نحن نحيا عصراً يمضي الماضويون فيه إلى احتكار الحديث عن المستقبل
لأنفسهم، في وقت يصمت فيه المستقبليون عن شأن المستقبل تماماً
مثلما يكون المنغلقون أكثر انفتاحاً، ويؤلفون القوة ذات الشأن حتى
في الفترات التي يبدو فيها الشأن بيد المنفتحين.
يمضي ((الزمن)) إلى الأمام، ويمثل تتابعاً واستمراراً للأحداث
والوقائع والعمليات، تتمثل أبعاده في الماضي والحاضر والمستقبل.
وهو لا يقتصر في دلالته على الوقت بل يتعدى ذلك إلى الكيان
المتكامل من النظم والعلاقات. ومن هنا فإن للزمن عناصر متداخلة
تتمثل في مجمل الأحداث والعمليات المرتبطة بأنشطة الفرد والمجتمع
ما دامت تجري في أطر ومراحل محددة.
وللزمن سرعته وإيقاعه، واتجاهاته، ومضمونه الاجتماعي، وهذه كلها
تتباين في وحداتها القياسية وفي معايير الناس إزاءها في الأمكنة
المختلفة.
وللزمن في تدفقه إلى الأمام إيقاع، واتجاه، ومضمون، وإذا كانت
السرعة تتمثل في الوقت الذي تستغرقه فعاليات الإنسان بما فيها
عمليات الأداء والتعبير .. فإن الاتجاه يتمثل في المنحى الذي تتخذه
تلك الفعاليات، بينما يتمثل المضمون في نوع تلك الفعاليات في هذا
المجتمع أو ذاك، وفي ما تتخذه من أهداف.
وقد تفاعلت عوامل متعددة مع أبعاد الزمن لتحدث تغييرات في حياة
البشر، من جهة، وفي الزمن ككيان اجتماعي، من جهة أخرى ابتداءً من
العصور التي سادت فيها الخرافة وحركة التأمل مروراً بالفلسفة
وانتهاء بحركة العلم، حيث قادت هذه الأخيرة إلى اختصار الزمن في
مختلف المجالات، وبذا أمسى للحياة الإنسانية إيقاع جديد، وهو يتجدد
باستمرار. ويراد لهذا الإيقاع أن يكون على خطوات متصلة يستطيع فيها
الإنسان أن ينجز، وأن يحيا منتفعاً من إنجازاته على الصعيد المادي
والمعرفي والقيمي.
ورغم سعة التحولات في الحياة البشرية وتطور العلوم وتنوعها، إلا أن
الثقافات ما تزال شديدة التباين في اتجاهاتها إزاء أبعاد الزمن،
لهذا هناك ربط بين أبعاد الزمن وعناصر الثقافة ومضمون الفكر. ((لذا
كان هناك فرق بين أن نقول إن الماضي أثر في الحاضر، ونقصد به
الأحداث والأوضاع، وبين أن نقول إن الماضي يعيش في الحاضر، ويؤثر
في سلوكنا، وفي تكوين نظراتنا وفي تحديد مواقفنا أحياناً)). ويصل
الأمر إلى اتخاذ الموقف من الزمن معياراً لموقف الثقافة. وفي هذا
المجال هناك مَن يؤشر ثغرة في الثقافة العربية في موقفها من الزمن
على أساس أن الماضي والحاضر قد طغيا عليها، وأن المستقبل لم يحظ
إلا بأقل القليل، رغم أن معرفة أو محاولة معرفة المستقبل تمثل أحد
عناصر القوة.
وتناول منظورات العرب إلى الزمن بماضيه وحاضره ومستقبله لا يحمل
تقطيع الزمن إلى أوصال، حيث إن هذه الأبعاد الزمنية مترابطة ويفترض
التعامل معها بعقلية واحدة دون أن تكون بالضرورة عقليات مختلفة،
لأن هذا يحمل تقسيماً لوحدة الفكر.
أما القول بالوعي بالماضي، والوعي بالحاضر، والوعي بالمستقبل فهو
يمثل طرائق في التعامل الفكري مع معطيات كل حقبة من حقب الزمن،
ولهذه الطرائق ضوابط فكرية واحدة هي أكثر قرباً إلى شروط الفكر
العلمي منها إلى أيّ أسس أخرى، حيث إنها تنطوي على الانفتاح، وعلى
قدر من الموضوعية والواقعية.
ومن هنا لا يشكل الوعي بالمستقبل خطراً على ما أنتجه الماضي من
تراث مثلما لا يشكل خطراً على ما ينتجه الحاضر، إذ إن الوعي
بالمستقبل يضع مجمل المعطيات على محك التقويم، ويتحكم في مسيرة
الزمن القادم دون أن يتركه يمضي بصورة تلقائية. وكما كانت هذه
المسيرة تتطلب، اليوم، الاعتماد على روح علمية، ومشاركة، وإبداعاً،
وتطلعاً منضبطاً، وتفكيراً مستقيماً، فإن الوعي بالمستقبل يلح على
استكشاف هذه العناصر وما يماثلها في الماضي، وفي الحاضر، ويبعث
الحياة في بعضها، كي يحسن توجيه مسيرة المستقبل.
ومن هنا فإن من بين أهداف بحوث المستقبل التقصي عن عوامل الارتقاء
الإنساني في ماضي المجتمع وحاضره بقصد الوصول بها إلى أن تكون
عناصر فاعلة في المسيرة المستقبلية لذلك المجتمع.
ومن هنا يمكن بتطبيقات علم المستقبل أن يكون المجتمع أكثر قرباً من
تراثه، وأشد وفاءً لمعطيات ذلك التراث، لأن إبقاء عناصر التراث على
وتيرة واحدة دون إيقاظها وتوجيهها يشكل قطعاً صريحاً لصلة الماضي
بكل من الحاضر والمستقبل، كما أن ترك الحبل على الغارب يؤول إلى
توجهات قد تبعد المستقبل عن الماضي بعد الجوزاء عن زحل.
وعلى هذا فإن تبلور وعي مستنير بهذه الأبعاد الزمنية يحمل مفهوماً
فاعلاً للوعي التاريخي للمجتمع في صنعه لحاضره واختياره لمستقبله،
وبخاصة أن من الواضح أن المجتمع يمكن أن يرفض لأسباب ثقافية
واجتماعية، واقتصادية، وتاريخية، مستقبلات حتى لو ألسبت أجمل
الأردية، ذلك أن جمالها لا يمكن أن يتراءى له، كما أن ((عناد))
المجتمع قد يصل من القوة والسعة بحيث يرفض تكوين صور مستقبلية
بعينها، ومن الجماعات ما يروق لها أن تضع العربة أمام الحصان،
وبخاصة أن المجتمعات ذات التاريخ العريق كثيراً ما تكون ابنة
للتاريخ قبل أن تكون حفيدة للمستقبل.
ويظل التساؤل بأي منظور يرى العرب ماضيهم، ويرون حاضرهم؟، ذلك أن
هذه الرؤية ذات علاقة وثقى بنظرتهم إلى المستقبل.
ولأن الماضي بعد زمني، لذا يتطلب التعامل معه بعقل جديد كي يفهم،
وكي يمكن الانتفاع منه. أما حين يميل العقل إلى التعلق بالماضي
والوله به فلا يمكن المخاطرة بالتغيير ولا الرنو إلى المستقبل، ولا
إجراء المقارنات. ومن هذا يتضح خطر تعامل العقل المحافظ بالماضي.
وحين يأسر الماضي العقول يمكن القول بوجود نزعة ماضوية، إذ إن
الماضوية نظرة تتمثل في تعلق بالماضي وبرغبة في إعادة فصوله، وعلى
أساس ذلك فإن الماضوية ليست تراث الماضي بل هي جملة المنظورات التي
ترى في الماضي الحل والبديل. وعلى هذا لا يصح الحكم على المستقبل
مثلما لا يصح الحكم على الماضي بعقل قديم.
ومن هنا يترتب التمييز بين التراث والماضي، فضلاً عن أن الماضي
بالرغم من أن ((الزمن قد طواه غير أنه من المفيد أن يتم إنعام
النظر فيه كي يمكن تصور المستقبل. ذلك أن المستقبل هو الذي يهم
المجتمعات، وهو التبعة التي يشترك الجميع في حملها))، لأن الإبداع
الفكري يقوم على صهر أفكار الماضي والحاضر وعلى خلق مبدع لمجموعة
من البدائل والإمكانات الفكرية أمام تطور الإنسان والمجتمع مادياً
وفكرياً. فالإبداع الفكري يتوجه إلى المستقبل، وأن استفاد من تجارب
الماضي والحاضر الفكرية والعملية. أما التخلف الفكري فيقوم على
النظرة إلى الخلف ليس بغية الاستفادة من دروس الماضي، وإنما
لاعتباره بداية ونهاية في آن معاً، ذلك أن التخلف الفكري يقوم على
جعل الإنسان أسير الماضي مهما كان عظيماً في وقت من الأوقات، ومَن
يريد تحدي حضارة اليوم ليس له إلا أن يهضم ويفهم منطقها، ويضيف
عليها قيماً أسمى، ويصهر الكل معاً في تشكيل جديد يغذي حضارة
الإنسان.
وفي معرض التأكيد بأن يستخدم الإنسان كل الموارد المتوفرة في الوقت
الحاضر من أجل تشكيل مستقبل يليق بالإنسانية، والتأكيد أن من حق كل
فرد أن يكون له دوره في صنع المصير الجماعي. هناك تأكيد آخر بأن لا
ينسى أي مجتمع ماضيه شريطة أن لا يكون الانشغال بالماضي صارفاً عن
حاجات الحاضر والمستقبل، ذلك أن التحدي الذي يواجه الجميع هو
المستقبل، ومن اللازم تحقيق أفضل الاحتمالات المستقبلية، إذ إن
للوعي بمعطيات الواقع ولاستيعاب تجارب الماضي علاقة بتصور
المستقبل.
وتحميل الماضي أكثر مما يحتمل له تأثيراته السالبة في المستقبل وفي
التخطيط له، ففي المجتمع الذي يسوده النزوع إلى الثبات والنفور من
التجديد تفرض ظاهرة الوله بالماضي وجودها على المجتمع على حساب
الحاضر والمستقبل. وكل إفراط في التعلق بالماضي في مجتمع معين،
إنما هو، في جانب من جوانبه، أثر من آثار العقلية التي تتشبث
بأفكار الأسلاف. صحيح أن من حق كل شعب، بل من واجبه أن يتذكر
أمجاده الماضية ويستمد منها قوة تعينه على النهوض بحاضره، ولكن حين
يصل الأمر إلى الوله بالماضي إلى حد الإلحاح المريض مع نسيان
الحاضر نسياناً تاماً إلى حد الاعتقاد بأن تذكر الناس بماضيهم يكفي
وحده لتعويض كل نقائص حاضرهم، فعندئذ يعد الوله بالماضي عاملاً من
عوامل إعاقة نهضة الأمة وتقدمها.
ومن خصائص الإنسان المحدث ومعالم المجتمع المتحضر هو الموقف من
الزمن، فإذا كان هذا الإنسان وذلك المجتمع معنيين بالحاضر
والمستقبل يعملان من أجلهما ويهتمان بهما أكثر من اهتمامهما
بالماضي، فإنهما على الأرجح ـ أقرب إلى الحداثة منهما إلى التقليد
ـ . أما إذا كان الماضي يهيمن على تفكير الفرد، ويرخي بظله على
حياة المجتمع بحيث يصبح الفرد أسير عالم الأجداد ويصبح المجتمع
أسير ماضيه، فإن ذلك يعني أنه أمام ظاهرة تقليد لا ظاهرة حداثة.
وفي ظل أوضاع من هذا النوع تضطرب الرؤية وتختل الموازين ويعجز
الفرد والمجتمع عن توجيه سفينتهما الوجهة الصحيحة.
إن السياسة اللازمة للتحرر من التخلف هي السياسة المستقبلية لا
السياسة الماضوية، وهي سياسة تستهدي جميع علوم الإنسان، وليس علماً
واحداً منها دون الآخر. وتفتح هذه السياسة المستندة إلى نظرة كونية
ومستقبلية للإنسان أبعاداً وآفاقاً جديدة في فهمنا للإمكانات
الإنسانية وتقديرنا لها، فترى فيها الإنسان من حيث هو في حركة
صيرورته الدائمة عبر الحاضر والماضي والمستقبل، ويبدو التخلف حينئذ
طوراً من الأطوار العابرة لهذه الصيرورة.
وفي أغلب الثقافات تبرز أسطورة ((العصر الذهبي)) التي تتخذ لها
أشكالاً أدبية شتى، وهي تنفتح على حياة ماضية كأنها الحقيقة بعينها
رغم أنها متخلية أو وهمية. وهي كثيراً ما تبدو كأنها مثالية، لذا
تحفز الناس على أن يطمحوا في أن يعيشوا ماضيهم أو أن يعضوا الإصبع
نادمين، لأن التغيير قد أصاب حياتهم.
وإذا كان من الصحيح أن الزمن الماضي لا رجعة له من الناحية
التاريخية، فمن الصحيح أيضاً أن الماضي ليس مجرد تراكم نوعي وكمي
لأحداث تمت في زمانها وارتبطت بظروفها التاريخية، بل هو ماض ينطوي
على لحظات وعي. ولذلك أصبح تراثاً ثقافياً يحمل قيماً يمكن أن تدفع
مسيرة التاريخ إلى الأمام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن
الماضي ينطوي على فترات زمنية خالية من المعنى ومفرغة من القيمة
بحيث يمكن أن تدفع حركة التاريخ لا إلى الأمام بل إلى الخلف.
وهناك نظرة لا تاريخية إلى الماضي لدى كثير من المجتمعات، وتبدو
على شاكلة تمجيد الماضي في مجمله، أو تبدو في شاكلة ازدرائه، حيث
إن كلتا النظرتين تفتقد إلى الموضوعية، وبخاصة أن مثل تلك النظرات
تشكلت في مجملها استناداً إلى بعض المواقف التاريخية وليس حصيلة
تقص علمي دقيق.
وعلى هذا فإن أي موقف إزاء الماضي يظل قاصراً إن لم يعتمد أساساً
موضوعياً، كما أن أي محاولة لإخراج الماضي بشكل جديد هي محاولة مع
أن البراءة تغلفها لكنها قد تمثل إقحاماً للماضي في غير عصرهن
وبالتالي دفع الماضي إلى الهاوية، لأنها تحاول أن تراه في سياق ليس
سياقه، وأن تضعه في مستقبل غير قابل على احتماله.
وإذا كان ماضي المجتمع يضم أفكاراً وعادات وتوجهات فإن من المستحيل
للحظة مستقبلية أن تتحقق إذا لم تؤخذ طبيعة محتوى الماضي في
الاعتبار، لهذا يمكن أن تكون بعض عناصر الماضي معوقات للتقدم، أو
حين يكون الماضي مجرد حنين ووقوف على الأطلال، إذ يقع الوعي
الاجتماعي عندها في خطأ، فلا يمكن له الانسجام مع قدرات الذات على
الانتفاع من مضمون الماضي.
وهكذا فإن الماضي يضم في أطوائه عناصر يمكن أن تكون عوناً وحافزاً
في عملية التغيير وبناء المستقبل، ومنها ما تكون عوامل انكفاء
وتراجع، ومن هنا فإن الوعي بالماضي هو الذي يقود إلى انتقاء
الحوافز نحو بناء المستقبل. ومن هنا فإن الوعي يشكل غربالاً.
ومن جانب آخر، فإن الماضي كمخلوق تدب فيه بعض الحياة غير معني
بموقفنا الحاضر والمستقبل إزاءه، لكنه على استعداد دائم لأن يعرض
عضلاته من أجلنا، مثل عارضة الأزياء، هي غير معنية بعرض مفاتنها،
بل بعرض مفاتن الثياب. ويظل دورنا نحن المتفحصين، هنا وهناك، أن
ننتقي وفق ما يلائمنا.
والماضي يستعرض أمامنا فعاليات الإنسان. ولما كنا جميعاً نزعم أننا
نهدف إلى النهضة والارتقاء، يظل دور وعينا أن يساعد على أن نضع
اليد على الخبرات المتوافقة مع سيرورة النهضة والارتقاء، ونخضعها
للتناول العلمي، وبخاصة أن الماضي العربي ظل لأمد طويل بعيداً عن
تناول من هذا القبيل، ولهذا لم يتحقق فهمنا لماضينا فهماً علمياً.
والوعي لا يقتصر على الماضي وحده، بل هو يتسع ليشمل ما تضعه الأمة
لنفسها من صور واقعية قابلة للتطبيق أفضل من واقعها ومتناسبة مع
متطلبات العصر، وما تستطيع انجازه عملياً بكفاءة عالية، لذا يعد من
بين ما ينطوي عليه وعي المجتمع وقوفه على كيفية الانتفاع من
المعرفة والتجارب. فالمجتمعات التي استطاعت أن تحقق قفزات على
مشوار الارتقاء كانت قد أحسنت استخدام معلومات وقوانين علمية كانت
متاحة للجميع، غير أن قلة هي التي انتفعت منها وحولتها إلى تطبيقات
وخطوات. وهي بهذا استطاعت أن ترسم صوراً مستقبلية واستطاعت أن تجعل
منها واقعاً، في وقت ظل آخرون يراوحون على الأرض نفسها.
ويشير أحد الباحثين في التاريخ السياسي إلى أن اهتمام الناس بأحداث
الماضي يرجع إلى عوامل عديدة من بينها تحقيق رغبتهم في فهم ما يحدث
في حاضرهم، وأن هذه الرغبة نابعة، إلى حد كبير من حاجة الناس إلى
التأثير في ما سوف يحدث في المستقبل، وبذا يصبح التاريخ عديم
الجدوى إن لم يمد الناس بجانب من المعرفة ذات القيمة العلمية ممثلة
في أن يبين الطريقة التي تمكن الناس من أن يجعلوا من الحاضر
مستقبلاً أفضل.
ولكن ذلك الباحث يبدي خشية من أن يستأثر الماضي بانتباه الإنسان
ويبعد نظره عن المستقبل، فيؤول ذلك أن تعثر العقل في عصور ذهبت
واندثرت، وبذلك يضل الطريق. والطريقة الوحيدة لتجنب هذا الوضع بحيث
يبقى هدف التاريخ واضحاً هي النظر إلى الماضي وكأنه كان ذات يوم
مستقبلاً مع التأمل في ما حدث من تغير كما لو كان يتحرك أمام
العيون لا مجرد شيء ذهب وانقضى.
إن النظرة التاريخي الواعية هي التي تقود إلى إنارة التفكير
التاريخي، وإلى تكوين نظرة تاريخية ناقدة، تقود، بشكل أو بآخر إلى
المستقبل.
والربط بين التاريخ والمستقبل لا يعني أن التاريخ يقدم أساساً
لتنبؤات مستقبلية، بل لأن التاريخ يساهم في توفير فهم للسلوك
الإنساني في الماضي، كما أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن ((الذين
يستمرون في جهلهم يمنطق التاريخ، عادة، يحاولون إعادته بحذافيره)).
ومع هذا فإن التاريخ يمكن أن يشكل حافزاً يدفع بالمجتمع إلى التحرك
والارتقاء.
وعلى صعيد المجتمع العربي والماضي، ما يزال المجتمع العربي يعاني
من ضعف انتفاعه من ماضيه ومن الماضي عموماً، حيث إنه لم يتمكن من
الأخذ بالروح المنهجية في تعامله مع ذلك البعد. وفي زحمة
الاهتزازات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي خلال الخمسين سنة
الماضية كان خطاب قد بح له صوت وهو ينادي بالتغيير وبناء المستقبل
الجديد، وإلى جانبه كان صوت خفيض النبرات حاول أن يظهر من الطباع
ارقها حتى وصلت السفن إلى مراسيه، ووجد أن الأجواء قد خلت له،
فارتفع له صوت في خطاب يحاول تسفيه الكثير من الجديد وإبراز الفكر
التقليدي. ووصل الأمر به إلى التفلسف فراح يتحدث بقضايا المصير،
ويلوح بما له من قوة. وكان لهذا الصوت الأخير دوره في إسكات كثير
من الأصوات، وبروز تيار جديد مجامل وتوفيقي، إضافة إلى تبلور
اتجاهات صامتة وأخرى مسايرة. وكان لهذا كله تأثيراته السالبة في
النظرة المستقبلية للمجتمع العربي، وبخاصة بعد ما كانت كثير من
التطلعات قد تكونت في الوعي في الوطن العربي.
وإذا كان خطاب التغيير وبناء المستقبل قد ولد من أحشاء المجتمع
العربي بعد سلاسل من المخاضات، فإن بعض التيارات المناوئة جاءت
نتيجة انتكاسات فكرية وردود أفعال لم يكن لها تاريخ. فقد كانت
الأمة العربية في تاريخها مرنة مطواعة تتقبل الجديد وتتفاعل معه
وتخرجه في سياق مختلف، غير أن فترة غير قصيرة مرت عليها وعزلتها عن
حركة الاتصال الحضاري بالآخرين، فانطوت على نفسها، وما تزال بعض
رواسب تلك العزلة تضرب في أعماقها حتى اليوم.
ولهذا قال بعضهم ((إن الأمة العربية عاشت طويلاً في تقاليدها، ولم
تعش كثيراً في مشاكلها العلمية والاقتصادية، وعاشت في أحلامها ولم
تعش واقعها، التفتت حول روحانياتها ولم تحفل بإمكاناتها ... دون أن
تبحث عن سبيل تضع فيه تقاليدها في خدمة تقدمها، ودون أن تنتزع
نفسها من عهد عنترة إلى عصر الإلكترون)).
وكانت منذ بدء النهضة العربية قد ظهرت آراء تدعو إلى أن ينظر العرب
إلى ماضيهم وحاضرهم بمنظور جديد. ومع هذا لم يتحقق ذلك إلا بقدر
محدود في هذا المجال، إذ يتعدد الشاهدون على العصر العربي الذين
يقدمون الدليل أو يصدرون الحكم، أو يطلقون الصيحة من كبر حجم
الماضي في الاهتمام العربي، والذي لم يواكبه تعامل علمي بمضمون ذلك
الماضي في الوقت الذي يتأكد أنه مع أن الماضي طواه الزمن إلا أن من
المفيد إنعام النظر فيه كي يمكن تصور المستقبل.
ويرافق ذلك تخوف من الأفكار الجديدة، وميل إلى إثارة الماضي عند كل
حركة تجديد، والمبالغة في إظهار لآلئه، وكأن التاريخ بحر متجمد
وليس نهراً متدفقاً، وكأن بالوسع إعادة التاريخ بحذافيره. ولم
تزحزح من تلك الرؤى الأحداث الكثيرة التي مرت على الوطن العربي بما
فيها ((تحولات القرن العشرين التي لا ينبغي لنا أن نرى فيها نهاية
التاريخ، ولا أن نجعل منها مقبرة الأمل!)). ذلك أن التكوين الحضاري
إنما هو تفاعل بين إرث جاء من تاريخ المجتمع وبين تطلعات مستقبلية.
وفي هذا المجال هناك تساؤل له أهميته هو هل المجتمع محكوم بالتاريخ
أم هو يتحكم بالتاريخ؟ إذا كان محكوماً بالتاريخ، فهذا معناه، أنه
يتقبل التاريخ كما هو، يخضع لميل التاريخ. أما المجتمع المتيقظ
الواعي فهو يتحكم بالتاريخ، أولاً، يتحكم فيه ناقداً، لأن ما كل
الروايات التي جاءتنا صحيحة، لذا علينا أن نخضعها لدور النقد
العلمي، وأن نفرض عقلانيتنا عليها، وأن نتحكم بها، كي نأخذ منها ما
يوافق تطلعاتنا للمستقبل.
والتحكم بالتاريخ يتطلب دينامية مجتمعية، وهذه مرتبطة بالوعي. وهي
أقوى وأفعل وأسرع في الأدوار التي تتجه فيه الشعوب نحو مستقبلها
وتمضي في صنع هذا المستقبل بالتساؤل والارتياد والإنجاز، مما هي في
الأدوار التي تكون فيها واقعة تحت سطوة ماضيها، ملتفتة إليه قانعة،
غير شاعرة بالحاجة إلى تخطيه، أو غير قادرة على ذلك.
