من سمات جماعات الغلو الإسلامي، في حياتنا الفكرية المعاصرة ـ بل
والقديمة ـ الحكم على بعض «النظم» أو «المجتمعات» أو «الشرائح
الاجتماعية» بـ «الجاهلية»، مع التعميم والإطلاق .. مع أن
«الجاهلية» ـ في الاصطلاح الإسلامي ـ هي «زمن الفترة ـ بين رسولين
ـ ولا إسلام»، أي الفترة التي يكون الشرك هو محور الاعتقاد فيها ..
وهذا هو ما رفعه الإسلام منذ أن دخلت الأمة في دين الله أفواجاً ..
وفي التعميم والإطلاق بالحكم بالجاهلية على نظم ومجتمعات مسلمة أو
أفراد مسلمين، غلو خارج عن منهاج رسول الله (ص) الذي حدده عندما
سمع أباذر الغفاري يعير رجلاً بأمه، فقال له: «يا أباذر، إنك امرؤ
فيك جاهلية» .. ولم يقل له: إنك جاهلي .. فوجود شوائب جاهلية في
فرد أو أفراد، في مجتمع أو نظام، لا يبرر الحكم عليه بالجاهلية،
بإطلاق وتعميم .. ويشهد لهذا المنهاج النبوي، الرافض للإطلاق
والتعميم، عندما توجد شوائب جاهلية في الحياة الإسلامية، ما حدث ـ
في إحدى الغزوات، عندما «ركل» ـ «كسع» ـ مهاجري أنصارياً، فاستنصر
كل منهما قومه بنداء حَمِيَّة الجاهلية ـ «يا للأنصار» .. و «يا
للمهاجرين»، «فسمع ذلك رسول الله (ص) فقال: ما بال دعوى جاهلية؟!
دعوها فإنها منتنة»!! .. فوجود «دعوى جاهلية» في مجتمع اسلامي لا
يبرر تعميم الحكم بالجاهلية على هذا المجتمع .. ومن هنا، كان
التعميم والاطلاق في الحكم بالجاهلية على المسلم، فرداً أو جماعة
أو نظاماً أو مجتمعاً، هو سمة من سمات «الغلو» في الفكر الإسلامي
..
والمستشار عشماوي يقدم نفسه ـ بل ويجعل وظيفته ـ محاربة الغلاة ..
لكن المفارقة الصارخة تفجؤنا عندما نجد الرجل يحكم ـ في قسوة ـ على
«الأمة» ـ أي والله! الأمة ـ وعلى «الشخصية العربية»، بالجاهلية،
بإطلاق وتعميم، بل يعمم هذا الحكم على الأمة منذ عصر صدر الإسلام،
وعقب عهد الراشد الثاني عمر بن الخطاب .. فالأمة عنده قد ارتدت إلى
الجاهلية، التي لم يفلح الإسلام في إخراجها منها إلا لعدة سنوات ..
بل ويبلغ الرجل على درب الغلو الحد الذي يجعل اتهاماته هذه تتطاول
على الإسلام ذاته، وليس فقط الأمة والشخصية العربية! ..
فعنده أن العناصر الأساسية في الشخصية العربية الجاهلية هي النزعة
القبلية .. والتطرف الشديد .. والصراع ـ وأن الأمة قد ارتدت إلى
هذه العناصر «التي تضافرت معاً فأعادت إلى المؤمنين صميم الشخصية
الجاهلية بعد أقل من عشرين عاماً من وفاة النبي (ص)، حيث صارت هي
الشخصية الحقيقية لكثير من العرب، ثم صارت هي الشخصية الأساسية
لكثير من المؤمنين في شتى البقاع»!! .. يأتي هذا الحكم العشماوي في
سياق قوله:
«وعناصر الشخصية العربية الجاهلية كثيرة .. ويمكن إجمالها في ثلاثة
عناصر رئيسية:
أولاً: النزعة القبلية .. وما انتهى عهد عمر بن الخطاب حتى عاودت
النزعة القبلية الظهور وعمدت إلى الغلبة حتى صبغت الإسلام ذاته ـ
]لاحظ توجيه العشماوي السباب إلى «ذات الإسلام»!![.
ثانياً: التطرف الشديد ... والاتجاه المحمود في التوسط والاعتدال ـ
]الذي جاء به الإسلام[ ـ لم يستمر مع العرب إلا خلال عهد النبي (ص)
وعهدي الخليفتين أبي بكر وعمر .. إذ عاد أدراجه بعد هذه العهود،
وصار العرب ـ من جديد ـ متطرفين في كل مسلك وفي أي قول أو فهم .. ـ
]لاحظ التعميم على العرب، وفي كل مسلك، وفي اي قول أو فهم!![ ـ .
ثالثاً: الصراع المستمر .. إن الاصلاح الإسلامي ـ في جعل الجهاد
للنفس ولله، وفي نفي الصعلكة والسلب ـ لم يتمكن من النفوس حتى في
عهد النبي (ص) ومع كثير من المؤمنين الذين ظلت أعينهم تتطلع إلى
الأسلاب كما ظلت أعينهم تتعلق بالغنائم ـ ]لاحظ وصفه الكثير من
المؤمنين، في العهد النبوي ذاته، باصعلكة والسلب!![ ـ .. إن روح
الصراع ـ بذلك ولذلك ـ ظلت قائمة في نفوس العرب بعد الإسلام كما
كانت قبل الإسلام. ولئن كانت في العصر الجاهلي صراعاً واضحاً
صريحاً بين القبائل أو بين الفروع، فلقد أصبحت بعد الإسلام صراعاً
حقيقياً بين هذه القبائل وبين الفروع فيها، يتمسح بالإسلام، فصارت
أشد عنفاً وأبلغ خطراً .. ـ ]لاحظ جعله الصراع بعد الإسلام «أشد
عنفاً وأبلغ خطراً .. » فهو في الجاهلية كان «واضحاً»، وبعد
الإسلام صار «حقيقياً» !![.
وهذه العناصر الثلاثة للشخصية العربية الجاهلية ـ القبلية والتطرف
والصراع ـ ظلت قائمة رغم الإسلام الذي حاربها، أو عاودت ظهورها بعد
قليل اختفاء، ثم تضافرت معاً فأعادت إلى المؤمنين صميم الشخصية
الجاهلية بعد أقل من عشرين عاماً من وفاة النبي (ص)، حيث أصبحت هي
الشخصية الحقيقية .. ثم صارت هي الشخصية الأساسية، بعد أن اتخذت
غطاء من الإسلام ورداء من الإيمان .. »!
وفي مقام آخر وكتاب آخر، يؤكد العشماوي على ردة الأمة وارتدادها
إلى الجاهلية .. حيث: «أبيحت كل حُرمة، وانتهكت كل قيمة، وزيفت كل
المبادئ .. وذابت قيم الإسلام السامية، وامّحت مثل القرآن العليا،
وعاد المسلمون القهقرى إلى أخلاقيات الجاهلية وسلوكيات ما قبل
الإسلام .. خُلُق جاهلي وتصرف جاهلي في شتى عصور الخلافة بعد عمر
بن الخطاب (باستثناء خلافة علي بن أبي طالب ـ ولم تكن مستقرة ـ
وخلافة عمر بن عبدالعزيز ـ ومدتها عامان) .. ».
وهذه الردة إلى الجاهلية ـ بنظر العشماوي ـ لا زالت قائمة حتى الآن
«فالتقاليد والتصرفات العربية المعاصرة قد تكون في كثير منها
تقاليد جاهلية، تجد أساساً لها وتعبيراً واضحاً عنها في الشعر
الجاهلي والأدب الجاهلي، ولا تجد أي سند لها في القرآن الكريم أو
في السنة النبوية»!
والسؤال هو: ماذا ترك العشماوي لغلاة الغلاة؟! .. إن مبلغ غلوهم لم
يتجاوز الحكم بالجاهلية على نظام أو مجتمع أو شريحة أو فرد ..
وأغلب ذلك يخصون به حقبة الغزوة الاستعمارية الحديثة لبلادنا،
عندما استبعدت الشريعة الإسلامية عن مؤسسات القانون والقضاء
والتشريع .. أما العشماوي، فإنه قد عمم وأطلق الحكم بالردة إلى
الجاهلية على الأمة، منذ نهاية عهد عمر بن الخطاب، وحتى كتابة هذه
السطور .. بل وقال إن عناصر الشخصية الجاهلية ـ أو بعضها ـ قد
«صبغت ذات الإسلام» .. وليس فقط «أمة الإسلام»! ..
* * *
بل إن العشماوي يتهم الأمة، منذ بدء الإسلام، على عهد رسول الله
(ص) بن الكثيرين منها لم يفهموا معنى النبوة والرسالة، وأنهم خلطوا
النبوة والرسالة بالملك، فكانوا بذلك (محجوبين عن إدراك مفهوم
النبوة، معزولين عن استيعاب صميم الرسالة، يرون الملك أكثر مما
يرون النبوة، ويلحظون جانب الحكم بأظهر مما يلاحظن جانب الدين ..
حتى لقد اهتز إدراك كثير من العرب لرسالة النبي»!
مع أن الفارق ـ بل الفروق ـ كانت واضحة كل الوضوح، بين «الملك»
وبين «الرسالة» في دعوة الإسلام، منذ لحظاتها الأولى، وعلى مر
تاريخ دعوتها ..
ـ فالرسول (ص) هو القائل ـ لمن ارتعد في حضرته ـ : «هوِّن عليك،
فما أنا بملك ولا جبار. إنني ابن امرأة كانت تأكل القديد»! ..
ـ وفي السنة الثانية لبعثة رسول الله (ص) وبعد إسلام حمزة بن
عبدالمطلب، تشاورت قريش في أمر النبي ودعته، فبعثوا إليه عتبة بن
ربيعة ـ وكان من سادات قريش ـ فقال للرسول:
«يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من السطَة ـ ]المنزلة[ ـ في
العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به
جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به مَن
مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل
منها بعضها».
فقال له رسول الله (ص): «قل يا أبا الوليد أسمع».
قال: «يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد به
شرفاً، سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد به
مُلكاً، ملّكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا
تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك
منه ... ».
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله (ص) يستمع منه.
قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟
قال: نعم.
قال: «فاستمع مني» فتلا عليه قول الله سبحانه وتعالى: بسم الله
الرحمن الرحيم (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته
قرآناً عربياً لقوم يعلمون * بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا
يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر
ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنما أنا بشر مثلكم
يُوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل
للمشركين). حتى الآية السابعة والثلاثين من السورة.
فمنذ هذه البدايات الأولى للبعثة، كانت قريش على وعي بالتمييز بين
النبوة والرسالة ـ التي تريد صرف النبي عنها ـ وبين «الغنى والمال»
.. أو «السيادة والجاه» .. أو «المُلك».
ومنذ تلك اللحظات، كان جواب الرسول (ص) أمام تخييرهم إياه بهذه
الخيارات ـ المال .. أو السيادة .. أو الملك ـ قرآناً يؤكد أن أمره
هو أمر (كتاب فصلت آياته) لا أمر مال وغنى .. وأنه «بشر يوحى
إليه»، وليس طالب سيادة أو مُلك ..
ـ وأبو سفيان، صخر بن حرب، الذي قاد صراع قريش ضد الإسلام ودولته،
كثيراً ما عبر عن أن وراء رفضه الدخول في الإسلام ـ قبل إسلامه يوم
فتح مكة ـ هو ترجيح النبوة لكفة بني عبدالمطلب على بني عبد مناف ..
