي واجهت الانطلاقة الأولى للرسالة الإسلامية. من أبرز تلك التحديات التي تؤدي إلى جملة توترات:
1 ـ التوتر الداخلي الذي سيبقى من أخطر المعوقات على الاطلاق، والمتولد من اختلاف الرؤى والنظرة بين أفراد ((الجماعة المؤمنة)) كأن يكون بعضها غير مقتنع بجدوائية التحرك الثقافي ـ الجهادي لتحضير أذهان الناس للتحول الحضاري الكبير، ويرى أن ذلك ليس من صلاحية ((الجماعة المؤمنة)) ولا حتى ((المرجعية ـ الشاهدة))، وإنما هي مقصورة على الإمام المعصوم.
والمشكلة في هذه الفئة أنها مع قناعتها بعدم وجد مصلحة في أي تحرك تحضيري لإنجاز المشروع الحضاري، تعود وتناقض نفسها بنفسها عندما تدخل في سجال معيق ومثبط وفي كثير من الأحيان محطم للجماعة المتحركة في إطار مشروع الاعداد، حتى أنها قد تبيع نفسها لقوى أو في أحسن الأحوال تقع في دائرة استغلال الآخرين لها وتثمير مواقفها وأطروحاتها في معركة إجهاض وإسقاط التحرك الثقافي ـ الجهادي للجماعة المؤمنة. ولهذا يجب البحث عن صيغة تحمل هذه الفئة المؤمنة، في أقل تقدير، على عدم إعاقة المشروع الحضاري للجماعة المؤمنة.
وفي السياق نفسه يفترض تصفية عادات المجتمع وتقاليده والأطر الخلقية والاجتماعية مما فيه من عوامل الجمود والمثالية المفرطة ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية الداعية إلى التطور والنهوض.
2 ـ التوتر الناتج عن اصطدام المشروع بالأفكار المنحرفة وثقافة الاستعمار: ونقصد بالأفكار المنحرفة كل تلك المفاهيم والرؤى والنظريات التي تشبعت بها أذهان النشء،وهي لا تتفق مع عقيدة الفطرة، والتي أعادت تعويم العقيدة الوثنية بمظاهر وأشكال مختلفة، وبعض الأفكار العقيمة التي علمها الاستعمار للأجيال، والتي لم تبدل عقول النخب ونفوسهم تبديلاً جذرياً شاملاً، ولم تنتج على المستويات المختلفة أي عملية تطور بل زادت من تبعية المجتمع الإسلامي للغرب وحاجته إليه.
3 ـ قابلية المجتمع للاستعمار: وهو من أخطر التوترات التي قد تنشأ بين (الجماعة المؤمنة) وبين المجتمع الجاهلي الحديث الذي هو مستعد لتقبل كل شيء إلا الأفكار النهضوية المستقلة، وقد تنبه مالك بن نبي إلى هذه المشكلة فقال: ((إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر أول ا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين (أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم) )).
وهذه القابلية يمكن إدراجها باطمئنان تحت عنوان (العامل الاستعماري) المعيق لأي حركة نهضة تستهدف بشكل غير مباشر وجوده ومصالحه، فهذا العامل ((في الواقع يخدع الضعفاء ويخلق في نفوسهم رهبة ووهماً، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة، وأن هذا الوهم ليعدي أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتيالهم إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدفعون ساعات الليل عن غرة الفجر، وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم)). وقد أحسن (شريعتي) في تحديد الصورة النموذجية لأولئك القابلين للاستعمار بما يعكس فعلاً حقيقة سلوك هذه الفئات المتعالمة والمتخلفة في آن، فالفرد منهم بنظر شريعتي ذلك الإنسان ((الذي أخلى الأوروبي باطنه من المحتوى الإنساني والفكر يوالشخصية الخلاقة، حتى يصير من قمة رأسه إلى أخمص قدمه معدة مفتوحة وحلقاً مفتوحاً من أجل المنتجات الصناعية الحديثة في أوروبا، وحينذاك يدهن هذا الجلد النتن، هذا (الرجل) الذي صار دمية من الحصى، وتوضع فوقه الملابس، ويُعبّأ بالحركات والسكنات المزيفة التقليدية الشبيهة بالـ (كليشيهات) ( … ) مثل هذا القرد الذي يبدو كالبشر إلى هذا الحد نظيف وجيه وعصري، من المستحيل أن يتذكر وقت أن كان هو نفسه، كان على كل حال يعد بشراً، يعيش حياته ويصنع ويأكل ويختار، من المستحيل أن يعلم بسقوطه إلى مرتبة حيوان مقلد مفرغ من نفسه … )).