وللأمة العربية ماضيها العريق وتراثها الثري وتاريخها المديد، وهذا
يلقي على المفكرين مسؤولية جسيمة في أن يحسنوا التعامل مع ذلك
الإرث الغني كي لا يكون عرضة للضياع، بل أن تكون الطريقة المنهجية
أسلوباً لذلك التعامل، إذ إن هذا الأسلوب وحده يهيئ فهم دلالات ذلك
الماضي والانتفاع منه. أما مجرد الجمع دون التحليل الناقد فلن يؤول
إلى جدوى. وهناك إقرار في الفكر المنفتح اليوم أن للماضوية شيوعاً
في المجتمع العربي، وتبدو روح الماضوية في التعلق بأهداب الماضي
ومضامينه الإيحائية، ويصل الأمر إلى أن الأكثر إطلاقاً للأحكام عن
المستقبل هم، اليوم، من المشبعين بروح الماضوية.
وبسبب ما ينطوي عليه الماضي من تأثيرات عند عدم التعامل معه بروح
علمية، فقد ذهب البعض إلى القول إن استجابة الشعوب التي لا ماضي
عريقاً لها أكثر استجابة للتقدم وأسرع من تلك التي تمتلك، على أساس
أن بعض الشعوب التي أثقلها الماضي عجزت عن مسايرة الارتقاء باعتبار
أن الماضي العريق كثيراً ما يكون عبئاً من الأعباء الثقال التي
تعيق دينامية الشعوب. ويستشهد أولئك ببعض الشعوب الأفريقية التي لم
تكن لها لغة ثابتة، أو كانت قبائلها تتكلم بلهجات متباينة، حيث
استطاعت هذه الشعوب الاستجابة لمعطيات المدنية عن طريق اللجوء إلى
إحدى اللغات العالمية الحية وطرح لهجاتها الأصلية، والتي لو كتب
لتلك الشعوب أن أصرت على استخدامها لبقيت في عزلة عن العالم، بينما
مهدت اللغات الحية لها أن تعايش معطيات المدنية الحديثة. ويستشهدون
أيضاً بالولايات المتحدة الأمريكية التي يتألف شعبها من النازحين
من بقاع العالم المختلفة الذين لا يجمعهم تاريخ مشترك ولا ماضي
عريقاً يثقل عليهم مسيرتهم.
ويقول أولئك إن بعض جوانب الماضي لا تقف حجر عثرة فقط بل لها
نتائجها النفسية والاجتماعية لدى الأمم والشعوب، إذ كثيراً ما
تتولد بين الشعوب عقد عديدة من بينها ما يسمى بـ ((مركب الغرور))
الذي يصرف تلك الشعوب عن تقبل كل ما هو جديد بحجة عراقة الماضي
ووجوب إعادته من جديد.
ويدخل علم المستقبل ضمن حركة العلم التي يراد لها أن تقتحم الماضي
وتفصح عن مكنوناته وتحرك فيه الأجواء وتفك من ربط الماضي بقيم غير
متوافقة مع الارتقاء، حيث إن حركة العلم، بما فيها علم المستقبل،
تتسع لقضية الإنسان، وفهمه لشؤونه عبر الزمن، بماضيه وحاضره،
ومستقبله، إذ إن علم المستقبل لا يلقي بالتاريخ خلف ظهره، لكنه لا
يرى في المستقبل امتداداً خطياً للواقع ولا حصيلة للتاريخ. كما أنه
يرى أن للإنسان دوره في التغيير وصنع المستقبل، ولكن التغيير لا
يتحقق اعتباطياً، بل وفق تصميم محدد في تفاصيله. لذا كانت هناك
أدوار متباينة للعامل الموضوعي والعامل الذاتي في عملية التغيير.
ولكن كل ما يقال عن دور الإنسان، وثراء ماضيه، أو غنى حاضره، أو
سعة وعيه، لا تلغي بصورة نهائية ما يتسم به التاريخ من مسار ضروري،
بل إن هذه كلها تبدو جزءاً من تلك الضرورة ما دامت حركة التغيير
قائمة ومستمرة.
ومن بين الثنائيات في الثقافة العربية ثنائية ((الأصالة
والمعاصرة))، والتي تكمن أهميتها في أنها تطرح مسألة الحداثة،
وكانت بدايتها مع بدء احتكاك العرب بالغرب في أوائل القرن التاسع
عشر، وعلى شكل بدائل ثلاثة هي التمسك بالأصالة، أو مسايرة
المعاصرة، أو التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. ومثل هذه البدائل
تبدو أنها افتراضية، فإذا كان البديل الأول يدعو إلى أن يحيا
المجتمع العربي ماضيه ويستلهم تاريخه، فإن البديل الثاني يدعو إلى
السير في طريق الارتقاء، والبديل الثالث يدخل في مسألة توفيقية
تبدو، هي الأخرى افتراضية تنم عن عدم وضوح في الرؤية مما يقود إلى
صورة مستقبلية مشوشة.
وقد طرحت اتجاهات فكرية في الوطن العربي، وتسللت أخرى، وظل الكثير
منها في عداد الافتراضات النظرية أو الأطروحات الأيديولوجية. ومع
أن علم المستقبل، والفكر العلمي عموماً له حضور واسع في حياة
المجتمعات، غير أن الأطروحات المستقبلية ما زالت غير خاضعة لأحكام
التقييم العلمي.
ويلاحظ أن الذين ينشغلون بتدارس التراث الأدبي أو الفني أو العلمي
أو السياسي أو الاجتماعي يظهرون وكأنهم يريدون أن يثبتوا أ، للعرب
ماضياً ثرياً، في الوقت الذي ينتظر منهم أن ينتهوا إلى قواعد
وقوانين ومبادئ يمكن لها أن تدعم الارتقاء وتعين على بناء
المستقبل.
ومن جانب آخر، فإن هناك مَن يتطير من كل ما هو غريب مع أنه لا مناص
من الاستعانة بالنتاج المعرفي الغريب، وبخاصة أن الإرث الذي تركه
لنا الأجداد، وما لدينا من نتاج فكري لا يكفيان للتعامل مع واقع
معاصر ومتسع ومتغير باستمرار.
وفي الستينيات يذهب كاتب عربي محافظ مذهباً متقدماً فيشير إلى ((أن
الأمم المتقدمة لا تذكر ماضيها البعيد لسببين، أن لا ماضي بعيداً
لها، وأنها لا تؤمن بالوراثة يمتد أثرها من ماضي بعيد إلى حاضر
قائم. بل يرى بعض المؤرخين أنه خير للأمم في حاضرها أن لا يكون لها
ماض يستند بها في حاضرها، ثم يقول ذلك الكاتب متسائلاً: وكم شرب
الناس أنخاب ماض، ثم لم يبق لنخب الحاضر في الكأس قطرة)).
والمشكلة أن العرب اليوم يفكرون بالماضي كلما اتجهوا بأنظارهم إلى
المستقبل، وما من قضية من قضايا الفكر العربي المعاصر إلا وكان
الماضي حاضراً فيها كطرف منافس. لذلك يبدو أن من المستحيل على
العرب المعاصرين أن يجدوا طريق المستقبل ما لم يجدوا طريقاً
للماضي. بعبارة أخرى لا يمكن للعرب المعاصرين أن يحلوا مشاكل
المستقبل إلا إذا حلوا مشاكل الماضي: إلا إذا أحصوا وحاصروا رواسبه
في الحاضر. إن ثقل الماضي وهيمنته على الوعي العربي الحديث
والمعاصر معطى واقعي لابد من الاعتراف به قصد السيطرة عليه. ولا شك
في أن الماضي يشكل في الوعي العربي الراهن عنصراً محورياً في
إشكاليته، وليس بالوسع إغفاله والطموح إلى تحقيق ((الحداثة))
بالقفز عليه. وهذا يعني أن علينا البدء بإزالة الضباب عن رؤيتنا
للماضي كي تتضح أمامنا معطيات الحاضر ومعالم المستقبل.
------------------------------------
* اشكالية المستقبل في الوعي العربي