فلقد تنافسا في الإطعام وكل ميادين الشرف والسيادة فكانا كفرسي
رهان .. والآن ترجح بالنبوة كفة بني عبدالمطلب، الذين ينزل على
واحد منهم ـ محمد ـ ملك من السماء! .. فالأمر أمر نبوة لا لبس في
فهمها، ولا في تميزها عن الملك .. بل إنه ـ يوم الفتح ت عندما عبر
ـ للعباس بن عبدالمطلب ـ عن عظمة وعِظَم دولة الإسلام وسلطان النبي
(ص)، فقال للعباس:
لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً.
صحح له العباس المفهوم، فقال له:
إنها النبوة ..
فراجع أبو سفيان الأمر .. قائلاً: فنعم، إذن.
فلم يكن هناك خلط في الأفهام بين «النبوة» و «الملك»، لا عند
المشركين .. ولا عند المؤمنين ـ كما زعم المستشار عشماوي ـ ! ..
* * *
إن المرء ليحار في حقيقة موقف العشماوي، الذي تبلغ المسافة بين
متناقضاته ـ في الكتاب الواحد ـ الحد الذي يمدح فيه الأمة مرة
فيقول: «إن جوهر الإسلام هو الحركة إلى المستقبل، وصميمه التقدم
المستمر لإنشاء حضارة إنسانية .. ولقد فهم المسلمون الأوائل أن هذه
هي الأصولية الحقيقية للإسلام ـ ]قارن ذلك بما سبق ورماهم به من
جاهلية، وانعدام فهم للإسلام[ ـ فتشربوا الحركة منهاجاً واتخذوا من
التقدم أسلوباً، وكان العمل لهم ديناً، حتى أنشأوا حضارة ضخمة،
عالمية إنسانية .. وبعد جيل واحد من وفاة النبي (ص) كانوا قد تركوا
حياة البداوة، واتخذوا من روح الإسلام سبباً ومن صميم الإيمان
دافعاً، يشكلون به الواقع ويصيغون التاريخ، وينشئون الحضارة» ـ
]لاحظ ما سبق أن رمى الأمة به من الردة إلى الجاهلية بعد عهد عمر
بن الخطاب .. أي بعد أقل من نصف جيل من وفاة الرسول!![ ـ ..
ثم لا يلبث أن يتحول إلى «حطيئة» يهجو أمة الإسلام هجاء مقذعاً
فيقول: «إن المظالم ـ التي بُرِّرت بالدين وسُوّغت بالشريعة ..
أثرت على أخلاقيات المسلمين، فجعلتهم ينسحبون من الحياة العامة ..
وصار الجميع إلى طباع جافة من الأنانية والخوف والجبن والفساد
والوشاية والتملق والانتهازية .. وظل هذا هو حال الإسلام والمسلمين
حتى أُلغيت الخلافة في 3 مارس سنة 1924»؟!
فأين هي الحضارة العالمية الإنسانية التي قال إن المسلمين قد
اتخذوا من روح الإسلام وصميم الإيمان دافعاً لإنشائها وإنهم قد
شكلوا بها الواقع وصاغوا التاريخ؟! .. هل هي حضارة الطباع الجافة،
والأنانية، والخوف، والجبن، والفساد، والوشاية، والتملق.
والانتهازية ـ التي لم يكتف عشماوي بالقول إنها طبعت «جميع
المسلمين»، وإنما تجاوز ذلك ليقول إنها صارت أيضاً «حال الإسلام»؟!
.. وأن ذلك قد استمر حتى سنة 1924م ؟! ..
أهذه هي صورة الأمة الإسلامية، في رؤية «المجتهد .. المستنير»
عشماوي؟! .. والتي يتصدى بها لعلاج الغلو في واقعنا الفكري
المعاصر؟! ..
-----------------
* سقوط الغلو العلماني