غير أن شريعتي في هجومه على المتغربين ومنسلخي الشخصية، لا ينطلق من رؤية عقائدية محددة، وإنما كان يحاول، ومن وجهة نظر اجتماعية ـ كعالم اجتماع ـ أن يدرس ظاهرة التخلي عن الذات أو تذويب الذات من قبل الخارج وآثار ذلك فيرى أنها لم تؤت ثمارها على صعيد تطور واستقلال وحرية الشعوب، وكل ما قدمته تلك الظاهرة أنها أوقعت المجتمعات في المزيد من التبعية، ويرى بديلاً عن هذا الالحاق أو الالتحاق الإرادي، العودة إلى الذات، والتأسيس على خصائصها المتميزة مجتمعاً متطوراً يواكب النهضة الإنسانية، وهذا التنظير بمؤداه النهائي لا يخدم إلا التوجهات المحلية والثقافات الخاصة محلية كانت أم إقليمية أم قومية، وهذا بالمحصلة لا يتوافق مع المنحى العالمي الرسالي للإسلام، بل في بعض الأحيان يتعارض معه، ذلك أن الشخصية الحضارية الإسلامية قد تصطدم في إحدى مراحل تطورها الذات الحضارية للقوميات والوطنيات، وتعمل على الغائها أو تهذيبها وتربيتها بما يتوافق مع المشروع الحضاري الإسلامي، ولهذا كان قاسياً في نقده للحركة العلمية المنبعثة من الحوزات العلمية والتي تنهل من كل المخزون الثقافي والعلمي، وحتى في وصفه لبعض المظاهر التي هي جزء من الشخصية الحضارية الإسلامية، كإحياء اللحى، والحجاب.
4 ـ التوترات الناتجة عن التحديات المذهبية والوطنية والقومية: تواجه (الجماعة المؤمنة) الحاملة للمشروع الحضاري الإسلامي ـ التوحيدي، تحديات على مستوى المشاعر والانتماءات الوطنية والقومية وحتى المذهبية، وخطورة هذه التحديات أنها لم تبق مجرد مشاعر وإنما بذلت جهود كبيرة لتحيول تلك المشاعر والانتماءات الجغرافية إلى (حالات فكروية) تعتقدها شرائح كثيرة في المجتمع كبديل عن الإسلام، وقد حلت هذه النزعات مكان القبيلة والجنس والعنصر الاثني ـ الحضاري. ويبرز قسطنطين زريق خطورة هذا التوتر بقوله: ((بدلاً من القبيلة والجنس والعنصر اللذين كانا ينافسان الأمة في اجتذاب ولاء المسلم في العصور السابقة جاء العصر الحديث بمنافس أقوى هو الكيان القومي المستجد في المشاركة في الأرض واللغة والثقافة والمصلحة والمصير))، أما التوتر المسبب من الميول المذهبي فقد أحدث في السابق أعمق الانقسامات، خاصة بين السنة والشيعة، لكن هذا التوتر تقابله عدة معطيات تجعله أخف وطأة من السابق بسبب عدم وجد شيء ما يمكن التنافس عليه في ظل غياب أطروحتي التشيع والتسنن عن السلطة، هذا فضلاً عن إمكانية الجهاد المشترك لبناء المجتمع الذي هو الخطوة الأولى في المشروع الحضاري ـ التوحيدي الشامل، اضافة إلى الرؤية الواحدة فيما يتعلق بمستقبل الإنسانية وضرورة استخلاف المستضعفين في الأرض وسيادة الحكومة الإلهية.
وعلى العموم، فإن كل الولاءات الضيقة سواء كانت انتماءً عرقياً أو جغرافياً أو حتى حالة حضارية محدودة أو غير ذلك، ستتكون مجموعة معوقات خطيرة تحول دون تعميم الولاءات المنفتحة، فالأفق الذي ترسمه تلك الضيقة يحجب الرؤية عن أبعاد قويمة الرؤى الحضارية العالمية، وكثيراً ما تستغل هذه الولاءات التي تشكل إحدى أبرز وأهم قواعد الاستقطاب على مستوى الرأي العام، في ضرب محاولات التثقيف العام من قبل المشروع الحضاري العالمي، ولعل فئة المتعالمين تأتي ف صدارة مَن يحركون الناس لمحاربة هذا المشروع، والتعالم من العوارض الحديثة التي أفرزها الاستعمار في بلاد المسلمين، وهذه الحالة أصعب بكثير من الأمية والجهل لأن الأخيرة سهلة المعالجة، بينما مرض التعالم لا سبيل لعلاجه اطلاقاً ((لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيره ضميراً فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش وسلماً يصعد به إلى منصة البرلمان، وهكذا يصبح العلم عملة زائفة غير قابلة للصرف، وأن هذا النوع من الجهل لأدعى وأمر من الجهل المطلق .. )).
والرصيد الوحيد الذي يمكن أن يدعم الفئات القيادية في (الجماعة المؤمنة) وعلى رأسهم المرجع ـ الفقيه هو نفس الانتماء القَبلي للإسلام، فهو رأسمال حضاري أو قدرة كامنة، وعلى تلك الفئات بقيادة المرجع وبمساعدة (الجماعة المؤمنة) أن تباشر عملية تثقيف واسعة بين المسلمين لإعادة صياغة شخصيتهم على ضوء مفاهيم الإسلام، خاصة وأن الإسلام تحديداً يحد من تأثير تلك الولاءات الضيقة فهو يحرر الفرد من قيود شهواته ونزعاته الحيوانية برفعه إلى دور المتحكم في هذه الشهوات والنزعات)) كما أنه يحرر الشعوب من الاستعمار والاستعباد ويلغي السيطرة الطبقية في المجتمع (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
* المصدر : مجلة المنطلق / العدد 62 / 1410


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع